Coronian Meditations: Cain, Enkidu, and Ma Haide [George Hatem]
Full text: 

 I

كان يكفي أن يفتتح دونالد ترامب حملة مكافحة وباء كورونا بما سمّاه "الوباء الصيني" لتتسلل ذكريات وإيحاءات عن العلاقة بين الأوبئة والصراعات السياسية والاجتماعية. ثمة مخزون عنصري عميق في الولايات المتحدة تجاه الصين، ومن محطاته المبكرة التمييز والتعيير ضد العمال الصينيين الذين استُقدموا لبناء خطوط سكك الحديد، خلال "الهجمة على الذهب".

تجدد القذف العنصري مع الحملة ضد الصين الشعبية بعد انتصار الثورة فيها في سنة 1949، وهنا ولدت فزاعات "الوباء الأصفر" و"الزحف الأصفر" و"الخطر الآسيوي"، والتي عمّمتها أيديولوجيات الحرب الباردة. على أن عبارة ترامب الأخيرة في تسييس الأوبئة وتشخيصها جاءت في ذروة النزاع التجاري بين الولايات المتحدة والصين، وتعبيراً عن الخوف من تنامي قوة الأخيرة العسكرية. وفي الحالتين ثمة ما يشير إلى التعيير العنصري، إذا كان يتوسل لون البشرة، لكنه لا يكتسب مضمونه إلّا بفرض تراتب قيمي اعتباري يتضمن التمييز الاستعلائي أو إعلان التفوق وما يستتبعه من تعيير وتحقير بين جماعات، أكان ذلك طبقياً أم عرقياً أم قومياً أم دينياً.

أمامي نص يقول الكثير عن الوباء والصين والولايات المتحدة. إنه تسجيل لبرنامج "العقل المنفتح" على التلفزة الأميركية، والذي يديره ريتشارد هيفنر، وفيه يحاور الطبيب الصيني ما هايدي الذي يزور الولايات المتحدة لنيل جائزة دولية تقديراً لنجاحاته في مكافحة الأمراض التناسلية في الصين.

إننا في سنة 1986، وما هايدي هو الاسم الصيني لجورج حاتم (1910 - 1988)، ابن أسرة مهاجرة من حمانا (المتن في جبل لبنان) عملت في المصانع. تمكّن الابن المتفوق في دراسته من الحصول على منحة لدراسة الطب في الجامعة الأميركية اللبنانية في بيروت، وتخرّج منها ليكمل اختصاصه في جامعة جنيف. عند عودته إلى الولايات المتحدة، قرر حاتم وعدد من زملائه السفر إلى آسيا لإجراء أبحاث عن الأمراض الاستوائية. وفي شانغهاي، اكتشف الطبيب الشاب أن المشكلات الصحية ليست ناجمة عن أمراض أو أوبئة بقدر ما هي ناجمة عن ندرة الطعام والكساء وشروط العمل القاسية، وخصوصاً فيما يتعلق بعمالة الأطفال.

 

تمثال جورج حاتم في حمانا

 

كانت الصين تعاني مجاعة ستقضي على ستة ملايين إنسان. وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية، قرر حاتم أن ينضم إلى "الجيش الأحمر" في يانان شمال البلد، وبدأ بتقديم العون الطبي، وكان ماوتسي تونغ أول مرضاه. بعدها، كرّس حاتم بقية حياته للعمل الطبي في الصين. وبعد التحرير كان أول أجنبي يحصل على الجنسية الصينية، وتولى مراكز رسمية في الحزب (عضوية اللجنة المركزية) والحكومة، وعمل بصورة خاصة في حملات القضاء على الأمراض الجلدية والتناسلية.

في المقابلة، سأل هيفنر ما هايدي عن إمكان الإفادة من التجربة الصينية لمعالجة مرض نقص المناعة، الإيدز، في الولايات المتحدة. وبكثير من الكياسة والموضوعية، قارن حاتم بين نظرتين متعارضتين إزاء المسألة الصحية في الصين والولايات المتحدة، والفيصل بينهما ثالوث هو: علاج صحة الناس بتحسين أوضاعهم الاقتصادية؛ "المسؤولية الاجتماعية للدولة"؛ أولوية الطب الوقائي على الطب العلاجي. ولخّص ما هايدي الفارق بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي، من دون استخدام المصطلحين، بقوله إن سيادة الفردانية والخصوصية تمنع التفكير في الآخرين، وإن هذه وتلك يصعب التركيز عليهما من دون أذية الآخرين، في حين أن الانطلاق من الشعب، والعناية بجميع الناس، يعنيان العناية بالفرد أيضاً.

 

جورج حاتم مع دينغ شياو بينغ

 

الحَجْر في البيوت هو الطب الوقائي الذي صدّرته إلينا الصين في تعاملها مع جائحة كورونا وقد اعتُمد عبر العالم، بما في ذلك في أغنى دوله. غير أنه بقدر ما كان الحجر أسلوباً ناجحاً في احتواء الجائحة، كان تأكيداً، بالقدر نفسه، على مدى القصور العالمي في استباق الأوبئة، والكشف عن مدى تحوّل الصحة إلى سلعة. بعبارة أُخرى، عجز عالمنا المعاصر عن الحفاظ على حياة سكانه، بل يمكن النظر إلى الحجر على أنه عقوبة جماعية ذاتية على هذا القصور وذاك التسليع.

 II

 كان الوباء مناسبة لتنوّع متعدد من الرطانة والفصاحة على وسائل الاتصال الاجتماعي من نكات وسخرية وإدغام ومفاضلة. ففي البحرين عُمّدت الطائفية ("كورونا الطائفية")، وفي العراق اعتُبرت الميليشيات أخطر من كورونا، وعلى الغرار ذاته، في لبنان احتلت الطائفية والسياسيون الأولوية في الخطورة على الوباء، فهذا نائب يدعونا إلى أخذ العبرة من التاريخ فيروي نادرة المفاضلة بين الطاعون والخليفة المنصور، وذاك وزير سابق يجزم بأن الطائفية وأميركا أخطر من كوفيد 19.

استعارة السيد حسن نصر الله عن كورونا لم تكن مكتملة. فقد صنّفها بأنها عدو، وأعلن أننا في حالة حرب، وأن المهمات كلها باتت الآن تتلخص بمهمة مواجهة العدو، وزجّ في المعركة أكثر من 20 ألفاً من المقاتلين المجرّبين. بإيجاز لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وخصوصاً صوت الحراك.

يمكن إدراج هذا على أنه استعارة سياسية ناعمة للوباء، على غرار "القوة الناعمة" التي ترد لماماً في تحليلات خبراء الجيوبوليتيكا في معسكر الممانعة. فالسيد حسن لم يلجأ إلى اتهام الأميركيين بتطوير فيروس كورونا ونشره، مع أن هذا ما فعله مرشد الثورة الإسلامية الإيرانية علي الخامنئي، بمناسبة عيد النوروز، إلّا إن هذا الأخير لم يجد في تلك الجريمة بحق البشرية ما يستدعي أكثر من التحذير من أن الأميركيين "لا يمكن الوثوق بهم." على أن هذا لم يمنع خبراء الجيوبوليتيك من التفصيل في الأهداف السياسية والعسكرية التي حققتها الولايات المتحدة بإطلاقها الفيروس الفتاك، فبحسب واحدة من هذه الأهداف، أصابت الولايات المتحدة بحجر كورونا عشرة أهداف دفعة واحدة، منها: تعطيل صفقات سلاح صينية مع إيطاليا؛ تحذير روسيا من التمدد العسكري؛ تغطية انسحاب قواتها من أفغانستان؛ تصفية القضية الفلسطينية وحقّ العودة عن طريق القضاء على مَن هم فوق سن الـ 65 من أبناء فلسطين (أحمد الحصري، "العصافير العشرة"، موقع "البوابة"، 28 / 3 / 2020).

إن تصوير الوباء على أنه عدو له وجه آخر، هو تصوير العدو بأنه وباء، وهذا هو الأمر الأدهى. فتعبيرا "الوباء الأصفر"، و"الطاعون الأصفر"، هما من فصيلة النعوت التي أُطلقت على الشيوعية الصينية تعييراً وترهيباً، وقد سبقتهما طبعاً تهمة "الوباء الأحمر" المتمثل في الثورة البلشفية والأحزاب الشيوعية. على أن ذروة التعيير العنصري التحقيري نلقاها عند النازيين تجاه اليهود، فهم "الدود الذي ينخر شجرة السنديان" الجرمانية (التي تقاوم وتصمد طبعاً)، وهم قطعان الجرذ، وقد اتُّهموا بأنهم من طوّر ونشر "الموت الأسود"، وهو اسم جائحة الطاعون التي ضربت أوروبا في القرن الرابع عشر. على أن المفارقة في أمر حيْوَنة العدو، هي أن النازيين وضعوا الذئب على عرش العالم الحيواني، وحوّلوه إلى الحيوان الأيقوني الذي يتماهون معه وفيه.

غير أن الوحش يستدعي التوحّش، وقد استحق النازيون من خصومهم وسمهم بـ "الطاعون البُنّي" (بسبب لون القمصان التي ترتديها أجهزتهم الأمنية)، وبـ "البهيمة البُنّية".

وغنيّ عن التذكير أن "العلاج" في جميع تلك الحالات هو "التطهير" بالدم أو بالحرق، وإلى هذا السلالة تنتمي منوّعات التطهير العرقي، فكراً وممارسة.

التطهير، والاجتثاث، والاستئصال، هي مفردات استُعملت ضد نظام صدام حسين، فقد استصدر الاحتلال الأميركي والميليشيات الطائفية المدربة والممولة في الجمهورية الإسلامية الايرانية، "قانون اجتثاث البعث"، وهو قانون من إنتاج المصرفي أحمد الجلبي، وإخراج المهندس كنعان مكيّة. وهذان الشخصان لهما نظراء في الجزائر بين العلمانيين من دعاة استئصال تكفيريي الإمارات الجهادية، خلال فترة التسعينيات السوداء، وأمثال هؤلاء وأولئك كثر بين استئصاليي الحروب الإثنية من رواندا إلى يوغسلافيا السابقة.

وبين وقت وآخر، يفاجئك تصريح كأنه في غير عصره ومكانه. فها هو جيرار دارمانِن، الوزير في الحكومة الفرنسية الحالية، يستعيد التعيير باللون ضد متظاهري "السترات الصفر" بوسمهم بـ "الطاعون الأصفر" (26 / 11 / 2018). وكانت الملاحظة فظّة إلى درجة أن مارين لوبن، زعيمة حزب أقصى اليمين، لم تحتملها فأصدرت بيان إدانة واستنكار.

علاوة على ذلك، مارس "جهاديو" تنظيم داعش التطهير بالدم وبالنار (إعدام الطيار الأردني)، ولم يكونوا بحاجة إلى استعارات، فناموسهم هو إدارة التوحّش، و"جهاديّوهم" الذين ينفذون مهمات قتالية بمفردهم يوسمون بالذئاب المنفردة.

لم يكن الجواب على تنظيم داعش تعييراً أو وسماً تحقيرياً، وإنما كان "الحرب الكونية ضد الإرهاب". لكن، هل نجرؤ على إجراء مقارنة بين توحش تنظيم داعش ومتفرعاته وإنجازات الحرب التي تخاض ضده باسم "الحرب الكونية ضد الإرهاب" بقيادة الولايات المتحدة الأميركية؟

 III

في حَفْر أعمق في موضوع الأوبئة، تكثر الروايات عن العلاقة بين ظهور الأوبئة والتوحش وبدء التمدن البشري. فعلماء الأوبئة يعلّموننا أنه عندما انتقل الإنسان من قاطف ثمار وصائد إلى مُزارع مستقر، ولاحقاً إلى بنّاء مدن، كان لا بد له من أن يُدجّن الحيوانات ليأكلها. غير أن الحيوان ينتقم من البشر فيورثهم الأوبئة: الحصبة والسل والجدري منتقلة من الأبقار، والملاريا والأنفلونزا من الدجاج والبط، والشاهوق من الخنازير والكلاب. وحده الجرذ لم يدجنه الإنسان، لكنه نقل إليه الأوبئة الأشد فتكاً: الطاعون.

هكذا يبدو الوباء كأنما هو نتاج المسافحة بين الإنسان والحيوان: الإنسان يدجّن الحيوان ويحوله إلى طعام له، والحيوان ينتقم بأن يتحول إلى مصدر وباء يقتل الإنسان. وفي مرحلة لاحقة تتعقد دورة المسافحة هذه: يغذّي الإنسان البقر بعظام البقر المطحونة، فيجنّ جنون البقر فينتقم من الإنسان بالوباء.

على أن الصراع بين الإنسان والحيوان هو في الوقت ذاته صراع بين الإنسان والإنسان؛ إنه صراع بين الإنسان وآدميته، أو فلنقل طبيعته.

أول جريمة قتل الأخ لأخيه، كان بطلاها ابنَي آدم: قايين المزارع الذي قتل أخاه هابيل الراعي. ويمكن النظر إلى تلك الجريمة على أنها جريمة تأسيسية لولادة التمدن البشري، إذ يُحكى أنها وقعت في سهل البقاع أو على جبل قاسيون، ومن الدم المسفوك نُحِت اسم دمشق. وفي الحكاية التوراتية أن النزاع نشب بسبب حسد قايين من أخيه لأن الله قَبِل أضحية هابيل ورفض أضحيته، فقتله، فعاقب الله قايين على فعلته بأن حكم عليه بالتشرد. لكن المفارقة في الحكاية أن القاتل المعاقَب من الله لا يلبث أن يستقرّ ويبني مدينة. وها نحن قد عدنا إلى المُزارع والزراعة والتمدن.

شكليات الانتقال أوضح في ملحمة غلغامش العظيمة التي لا تنتهي إيحاءاتها وتخييلاتها، وهي بحق أم حكايا وأساطير العالم الوثني القديم كما الديانات التوحيدية. تروي ملحمة وادي الرافدين قصة صراع مزدوج: صراع البشر للانفصال عن الآلهة، وصراعهم للانفصال عن الحيوان. الصراع الأول يجسده غلغامش ملك مدينة أوروك "أمّ الأسواق"، والذي ثلثاه إله وثلثه بشر، لكنه مع ذلك، أتم استقلاله عن عالم الآلهة واختار "الحياة الدنيا"، إذا جاز التعبير، عندما رفض الزواج من الآلهة عشتار.

عملية التحرر الثانية يجسدها إنكيدو الذي نصفه حيوان ويعيش بين الحيوان. غلغامش الذي يحتاج إلى مَن يعضده على قتال أعدائه، يدسّ الغانية شامات على إنكيدو لتغريه وتضاجعه. ومن خلال المرأة، يتأنسن إنكيدو وتنجح شامات في انتزاعه من الحيوان الذي يعيش بينهم فيتنكّر الحيوان له. ثم تبدأ عملية تدجين إنكيدو عندما يكتشف الخبز الذي هو العلامة الطقسية لانتقاله من الرعي إلى الزراعة، ومن الحيونة إلى الإنس، وهو الذي شبّ على رضاع لبن الحيوان. غير أن إنكيدو يموت في مجرى الملحمة البابلية السومرية.

لم تكتمل أنسنة إنكيدو، ولم يكتمل تأنيثه ليتأنسن. وفي القرن الواحد والعشرين، لا يزال أنكيدو النغل معنا، وما انتقام الحيوان بواسطة الأوبئة سوى انتقام ما تبقّى من الوحشي في الإنسان على الإنسان ، والوحشي هنا إنساني بالكامل، وهو التسليع المتزايد لأولويات الحياة: الصحة، والعلم، والعمل، والسكن، والراحة، والرفاه. أمّا الأوحش منه فهو الأموال الموظفة في تصنيع أدوات الدمار والموت، والتي تكفي نسبة لا تُذكر منها لإنقاذ البشرية نهائياً من المجاعة والفقر والأوبئة، أي تكفي لانتصار الحياة على الموت، والإنسان على الوحش.

Author biography: 

فواز طرابلسي: كاتب ومؤرخ لبناني.