اللواء داني روتشيلد: "لم نتحاور مع الفلسطينيين الملائمين"
كلمات مفتاحية: 
عملية السلام الإسرائيلية – الفلسطينية
الحكم الذاتي
اتفاق غزة - أريحا 1994
حركة حماس
مقابلات
نبذة مختصرة: 

مقابلة مع اللواء داني روتشيلد، المشارك في المفاوضات الاقتصادية، تتناول فرص نجاح تطبيق اتفاق الحكم الذاتي، والعقبات التي ينتظر أن تعترض سبيل تطبيقه، وينفي فيها إجراء اتصالات بحركة "حماس" ويتحدث عن الصورة التي يُتوقع أن ترتسم في الأراضي المحتلة بعد "الانسحاب" الإسرائيلي.

النص الكامل: 

س – اللواء روتشيلد، هل تثق بعرفات؟

ج – المسألة ليست إذا كنت أثق بعرفات أم لا. المسألة هي هل هو مؤهل لوضع الاتفاق موضع التنفيذ. أنا أعتقد أنه يبغي ذلك. لكن إذا لم يدرك عرفات أنه مُقْدم على إدارة نظام معقد، على غرار دولة – وبوجه عام ليس هناك أهمية إذا كان يتمتع بالسيادة أو لا – وإذا لم يدرك العالم أن عليه أن يمد له يد العون على نطاق واسع، فليس هناك فرصة لفتح صفحة جديدة.

س لقد وصلنا إلى خاتمة سعيدة. فمنسّق أعمال الحكومة في المناطق [المحتلة] يبدو تقريباً كمن يقوم بمهمات رجل العلاقات العامة لمصلحة عرفات.

ج – بالتأكيد. لكن هذا لا يعود إلى إفراطي الزائد في حب عرفات، بل إلى كوني أريد النجاح لهذا الاتفاق. وإذا لم تتمكن السلطة الفلسطينية من أن تثبت للسكان أنها أفضل مما كنا عليه، في المجال المدني – الاقتصادي، فليس هناك فرصة لتحقيق هذا الاتفاق.

في إمكاننا أن نتحدث في القاهرة، في باريس، في واشنطن حتى يوم غد. لكن إذا لم يتحقق ما يتم الاتفاق عليه بيننا بسبب انعدام الموارد، ماذا نكون قد فعلنا؟ إن حاجات [السكان] بعد الاتفاق ستكون ضعفي أو ثلاثة أضعاف ما كانت عليه في فترة حكمنا. وإذا أخذنا في عين الاعتبار أنهم ليسوا بصدد جباية الضرائب التي يبغون جبايتها، فعندها لن يكون هناك فرصة على الإطلاق لعمل أي شيء.

س – هناك من يقول إن عرفات يعمل على إطالة المفاوضات عمداً لأنه أصلاً لا يريد هذا الاتفاق. لا يريد أن يكون رئيساً لبلدية أريحا، ويخشى أن يقتلوه في غزة.

ج – لا أعرف إذا كان يخشى ذلك. أعتقد أن عرفات أخذ يدرك أكثر فأكثر الصعوبات [التي تنتظره]. يبدو لي أن أحد مخاوفه التي تراكمت خلال مجرى المفاوضات هو الخوف من عدم نجاحه في تلبية الحاجات والتوقعات المنتظرة منه. لكن ليس لديه خيار آخر: فكل يوم يمضي من دون تغيير على الأرض يفقده عدداً من المؤيدين للاتفاق. وبعد ذلك سيصبح الوضع بالنسبة إليه أكثر صعوبة.

وكلما دخلت المفاوضات أدق التفصيلات، وفي العمق، يتضح للفلسطينيين إلى أي حد ستكون قضيتهم معقدة، وإلى أي حد سيكون من غير الممكن إحداث التغيير على الأرض في مدى زمني قصير، وإلى أي حد ستسبب قلة الموارد إحباط إمكان الاستجابة لتوقعات الجمهور.

إن الذعر يتملكهم بفعل عظم المسؤولية التي سيأخذونها على عاتقهم، وحجم الحاجات التي سيضطرون إلى تلبيتها، بالنسبة إلى جمهور السكان الذي يحصل اليوم على خدمات في مختلف مجالات الحياة.

س -  أنت عضو في الوفد الإسرائيلي إلى المفاوضات الاقتصادية مع الفلسطينيين. كم هو حجم المساعدات المالية التي يحتاجون إليها، بحسب تقديرك؟

ج – بلغت الميزانية التي رصدناها لهذا العام 300 مليون شيكل. إنهم سيكونون بحاجة إل ثلاثة أضعاف هذا المبلغ، لأن الميزانية التي رصدناها لا تشكل الحاجات الأمنية. إذ إن 400 شرطي فقط يتقاضون اليوم رواتبهم منا. والفلسطينيون يتحدثون عن قوة شرطة في غزة وأريحا تعدادها 9 آلاف شرطي. والأمر لا يتعلق بالرواتب فقط، بل أيضاً بمتطلبات الصيانة. ومن يتحدث عن إضافة 200 صف دراسي عليه أن يدرك أنه عندما تنتهي أعمال البناء يتوجب عليه أن يدفع رواتب لمئات المعلمين. إنهم يريدون كذلك زيادة عدد أفراد جهاز الموظفين، وبناء مساكن، وإقامة شبكات للمجاري.

س من وجهة نظرهم، كيف ستبدو [السلطة] الذاتية؟

ج – من السهل التحدث عن غزة، لأن أريحا منطقة معزولة جداً. كل شيء يتوقف على الموارد التي ستكون في تصرف المجلس الفلسطيني. ووفقاً للدراسات التي قمنا بها، فإن مستوى حياة السكان في غزة سينخفض بنسبة تتراوح بين 20% و25% عن المستوى الحياتي الحالي، المنخفض في طبيعة الحال.

وإذا لم يستثمروا في غزة أموالاً طائلة. وبسرعة، فإن القطاع سيتحول إلى عبوة ناسفة، لا ضدنا بالضرورة، بل بادىء ذي بدء ضد السلطة الفلسطينية. وإذا كان هناك من يقول إن عرفات يخاف من الاتفاق، أو إنه متردد إزاءه، فهذا هو السبب.

س والحال هكذا، إنك قلق مما سيحدث بعد الانسحاب.

ج – أنا بالتأكيد أشعر بالقلق لأنني لا أراهم ينظمون أنفسهم ويعدون العدة لتسلّم المسؤولية. كما أني لا أراهم مؤهلين لإحداث التغيير الذي تم من أجله هذا الاتفاق.

س ما الذي تنتظره منهم؟

ج – نحن نلح على عرفات أن يعين المجلس [مجلس الحكم الذاتي]، غير أنه يؤجل ذلك. لكن يجب الآن اتخاذ القرار بشأن الأشخاص الذين سيتولون رئاسة مختلفة الأجهزة والإدارات – الصحة، والتعليم، والجمارك، وغيرها -  وإرسالهم إلى المنطقة، وبدء التنسيق والتماس معنا استعداداً لتسلم المسؤوليات. يجب تنظيم جهاز اقتصادي كامل، بما في ذلك الجهاز الضرائبي الذي استقال موظفوه بعد اندلاع الانتفاضة. لقد تعهدوا في الاتفاق أن يحافظوا على مستويات ضرائبية معينة في مجالات ضريبة، الدخل، والضريبة على القيمة المضافة، والجمارك. لكن ليس لديهم جهاز يعرف كيف يفرض تلك الضرائب، وكيف يحسبها، ويجبيها. فمثل هذا الأمر لا يمكن بناؤه بين ليلة وضحاها.

في هذا الأسبوع وصل إلى غزة رامي شعث، ابن د. نبيل شعث، وذلك لدراسة جهاز الحاسبات الإلكترونية الذي سنتركه في غزة لاستخدام الإدارة الفلسطينية. إنهم ما زالوا في حال الصدمة؛ إذ إن هذا جهاز متطور جداً، وليس لديهم من هو مؤهل لتشغيله، وهذا أمر لا يمكن أن يتم بين ليلة وضحاها. ويجب إعداد الناس لمختلف المجالات الحياتية.

على سبيل المثال، في هذا الأسبوع جرى الحديث في القاهرة بشأن إحالة الصلاحيات المالية وقيام إسرائيل بإلغاء جميع العقود المبرمة مع المزودين. لكن ليس لديهم ردود بالنسبة إلى قضايا أساسية: كيف يؤمّنون استمرار عمل المصاعد الكهربائية، وتزويد المستشفيات بالأوكسجين، وما الذي سيفعلونه بالنسبة إلى الأجهزة العاملة يومياً، والتي تعتمد على تلك العقود؟

س في إطار لقاءاتك العلنية والسرية مع فلسطينيين، هل التقيت برجال من حركة حماس أيضاً؟

ج – إن حركة حماس منظمة غير قانونية، ولذا، فالأشخاص الذين يلتقون بي لديهم استعداد للاعتراف بأنهم جزء من الشبكة الإسلامية العالمية فقط. وكان لي مئات الساعات من المحادثات مع هؤلاء الأشخاص. وقد وقفت طويلاً على كيفية عمل هذه الشبكة، وما هي مهماتها، وكيف تبغي تحقيق غاياتها وأهدافها.

أحد زعمائهم قال لي: نحن لسنا ثورة مسلحة. لقد فعلنا ذلك مرة في مصر (اغتيال الرئيس السادات)، وحصلنا على بديل [خَلَف] أكثر ارتياباً، وأكثر تردداً، وأكثر قساوة وضراوة. ولذا، فنهجنا يقوم على تجنيد أعرض الشرائح في المجتمع. كيف يقومون بذلك؟ إنهم يقدمون للجمهور المستهدف ما لا يستطيع النظام تقديمه، ويستثمرون ما يقدمونه وسط الجمهور.

س والحال هكذا، ربما كان هنا بعض التقصير، وكان لزاماً علينا أن نتوجه إلى المتطرفين بالذات؟

ج – أعتقد، قطعاً، أننا أجرينا محادثات مع أشخاص لا يمثلون الجمهور الفلسطيني بالضرورة. المشكلة مع فيصل الحسيني وباقي القيادات الصالونية أن قوتهم وشأنهم نبعا من كونهم رجال منظمة التحرير الفلسطينية لا من مكانة حققوها لأنفسهم في أوساط الشارع الفلسطيني. وفي حين أننا نجري المفاوضات معهم، فإن الشارع لا يعترف بهم.

وبحسب اعتقادي، فإن أحد الأخطاء التي ارتكبناها هو أننا لم نجر ما يكفي من الاتصالات مع الزعماء الحقيقيين، والانتفاضة أوجدت زعماء كهؤلاء. كان في إمكاننا العثور عليهم في السجون، في الشارع الفلسطيني. وليس من الضروري التوصل إلى اتفاق سياسي معهم، لكن من الممكن قطعاً التوصل إلى حوار معهم. لكن ليكن واضحاً: لن أقترح، ولم أقترح في أي وقت مضى، إجراء اتصالات مع [حركة] حماس التي يرفع رجالها لواء تدمير دولة إسرائيل.

س أفهم من كلامك أنه كان علينا قلب الأولويات: أن نبدأ أولاً بالمتطرفين المحليين، لا حركة حماس، وأن نلحق بهم كوادر المنظمة في تونس؛ أي تجاوز الحسيني وعشراوي وأمثالهما.

ج – نعم. كان يجب علينا أن نبدأ الحوار مع زعماء الشارع. أولئك المؤهلون لإخراج خمسة آلاف أو عشرة آلاف شخص إلى الشارع لرشق الحجارة. فهؤلاء مؤهلون أيضاً لإخراج الآلاف العشرة أنفسهم لرفع أغصان الزيتون. إن منظمة التحرير الفلسطينية لا تستطيع ذلك بمفردها.

كنت دائماً أدعو إلى فتح حوار مع زعماء الشارع، إذ يمكن معهم إدارة المنطقة وليس لديهم مشكلة تمنعهم من التعاون معنا. فشبان على غرار هشام عبد الرازق، أو سفيان أبو زايدة* - ممن أمضوا أعواماً طويلة في السجن – لا يخشون شيئاً. إنهم قاذفو القنابل اليدوية. وفيصل الحسيني لا يستطيع توجيه الانتقادات إليهم، لأنهم سيردون عليه فوراً: أين كنت أنت؟

س إذا كنا قد أخطأنا فعلاً في هذا الشأن، هل من الممكن إصلاح الخطأ؟

ج – أعتقد أننا في مرحلة الإصلاح، الآن، وذلك انطلاقاً من حقيقة أننا نتحاور الآن مع رجال الشارع الفلسطيني.

س حتى الآن ليس واضحاً من سيتسلم السلطة في المناطق: عرفات ومحترفو العمل السياسي في تونس، أم القيادة المحلية في المناطق؟

ج – لا شك لدي في أنه إذا لم تعط قيادةُ تونس حصة الشباب في المنطقة، فسيكون من الصعب عليها السيطرة. كما أنه من الصعب على الجيل الشاب أن يتولى العمل بمفرده. في الشارع الغزّي يُعتبر هؤلاء الشباب قادة فعلاً، لكن تنقصهم الأموال. إن تضافر أموال منظمة التحرير الفلسطينية، من التبرعات التي ستصل إليها من خلال شبكة منظمة، مع القيادة الفعلية للشارع يستطيع أن يخلق فرصة ما كي تقوم هذه الشبكة بمهماتها على الوجه الأكمل.

س هل المشكلات الحقيقية في المناطق ستبدأ فقط بعد الانسحاب حيث الإرهاب الآن بمثابة "المجهول"؟

ج – أنا لست قلقاً إلى حد كبير من المشكلة الأمنية على الرغم من أنها في رأس اهتماماتنا. أفترض أن الجيش الإسرائيلي قوي، وهذه المشكلة يمكن في نهاية المطاف أن تجد حلاً لها. وفي مجال الإرهاب يمكن، قطعاً، أن ينشأ وضع تكون الشرطة الفلسطينية فيه معنية بأن تثبت فعلاً أنها تسيطر على المناطق التي تتولى مسؤوليتها – وفي المقابل، يبقى الإرهاب يصول ويجول في المناطق التي ما زلنا نحن نتولى مسؤوليتها.

س هل ستتمكن الشرطة الفلسطينية من قمع حركة حماس؟

ج – أفترض أن التوجه الأوّلي للشرطة الفلسطينية لن يكون الحيلولة دون قيام حماس بعمليات ضدنا. فمهمتهم الأولى ستكون الحيلولة دون عمليات ضد مجلس السلطة الفلسطينية، وإحباط سيطرة حماس على الشارع ومحاولاتها لعرقلة الإدارة المنتظمة للحياة في غزة وأريحا. أما الدور الخاص بمنع عمليات حماس ضدنا، فسيُبقونه لنا.

س في حال حصول إسرائيل على تحذير مسبق بشأن عملية تنوي حركة حماس القيام بها ضدنا، هل ستتعاون الشرطة الفلسطينية معنا، أم إنها ستقوم بتسريب المعلومات إلى رجال حماس؟

ج – بموجب الاتفاق الموقع والاتفاق الذي سيوقع، إذا كان هناك تحذير من عملية ستنفذها مجموعة ما ضدنا، فإن إحباط تلك العملية مناط بمنظمة التحرير الفلسطينية. لكن يجب أن نتذكر أن الشرطة الفلسطينية ليست جسماً متجانساً. أفترض أنه سيتسلل إلى داخلها أفراد لا تتطابق آراؤهم مع مفهوم منظمة التحرير الفلسطينية.

هناك الكثير من الناس في غزة الذين يشكل هذا الاتفاق عظمة في حلوقهم، وسيبذل هؤلاء كل ما هو مستطاع كي لا يطبَّق وينفذ. وهذا معناه القيام بعمليات ضد إسرائيليين، وضد الجسم الممثل للجهاز الفلسطيني الذي سيتولى السلطة.

س الشارع الفلسطيني هو بمثابة المجهول الكبير والمخيف. هل تجد لديهم كراهية جارفة وعميقة لنا؟ كراهية أبدية؟

ج – هناك كراهية، لكنني ما كنت لأصفها بأنها أبدية. إنها ليست كراهية سياسية. إنها مركبة من تراكم مشاعر معادية ضد مسلكية مبررة أو غير مبررة من جانبنا على الأرض. وهذا ما لا يمكن تفاديه: فالابن الذي يرى والده في المعتقل، ويفتشون منزله بفظاظة ووحشية أو يهينونه، فإن ما يتبقى لديه هو هذه الكراهية. هذا ناهيك بالإصابات والجرحى والقتلى.

س وكذلك الإساءة إلى الكرامة..

ج – الإساءة إلى الكرامة والشرف هي أحد الأمور الأساسية التي توقد نار الكراهية. لكن هذه الكراهية تبقى موضعية. وهذا لا يعني أن الفلسطيني لا يستطيع العيش معنا على امتداد الأعوام.

س من وجهة النظر الفلسطينية، ماذا يعني التعايش مع إسرائيل؟

ج – هذا شعار وراءه إرادة تبغي الحصول على جميع الأمور الخيّرة، التي يمكن لإسرائيل أن تقترحها من دون أن تبقى موجودة في المنطقة. هذا يعني العمل مع إسرائيل، والاتجار معها، والتمتع بالحرية التي تتيحها إسرائيل.

يبدو لي أن عرفات، وفي خلال أشهر المفاوضات الطويلة، أخذ يتعرف على جمهور فلسطيني لم يكن معتاداً عليه. جمهور تعلم منا الكثير في خلال الأعوام الـ26 الماضية. جمهور مطالب، ويستغل وسائط الإعلام. لقد استغلوا شبكة التلفزة "سي. أن. أن"، ضدنا، والآن يستغلون الشبكة ذاتها ضد عرفات. هذا ليس الجمهور ذاته الذي كان عرفات يديره في بيروت أو في عمان أو في تونس، وكان لسان حاله يقول: "نعم يا سيدي".

س هل سمعت انتقادات من جانبهم لعرفات؟

ج – إنهم يقولون لي ذلك صراحة وعلانية. وفي الماضي كانوا يقولون أقوالاً مماثلة في الغرف المغلقة. والفارق هو أنهم يكتبون ذلك الآن في صحيفة "القدس": إذا كنت تعتقد (أي عرفات) أنك ستقيم النظام الديكتاتوري الثالث والعشرين في الشرق الأوسط، فلتنس ذلك. وهذا لا يعني أن هناك فقط من هو مستعد لكتابة ذلك، بل هناك أيضاً من هو مستعد لنشر هذه الانتقادات.

س ما الذي سيبقى من مكتب منسق أعمال الحكومة في المناطق، بعد الانسحاب؟

ج – سأتحول من منسق إلى ضابط ارتباط. وعلى سبيل المثال: إذا كان هناك شخص من المناطق بحاجة إلى علاج طبي فليس القصد أن يأتي هذا الشخص اليوم طارقاً أبواب مستشفى "تل هشومير" طلباً للعلاج. هذا يحدث اليوم ونحن الذين ندفع تكلفة العلاج. بعد الانسحاب، وعندما يكون أحد سكان أريحا بحاجة إلى العلاج، فعلى الإدارة الفلسطينية أن تتكفل نفقات العلاج. وإذا لم يكونوا قادرين على ذلك، عليهم أن يجربوا حظهم في الأردن أو قبرص.

والقصد هو أن تكون السلطة الفلسطينية مسؤولة عن مواطنيها، وأن تعمل كجسم موازٍ لنا، ونحن من جانبنا نقدم لها الخدمات عن طريق مختلف مكاتب الحكومة. عملياً سيتحول مكتب المنسق إلى حلقة اتصال.

س لكن آخذ في التقلص؟

ج – لقد تقلص هذا الجسم، بحسب اعتقادي، إلى ما يقارب النصف. إذ إن مكاتب الإدارة في الأقضية أصبح نصفها مغلقاً، وسيتم أيضاً تقليص عدد المكاتب الأُخرى. وليس هناك ما يدعونا على سبيل المثال، إلى مواصل العناية بجهازهم التعليمي. فنحن اليوم ندير جهازاً تعليمياً كبيراً جداً.

س في المناسبة، هل لنا مطالب ينفذونها، بعد الانسحاب، في مجال التعليم؟

ج – لقد تعهدوا في الاتفاق بألاّ يكون هناك تحريض ضدنا في المدارس.

س هل تقليص مهمات مكتبك أمر جيد أم سيىء بالنسبة إلينا؟

ج – بالنسبة إلينا الأمر ممتاز. بادىء ذي بدء نوفر الكثير من المال. وقطعاً، أنا سعيد بخروجنا من غزة. أعتقد أنه لناحية مستوى قدراتنا على الاستثمار هناك، ليس لنا – ولم يكن لنا – أية فرصة لإحلال الهدوء هناك.

سأقدم مثلاً: عندما توليت منصبي قبل ثلاثة أعوام أحدثت تغييراً حاداً في السياسية المتبعة، واتبعت سياسة جديدة تتعلق باستثمارات وانفتاح اقتصادي، وذلك بناء على الافتراض القائل إن الإنسان الجائع مصيره أن يتحول إلى الإرهاب. وقبل شهرين تلقينا التقرير الإجمالي لمكتب الإحصاء المركزي للعام 1992 والذي جاء فيه: لقد ارتفع الناتج الإجمالي بنسبة 11 في المئة، لكن هذا الارتفاع لا يحل المشكلة، لأنه عندما نجري الحساب على أساس الفرد الواحد نجد أن الناتج الوطني ارتفع بنسبة 3.5 في المئة فقط.

فمع نسبة تكاثر طبيعي كما هي في غزة، وإزاء طبيعة المنطقة والإمكانات الاقتصادية المتاحة للمعيشة، ليس هناك فرصة للتوصل إلى وضع معقول في مستوى استثماراتنا هناك. ولذا فأنا سعيد بالتخلص من غزة. وآمل جداً بأن تؤدي استثمارات الأسرة الدولية إلى وضع يمكن فيه عمل شيء ما.

س هذا الأسبوع قال رئيس الطاقم الاقتصادي لمنظمة التحرير الفلسطينية، أبو علاء، إنه مرتاح جداً لأن إسرائيل وافقت، أول مرة، على السماح بإدخال سلع زراعية من المناطق.

ج – لقد اتفقنا على أنه طوال عدد من الأعوام، وبالتدريج، سيكون مسموحاً للفلسطينيين بإدخال بضائع معينة إلى إسرائيل. هذا سيبدأ بكميات قليلة ثم ينتهي إلى انفتاح كامل. نبدأ بالخضروات والبيض. والقصد من التدرج في ذلك هو دفع الاقتصاد الإسرائيلي إلى تنظيم نفسه إزاء الناتج الفلسطيني.

أعتقد أنه على المدى الطويل لن يلحق أي ضرر بالتاجر الإسرائيلي. علينا أن نتذكر أنه في موضوع الفاكهة والخضروات، سنزود قطاع غزة بأربعة أضعاف ما نتزود به من هناك. في غزة محاصيل لا تُزرع في غزة بسبب كمية المياه المالحة والمحدودة فيه. وبالنسبة إلى الفاكهة، على سبيل المثال، سيواصلون استهلاك هذه المحاصيل.

من الممكن، في المدى القصير، أن يضطروا في عدد من القطاعات إلى خفض الأسعار وكميات السلع المنتجة عندنا، والانتقال إلى زراعة منتوجات يمكن تصديرها، وهي أقل إهدار للطاقة البشرية.

س قد تجد من يقول لك إنك عقدت اتفاقاً اقتصادياً مع الفلسطينيين على حساب المزارع الإسرائيلي.

ج – لا. بادىء ذي بدء. أنا عقدت اتفاقاً سياسياً يشكل الاتفاق الاقتصادي أحد ملاحقه. وأنا أحاول أن يكون في أفضل حال، بهدف تقليص ما هو معرقل للاقتصاد الإسرائيلي إلى الحد الأدنى. لكن لا يمكن أن يتم ذلك من دون ثمن. وهذا قرار سياسي. فعندما نتحدث عن حركة حرة للبضائع، يجب إحداث تغييرات عندنا، كما أنه ستكون هناك تغييرات في الاقتصاد الفلسطيني.

س ماذا بالنسبة إلى عمال المناطق؟

ج – يقضي الاتفاق بالسماح بانتقال العمال الفلسطينيين إلى إسرائيل للعمل، لكن إسرائيل ستحتفظ لنفسها دائماً بحق القرار بالنسبة إلى عدد العمال الداخلين أصلاً. والوفد الفلسطيني يدرك، على الرغم من أنه لم يستحسن ذلك، أن لإسرائيل حاجات أمنية، وإذا تواصل الإرهاب، فلن يسمح للفلسطينيين بالدخول.

س لا شك في أنكم تتحدثون أيضاً عن تصدير بضائع فلسطينية إلى الخارج.

ج – قبل ثلاثة أعوام طلبت من معهد فولكاني البحث عن أنواع من المزروعات من أجل غزة التي يمكن أن يكون لها سوق جيدة في أوروبا، ولا تنافس السوق الإسرائيلية هناك. وكنا نفتش عن مزروعات تستهلك القليل من المياه، وتحتاج إلى أيدي عاملة كثيرة. وأوصى المعهد بالزهور والتوت الأرضي [فريز]، وقمنا بتقديم دعم مالي لإقامة أنواع معينة من مستنبتات الزهور. وفي غزة اليوم المئات من الدونمات المزروعة بالزهور والمخصصة للتصدير. هذا نموذج للتوجيه الصحيح الذي لا يحلق الضرر بالمزارع الإسرائيلي.

أمام سكان غزة سوقان ينبغي لهم الاستعداد لهما: العربي والاقتصاد الغربي. الاقتصاد الغربي يطلب نوعية جيدة وأسعاراً زهيدة. وأنا لا أعرف مستهلكاً أوروبياً يشتري سلعة ما لمجرد أنه مكتوب عليها "صُنع في رام الله". من ناحية أُخرى إن السوق العربية، غير الكبيرة، تنتج لنفسها السلع ذاتها التي ينتجونها في غزة. فهذه السوق تشتري في الأساس الغذاء والكساء من الإنتاج المحلي الرخيص. وإذا لم يقم الاقتصاد الفلسطيني بدرس السوق لمعرفة السلع التي من المجدي له إنتاجها للتصدير، فإن الأمر سيعود عليه بالضرر.

س هل هم مدركون هذه المشكلات؟

ج – من المؤكد أن رئيس الطاقم الاقتصادي الفلسطيني، أبو علاء، يدرك ذلك. وأعتقد أن الآخرين ليسوا في المستوى ذاته. وأنا لا أعرف ما الذي يصل إلى عرفات من معلومات. فكلما نلتقي وتتقدم المفاوضات تتفتح عيونهم ويدركون المشكلة. وفجأة أصبحوا يدركون أنه من غير الممكن إدارة شبكة كبيرة ومعقدة إلى هذا الحد من خلال الشعارات. من السهل جداً إدارة ذلك من تونس، واتهام إسرائيل والاحتلال. لكن الأمر يصبح أكثر صعوبة عندما تدخل وتتولى المسؤولية.

س والحال هكذا، فإن أبا علاء وصحبه إلى المفاوضات قلقون بالتأكيد.

ج – لديهم أسباب جيدة لأن يكونوا قلقين – وأعتقد أن جزءاً من قلقهم ينبع من صحوتهم من النشوة التي سادت عقب مؤتمر الدول المانحة للمساعدات، حيث قدم كل طرف وعوداً بمبالغ مالية طائلة؛ إذ اتضح أن ليس في إمكان هؤلاء أن يعطوا إلى هذا الحد، حتى لو كانوا يريدون ذلك. علينا أن نتذكر التالي: إن الدول المانحة للمساعدات دول ديمقراطية، وبالتالي عليها أن توضح وتفسر لدافع الضرائب هناك إلى أين يذهب المال.

س عندما كنتم تضعون لبنات الاتفاق، هل كان الأمر مقتصراً على غزة وأريحا، أم أن الأمر كان بمثابة بنية تحتية للمناطق كافة؟

ج – خلافاً لمجالات أخرى، كنا في الموضوع الاقتصادي نبحث في مجمل الأمور من دون إغفال حقيقة أن الأمر سيطبق على مراحل. ففي الموضوع الاقتصادي، من الصعب جداً الفصل، وليس هناك جدوى من الدخول في مفاوضات أُخرى. والتطبيق سيكون بالتدريج: أولاً في غزة وأريحا، وعندما يحين موعد المرحلة الانتقالية، ستتواصل عملية التطبيق.

س سؤال شخصي:...... [عن مستقبله العسكري]

س أنت تبدو متشائماً جداً.

ج – أنا لست متشائماً، بل قلق. فإذا توصلنا إلى اتفاق ولم يتحقق، فكأننا لم نفعل شيئاً. وللأسف فإن القدرة على تطبيق الاتفاق ترتبط بنا على نحو قليل جداً.
            ومما أراه حتى هذا اليوم أن في وسعنا تقديم القليل؛ فالمسؤولية، والقدرة الإدارية، وقيادة الجانب الفلسطيني هي التي ستحدد ما إذا كان الاتفاق سيتحقق أم لا. وفي هذا الجانب أشعر بالقلق لأنني لا أرى مؤشرات على أن الجانب الفلسطيني استيقظ وبدأ يأخذ المسؤولية على عاتقه.

 

المصدر: مقابلة مع اللواء داني روتشيلد أجراها سميدار بيري ونُشرت في "يديعوت أحرونوت"، 22/4/1994.

 

*   هكذا ورد الاسم بالعبرية. (المترجم)

السيرة الشخصية: 

اللواء داني روتشيلد: منسق أعمال الحكومة الإسرائيلية في المناطق المحتلة، وعضو الوفد الإسرائيلي إلى المفاوضات الاقتصادية مع وفد منظمة التحرير الفلسطينية.