الآثار المحتملة لهجرة اليهود السوفيات في الخريطة الحزبية في إسرائيل
كلمات مفتاحية: 
هجرة اليهود السوفيات
الأحزاب السياسية الإسرائيلية
التركيب السكاني
نبذة مختصرة: 

يتناول التقرير قضية هجرة اليهود السوفيات إلى إسرائيل وأبعادها وتأثيراتها وانعكاساتها على وضع إسرائيل الداخلي من حيث التكوين الديموغرافي والنسيج الاجتماعي والنظام السياسي وعلى مجمل الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط.

النص الكامل: 

يبدو أنَّ قضية تدفُّق موجات المهاجرين اليهود السوفيات على إسرائيل ستظل الشغل الشاغل لكل المعنيين بالقضية الفلسطينية وتطوُّراتها، نظرًا إلى ما لهذه القضية من جوانب وأبعاد وتأثيرات، وإلى انعكاساتها على وضع إسرائيل الداخلي – تكوينًا ديموغرافيًا، ونسيجًا اجتماعيًا، ونظامًا سياسيًا – وكذلك على مجمل الأوضاع في الشرق الأوسط.

يتهيَّأ للمرء، وهو يتابع مختلف جوانب هذه القضية، أنَّ إسرائيل تخوض الآن غمار مغامرة لا تقل خطورة وتعقيدًا عن مغامرة إنشاء الكيان الصهيوني نفسه في فلسطين؛ بل إنَّ هذه المغامرة هي امتداد لقيام إسرائيل سنة ١٩٤٨؛ وهي تتمة لاعتداء ١٩٦٧ واحتلال مناطق عربية شاسعة؛ وهي استكمال لجميع حروب إسرائيل التوسعية، الماضية والمستقبلية، لأنَّ هذه الحروب تستند إلى ركيزتين أساسيتين هما: الهجرة – استيراد المادة البشرية لإِشغال أراضي الاحتلال؛ والاستيطان – بناء المستعمرات التي هي شرط لاستيعاب المهاجرين المستوردين. وإذا كان بناء المستعمرات هو التجسيد لسياسة الأمر الواقع، فإنَّ الهجرة هي الوقود الذي يغذِّي استراتيجية الحروب التوسعية والقمع والتسلُّط والاقتلاع. وهكذا تغلق الدائرة: حروب توسعية، وقمع، واقتلاع، وهجرة، واستيطان، وزرع بذور حروب في المستقبل.

وما يضفي طابع المغامرة على الهجرة هذه المرة هو التناقضات التي تتسم بها، والتوقيت الذي تجري فيه. فهي، من جهة، هجرة جماعية تأتي في الوقت الذي تعاني إسرائيل أزمة بطالة ناجمة عن الانتفاضة الفلسطينية في الأساس (وصلت إلى ١٠٪ من مجموع الطاقة العاملة). وهنا تبرز مشكلة استيعاب هذه الأعداد الكبيرة في سوق العمل؛ إذ ذكر مصدر حكومي كبير أنَّ من المتوقَّع أنْ يصل إلى إسرائيل هذه السنة ٢٣٠ ألف مهاجر. ثم يأتي وزير الاستيعاب ليخفف من وطأة هذا الرقم فيقول إنَّ الرقم الصحيح هو ١٠٠ ألف لا ٢٣٠ ألفًا.(1)  وتتحدَّث مصادر الوكالة اليهودية عن ١٥٠ ألفًا خلال هذه السنة، ونصف مليون خلال السنوات الثلاث المقبلة، لينضموا إلى ١٨٠ ألف مهاجر سوفياتي وصلوا إلى إسرائيل منذ سنة ١٩٧٠. وإذا هاجر إلى إسرائيل نصف مليون نسمة خلال السنوات الثلاث المقبلة، فإنَّ هذه الزيادة ستشكِّل ١٤٪ (يهود أشكناز) من عدد سكان إسرائيل اليهود البالغ الآن ٣,٧ ملايين نسمة.(2)   ويتحدث نسيم غاؤون اليهودي الشرقي (رئيس الاتِّحاد العالمي للطوائف السفارادية) عن استيعاب ربع مليون خلال السنتين المقبلتين، "بهدف التوصُّل إلى ٥,٥ ملايين يهودي إسرائيلي خلال هذا العقد."(3)

إنَّ هذه الأعداد الكبيرة تطرح مشكلة استيعابها في الاقتصاد الإسرائيلي الذي يعاني مأزقًا بنيويًا. ناهيك بأنَّ بين اليهود الروس مَن هم أصحاب كفاءات علمية عالية ليس من السهل على الاقتصاد الإسرائيلي استيعابهم.(4) 

وكلَّما تزايد عدد اليهود السوفيات المتوقَّع وصولهم إلى إسرائيل، ازدادت تقديرات تكلفة استيعابهم. فعندما كان يجري كلام على ضرورة جمع نحو ٣ مليارات دولار لاستيعاب ١٠٠ ألف مهاجر، أصبح الآن يطرح مبلغ ٦ – ٧ مليارات دولار. من أين المال؟ ثمَّة من يتحدَّث عن صعوبات كثيرة في جمع أموال من يهود العالم، ولا سيما في الولايات المتحدة بسبب الوضع الاقتصادي المتأزم قليلًا أولًا؛ وبسبب صورة إسرائيل السلبية الناجمة عن مسلكها القمعي في المناطق المحتلَّة، وانخفاض مكانتها لدى الرأي العام، الأمر الذي يتراجع معه الاستعداد للتبرع ثانيًا؛ وثالثًا، انحسار اهتمام اليهود عامة بالتبرع لإسرائيل بسبب تغير الأجيال، إذ إنَّ الجيل الحالي – من أصحاب الثراء – جيل جديد "لم يختبر فظاعة النكبة النازية" وهو أقل استعدادًا للتبرع.(5)   علمًا بأنَّ بنيامين نتنياهو، الليكودي ونائب وزير خارجية إسرائيل، يزعم أنَّ صعوبة استيعاب المهاجرين الروس ليست ناجمة عن نقص في الأموال أو عن "النفقات الأمنية"، إذ إنَّ الولايات المتحدة هي التي تتكفَّل  بهذه النفقات على حد قوله، بل إنَّ الصعوبة – كما يراها – ناجمة عن خلل في النظام الاقتصادي.(6)

ثمَّة تناقض آخر ناجم عن صعوبة التوفيق بين نية إسرائيل إسكان المهاجرين الروس في المناطق المحتلَّة، وبين محاولتها طمس هذه النية تحاشيًا لضغط عربي ودولي. فمن جهة، يعلن يتسحاق شمير، رئيس الحكومة، أنَّ حكومته لنْ توجه مهاجرين للإقامة في المناطق المحتلَّة: "ليست لدينا حوافز على تشجيع الاستيطان هناك. لكنْ إذا كان أحد يتوقَّع منِّي أنْ أقول إنَّنا سنمنع يهوديًا من الذهاب إلى المناطق، فإنَّي لن أفعل ذلك؛ إذ إنَّ للمهاجرين الحق الكامل في اختيار المكان الذي سيقيمون فيه."(7)  لكن شمير أعلن قبل ذلك أنَّ "هجرة كبرى بحاجة إلى إسرائيل كبرى"، معبِّرًا عن التزامه إسكان المهاجرين السوفيات في المناطق المحتلَّة. وبعد ذلك تفرض رقابة عسكرية عل موضوع الهجرة من الاتِّحاد السوفياتي، ويحاولون التخفيف من وطأة التأهُّب لذلك إذ يعلنون أنَّ ٠,٥٪ فقط من المهاجرين الروس توجَّهوا إلى المناطق. وفي الوقت ذاته يكشف النقاب عن أنَّ الوكالة اليهودية حوَّلت مؤخَّرًا نصف مليار دولار إلى المناطق المحتلَّة بهدف إسكان المهاجرين الروس، وذلك "تحت ستار هيئات أخرى". كما أنَّ هيئات استيطانية، مثل "غوش إيمونيم"، تنسِّق مع وزارة الإسكان ووزارة التجارة والصناعة اللتين يديرهما الليكود لتقديم إغراءات لليهود الروس من أجل السكن في المناطق المحتلَّة.(8) 

أمَّا التناقض الأكبر، فيتعلَّق بانعكاس موجات الهجرة على الميزان الديموغرافي بين العرب واليهود، وبين اليهود الغربيين والشرقيين. ففي الوقت الذي تدَّعي الصهيونية أنَّ إسرائيل هي "الملجأ الأمين" ليهود العالم، فإنَّ قدوم اليهود السوفيات يذكِّي نار الحقد والاستقطاب بين الشرقيين (السفاراديم) والغربيين (الأشكناز).

في كل حال، فقد تجدَّد في ظل هذه الهجرة "الجدل الديموغرافي"  بين الخبراء من أنصار مدرسة إعادة قسم من الأراضي المحتلَّة الذين يجزمون أنَّ هجرة اليهود الروس لنْ يكون لها أثر كبير في تغيُّر الميزان الديموغرافي بين العرب واليهود، وبين أنصار اليمين التوسعي الذين يعتبرون أنَّ هجرة نصف مليون أو مليون يهودي روسي ستقضي على "الشيطان الديموغرافي".

ماذا يقول الخبراء؟

– يوسف ألفر، نائب رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة تل أبيب، يرى أنَّه حتَّى لو هاجر إلى إسرائيل خلال العقد المقبل ٨٠٠,٠٠٠ وبقوا في البلد، فإنَّ عرب إسرائيل سيظلون يشكِّلون ٤٠٪ من مجموع السكان في سنة ٢٠٠٠، وسوف يصبحون أكثرية بعد ١٥ عامًا.(9)

– العالم الجغرافي أرنون سوفير يرى أنَّ نسبة اليهود في "أرض إسرائيل" انخفضت السنة الماضية من ٦٢٪ إلى ٦١٪ من مجموع السكان بسبب النزوح وارتفاع نسبة التكاثر لدى العرب. ومن أجل إعادة هذه النسبة المئوية يترتَّب على  إسرائيل استيعاب ١٧٠,٠٠٠ يهودي في السنة. وإذا افترض أنَّ النزوح سيكون معدومًا، ومن المرجَّح أنَّ إسرائيل غير قادرة على استيعاب أكثر من ٦٠,٠٠٠ وحتَّى ١٠٠,٠٠٠، ففي هذه الحالة لن يتغيَّر الوضع الديموغرافي تغيرًا مهمًا في تخوم "أرض إسرائيل" (أي مع المناطق المحتلَّة). وحتَّى داخل "الخط الأخضر"، فإنَّ هجرة مليون يهودي ستزيد نسبة السكان اليهود إلى ٨٤٪ بدلًا من ٧٨٪ التي كانت متوقَّعة من دون هجرة الروس.(10) 

إنَّ الخبراء يجدون الحل في التخلِّي عن المناطق المحتلَّة وإسكان المهاجرين الروس في النقب والجليل، إذ قد يطالب العرب فيهما بـ"استقلال ذاتي"، وهم (الخبراء) يريدون دولة يهودية نقية من العرب. أمَّا أنصار اليمين فلا ينكرون "الخطر الديموغرافي"، لكنَّهم واثقون بالتغلُّب عليه، والحل في نظرهم ترحيل العرب إلى الدول العربية "ترانسفير"؛ وهم يريدون أيضًا "دولة يهودية نقية من العرب"، لكن شاسعة الأطراف لا أحد يعرف أين يريدون حدودها.

رب سائل يسأل: ما العلاقة بين هذه العوامل والتناقضات وبين الآثار المحتملة لهجرة اليهود السوفيات في الخريطة السياسية موضوع هذا البحث؟

قد تكون العلاقة جدلية. لكن الناحية العملية لهذه العلاقة ترتبط بقدرة الحكومة الإسرائيلية على استيعاب اليهود الروس. ويتوقف على هذه القدرة الاستيعابية بقاء اليهود الروس في إسرائيل أو الرحيل عنها. كما أنَّ مدى النجاح أو الفشل في استيعابهم قد يحدد انتماءهم السياسي. حتَّى أنَّ لتوزيعهم الجغرافي علاقة بتوجُّههم السياسي. فإقامتهم في المناطق المحتلَّة أو في ما يسمَّى "مدن الإعمار" في النقب وغيرها، تعني التماثل مع اليمين. وإقامتهم في الوسط أو في الكيبوتسات تعني في الغالب تماثلهم مع الأحزاب العمالية. وإلى جانب ذلك، فإنَّ لتأثيرهم في الميزان الديموغرافي علاقة مباشرة بازدياد حدَّة الاستقطاب داخل المجتمع الإسرائيلي. ونظرًا إلى أنَّ اليهود الروس هم أشكناز، فإنَّهم يعزِّزون العنصر الأشكنازي في المجتمع الإسرائيلي الأمر الذي من شأنه أنْ يجعل العنصر السفارادي – الشرقي يشعر بالقلق على بعض مكاسبه وتطلعاته، لأنَّه يدرك أنَّ استيعاب هذه الموجات من اليهود الأشكناز سيتم على حسابه.

ونظرًا إلى أنَّ المؤسسة الإسرائيلية، بشقَّيْها الليكودي والعمالي، معنية بإسكان اليهود الروس في الجليل والنقب، فإنَّ العرب يشعرون بأنَّ ذلك سيتم على حسابهم أيضًا. 

العرب في إسرائيل

يدقُّون ناقوس الخطر

من البديهي أنْ ينبري العرب في إسرائيل إلى إسماع أصواتهم محذِّرين من أخطار هجرة اليهود الروس الجماعية. فهم وسائر أبناء الشعب الفلسطيني سيكونون ضحايا هذه الموجة العارمة من الهجرة. إذ إنَّ إسرائيل تفتقر إلى الإمكانات والوسائل والأماكن الخالية لاستيعاب أعداد كبيرة من اليهود الروس، ولا يمكن استيعابهم إلَّا على حساب العرب كما دلَّت التجارب السابقة.

 "إلى الجليل لتهويده،

وإلى النقب لتوطينه"

تصاعدت الأصواب التي تنادي بإسكان اليهود الروس في الجليل والنقب. فمثلًا: يجزم يوسف ألفر أنَّ ثمَّة مشكلات أمنية استراتيجية تنتظر إسرائيل لأنَّ في الجليل أكثرية عربية، وسيصبح في النقب تقريبًا أكثرية بدويَّة، وقد يطرح هؤلاء مطلب الحصول على استقلال ذاتي؛ لكن إسكان اليهود الروس في الجليل والنقب "سيحرم العرب الإسرائيليين المطالبة بحقوق سياسية خاصة استنادًا إلى حقيقة أنَّهم يعيشون في ثغور عربية."(11)  كما أعلن الحاخام يتسحاق بيرتس، وزير الاستيعاب، أنَّه يجب توجيه المهاجرين إلى "الجليل لتهويده، وإلى النقب لتوطينه."(12)   وكان بيرتس قد دعا إلى تغيير السياسة الحالية التي تشجع استيعاب المهاجرين في وسط البلد، على حد قوله، وتوجيه أكثر من ٥٠٪ من المهاجرين الجدد إلى مناطق المحيط، إلى الجليل والنقب، وذلك بتقديم حوافز ملائمة لهم.(13)  أمَّا تسفي شيلواح، عضو الكنيست السابق، فقد ذهب إلى أبعد من ذلك معبِّرًا عمَّا تضمره المؤسسة الإسرائيلية؛ فهو لا يرى حلًّا للمشكلة الديموغرافية، سواء في المناطق المحتلَّة أو "داخل حدود الخط الأخضر"، سوى "نقل سكان من أجل إنشاء دولة يهودية متناسقة. ومن شأن هذا الحل أنْ يأتي في أعقاب حرب أهلية على غرار لبنان، أو بواسطة اتفاق سلام يكون مشروطًا بالفصل بين السكان العرب واليهود ليكون سلامًا حقيقيًا."(14)

في ضوء تصاعد هذه الأصوات التي تنادي بإسكان اليهود الروس في الجليل والنقب، طرحت مقترحات لتحرك العرب في إسرائيل من أجل مواجهة الخطر الجديد. فمنهم من اقترح إرسال وفد من الأمم المتحدة، وعقد اجتماعات مع ممثلي السلك الدبلوماسي الأجنبي في إسرائيل. إلَّا أنَّ الخطوة التي أقدمت حركة أبناء البلد عليها، بتوقيع عريضة ضد هجرة اليهود الروس، تمثِّل موقفًا شعبيًا للعرب في إسرائيل. وهذه العريضة التي حملت تواقيع أكثر من عشرة آلاف شخص موجهة إلى ميخائيل غورباتشوف والأمين العام للأمم المتحدة.

لقد عرض رجا غبّارية، الأمين العام لحركة أبناء البلد والمبادِر إلى العريضة الآنفة الذكر، الأخطار السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تتربَّص بالعرب في إسرائيل جرَّاء استقبال موجات الهجرة اليهودية من الاتِّحاد السوفياتي. يقول غبّارية: "إنَّ الهجرة تُعرِّض وجودي على أرضي كعربي للخطر. إذ كانت الهجرة تسفر دائمًا عن الطرد. وسيتكرر الآن تمامًا ما حدث سنة ١٩٤٨. وقد حولت الهجرة من الاتحاد السوفياتي الترانسفير – ترحيل العرب داخل الخطر الأخضر – أمرًا واقعيًا... إنَّ معارضتنا للهجرة ليست سياسية فحسب بل عملية أيضًا. فما دام قانون العودة لا يسري على الجميع، فلا سبب للتكلم في الهجرة."(15)

وقد أشار توفيق زيّاد، رئيس بلدية الناصرة، إلى أنَّ الخطر الناجم عن هذه الهجرة هو فيما إذا كانت ستؤدِّي إلى مصادرة أراضي العرب وتوسيع انتشار البطالة بين العمال العرب.(16)  ويرى محمد وتد، عضو الكنيست السابق (مابام)، أنَّه يستحيل النظر إلى معارضة معظم الجمهور العربي للهجرة من الاتِّحاد السوفياتي بمعزل عن النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني. ولدى عرب إسرائيل جميع الأسباب التي لدى اليهود أبناء الشرائح الفقيرة لمعارضة الهجرة. وأشار وتد إلى "شائعات تتحدَّث عن فصل عمال عرب ووضع مهاجرين جدد في أماكنهم. وبين المهاجرين آلاف الأطباء والمهندسين والفنيين، وهؤلاء ينافسون أبناء البلد فيما يتعلَّق بأماكن العمل. ويعتقد العرب أنَّهم سيكونون أول من يُطرد لمصلحة المهاجرين."(17)

ويتحدث العرب في إسرائيل عن عشرات الأطباء الذين أنهوا دراسة الطب في الخارج، ولا يستطيعون التقدم إلى الامتحانات في البلد نتيجة "تمييز متعمِّد". ويقول أحد العرب: "لا مكان للمهاجرين في إسرائيل. البلد صغير، وإلى أين سنذهب نحن العرب. لا متَّسع هنا للجميع."(18)

يستخلص من مختلف مواقف العرب في إسرائيل من هجرة اليهود السوفيات، كما عكسها بعض النشيطين السياسيين والصحف الناطقة باللغة العربية، الأخطار التي تهدد العرب جرَّاء هذه الهجرة:

١ –  ستسبِّب الهجرة الجماعية مصادرة المزيد من الأراضي العربية، وخصوصًا في الجليل ضمن مخطط تهويده. كما أنَّها تهدد عرب النقب بالترحيل والاقتلاع. وهي تشجِّع، بالتالي، على تنفيذ خطط الترحيل ليس في المناطق المحتلَّة فحسب بل بين عرب إسرائيل أيضًا.

٢ –  ستؤدِّي الهجرة إلى الإخلال في الميزان الديموغرافي بين العرب واليهود، الأمر الذي سيساهم في طمس ما بقي من الهوية العربية وتجليَّاتها السياسية والاقتصادية والثقافية والتربوية.

٣– ستضيِّق الهجرة الخناق الاقتصادي على العرب، ولا سيما لجهة ازدياد البطالة بينهم؛ وتدفع هذه البطالة بالعرب في إسرائيل إلى الهجرة إلى الخارج كما تتمنَّى السلطات الإسرائيلية. فالبقاء في إسرائيل يصبح انتحارًا، وهجرة الوطن ذنب لا يغتفر.

٤- إنَّ تدفق المهاجرين الروس على إسرائيل سيزيد في خطر الاحتكاك والضغائن بين العرب واليهود لدفع العرب إلى "الانتفاض"، كما تلمِّح أوساط إسرائيلية، كي تجد السلطة الحجة والفرصة المؤاتية لقمعهم وحملهم على الرحيل. ويقول رضوان أبو عياش إنَّ الانفجار السكاني في إسرائيل، داخل الخط الأخضر، سيعيدها إلى سياسة احتلال أراض عربية جديدة.(19) 

العرب واليهود الشرقيون

في مواجهة "خطر مشترك"

قد تكون للهجرة الجماعية من الاتحاد السوفياتي انعكاسات اجتماعية بعيدة المدى، كما قد تؤدِّي إلى الإخلال بالنظام الاجتماعي وتعيد خلط الأوراق على الصعيد الطائفي. فبينما كان اليهود الشرقيون يتوثَّبون لاحتلال مراكز رئيسية في الحياة السياسية والاجتماعية في إسرائيل بسبب تفوقهم العددي، يواجهون الآن خطر فقدان بعض ركائز السلطة عندما تساهم الهجرة الروسية في زيادة عدد اليهود الغربيين بنسبة ١٤٪ في حال تحقَّقت التوقعات الشائعة.

أضف إلى ذلك أنَّ العرب في إسرائيل، والشرائح ذات الإمكانات الضئيلة، وسكان الضواحي اليهودية الفقيرة، قد يجدون أنفسهم أمام أخطار ربما تكون متشابهة. فالعرب يعانون ضائقة اقتصادية، وإهمالًا متعمِّدًا، وعجزًا كبيرًا في ميزانيات المجالس المحلية، ونقصًا في الخدمات الاجتماعية بأنواعها. كما أنَّ الشرائح اليهودية التي تنتمي إلى الطوائف الشرقية لا تزال تعاني الفقر منذ عشرات السنين بحجة عدم توفر المال وبحجة أنَّ إسرائيل تعيش حالة حرب وتتحمل أعباء أمنية. وفجأة يتحدث قادة إسرائيل والحركة الصهيونية الآن عن جمع المليارات من الدولارات لاستيعاب اليهود الروس.

من هنا، وجد بعض قادة العرب في إسرائيل والمناطق المحتلَّة، وقادة الضواحي اليهودية الفقيرة، أرضية مشتركة لمعارضة هجرة اليهود الروس. فكما بعث رجا غبارية الأمين العام لحركة "أبناء البلد" بعريضة إلى الأمم المتحدة وغورباتشوف، كذلك أرسل يامين سويسا، زعيم الضواحي اليهودية الفقيرة، هو أيضًا برقية إلى غورباتشوف يناشده فيها وقف الهجرة.

وقد كشف رجا غبارية النقاب أول مرة عن وجود "تنسيق" بين حركة "أبناء البلد" وأوساط يهودية تعارض الهجرة. إذ يقول: "هناك تنسيق في المواقف، هاتفي في الأساس، مع يهود من أصل شرقي مثل حركة "مزراحا لشالوم"، ومع يامين سويسا، وأيضًا مع حاييم هنغبي أمين الكتلة الديمقراطية للسلام في الكنيست."(20)  

وقد عرضت ليلي غاليلي(21)  بعض التعليلات المشتركة ضد الهجرة الروسية التي يطرحها العرب في إسرائيل وأبناء الضواحي الفقيرة ومدن الإِعمار اليهودية، وتحفُّظها من الهجرة. وعلى الرغم من أنَّ هاتين الفئتين في إسرائيل تقفان في المواجهة في طرفي الطيف السياسي، فإنَّهما تعتبران الهجرة الجماعية "تهديدًا اقتصاديًا واجتماعيًا" للمجتمع الإسرائيلي. وهما تشعران بالقلق من أنَّ هذه الهجرة "ستكون على حسابهما، وستلحق الضرر بمصادر رزقهما، وستزيد في تفاقم البطالة المتصاعدة بينهما بطبيعة الحال."

لقد جاءت الهجرة بالنسبة إلى العرب والشرائح اليهودية الفقيرة في وقت عصيب بالنسبة إلى الفئتين: فالقطاع العربي يواجه أزمة عميقة نتيجة انهيار المجالس المحلية بعد أنْ حرمتها الحكومة الإسرائيلية الحصول على أموال من مؤسسات في الخارج بموجب "قانون منع الإرهاب". أمَّا فيما يتعلَّق بالشرائح اليهودية التي تعيش ضائقة، فإنَّ التزامن بين الهجرة الروسية ونشر تقرير الضمان الوطني بشأن الفقر في إسرائيل زاد في حدَّة "الإحساس بالقلق"؛ إذ إنَّ ٦٠٠ ألف شخص يعيشون تحت خط الفقر، و١٦٣ ألفًا من العاطلين عن العمل يفتقرون إلى حلول للخروج من ضائقتهم، كما جاء في التقرير، هم الآن ضحايا الهجرة التي توفِّر السلطات لها كل شيء.(22)

"ليتقاسموا الفقر معنا"

نقلت ليلي غاليلي مواقف بضع أوساط اليهود الشرقيين المتحفظة من الهجرة، مشيرة إلى بعض نواحي تنسيق هذه المواقف مع مواقف العرب. فقد نقلت مثلًا عن الدكتور يوسي دهان، من دائرة الفلسفة في الجامعة العبرية في القدس، قوله: "لا شيء عندنا ضد المهاجرين، بل على العكس، فليتقاسموا معنا البطالة والفقر والجوع." وقد عقد اجتماع في قرية عرعرة بين فيصل الحسيني وممثلي اليهود الشرقيين في إطار "هيئة العدالة الاجتماعية والسلام"، وذلك لتعزيز التقارب بين العرب والهيود الشرقيين. كما نظمت هيئة تحرير صحيفة "هباطيش" ندوة مع رضوان أبو عياش في ضاحية جاموسين في تل أبيب. وجاء في مقال نشرته الصحيفة أنَّ "إقامة دولة فلسطينية هي الحل. إنَّ الأشكناز يتحكَّمون في الشرقيين ويخافون من السلام مع العرب، لأنَّ موقفهم سيتعزَّز في هذه الحالة..." ويقول إيهود شيمر، كاتب المقال، إنَّ "الكثيرين يفكرون مثله، لكنَّهم يخافون من الإفصاح عن أفكارهم بسبب إرهاب المؤسسة." وينظر عوفير بيرنشتاين، المدير العام لصحيفة "هباطيش"، إلى بنية إسرائيل الاجتماعية السياسية كـ"جماعة أشكنازية حاكمة، تضطهد الشرقيين والعرب معًا، فتخلق بذلك عاملًا مشتركًا واسعًا بينهم." ويجزم بيرنشتاين أنَّ الهجرة الأشكنازية تشحذ الآن أكثر فأكثر ارتباط الشرقيين بثقافتهم القريبة من الثقافة العربية. ويعتبر دور "هباطيش" مساهمة في تعميق هذا الارتباط بين الشرقيين والعرب لتحقيق أهداف سياسية – اجتماعية.(23) 

اختتمت ليلي غاليلي تقريرها بالقول: "إنَّ هذه الظاهرة، كما ذكرنا، لا تزال هامشية في حجمها. ومع ذلك يمكن التأكيد منذ الآن أنَّ الهجرة وعملية السلام عنصران سيغيران وجه المجتمع في إسرائيل حتَّى في اتجاهات غير متوقعة. ومن شأن الاهتمام بضائقة المجتمعين الضعيفين أنْ يضمن اتجاه التغيير إلى الأفضل."(24)

قد تكون الهجرة اليهودية السوفياتية وما تحمل معها من عواقب وآثار على المجتمع الإسرائيلي، وما ستحدثه من استقطابات اجتماعية جديدة، فرصة وحافزًا أمام اليهود الشرقيين الذين غرَّرت الصهيونية بهم وشحنتهم بكره العرب، لإعادة النظر في مواقفهم. وإذا وجد العرب في إسرائيل واليهود الشرقيون أرضية مشتركة لمقاومة السياسات الصهيونية التي تلحق بهم أضرارًا، ربما ينشأ نوع من التآلف بين العرب وقطاعات واسعة من اليهود الشرقيين يشكِّل بيضة قبان لتصحيح الخلل الذي سينجم عن الهجرة الروسية في النظام الاجتماعي. وربما سيكون لهذا التآلف، إذا تُرجم إلى عمل سياسي مشترك، تأثير بالع الأهمية في الخريطة الحزبية السياسية في إسرائيل ليشكِّل قوَّة سياسية توازي قوَّة الأشكناز وتساهم في دفع عملية السلام على أساس الحقوق المشتركة للجميع. 

اليهود الروس

والمعركة الانتخابية المقبلة

ثمَّة أسئلة كثيرة بدأت تطرح عن تأثير تدفق اليهود السوفيات في الخريطة السياسية في إسرائيل، وفي عملية اتِّخاذ القرارات الحاسمة. إذ إنَّ تأثيرهم في الميزان الديموغرافي لا بدَّ من أنْ ينعكس على الخريطة السياسية – الحزبية في إسرائيل. وإذا صحَّت التوقُّعات بهجرة ما بين ربع مليون ونصف مليون مهاجر يهودي روسي حتَّى معركة الانتخابات المقبلة، في تشرين الثاني / نوفمبر ١٩٩٢، فمن المتوقَّع أنْ تشكِّل قوتهم الانتخابية بين ٨ – ١٠ مقاعد في الكنيست قد تتوزَّع على الكتل المختلفة أو يحظى حزب بأكثريَّتها من دون غيره.

إنَّ تجربة اليهود الروس السابقين في احتلال موقع مؤثر لهم في الخريطة الحزبية – السياسية في إسرائيل، لم تكن ناجحة كثيرًا لأن عدد اليهود الروس الذين وصلوا إلى إسرائيل خلال فترة ١٩٦٨ – ١٩٨٨ لم يتجاوز ١٨٠ ألفًا، شكَّلوا نحو ٣ مقاعد في الكنيست. وقد حاولوا تشكيل أحزاب سياسية مرتين لكنهم فشلوا في ذلك، فشعروا بالإحباط وبأنَّهم يشكِّلون قوة هامشية، ولا سيما أنَّ حزب العمل الذي حكم إسرائيل حتَّى سنة ١٩٧٧ لم يكن معنيًا بأنْ يشكلوا قوة سياسية. وقد لوحظ أنَّ الأحزاب الإسرائيلية، بصورة عامة، لم تكن معنية بظهور قيادات سياسية من صفوف اليهود الروس.

قد يجد اليهود الروس السابقون فرصة الآن لتكرار المحاولة وبلورة قوة سياسية تكون ذات وزن في الانتخابات المقبلة، في حال بقاء المهاجرين الجدد في إسرائيل، وفي حال توفَّرت لهم أسباب الاستيعاب.

من الصعب معرفة ما إذا كان اليهود الروس سيخوضون الانتخابات في حزب سياسي جديد، أم سينضمون إلى الأحزاب القائمة. لكن يمكن القول إنَّ المعركة الانتخابية المقبلة قد تكون مهمة لجهة توجه إسرائيل نحو التقدم الفعلي في العملية السياسية، وتقرير المصير السياسي للمناطق المحتلَّة. وقد تشهد هذه المعركة تغيرات في قمة القيادة بعد عقدين من حكم الرباعي رابين – بيرس – بيغن – شمير؛ وربما سيتبوأ مركز القيادة، سواء في المعراخ أو في الليكود، أشخاص جدد؛ وقد يصعد إلى قمة القيادة بعض المهاجرين الروس القدامى أو الجدد، من أمثال شيرانسكي وغيره؛ وربما سيذهب زمن تقاسم "الغنائم" بين الحزبين الكبيرين؛ وربما ينتهي عهد التعادل في القوى السياسية.

وقد تجري معركة الانتخابات في ظل نظام انتخابي جديد يسفر عن حسم واضح في النتائج، وغلبة إحدى الكتلتين الكبيرتين على الأخرى، وانخفاض عدد الأحزاب والتخلص من ابتزازها. ويجري كلام الآن على إصلاحات في طريقة الانتخابات، تقوم على إجراء انتخاب رئيس الحكومة مباشرة، وانتخاب نصف عدد البرلمان (ربما سيتقرر زيادة عددهم إلى أكثر من ١٢٠) من الأقضية من دون انتخابهم جميعًا بموجب قوائم حزبية فحسب. كما أنَّ رئيس الحكومة هو الذي سيعين أعضاء حكومته من البيروقراطيين والأكاديميين. ويبقى إمكان سقوط الحكومة في ظل هذه الإصلاحات قائمًا، لكن أكثرية الأصوات في الكنيست هي التي تقرر حله وإجراء انتخابات جديدة.

في ظل هذه الإصلاحات، قد يجد اليهود الروس منفذًا لهم في احتلال مواقع مهمة في الخريطة الحزبية السياسية. وإذا ما أضيفت الأصوات الجديدة إلى أصوات المهاجرين الروس القدامى، فإنَّهم قد يشكلون جميعًا قوة سياسية يصل وزنها إلى أكثر من ١٢ مقعدًا في الكنيست. لكن من المرجَّح ألَّا يتمكَّنوا من إنشاء حزب مستقل خاص بهم؛ إذ إنَّ أصواتهم ستتوزع بين الكتل المختلفة، لكن التنافس الأساسي سيكون بين الليكود والمعراخ.

إنَّ دخول اليهود الروس الحلبة السياسية قد يغيِّر تركيبة الفسيفساء الحزبية السياسية في إسرائيل، وسيرجِّحون وزن الأشكناز في الخريطة الحزبية ليعود اليهود الشرقيون إلى مركز الأقلية بعد أنْ أصبحوا يشكِّلون ٥٢٪ من مجموع السكان اليهود. ولذا، فإنَّ حزب شاس المتدين، حزب الشرقيين، لا يعتبرهم طاقة انتخابية محتملة بالنسبة إليه. وهذا ما جعل يتسحاق بيرتس، زعيم الحزب ووزير الاستيعاب، يعلن: "إذا لم تكن لدينا ثقة بوصولهم إلى دولة إسرائيل.. علينا البحث عن طريقة لإخراج يهود الاتحاد السوفياتي حتى إلى الولايات المتحدة، بل أيضًا إلى أوغندا."(25)

يهود بلا أيديولوجية

إنَّ جميع الأحزاب الإسرائيلية مستنفرة الآن، وهي تنقضّ على اليهود الروس منذ وصولهم إلى المطار. ويقال إنَّ "أول من يصل إلى المهاجر، وأول من يقدم له كوب شاي، ومن يدبر له عملًا، سيجني الثمار يوم الحساب."

إنَّ جميع الأحزاب الصهيونية تحاول جذبهم إليها، كل منها بأسلوبه وبشعاراته. فمثلًا: غوش إيمونيم – الحركة العنصرية الاستيطانية – تنظم لهم جولات في المناطق المحتلَّة لإغرائهم بالإقامة فيها. وأحزاب اليمين المتطرف تغدق عليهم بشعاراتها ابتداء من "أرض إسرائيل الكبرى" حتى "الترانسفير" (ترحيل العرب). والأحزاب العمالية تغريهم بمنافع الهستدروت والامتيازات العمالية والمهنية، ومنافع صندوق المرضى، و"رغد" العيش في الكيبوتسات غير الغريبة عنهم. والكل ينشر بينهم مواد دعائية باللغة الروسية.

إنَّ كل كتلة تزعم أنَّ اليهود الروس سينضمون إليها. اليمين، والليكود على رأسه، يعتبرهم في جيبه. وحزب العمل لا يرى ضرورة للجوء أكثريتهم إلى اليمين. يقول أوري غوردون، أحد قادة حركة العمل ورئيس دائرة الهجرة في الوكالة اليهودية، إنَّ اليهود الروس هم "لوحة مالسة، لم يختبروا تقصير حرب يوم الغفران، ولا حرب لبنان، ولا الانقلاب [الذي جاء بالليكود إلى الحكم]. إنَّهم لا يعرفون بيغن، ولا يكرهون بيرس بالضرورة، إنَّهم أصوات عائمة... نقية من أية أفكار سابقة."(26)

ويرى البعض أنَّ هؤلاء المهاجرين هم، في معظمهم، غير عقائديين ولا يدينون بالصهيونية كثيرًا، وأنَّ هذه الهجرة ليست هجرة بل "هروب" من الصعوبات الاقتصادية في الاتحاد السوفياتي، وأنَّ جل ما يريدون هو تحسين أوضاعهم المعيشية، وأنَّ من الصعب قياس سلوكهم السياسي بناء على سلوك أقرانهم الروس الذين وصلوا إلى إسرائيل خلال السبعينات.

قد يكون كل هذا صحيحًا، والصحيح أيضًا أنَّ اليهود الروس قد يغيرون ما يحملون من أفكار وتصورات سابقة، عندما يصلون إلى إسرائيل ويواجهون الواقع. كما أنَّ من الصعب تحديد توجهاتهم السياسية منذ الآن؛ إذ إنَّ كل شيء رهن باستيعابهم. والحزب الأقدر على مساعدتهم وتوفير شروط المعيشة لهم، ولا سيما في مجال توفير العمل، هو الذي سيحظى بهم.

لكن، في هذه الأثناء، لن تتركهم الأحزاب الإسرائيلية، ولن تتفرج عليهم؛ إذ إنَّ كل واحد منها سيحاول التأثير فيهم وإقناعهم بفلسفته ومواقفه السياسية.

عمليات غسل الدماغ

على الرغم من أنَّ بعض المصادر الإسرائيلية يشير إلى أنَّ المهاجرين السوفيات، في معظمهم، غير متأثرين بأحداث وآراء سابقة، بل يهمهم ترتيب أوضاعهم المعيشية والاقتصادية كما ذكرنا، فإنَّ البعض الآخر من المصادر يشير إلى أنَّهم مرُّوا بعملية غسل دماغ قبل وصولهم إلى إسرائيل، وذلك على يد مبعوثي الحركة الصهيونية، لتستمر هذه العملية بعد وصولهم على يد الأحزاب الصهيونية. ومنذ سنوات كثيرة وأجهزة المنظمة الصهيونية والوكالة اليهودية، وأوساط اليمين الصهيوني، تنشط بينهم وتنشر التعاليم الصهيونية ليتشربوها قبل قدومهم إلى إسرائيل "في اليوم الموعود". ماذا علَّموهم، وماذا شرَّبوهم؟

أولًا أقنعوهم بأنَّ لا مستقبل لهم في الاتحاد السوفياتي، وأنَّهم مضطهدون لمجرد أنَّهم يهود، وأنَّ "العداء للسامية" يحيط بهم، وأنَّ "المذابح" تنتظرهم. "... دخلوا في مواجهة مع النظام في الاتحاد السوفياتي، كافحوا من أجل حقهم في دراسة اللغة العبرية، من أجل المحافظة علة التراث اليهودي، من أجل الهجرة إلى البلد."(27)

ثانيًا – علَّموهم أنْ يكرهوا بلدهم – وطنهم الاتحاد السوفياتي حيث نشأوا وترعرعوا وحيث تمكنوا من الإمساك بزمام العلم وزمام المال. "إنَّهم ثروة نادرة أنفق السوفيات الملايين من أجل تعليمهم"،(28)  ليقدموهم إلى الحركة الصهيونية على طبق من فضة. أقنعوهم بأنْ يكرهوا النظام الاشتراكي ويؤيدوا النظام الرأسمالي – وإسرائيل جزء منه! إنَّهم "يرفضون الشيوعية والاشتراكية، وتجذبهم الرأسمالية الأميركية. ولو استطاعوا لهاجروا إلى الولايات المتحدة."(29)  ويقول ألكس غلاسمان، اليهودي الروسي الذي هاجر إلى إسرائيل سنة ١٩٧٣، ويعمل حاليًا مديرًا لوحدة مهاجري الاتحاد السوفياتي في دائرة الاستيعاب التابعة لليكود: "من الصعب علينا التعامل مع الاشتراكية، إنَّها أسمال حمر بالنسبة إلينا. والعلم الأحمر يذكرنا بالاتحاد السوفياتي ويثير فينا الاشمئزاز. أتذكر أنَّني شعرت بالدوخة عندما شاهدت أول مرة علمًا أحمر في البلد. كان هذا بالنسبة إلي رمزًا لأعوام كثيرة من الاضطهاد. اصطدمت بدلائل الأسلوب الاشتراكي العفن، البيروقراطية. تذكرت كيف أنَّ النظام الاشتراكي يولد ترهلًا بيروقراطيًا ويخلق عدم مبالاة."(30)

ثالثًا – علَّموهم كيف يكرهون العرب والمسلمين. قالوا لهم إنَّ العرب قوم متخلِّفون يريدون القضاء على اليهود أينما وجدوا. وقال أحد هؤلاء المهاجرين، خلال جولة في المناطق المحتلَّة نظَّمتها غوش إيمونيم: "فجأة بدأت أكره العرب. شاهدت كيف أنَّ حربهم ضد المدنيين غير منطقية، أدركت أنَّه لا يجوز محاورة م. ت. ف. يجب البحث عن عرب معتدلين."(31)  ويقول آخر: "لا ثقة لنا بالمسلمين، أعطهم أصبعًا فيطلبون اليد كلها. انظري ماذا يفعلون عندنا في روسيا."(32)

رابعًا – علَّموهم أنَّ إسرائيل واليهود سيهلكون إذا أعادوا المناطق المحتلَّة، وأنَّ واجبهم كيهود الإقامة في هذه المناطق حيث تنتظرهم إمكانات وإغراءات غير موجودة في أماكن أخرى. وقيل لهم إنَّ إقامة دولة فلسطينية تشكل خطرًا على صميم وجود إسرائيل ووجودهم هم فيها.. إلخ. قال أحدهم: "فجأة فهمت أهمية المناطق المحتلَّة. أدركت مقدار أهمية الإقامة فيها. شاهدت إلى أي مدى كانت التلفزة في روسيا تخفي عنا ما يجري. أدركت أنَّه لا يجوز إقامة دولة فلسطينية في المناطق."(33)

يقول ميخائيل أغورسكي (حزب العمل)، أستاذ في الجامعة العبرية وخبير بالشؤون السوفياتية، هاجر إلى إسرائيل من موسكو سنة ١٩٧٥: "نستطيع أنْ نبيعهم مشروع آلون، مناطق في مقابل السلام، لكن ليس دولة فلسطينية."(34)  وجاء على لسان أحد المهاجرين الروس، ويدعى رودولف لا بونيتس: "دهشت قليلًا لماذا يخاف اليهود من العرب. الناس قلقون من الإرهاب." إنَّه لا يرى سببًا يملي على إسرائيل "قلب الوضع الراهن" والتنازل عن إدارة المناطق المحتلَّة؛ "هل ستعيد الولايات المتحدة ألاسكا (إلى روسيا)؟"(35)  وقال آخر: "جئنا من بلد شاسع الأطراف، وفكرة أنَّ مساحة البلد ستتقلص هنا تخفينا."(36)  وقيل لهم إنَّه يجب عدم الخوف من الشبح الديموغرافي لأن العرب لا بد من أنْ يرحلوا في النهاية، "وستحلون أنتم مكانهم". قال لهم حزب "موليدت" بزعامة العنصري رحبعام زئيفي (غاندي): "إنَّنا نبارك ترانسفير [ترحيل] اليهود من الاتحاد السوفياتي إلى إسرائيل، ونتطلع إلى ترانسفير عرب يهودا والسامرة وغزة إلى الدول العربية."(37)

خامسًا علَّموهم أنْ يحبوا اليمين الصهيوني ونهجه المتطرف؛ "تعلموا أنَّ الاعتدال ضعف، وأنَّ القوي وحده هو الذي سينتصر. إنَّ الكفاح من أجل الهجرة شحذ عندهم قيم حرية الفرد وحقوق الشعب، وهكذا تكونت لديهم وجهة نظر اليمين."(38)  وربما أقنعوهم بأنَّ خروجهم من الاتحاد السوفياتي تمَّ بفضل اليمين. وهذا اليمين هو الذي ملأ الدنيا صراخًا وتحريضًا وتهويلًا من أجل خروجهم، وهو وحده الذي يتقن هذا الفن. ويقول ألكس غلاسمان: "فجأة بدأنا نسمع من البلد أصواتًا تنبعث من أجل تحريرها، كانت هذه أصوات نشيطين حزبيين تصحيحيين من أتباع جابوتنسكي. درسنا مبدأهم. ملأوا العالم صراخًا، تظاهروا، أوفدوا مبعوثين... أدركنا أنَّ الدبلوماسية الهادئة لن تخضع الروس المتصلبين. أدركنا أنَّ المناضلين الحاليين الحقيقيين من أجل خروجنا هم رجال اليمين... وبفضل صراخهم أنا هنا."(39)

 المنافسة بين الليكود وحزب العمل

على الرغم من أنَّ الكثير من الدلائل يشير إلى أنَّ بين اليهود الروس عددًا كبيرًا من ذوي الميول السياسية الصقرية، وبالتالي فإنَّ أكثريتهم ستؤيِّد أحزاب اليمين ولا سيما حزب الليكود الحاكم، فإنَّ كلًّا من الحزبين يعتقد أنَّه الأقدر على كسب تأييد السواد الأعظم من المهاجرين الجدد. ويعرض كل منهما أسبابه وتعليلاته التي تدعم اعتقاده. ونعرض هذه التعليلات باختصار كما وردت عند خبير الشؤون الحزبية بوعاز شابيرا:(40)

الليكود وتعليلاته

١ – نظرًا إلى أنَّ الليكود يمسك الآن بزمام السلطة، والمهاجرين الجدد بحاجة إلى السلطة لتساعدهم في التغلب على صعوبات الاستيعاب، فإنَّه لن تكون لهم مصلحة في تغيير هذه السلطة. فهم في البداية أناس هادئون ومع السلطة، كما فعل المهاجرون من شمال أفريقيا في إبان حكم الأحزاب العمالية.

٢ – إنَّ الكثيرين من المهاجرين الجدد يتكلمون العبرية وهم صهيونيون "الأكثر وطنية بين يهود الاتحاد السوفياتي"، والليكود بارع في مخاطبتهم "وإثارتهم بالرموز القومية والشعارات الإسرائيلية."

٣ – إنَّ المهاجرين الجدد لا يرتدعون بالضرورة من المأزق الأمني؛ إذ إنَّهم سمعوا في الاتحاد السوفياتي بالخطر المتربص بإسرائيل. وعندما يحضرون الآن إليها، فإنَّهم لا يكادون يشعرون في الحياة اليومية بالصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. واستعدادهم للقدوم إلى البلد، الذي يتطلب تأهبًا أمنيًا، يدل على تصميمهم على الهجرة إلى إسرائيل. وهذا التضافر بين الاستعداد لمواجهة وضع مضطرب وبين الهدوء، والذي معناه استحالة الحسم السياسي، يلائم موقف الليكود.

٤ – إنَّ العرب في الشرق الأوسط هم استمرار وامتداد لكل الشعوب المعادية لليهود في الاتحاد السوفياتي. وهكذا، فليس غريبًا أنْ تكون نظرتهم إلى العربي نظرة حقد. وسيشرح الليكود لهم أنَّ هذه هي القصة نفسها في كل مكان في العالم منذ آلاف السنين.

٥ – يحمل اليهود الروس معهم ذكرى مريرة لحكم مركزي، غير ديمقراطي.. وسيجدون إسرائيل محاطة من كل جانب بدول يسود فيها كلها أنظمة توتاليتارية. وسيزعمون، مثل الليكود، أنَّهم "لا يثقون بحكام مثل هذه الدول وبالتعاون معهم."

٦ – حرص الليكود طوال سنوات عديدة، كلما احتدم الجدل الديموغرافي، على إشهار حربة هجرة جماعية. وحتى قبل بضعة أشهر لم يكن يؤمن أحد بذلك. الآن شرعت جماهير اليهود في القدوم. وسيقول لهم الليكود: "نحن وحدنا الذين كنا نعرف أنَّكم قادمون، ونحن وحدنا الذين انتظرناكم."

٧ – إنَّ اللقاء الأول للمهاجر في المطار هو مع البيروقراطية، سماسرة المنازل ورجال الأحزاب اليمينية والدينية وهم يرافقون المهاجر لتقديم الخدمات له بمساعدة السلطة.

٨ – إنَّ قطاع "مدن الإعمار" الذي فرض عليه استيعاب مهاجرين من الاتحاد السوفياتي، كما من أثيوبيا، هو قاعدة الليكود الانتخابية. ومعظم رؤساء البلديَّات من الليكود. واستيعاب اجتماعي جيد في تلك المدن معناه أيضًا تبني وجهة النظر السياسية. وهناك شك فيما إذا كان المهاجر الذي سيستوعب في الكيبوتس سيصوت إلى الليكود، والعكس هو الصحيح.

١٠ – إنَّ القادمين الجدد الناضجين سيجدون غالبًا صعوبة في التكيف إزاء البلد والمجتمع والثقافة الجديدة. وفي مقابل ذلك، فإنَّ الشبان هم "رواد الاستيعاب". وتدل استطلاعات الرأي العام على أنَّ الشبان في إسرائيل يميلون في السنوات الأخيرة نحو المواقف الصقرية: إنَّهم يؤيدون الاحتفاظ بالمناطق المحتلَّة، ويعارضون منح العرب حقوقًا سياسية. وهذا ما سيحكيه أبناء المهاجرين إلى ذويهم.

المعراخ وأسبابه

            ١ – إنَّ قطاعًا كبيرًا من المهاجرين يشبه بصورة عامة، أكثر من غيره، شريحة المقترعين التقليديين للمعراخ. وهؤلاء هم جماعة من المثقفين أصحاب الدرجات الأكاديمية وأصحاب المهن الحرة. وتوصف هذه الشريحة من السكان دائمًا بأنَّها الأكثر اعتدالًا في مواقفها السياسية.

            ٢ – علاوة على الحكومة، تنشط الوكالة اليهودية في مجال استيعاب المهاجرين. وهي تنضوي تحت قيادة سيمحا دينتس، أحد قادة حركة العمل، الأمر الذي سيبرز حزب العمل في مجال الانخراط في الاستيعاب.

            ٣ – إنَّ كل مهاجر يعاني صعوبات خلال استيعابه، سواء على صعيد السكن أو على صعيد العمل. والدولة وممثلوها الرسميون هم، في نظر المهاجر، المسؤولون عن هذه الصعوبات، ويُنظر إليهم أنَّهم لا يسعدون بما فيه الكفاية. ومن الطبيعي أنْ يلجأوا إلى المعارضة – أي المعراخ – لأن الشعور السائد هو أنَّ الليكود هو السلطة على الرغم من أنَّه كان يتقاسمها مع المعراخ.

            ٤ – إنَّ المؤسسة العمالية (الهستدروت) ساعدت حزب ماباي في تجنيد المهاجرين في صفوفه خلال الخمسينات. والآن، أيضًا، فإنَّ كل مهاجر يحتاج إلى مكتب العمل، والخدمات الصحية، وخدمات الهستدروت. ويعتبر صندوق المرضى (كوبات حوليم) وسيلة أيضًا لكسب تأييد المهاجرين؛ وهذه كلها في يد حزب العمل.

7/6/1990

           

 

(1)   "هآرتس"،6/3/1990.

(2)    Toronto Star, May 20, 1990.

(3)   "هآرتس"، 18/2/1990. 

(4) أورد آرييه إيلياف، ذو التجربة الطويلة في استيعاب اليهود الروس وتهجيرهم إلى إسرائيل، بعض المعطيات عن كفاءاتهم العلمية. وبحسب تحليله سيكون بين كل 100 يهودي سيهاجرون من الاتحاد السوفياتي: 10-20 من أصحاب المهن الصحية مثل الأطباء والممرضات وعلماء الجراثيم وعلماء الأشعة وما شابه ذلك؛ 20-25 من أصحاب المهن في مجال الهندسة ومختلف أنواع التقنيين من مهندسي المعادن ومهندسين معماريين؛ 10-15 من المدرسين مثل وردت معطيات إيلياف هذه في حديث أجرته معه ياعل فيبشتاين، "ملحق دافار الأسبوعي"، 13/4/1990، ص 9.

(5)  إلياهو سلبيتر، "هآرتس"، 5/4/1990.

(6)  من حديث أجراه معه موتي باسوك، "عال همشمار"، 17/1/1990. 

(7)  ورد حديث شمير في "عال همشمار"، 5/3/1990.

(8)  داني روبنشتاين، "دافار"، 23/2/1990.

(9) "هآرتس"، 8/3/1990. 

(10)   أرنون سوفير، "احتكار محبة البلد"، "هآرتس"، 8/3/1990.

(11)   يوسف ألفر، "هآرتس"، 8/3/1990.

(12)   "عال همشمار"، 12/2/1990.

(13)   "دافار"، 8/2/1990.

(14)  تسفي شيلواح، "رؤية سليمة، واستنتاجات مغلوط فيها"، "هآرتس"، 19/3/1990.  

(15) ورد كلامه عند عوزي محنايمي، "يوم الأرض ضد الهجرة"، "يديعوت أحرونوت"، 30/3/1990. 

(16)  "دافار"، 4/3/1990.

(17) محنايمي، مصدر سبق ذكره. 

(18) المصدر نفسه. 

(19) المصدر نفسه

(20)   المصدر نفسه.

(21)   "هآرتس"، 15/3/1990.

 (22)المصدر نفسه. 

(23)  المصدر نفسه.

(24) المصدر نفسه. 

 (25) "دافار"، 15/2/1990. 

(26) ورد حديث غوردون عند عاموس نافو، "استجداء مصيري"، "يديعوت أحرونوت"، الملحق الأسبوعي، 30/3/1990، ص 18.

 (27) نافو، مصدر سبق ذكره. 

(28)  من حديث أجرته معه ياعل فيبشتاين، مصدر سبق ذكره.

(29)  نافو، مصدر سبق ذكره، ص 19.

 (30)المصدر نفسه.

(31)   المصدر نفسه.

(32)   ورد حديثه عند ليلي غاليلي، "المستوطنون في موسم الاستجداء"، "هآرتس"، 2/2/1990.

(33)   نافو، مصدر سبق ذكره.

(34)   المصدر نفسه.

(35)   Toronto Star, May 20, 1990.

(36)  غاليلي، "المستوطنون في موسم..."، مصدر سبق ذكره.

(37)  نافو، مصدر سبق ذكره.

(38)   المصدر نفسه.

(39)   المصدر نفسه.

(40)   بوعاز شابيرا، "لمن هؤلاء المهاجرون"، "هآرتس"، 23/2/1990.