The Uprising and the Change
Date: 
December 30 2015

توشك الهبة الشبابية المقترنة بـ "ظاهرة الطعن والدهس" على إتمام شهرها الثالث، ويبدو أنها ماضية في طريق غير معروفة الخواتيم. ذلك بأن استمرارية هذا الفصل الجديد من صراع شعب ضد أطول احتلال، أربك المؤسستين الأمنية والسياسية الإسرائيليتين، وكشف خللاً في استراتيجيتهما لتقويض وتفكيك صيرورة الانفصال والتحرر الفلسطيني من احتلال كولونيالي هو "نشاز" في تاريخ الشعوب المعاصرة.

اندلعت الهبة الشبابية بعد أن أغلقت حكومة نتنياهو كل الأبواب والمنافذ أمام "حل الدولتين" بكل الصيغ المعروفة والمفروضة: رؤية بوش؛ خريطة الطريق؛ اتفاق أولمرت – أبو مازن؛ المبادرة العربية؛ مفاوضات الشهور التسعة. وواصلت فرض حل الأبارتهايد (الفصل العنصري) بالقوة الأمنية وبقوة الوقائع على الأرض وبوتيرة متسارعة، ذلك الحل الذي يتضمن أشكالاً من التطهير العرقي في القدس وفي 60٪ من أراضي الضفة الغربية. إذ كان كل "تقدم" في مشروع الأبارتهايد الإسرائيلي يؤدي إلى تضييق أشد في سبل العيش والحياة لدى فئات متزايدة من الشعب الفلسطيني. فكلما سرعت حكومة نتنياهو عمليات الاستيطان والتهويد والأسرلة كلما ازداد الاختناق والقهر والإذلال الذي يلحق بفئات أوسع من الشعب، وكلما فُتحت شهية المستوطنين والمنظمات الدينية والقومية على استباحة الأرض والمياه والعقارات والأشجار والسكان الأصليين وصولاً إلى المقدسات والرموز الدينية. وبالتزامن مع تلك السياسات استمر رهان المؤسسة الإسرائيلية على ضبط وفرض قواعد الصراع مع الشعب الفلسطيني ضمن آليات السيطرة والتحكم المشددة والمعدلة، وذلك على خلفية اعتقاد حكومة نتنياهو أن الأوضاع الدولية والعربية والإقليمية مؤاتية لحسم الصراع من طرف واحد، ولفرض أمر واقع يتعايش معه الشعب الفلسطيني.

غير أن الضغط الإسرائيلي المتزايد، والذي تفاقم نتيجة الضغط الفاشي الطراز الذي مارسته قوى يهودية متطرفة مثل "فتيان التلال" و"تدفيع الثمن" و"منظمة لاهافا" (امتداد لمنظمة كاخ العنصرية) ومجلس المستوطنات بالإضافة إلى المستوطنين الوزراء، ولّد انفجاراً فلسطينياً هز المؤسسة والمجتمع الإسرائيليين معاً، وذلك حين رد شبان وشابات على الاستباحة الإسرائيلية للحقوق والكرامة بطريقتهم الخاصة من خلال الطعن والدهس. وتعزز الرد الشبابي العنيف بفعل آخر هو انخراط آلاف الشبان في القدس والخليل ومدن الضفة وبعض مدن القطاع ومناطق 48 الفلسطينية في أعمال احتجاج ضد الاحتلال. ولم تكن ظاهرة الطعن والدهس منظمة، وإنما كانت عفوية وفردية حتى وإن انتمى بعض شبانها إلى هذا التنظيم أو ذاك. فالشبان والشابات المبادرون ينتمون إلى جيل ما بعد أوسلو، وتتراوح أعمار معظمهم بين 16 و21 عاماً. كما أن هذا الفعل المتواصل كان خارج بنوك المعلومات الأمنية والإجراءات الاستباقية، الأمر الذي يفسر النجاح في انتزاع زمام المبادرة والاستمرارية والمفاجأة الذي لازم الحدث الجديد. فلا يوجد لدى جيش الاحتلال وقوى الأمن مَنْ ينتصروا عليه!.وقدمت الحكومة الإسرائيلية تفسيرات غريبة لأسباب الانفجار، فوضعت التحريض على كراهية  اليهود سبباً رئيسياً ويكاد يكون وحيداً، وتحدثت عن موجة إرهاب جديدة تتعرض لها إسرائيل، وفسرت الإرهاب بأنه امتداد للإرهاب في العراق وسورية وليبيا وفرنسا وغيرها، أي ذلك الإرهاب الذي تمارسه منظمات داعش والقاعدة وغيرها من المنظمات الإرهابية الإسلامية المتطرفة.

وتظهر النتائج الأولية للهبة على النحو التالي: سياسياً، لم تقدم حكومة نتنياهو أي موقف سياسي من شأنه فتح الانسداد السياسي، ولم تؤد زيارة وزير الخارجية الأميركية جون كيري إلى أي تغيير في السياسة الإسرائيلية. إذ جاء الموقف السياسي المهم على لسان الأمين العام للأمم المتحدة الذي ربط بين "العنف الفلسطيني" والاحتلال والاستيطان الإسرائيليين، لكن موقفه بقي عائماً بلا رصيد. ويتمثل التغيير"الجزئي" في سياسات الحكومة الإسرائيلية في منع مسؤولين إسرائيليين من دخول باحات المسجد الأقصى، مع الإبقاء على دخول المتطرفين اليهود المنتمين إلى منظمات إعادة "بناء الهيكل"، بحجة "حرية السياحة"، الأمر الذي أوقعها في تناقض مع التزاماتها للأردن بأن المسجد الأقصى هو للمسلمين فقط. أمّا التطور الأهم فكان اعتراف حكومة نتنياهو مواربة بأن مدينة القدس غير موحدة. وجاءت مبادرة حاييم رامون – وزير سابق من حزب العمل- الداعية إلى الانفصال التام عن الأحياء والبلدات العربية، وبناء جدار فصل – عنصري-  حفاظاً على القدس اليهودية، ليعزز بذلك عملية انفصال المدينة العربية، إذ بيّن استطلاع رأي إسرائيلي بعد الهبة أن نحو 66٪ من الإسرائيليين يؤيدون الانفصال عن الأحياء العربية.

وأمنياً، زعزعت ظاهرة "الطعن والدهس" الأمن الإسرائيلي الداخلي من دون أن تتمكن المؤسسة الأمنية من وضع حد لها، خلافاً لتقديراتها الأولية التي استسهلت القضاء عليها. فلم تعد حالة الارتياب والتشوش والقلق واللاستقرار الناجمة عن الاحتلال تقتصر على المجتمع الفلسطيني فحسب، بل أخذت تمتد إلى المجتمع الإسرائيلي، إذ بدأت تتشكل فوبيا الفلسطيني التي أدت إلى تشوش حياة الإسرائيليين، وبالتالي انخفضت الحركة في الشوارع وفي الأماكن العامة. ومما زاد الوضع تعقيداً حالات التشابه بين كثيرين من الفلسطينيين والإسرائيليين في الشكل واللون، الأمر الذي أدى إلى أن تقتل قوى الأمن الإسرائيلي بعض الإسرائيليين وإفريقي لمجرد الشك في كونهم فلسطينيين. وبمرور الزمن أصبح للاحتلال وأساليبه في التمييز والاضطهاد وقهر شعب آخر ارتدادات داخل مجتمع الدولة المحتلة تجلت في الحملة الإسرائيلية العدائية ضد مؤتمر منظمة "نحطم الصمت" الذي نظمته صحيفة "هآرتس" في نيويورك، والذي قدم نماذج لانتهاكات الجيش "الأكثر أخلاقية" ضد الفلسطينيين. بالإضافة إلى حملة التحريض ضد ريفلين، رئيس الدولة، الذي شارك في ذلك المؤتمر، وحملة ضد أربعة من النشطاء الإسرائيليين، بينهم رئيس "نحطم الصمت" ورئيس بيتسيلم بتهمة تبرير "الأعمال الإرهابية" والدفاع عنها. ومن مظاهر الارتداد أيضاً نشوء فاشية إسرائيلية جديدة بمسميات متعددة، مثل "تدفيع الثمن" التي قدمت نموذجاً لإرهابها حرق الطفل أبو خضير وعائلة دوابشة، ومنظمة" ام ترتسو" التي نشرت شريطاً يتهم أربعة رؤساء منظمات بمساعدة منفذ هجوم، ومنظمة "لاهافا" التي أحرقت مدرسة ثنائية اللغة، وغيرها.

ورداً على زعزعة الأمن، اتخذت الحكومة الإسرائيلية سلسلة من القرارات والإجراءات العقابية بحق الفلسطينيين، بمَنْ فيهم حَمَلة الهوية الإسرائيلية من المقدسيين الذين تنطبق عليهم القوانين الإسرائيلية، شملت إطلاق النار وقتل المشتبه في نواياهم تنفيذ عمليات طعن ودهس، وقتلهم بمعزل عن وجود خطر حقيقي. ومن النماذج لذلك قتل طفلتين حاولتا مهاجمة إسرائيليين بمقص، ولم يكن هذا الحدث الموثق بالفيديو يستدعي اللجوء إلى القتل، ولا إلى إعادة تثبيت القتل، نظراً إلى عدم وجود خطر يهدد حياة إسرائيليين، وكان يمكن التغلب عليه ببساطة. فالقتل من دون مبرر اتهام ورد عبر تقارير منظمات حقوقية إسرائيلية وفلسطينية ودولية. كذلك شملت الإجراءات هدم منازل المنفذين، واحتجاز جثامين الشهداء لأوقات غير معلومة، وتغريم أهالي المنفذين مبالغ مالية كبيرة، وإغلاق الأحياء العربية بالكتل الأسمنتية، وإعاقة حرية التنقل والحركة، واعتقال أعداد كبيرة من الشبان والأطفال بلا تهم محددة، وإصدار أحكام جائرة ضد قاذفي الحجارة، وكل ذلك يندرج في إطار سياسة العقوبات الجماعية المتناقضة مع القانون الدولي بصورة عامة، ومع القوانين الإسرائيلية السارية المفعول في مدينة القدس بصورة خاصة. وكان لافتاً في الرد الإسرائيلي التعبئة العنصرية ضد الشعب الفلسطيني وتصويره أنه "ليس آدمياً"، والاستمرار في رفض مساواته في الحقوق بوجود العنف أو بغير وجوده.

وفي مجال الأمن أخلص إلى ما يلي: أولاً، إن حكومة الاحتلال لم تستخلص الدرس بمعالجة الأسباب التي قادت إلى الانفجار، وهي الاحتلال وأطماعه الكولونيالية وسياساته العنصرية؛ ثانياً، إن لهذا النوع من الاحتلال ثمناً داخلياً وثمناً خارجياً بدآ يتعاظمان ويتناسبان طرداً مع مستوى التدمير الذي يلحق بالشعب الفلسطيني. وفي هذا الصدد تراجعت السياحة، وبات عدد من المطاعم الشهيرة على وشك الإغلاق، وتراجعت نسبة البيع في أسواق الضفة في الوقت الذي ازدادت نفقات الأمن؛ ثالثاً، إن الحل الأمني واستخدام القوة والإفراط في استخدامها، كلها أمور لا يمكن أن تؤدي إلى إخضاع شعب واستعباده، وإنما من شأنها أن تدفعه الى تجديد مقاومته الفردية والجمعية المنظمة والعفوية؛ رابعاً، انتفى أي مبرر لدور السلطة الأمني ولتنسيقها الأمني مع سلطات الاحتلال، نظراً إلى انتفاء الثمن السياسي "الموعود" المتمثل في انسحاب الاحتلال وانتقال صلاحياته إلى السلطة، ناهيك عن أن هذه السلطة عاجزة عن حماية المواطنين من المستوطنين ومن استباحة جيش الاحتلال لكل الأماكن بما في ذلك المستشفيات.

في المقابل، إذا نظرنا إلى الفعل الفلسطيني وعلاقته بالهبة سنرى أن ظاهرة الطعن والدهس عفوية وفردية. إذ اتسمت المواجهات في مراكز التماس مع قوات الاحتلال بالطابع العفوي وغير المنظم إلى حد كبير، الأمر الذي له ما يبرره في سياسات الاحتلال. بيد أن استمرار هذه المواجهات بصورتها العفوية للشهر الثالث على التوالي لا يمكن رؤيته إلاّ كمؤشر إلى عجز الحركة الوطنية بمختلف فصائلها عن نقل الهبة من العفوية والمبادرات الفردية إلى الاحتجاج والانتفاض الجماهيري الجماعي المنظم كما حدث في الانتفاضة الأولى. لقد مضت أعوام على فشل العملية السياسية ووصول مسار المفاوضات إلى طريق مسدود، وكان من شأن الفشل والإخفاق السياسيين ونتائج مسار أوسلو المأساوية أن دفعت قوى المعارضة وتنظيم "فتح" وحفزتهم على بناء مسار بديل. لكن "فتح" اكتفت بخيار الذهاب الى الأمم المتحدة في محاولة لاستصدار قرار جديد من مجلس الأمن ينهي الاحتلال، وبالانضمام إلى المنظمات والمعاهدات الدولية، ومقاطعة سلع المستوطنات، والبحث عن مبادرات أوروبية، وفي المحصلة الأخيرة لم يتجاوز موقفها الموقف الرسمي للمنظمة والسلطة. أمّا تنظيمات المعارضة الأُخرى فاكتفت بسياسة الرفض والممانعة ولم ترتق إلى مستوى بناء مسار بديل قابل للتطور، بما في ذلك إعادة بناء شبكة تحالفات مع قوى ديمقراطية عربية ودولية كحليف وداعم حقيقي لنضال الشعب الفلسطيني.

لم تكن قوى المعارضة (تنظيمات اليسار وحركتا "حماس" والجهاد) في وضع يسمح لها  بقيادة الهبة لحظة اندلاعها وتحويلها إلى انتفاضة، أو إلى احتجاج شعبي منظم له أهداف صغيرة وكبيرة، ولديه شكل رئيسي للنضال، ويملك برنامجاً مشتركاً يعبر عن المصالح الفعلية للسواد الأعظم من الشعب. ولم يختلف موقف هذه القوى حينذاك عن موقف تنظيم "فتح"، إذ كان العجز وفقدان الاتجاه سيدي الموقف، الأمر الذي دفع تنظيمات المعارضة إلى تأييد العفوية والتماهي معها بمشاركة ضعيفة ومترددة. وبهذا، فقد أهدرت القوى المنظمة جميعها فرصة تحويل الهبة إلى انتفاضة بمشاركة قطاعات واسعة من الجمهور، كالعمال والنقابات، فضلاً عن مئات القرى والبلدات، والنساء والشباب – المنظمات النسوية واتحادات الشباب والاتحادات المهنية -.لقد كان من شأن مشاركة القطاعات الواسعة أن تؤدي إلى تقييد السلطة، وإلى تحفيز قاعدة الشرطة والأمن والموظفين في وزارات ومؤسسات السلطة على المشاركة في الانتفاض، فضلاً عن إنهاء التنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال. فعندما يخرج الشعب بإرادة موحدة تطالب بوضع حد للاحتلال، وبوقف الاحتكار الأميركي لعملية سياسية أدت الى تعميق هذا الاحتلال، وبإنهاء العجز والتواطؤ العربيين الرسميين اللذين أديا إلى انفكاك الدول العربية عن قضية الشعب الفلسطيني، بالإضافة إلى مطالبته الشعوب العربية الضغط على حكوماتها، وعندما يختار الشعب أشكالا من النضال تتفادى المغامرة بقدرته على الصمود والهجوم السياسي، عندئذ يتم الانتقال إلى مسار حركة تحرر وطني هدفها إنهاء الاحتلال وتمكين شعبها من تقرير مصيره بلا وصاية من أحد وبلا خضوع لابتزاز دولة الاحتلال والدول المانحة التي مولت موضوعياً كلفة الاحتلال وحولته إلى احتلال رابح. أختم بالقول، ما زالت الفرصة تسمح بمبادرة من داخل القوى الوطنية، أو من خارجها للشروع في بناء مسار التحرر الفعلي.    

Read more