"عملية السلام" على "مفترق الطرق"
كلمات مفتاحية: 
عملية السلام الإسرائيلية – الفلسطينية
النزاع العربي - الإسرائيلي
السلام
نبذة مختصرة: 

يتناول المقال بالدراسة المسارات المحتملة لـ "العملية" السياسية الجارية، موضحاً أن مثل هذه المحاولة لا يكون مجدياً إلا بقدر ما ينجح في تحديد العناصر المؤثرة، وتثقيلها، ومواكبتها بالمتابعة المنطقية والمنظومية، مع أن جانباً من هذه العناصر غير قابل للتحديد والتثقيل الصحيح. والمقال ينهج أسلوب الانطلاق من العناصر والخيوط الأكثر استقراراً وبروزاً ووضوحاً، والأكثر التصاقاً بالحلبة المباشرة.

النص الكامل: 

من المصطلحات الجديدة التي يُكثر الإعلام في هذه الآونة من تردادها مصطلح "عملية السلام في الشرق الأوسط". والإعلام الذي نقصده هنا هو الإعلام الغربي، الذي تبث الصحافة ووسائل الإعلام الأميركية موضوعاته، فتتناولها القاعدة العريضة من الصحافة في شتى الدول الغربية، وتساعد في ترويجه وتعميق الأخاديد التي يحفرها في الأذهان، ومن ثم تتناوله الصحافة العربية بمزيج من التقريب والتبعيد، فتساعد في إيصال الرسالة المبتغاة أو في إحداث الوقع المطلوب.

نتيجة لذلك، فإن هنالك افتراضاً بأن "عملية سلام للشرق الأوسط" هي الآن جارية فعلاً، وأنها حققت في أثناء مسيرتها سلاماً بين مصر وإسرائيل، وجمعت دول الطوق العربية – الأردن، وسوريا، ولبنان – وكذلك منظمة التحرير الفلسطينية على موائد مفاوضات مع إسرائيل، وأدت إلى التوصل إلى "اعتراف متبادل بين دولة إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية"، وإلى التوصل إلى اتفاق بشأن مبادىء للحكم الذاتي الفلسطيني في غزة وأريحا ضمن فترة زمانية حددت بخمسة أعوام، على أن يكون كل من محتوى هذا الحكم الذاتي خلال الفترة الانتقالية، وكذلك الشكل النهائي لوضع الفلسطينيين بعدها، موضع مفاوضات مستمرة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. وقد سبق أن تناولنا بالدراسة والتحليل جميع النصوص التي تم توقيعها بشأن الاعتراف المتبادل ومبادىء الحكم الذاتي، وذلك في مقال مطول نشر في مجلة "المستقبل العربي" (عدد 177، 11/1993). ولا حاجة إلى تكرار ما جاء في ذلك المقال. لكن لا بد من الإشارة إلى أنه يمثل القاعدة والأساس اللذين ينطلق البحث الحالي منهما. أما بحثنا هذا فسيتناول بالدراسة المسارات المحتملة لـ"العملية" الجارية. ولا بد لنا من التذكير بأن المصطلح الإعلامي الذي سبق مصطلح "عملية السلام في الشرق الأوسط" ومهد له كان مصطلح "السلام العادل والشامل". وكان ذلك المصطلح أيضاً يرمي إلى خلق وقع  محدد، أو بالأحرى وهم محدد؛ إذ إن كلمتي "العادل والشامل" كلمتان ذواتا رنين، لكن ليس لهما تعاريف محددة، بل إن حدودهما – كحدود إسرائيل ذاتها – قابلة للتوسيع أو التضييق بحسب الحاجة والظرف. وفي أية حال، فإن مصطلح "العادل والشامل" قد تباعد الآن، إن لم يكن قد تلاشى، وحل محله مصطلح "عملية السلام". وجاءت أوراق أوسلو لتؤكد أن "عملية السلام" هذه ليس لها حدود، ولا خطوط، ولا أهداف، ولا مراحل، ولا معالم.

سنحاول في هذا البحث أن ندرس المسارات التي يمكن أن تتخذها الأحداث المقبلة. ومن الواضح أن مثل هذه المحاولة لا يكون مجدياً إلا بقدر ما ينجح في تحديد العناصر المؤثرة، وتثقيلها، ومواكبتها بالمتابعة المنطقية والمنظومية. ومن الواضح أن جانباً من هذه العناصر غير قابل للتحديد والتثقيل الصحيح. مثلاً، يُقال إن "عملية السلام" ما كان ممكناً أن تتم بهذا الشكل لولا انهيار الاتحاد السوفياتي، حليف العرب، وانفراد الولايات المتحدة وحلفائها بقوة هائلة لا يقف أمامها مانع، ولا رادع. ومن كان يستطيع أن يتصور في سنة 1980، أو حتى سنة 1985، حدوث مثل هذا الانهيار. ويمكننا القول إن عالمنا الحالي، على الرغم من أحادية القطب الأميركي، يحتوي على عناصر قد تحمل معها مفاجآت، سواء في البلاد العربية أو في مواقع مؤثرة من العالم.

وعليه، فإن الأسلوب الذي سننهجه هو أسلوب الانطلاق من العناصر والخيوط الأكثر استقراراً وبروزاً ووضوحاً، والأكثر التصاقاً بالحلبة المباشرة، ومن المفيد بعد ذلك إجراء محاولات استكشافية للعناصر الأُخرى. 

إسرائيل وأوراق أوسلو

كيف تنظر إسرائيل إلى أوراق أوسلو؟ وبأي الاتجاهات ستحرك الترتيبات والإجراءات – والمفاوضات – التي تضمنتها تلك الأوراق؟

إن نظرة إسرائيل إلى أوراق أوسلو ترتكز على ثلاثة مبادىء أساسية: أولاها، إن دولة إسرائيل – التي لم تُرسم حدود نهائية لها منذ تأسيسها سنة 1948، اعتبرت الحدود المرسومة لها في قرار الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين (1947)، مجرد مرحلة أولية، وفرت لها رأس جسر "شرعياً" لتنطلق منه إلى حدود موسعة، رسمتها الصهيونية العالمية للدولة اليهودية المنتظرة. وتضم هذه الحدود شبه جزيرة سيناء المصرية، وجنوب لبنان، وجنوب سوريا، وضفتي نهر الأردن حتى المرتفعات الشرقية (خط سكة حديد الحجاز) وصولاً إلى مداخل خليج العقبة. ولا يمكن إطلاقاً فهم سلسلة الحروب التي أُشعلت في المنطقة، ابتداء من حرب سنة 1948، ومروراً بحروب سنوات 1956، و1967، و1973، 1982، إلا بوصفها المحاولات المستمرة للوصول إلى تلك الحدود بقوة السلاح. ومن الجائز أن تكون الولايات المتحدة الأميركية – التي وقفت وراءها، وبجانبها، وأمامها، وفوقها، وتحتها في كل تلك الحروب – قد توصلت بعد فشل إسرائيل في اجتياح لبنان واقتحام بيروت 1982 – إلى الاقتناع بأن إسرائيل لا تملك القدرة العسكرية على تحقيق ذلك الحلم، على الرغم من كل ما زودتها أو قد تزودها أميركا به من الإمكانات. وبالتالي فإن أميركا طلبت من إسرائيل التخلي عن حلم "إسرائيل الكبرى". ومن الجائز أن تكون إسرائيل قد أعادت رسم الحدود المتصورة لإسرائيل، بأنها حدود فلسطين الانتدابية، مع محاولةضم الأراضي التي تحتلها إسرائيل الآن فعلاً في الجولان وجنوب لبنان إلى الخريطة الإسرائيلية إن أمكن.

وفي إطار من الابهامات الكثيرة التي حفلت بها الصورة، وافقت منظمة التحرير الفلسطينية وسوريا والأردن ولبنان على دخول مفاوضات مع إسرائيل. ومن الممكن القول إن حدود إسرائيل ستحددها معاهدات الصلح التي قد تعقدها إسرائيل مع دول الطوق العربية. وقد تم فعلاً رسم الحدود مع مصر بدقة تامة، بحيث لم تستطع إسرائيل الحصول على كيلو متر مربع واحد (طابا) خلافاً للحدود الدولية التي كانت قائمة بين مصر وفلسطين الانتدابية. ونرجح أن حدوداً مثبتة بمعاهدات صلح ستصبح أقل عرضة للإنكار وللاستخفاف. ونعتقد أن الاستراتيجية القتالية الإسرائيلية، ربما تكون قد طورت من مفهوم الحرب الاستباقية واقتحام الحدود والتوغل في الأراضي العربية، إلى مفهوم الدفاع الرادع، والمبني على القدرة النووية ووسائل التخويف بها. وهذا المفهوم قد لا يستبعد القيام بضربات منتقاة لتأكيد العزم والمصداقية أو لمنع حدوث تطورات ذات أثر حاسم (كضرب المفاعل النووي العراقي سنة 1981). وربما يصبح ذلك هو التحقق لعبارة "السلام ضمن حدود آمنة ومعترف بها الواردة في القرار رقم 242 لمجلس الأمن. ويبقى بعد ذلك سؤال آخر هو: هل يُعتبر مثل هذا الوضع – إذا ما تحقق – وضعاً ثابتاً، أم مجرد حاجة مرحلية يقصد بها خلق جو ملائم لإسرائيل، يمكِّنها من أن تحقق سلماً ما قد عجزت عن تحقيقه حرباً، أو يتيح لها فرصاً مستقبلية لإجراء تغييرات في الحدود لمصلحتها في حروب مستقبلية. إن التجربة قد أثبتت أنه لا يمكن الركون إلى التزام إسرائيلي؛ إذ إن إسرائيل لا تعتمد في بقائها على الشرعية، بل على الموازين. وبالتالي، فإن استراتيجيتها ستبقى دائماً مبنية على المحاولة المستديمة لإبقاء الموازين لغير مصلحة العرب. لكن الموازين عندما تكون مائلة إلى مصلحة طرف وضد مصلحة طرف آخر، تشكل إغراء قوياً للاستغلال الأوفر، والعودة إلى استراتيجية اقتحام الحدود والتوغل داخل الأراضي.

أما المبدأ الثاني فهو استبعاد قيام دولة فلسطينية. وقد أكد رابين هذا المبدأ في كلمته أمام الكنيست بتقديم أوراق أوسلو بعد توقيعها، وما زال منذ ذاك الحين يردد الفكرة التي أشار إليها آنذاك. ومن أحدث هذه التأكيدات ما جاء في حديث له مع مجلة "دير شبيغل" الألمانية حيث قال: "أستطيع على المدى البعيد تصور نوع من الكونفدرالية ما بين الأردن وإسرائيل وبينهما الوجود الفلسطيني المقسم بالحكم الذاتي وعلى نطاق ضيق. لكن ليس الدولة الفلسطينية..."[1]

وفي هذه العبارة المقتضية إيراد لمبادىء مهمة في التصور الإسرائيلي، وهي مبدأ تجزئة الوجود الفلسطيني في الأراضي المحتلة من خلال نتوءات إسرائيلية داخلة فيه، ومن خلال تقطيعه بالطرق التي تتحكم فيها إسرائيل، وتضييق مساحة التجمع الفلسطيني (الحكم الذاتي) وإبقاء الحكم الذاتي – بعد التفتيت والقضم، في أضيق نطاق من الصلاحيات.. وهنالك مبدأ ثالث عبّر عنه رابين في الحديث نفسه بقوله: "هدفنا قبل كل شيء هو إنقاص الوجود الفلسطيني على أرضنا قدر الإمكان. إن الحدود تخضع للتغييرات السياسية لكل مرحلة، وخصوصاً إذا كان الأمر يتعلق بالأمن الاستراتيجي لإسرائيل، وهو ما نريده مساحة معينة من الأرض مع أخف وجود فلسطيني ممكن بيننا." ومن اللافت للنظر الصياغة الإبهامية في تحديد الهدف؛ أولاً "الحدود تخضع للتغييرات السياسية لكل مرحلة"، والسؤال هنا حدود ماذا؟ وثانياً "ما نريده مساحة معينة من الأرض": أية مساحة؟ وثالثاً مع أخف وجود فلسطيني ممكن بيننا. والسؤال هنا كيف يتحقق تخفيف الوجود الفلسطيني؟ ثم ماذا تعني عبارة بيننا؟

وبعبارة أخرى، فإن إسرائيل في صدد تحديد معالم "الفترة الانتقالية" التي ستكون بالنسبة إليها، انتقالاً من مرحلة خلق الوقائع، إلى مرحلة التثبيت القانوني لتلك الوقائع. ولقد سبق أن أوضحنا أنها ستعتمد على ادعاءين: أولهما أن اعتراف منظمة التحرير بدولة إسرائيل، من غير تحديد مسبق لحدودها، سيستخدم لخلق زعم أنها أصبحت تملك صلاحية لرسم الحدود التي تبغيها، وثانيهما أنها ستستغل هذه الصلاحية المزعومة لتقنين الوجود السكاني الفلسطيني تحت مظلتها وسيادتها. وفي تقديرنا إن إسرائيل ستلجأ إلى "تشريع" نوعين من الحدود في نطاق أراضي فلسطين الانتدابية: أولهما الحدود السياسية التي ستضم جميع أرض فلسطين، وتعتبرها أرض إسرائيل، وثانيهما الحدود الإدارية التي ستحدد مناطق الحكم الذاتي للفلسطينيين، بعد تقطيعها وتجزئتها. وفي تقديرنا أيضاً أن السلطة التشريعية الإسرائيلية ستبقى مهيمنة على جميع الأراضي، على أن يترك للفلسطينيين أمر وضع اللوائح التنفيذية في إطار الصلاحيات الست المعطاة لمجلس الحكم الذاتي فقط، وهي التعليم والثقافة والشؤون الاجتماعية والصحة والسياحة والضرائب المباشرة. وستعتبر أرض فلسطين كلها منطقة اقتصادية واحدة، خاضعة لتشريعات اقتصادية تسنها الحكومة الإسرائيلية. وستبدأ إسرائيل فوراً اتخاذ سلسلة من الخطوات السياسية والتشريعية لتحقيق هذا التصور. أما المفاوضات فستحدد هي موضوعاتها مثلاً: إذا استقطعت مساحة ما من أراضي الضفة وأخرجتها من سلطة الحكم الذاتي، يصبح موضوع المفاوضات آنذاك هو هل هذا الإجراء متفق مع اتفاق إعلان المبادئ؟ فتقول سلطة الحكم الذاتي إنه يشكل مخالفة لتعهد إسرائيل بعدم المساس بتراب الضفة والقطاع في المفاوضات. وتجيب إسرائيل بأن الموضوع ليس موضوع مفاوضات، بل موضوع تشريع، وتجري محاولات لرأب التناقض في ظل "انعدام الخيار" لدى الطرف الفلسطيني.

إن معالم هذه الصورة مستمدة من مصادر ثلاثة: أولها نظام "العزل العنصري" (الأبارثيد Apartheid)، الذي تطبقه جنوب إفريقيا بحق سكان البلاد من الأفارقة السود، والثاني "الإقطاعات" (Reserves)، الذي تطبقه كل من الولايات المتحدة الأميركية وكندا بحق سكان أميركا الأصليين من الهنود الحمر، والثالث هو نظام "الفصل العنصري" (Segregation)، الذي كان متبعاً في أميركا حتى مطلع الستينات، لفصل الأميركيين السود ذوي الأصولي الإفريقية، عن السكان البيض، في مواقع السكن والتجمع والخدمات العامة والمدارس والمستشفيات ووسائل النقل... إلخ، ولكبت كل أمل بممارسة حقوق لهم نص عليها الدستور الأميركي.

وقد يتساءل المرء: هل تستطيع إسرائيل حقاً فرض نظام كهذا في أرض فلسطين، وقد أثبتت التجربة أنه غير قادر على الصمود أمام متغيرات العالم الحديث؟ فنظام الفصل زال من الناحية القانونية، ونظام الأبارثيد في طريقه إلى  الزوال، ونظام الإقطاعات ليس سوى نظام تلطيفي يتناول فئات من الهنود الحمر قل عددهم إلى حد يقرب من الانقراض. ومن السخف تصوُّر أن زعماء إسرائيل يجهلون هذه الحقائق. فلماذا إذا يصرون على أمر انقضى عهده وفاته الزمان. ببساطة لأنهم يعتقدون أن لديهم قدرة على تكييف الظروف وفق حاجات النظام، بدلاً من انتظار حتمية أن يكيف النظام نفسه بحسب تغيرات الظروف.

ومن ناحية أُخرى، فإن التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي عموماً يعتمد خمس قواعد: أولها، إن الأفق التخطيطي لأية مرحلة لا يمكن أن يتجاوز فترة قصيرة من الزمن – كخمسة أعوام مثلاً – نظراً إلى ضخامة التغييرات المتوقعة. والثانية هي مبدأ التسابق والاستباق. والتخطيط هنا يحدد العناصر التي تتحرك في اتجاهات معاكسة، ويحدد الزمان الذي تحتاج إليه لتشكل خطراً، ومن ثم يعمل على تحديد الوسائل للتقاطع معها قبل أن تشكل خطراً واقعياً. ومن هنا فإن الدينامية الصهيونية تشكل خطراً مستمراً على مسارات التطور في جميع البلاد والمجالات  ذات الصلة بالأمن الإسرائيلي!

والقاعدة الثالثة للاستراتيجية الإسرائيلية هي أن أية صيغة مستقبلية لـ"المساحة" المعينة التي ستحددها إسرائيل لدولتها يجب أن تقوم بصورة عامة ومرحلية على مبدأ ضم الأراضي بلا السكان الذين يقطنونها. وهذا المبدأ يشكل أكبر تحد لإسرائيل؛ فالأصل في التفكير الصهيوني أن تكون دولة إسرائيل ذات نقاء عنصري، أي أن يكون سكانها من اليهود "مع أخف وجود فلسطيني ممكن"، بحسب قول رابين.

لقد حدد رابين الهدف تجاه الوجود السكاني الفلسطيني بأنه "قبل كل شيء إنقاص الوجود الفلسطيني على أرضنا قدر الإمكان..". وبالتالي، يمكننا القول إن أي أرض ستضمها إسرائيل وتعتبرها "أرضها" ستطبق فيها سياسة "إنقاص الوجود الفلسطيني". ولقد كان هذا الهدف من ثوابت التطبيقات والسياسات الإسرائيلية منذ سنة 1948. ووسائله تتراوح بين إثارة الفزع والتهجير الإجباري، والاستيلاء على الأراضي، والسيطرة على المياه، وكبت وسائل التنمية الاقتصادية، وعرقلة بناء المساكن، وتهديم المساكن، وفرض الضرائب الجائرة، والتلاعب بفرص العمالة بحسب الأهواء والظروف المختلفة، والقمع السافر لمظاهر المقاومة كافة،.. أي باختصار استعمال جميع الوسائل التي تلجأ إليها القوة المتجبرة المتكبرة. ولقد أثمرت هذه السياسات بحيث أن نصف الشعب الفلسطيني يعيش الآن خارج الأراضي الفلسطينية (ثلاثة ملايين تقريباً من أصل ستة ملايين)، وبحيث أن ثلثي سكان الضفة والقطاع الحاليين مطرودان من مدنهما وقراهما، التي إما أُعطيت للمهاجرين اليهود ليقطنوها، وإما تركت لتصبح دارسة، من دون أن يسمح لهم بالعودة إليها أو إصلاح معالمها.

والقاعدة الرابعة هي إلزام الفلسطينيين وغيرهم بالنصوص التي احتوتها أوراق أوسلو وجرى توقيعها من قِبل منظمة التحرير الفلسطينية. ولو راجعنا المفاوضات التي جرت منذ توقيع الاتفاق بين المنظمة والحكومة الإسرائيلية، لأدركنا أهمية هذه القاعدة وخطورتها، فالموضوعات التي جرى التفاوض بشأنها حتى الآن – مثل مساحة منطقة أريحا، أو المسؤولية الأمنية عن المعابر بالنسبة إلى كل من أريحا وقطاع غزة، أو الانسحاب الإسرائيلي العسكري من غزة وأريحا، كان المفاوض الإسرائيلي فيها يخرج دائماً ليعلن استغرابه واستهجانه لكون المنظمة تطالب بشيء يختلف عما تم الاتفاق عليه في أوراق أوسلو، ويحمّل مفاوضي المنظمة مسؤولية الإخلال بالاتفاق، ويطالبهم بالتزام نصوصه.

إن الواجب يحتم علينا ألاّ نقول شيئاً يضعف موقف الجانب الفلسطيني، الذي هو جانبنا. لكن المرء يعجب عندما يعيد قراءة تلك النصوص في ضوء المفاوضات (علماً بأننا حلّلناها حتى قبل المفاوضات التطبيقية، وأثبتنا رأينا فيها)، كيف جازت هذه النصوص على المفاوض الفلسطيني. فهي لم تحدد أمراً بل تركت تحديد الأمور كلها للمفاوضات؟ لكن أية مفاوضات تتطلب خطوطاً تحكمها، إلا هذه فلم ترسم لها خطوط؛ تتطلب أهدافاً تسعى لتحقيقها، إلا هذه فليست لها أهداف؛ تتطلب مرجعاً يمكن الرجوع إليه في حال الخلاف، إلا هذه، فقد استبعدت حتى التحكيم وسيلة لحل الخلافات. وقد تم ذلك كله في ظل تراجعات فلسطينية أساسية، تتمثل في الاعتراف بإسرائيل غير محددة الحدود، والتخلي عن حق المقاومة، والتخلي عن قدسية الميثاق الوطني الفلسطيني حتى استباقاً لسلطة المجلس الوطني الفلسطيني وحقه في تعديل الميثاق، والتخلي عن أي ذكر لحق الشعب الفلسطيني – كأي شعب آخر في العالم لا أكثر – في تقرير مصيره.

ما الذي تستطيع المفاوضات أن تحصل عليه بعد هذا كله؟ ثلاثة أمور ليس غيرها: أولها صلاحية في ستة مجالات فقط بالتحديد. والصلاحية في هذه المجالات الستة المحددة تعني انتفاء الصلاحية في جميع الأمور الباقية وبقاءها في أيدي المشرِّع الإسرائيلي، وهي الأمور كلها تقريباً. وثانيها مجلس منتخب قد يقام وقد لا يقام لأن جميع أموره متروكة للمفاوضات – قانون الانتخاب؛ هيكلية المجلس؛ مشاركة سكان القدس في الانتخاب؛ تسليم الصلاحيات الست إليه... كلها متروكة لمفاوضات قد تجري وقد لا تجري، فإذا جرت فقد تنجح وقد لا تنجح، وإذا نجحت فقد تنفذ وقد لا تنفذ. والشيء الثالث هو إقامة شرطة فلسطينية لحماية أمن إسرائيل؛ شرطة لا صلاحية لها تجاه المستوطنات ولا تجاه الإسرائيليين، بل فقط تجاه الفلسطينيين داخل مناطق الحكم الذاتي. هذه الشرطة هي الشيء الوحيد الذي تستعجل إسرائيل قيامه. وقد أوضح رابين ما يعلقه من أهمية على هذه الشرطة في التصريح نفسه لمجلة "دير شبيغل" بقوله: "سندلي برأينا عندما يبدأ الحكم الذاتي الفعلي في أريحا وغزة، وسيكون هذا بمثابة الاختبار لعرفات وللفلسطينيين، إذ أثبتوا مقدرتهم بالسيطرة على العنف في غزة وعلى استتباب الأمن في المناطق كافة، فعندها سيكون الحكم بأنهم أهل للتعايش معنا وأهل للسلام." أي أنه بعد أن نجح في أن ينتزع من منظمة التحرير الفلسطينية مبدأ التخلي عن العنف كوسيلة للمقاومة، انتزع موافقة فلسطينية على إقامة الشرطة التي ستتولى تعنيف هذا العنف. ومن الواضح أنها ستستحث دوماً على النجاح في هذه المهمة، وسيضغط عليها لتواجه أية مقاومة فلسطينية، وإلا فسيعتبر إعلان المبادئ فاشلاً في تحقيق ما قصدته إسرائيل منه. وقد ألزم إعلان المبادئ سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية بمعاقبة أي من أفرادها إذا ما أخل بالأمن الإسرائيلي، كما هو معلوم.

وقد يكون من أوجه الطرافة أن نتصور الشرطة الفلسطينية متأهبة لحماية مصلين مسلمين في مسجد ما، في غزة أو أريحا، فيأتي مستوطنون إسرائيليون مسلحون للاعتداء على هؤلاء المصلين؛ فماذا عساها فاعلة، وهي – بالنص – لا تملك صلاحية تجاه المستوطنين، ولا الإسرائيليين، ولا المستوطنات، ولا أمن الإسرائيليين أينما كانوا، وهي – بالنص - معرضة للعقوبة إذا تصدت لهم بأي شكل.

أي مفاوض هذا الذي استحيا من أن يطلب شيئاً لشعبه، سوى أن يُعتبر هو، أهلاً لأن يفاوض باسم هذا الشعب؟

لكن يبقى أيضاً تحديد مقاصد الطرف المقابل وأهدافه؛ فإسرائيل حصلت على أشياء ما كانت لتحصل عليها من دون هذه المفاوضات: نقلت الشرعية إلى جانبها، وجعلت أمنها هدفاً ومقياساً وواجباً مفروضاً على الشعب الفلسطيني، وأصبحت تمتلك زعماً لترسم حدودها بحسب أهدافها، ولتفرض قانونها، ونصبت فلسطينياً شرطياً على الفلسطيني، ولم تَعِد بأي مقابل، بل جعلت أي مطلب، أو ظلامة، مسألة يمكن أن تكون موضوع مفاوضة، بشروطها، من دون التزام نتائج.

هل يمكن لمثل هذه الصيغة أن تثبت على الأرض، وتستمر؟ بل إن السؤال الصحيح هو: هل يمكن إحراز أي تقدم على أساسها في أي اتجاه؟ وهل تجهل إسرائيل حقيقة الأمر بشأنها وهي التي صاغتها كعناوين، كانت الطعم لاستدراج المكاسب الهائلة التي حصلت عليها في رسالة الاعتراف؟ فهل تنوي إسرائيل استبقاء تلك العناوين – التي لا معنى لها في أية حال – أم أن الموضوع كله كان مصمماً منذ الأساس للحصول على المكاسب، ومن ثم إبطال ما قد يكون متبقياً بعد ذلك، أي إسقاط "إعلان المبادئ"؟

إن إعلان المبادئ مصوغ بحيث يمكن خلق استعصاء تام في المفاوضات الجارية تحت مظلته، عند كل نقطة وعند أية نقطة. ومن السخف تصوُّر أن تصميماً كهذا قد وضع لإقرار الحقوق، بل لاستبعادها في إطار مسرحيات تفاوضية. ولا بد إذاً من طرح سؤال عن موقف إسرائيل الحقيقي إزاء احتمالات الاستعصاء، أي هل تنوي إسرائيل خلق استعصاء أو أكثر لتعليق إعلان المبادئ أو حتى لإسقاطه، وعند أية نقطة يمكن أن يحدث ذلك؟

إن الإجابة عن هذا السؤال تتطلب وقفة عند الأحداث التي أوصلت إلى أوسلو وإلى الأوراق التي نجمت عنها.

كان السؤال الذي اضطرت إسرائيل إلى مواجهته عندما طُرح موضوع المفاوضات قبل انعقاد مؤتمر مدريد هو: من الذي يمثل الطرف الفلسطيني في المفاوضات؟ وكان لهذا السؤال جوانب كثيرة بالنسبة إلى إسرائيل، أولها أنها لم تكن لترضى بأن يعتبر تفاوضها مع جانب فلسطيني اعترافاً بالشعب الفلسطيني وجوداً، وحقوقاً، أياً كانت، وبأرض اسمها فلسطين. وثانيها أنها لم تكن لترضى بأن تعترف بأن للفلسطينيين الذين طردوا من ديارهم خلال حرب سنة 1948 والحروب التي تلتها، ولا سيما حرب 1967، أية علاقة بأرض فلسطين، أو أي حقٍّ تجاهها، أو أي دور في أي تفاوض بشأنها. مشكلتهم – إن وجدتْ – ليست مشكلتها، وبالتالي فإنها إذا قبلت بالتفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية مثلاً، تكون قد قدمت اعترافاً بوحدة الشعب الفلسطيني أينما كان. وكانت تفضل أن تتفاوض مع أفراد فلسطينيين من الداخل وحده، ومستعدة لتقبل صيغة ما تعطيهم حقاً تفاوضياً. وقد حلت هذه الإشكالية في صيغة المظلة الأردنية الموحدة، التي تجمع وفدين أحدهما أردني والثاني فلسطيني، ومن ثم تجري المفاوضات معهما في مسارين مستقلين. واشترطت أن يتكون الجانب الفلسطيني من أفراد من الأراضي المحتلة. وبذلك استطاعت أن تتجنب الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، وبالشعب الفلسطيني المشرد خارج الأراضي الفلسطينية. لكنها غيّرت موقفها بمقدار 180 درجة، بعد اثنين وعشرين شهراً من بدء المفاوضات؛ وفي أوسلو دخلت مفاوضات سرية مباشرة مع منظمة التحرير الفلسطينية، وتوصلت إلى توقيع أوراق معها. وقلما تسائل المعلقون العرب عن السبب في هذا التحول. لكننا نعتقد أن ساسة إسرائيل توصلوا إلى الاقتناع بأنه إذا كان هدفهم هو انتزاع الشرعية من يد الفلسطينيين، فإن ذلك لا يمكن أن يحدث لا تحت مظلة أردنية ولا من خلال وفد من سكان الأرض المحتلة فحسب؛ فالشرعية الفلسطينية ملك الشعب الفلسطيني لا لجزء منه. وأحدث هؤلاء الساسة جواً جعل منظمة التحرير تتوهم أنها قد تحصل من خلال التفاوض مع إسرائيل على مخرج من "الحَشْرة الخانقة" التي نجحوا في إيقاعها فيها بعد حرب الخليج سنة 1991.

ما هي الحاجات الملحة التي كانت لمنظمة التحرير الفلسطينية سنة 1992؟ كانت تريد موطىء قدم بعد أن أُفهمت بأن تونس لن تستطيع المضي في إيوائها طويلاً؛ فقيل لها أريحا وغزة. كانت تريد أن تجمع قواتها المبعثرة في اليمن والسودان وليبيا والجزائر وتونس، فلُوح لها بإمكان تحويلها إلى شرطة فلسطينية. كانت تفتش عن مقار ووظائف لجهازها المركزي ومكاتبها في الخارج، فأوهمت بأن فرصاً ستتاح في إطار "المجلس" لاستيعاب هذا الجهاز. كانت تشكو من انطفاء مواردها المالية فلُوِّح لها بـ"ضرائب مباشرة" و"مشاريع اقتصادية" و"بنك تنمية"، و"صندوق طوارئ" يغذى من موارد دولية وإقليمية. يضاف إلى ذلك كله أن أحد فصائل المقاومة الفلسطينية كان قد أطلق في مطلع السبعينات شعار "دولة ولو في أريحا"، فزُيّن له أن "أريحا" في صيغة غزة – أريحا، هي ذاتها أريحا الدولة التي تمناها. حكاية مثل حكاية الأمير في قصة بحيرة البجع مع ابنة الساحر، التي صورت له أنها محبوبته التي غابت عنه بعد أن سحرها الساحر في صورة بجعة، وجاء بابنته إلى حفل الملك مزينة بصورتها، فطلب الأمير يد ابنة الساحر، من دون أن يعرف أنه بذلك قد تسبب في موت محبوبته. وهكذا جازت ابنة الساحر على منظمة التحرير الفلسطينية بوصفها أميرة الأحلام.

إنما أوردنا هذه الملاحظة لنبين جانباً من أسلوب التفاوض الإسرائيلي، حتى ينتبه إليه أي مفاوض في المستقبل؛ فالمفاوضون الإسرائيليون يعرفون أنهم في إطار التفاوض يتعاملون مع ثلاثة عناصر: أولاً، الظروف التي تجري فيها المفاوضات، وثانياً، الأشخاص الذين يفاوضونهم، وثالثاً، المفاوضات ذاتها بوصفها مباراة بين طرفين يتصارعان على كسب المباراة. وقد تناولنا بالإشارة جانب الظروف، وكيفية إقحامها في المفاوضات. ولا يظنن أحد أن المفاوضين الإسرائيليين – ومن ورائهم أميركا – يعتبرون الظروف أمراً ساكناً ومعطى، بل هو أمر قابل لأن يخلق ويصور. والوضع الذي كانت فيه منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1993، هو وضع وجدت فيه وصولاً ودفعاً وجذباً، لكنها لقلة الخبرة في الشؤون الدولية، لم تستطع إجراء الوقفة المتأملة المتعمقة.

وليس من قصدنا أن ندخل عنصر "شخصية المفاوض" في التحليل إلا لنشير أن المفاوض الإسرائيلي يجد أمامه ملفاً كاملاً يتضمن التحليل النفسي لذلك الشخص، ومكامن قوته وضعفه ووسائل التسلل إليه والنفاذ إلى شخصيته، ويجد في جانبه عالِماً نفسياً يقدم له النصح والتوجيه، وذلك إلى جانب منطق الحجة الذي يُعامل به بين المتفاوضين. لكن القصد هنا هو تبيان أنه عندما يكون الطرف المفاوض شخصاً واحداً – فإن مهمة الاستهداف النفساني تصبح أقرب منالاً. وإن أزمة سيناء سنة 1967 وأزمة الخليج في فترة 1990 – 1991، وأزمة مفاوضات مدريد سنة 1993، قد استخدمت فيها جميع وسائل التركيز والتشويش والإرباك لشخص واحد يتأبط المسؤوليات كلها. ومن هنا ضرورة إقرار جماعية القيادة الفلسطينية، وتوسيع القاعدة التي ينطلق منها القرار.

نعود الآن إلى السؤال الافتراضي الذي طرحناه، وهو ماذا يمكن أن تفعل إسرائيل بقدرتها على خلق استعصاء حاسم في طريق تنفيذ "إعلان المبادئ"؟ إننا لا نستبعد إطلاقاً أن توقف إسرائيل عند ذاك كل اتصال مع منظمة التحرير الفلسطينية، وتنقل إعلان المبادئ إلى سطح جديد يعود به إلى النقطة التي كانت مدار البحث قبل المفاوضات ثم جرت عليه المفاوضات حتى نقلتها منظمة التحرير إلى سطح "أوسلو". ومن الجائز أن تجري الأمور كما يأتي. تعلن إسرائيل تعذر التوصل إلى اتفاق مع منظمة التحرير بشأن تطبيق "إعلان المبادئ"، وتؤكد في الوقت نفسه ثباتها على تطبيق المبادئ (ولم لا؟ فهي لا تحتوي شيئاً). ومن ثم لا تلجأ إلى مفاوضات مع رجالات الداخل، لأنها تعرف أنها لن تجد في الداخل من يتفاوض معها، بل تلجأ إلى الإدارة التشريعية، لتملأ – كما تريد – الفراغات التي تركها الاتفاق، وهذا يغنيها عن الدخول في مفاوضات بشأن الحدود. فالأسهل لها والأفضل لأطماعها أن ترسمها، بدل أن تتفاوض بشأنها. وهذا يغنيها عن دخول مفاوضات بشأن الأمور الباقية: القدس (ذكر رابين لـِ"دير شبيغل" أن القدس عاصمتنا بلا منازع ويجب عدم تقسيمها) واللاجئين. وهذا يغنيها عن دخول مفاوضات بشأن هيكلية المجلس والصلاحيات الإضافية التي قد تعطى إليه. ولن تعدم جزرات مهترئة تقدمها في مجمل السلة. ومن ثم، وبعد أن تهدأ الأمور، تبحث عمن يتعاونون معها في إدارة الشرطة وإجراء انتخابات، إلخ... وتعمل في أثناء ذلك على إيصال المنظمة إلى ضياع المصداقية فتصيب بذلك قمة الهرم التنظيمي الفلسطيني. وعلى الفلسطينيين في المقابل أن يدركوا أهمية التمسك بالمنظمة – أداة ورمزاً لوحدة شعبهم في الداخل والخارج.

والقاعدة الخامسة التي يقوم عليها الموقف الإسرائيلي هي أن أميركا التي قدمت إلى إسرائيل ما قدمت من تسعير حرب أهلية بين الدول العربية، وضرب للتضامن العربي، وعزل للشعب الفلسطيني ومنظمة التحرير الفلسطينية وحجب للأموال عنها، وتضييق على الفلسطينيين في الرزق والحركة والانتقال، وإخراجهم من مناطق يعملون فيها... إلخ... قد التزمت لإسرائيل أن تترك لها كامل الإدارة لـ"عملية السلام"، وتؤمن لها التغطية، وتتستر على أفعالها كافة. وبالتالي، فإن لإسرائيل أن تفسر أوراق أوسلو كيف تشاء، وتحركها بأي اتجاه تختار.

موقف منظمة التحرير الفلسطينية

لم يتسن لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ تأسيسها في منتصب الستينات أن تضع استراتيجية، أو أن تحدد أهدافاً أو أفضليات أو أسبقيات أو مراحل. ولم تستطع أن تدرك – في إثر قبول عبد الناصر مشروع روجرز – أن الدول العربية ستمضي في حل مشكلاتها مع إسرائيل – كل بحسب مصلحتها، وبالشكل الذي تختاره، في إطار المعادلة التي تطبقها كدولة في المؤالفة، أو المنافرة، بين ما هو قومي وما هو قطري. ولم تؤمن أي من الدول العربية موطىء قدم تبني عليه قوة تحارب بها إسرائيل.. بل إنها عندما اتخذت من الأردن قاعدة للاشتباك مع إسرائيل عبر النهر، وجدت أن ذلك الوضع يؤدي إلى ثنائية في السلطة تتنافى مع سيادة الأردن وسيطرته على أمنه، وتكشفه أمام إسرائيل وحلفائها. وتكررت المشكلة في لبنان، حيث وجدت المنظمة نفسها في صراع مع السلطة اللبنانية، ومن ثم مع عناصر لبنانية، اعتبرت وجودها إخلالاً بالتوازن اللبناني الداخلي. ووجدت نفسها، بعد أن عجزت الدولة اللبنانية عن السيطرة عليها، في صراع مع سوريا، التي رأت في تهاوي السلطة واضطراب الأمن واستعار الحرب الأهلية في لبنان خطراً عليها. ومن ثم جاءت إسرائيل بكامل قوتها واشتبكت في حرب مع المنظمة والقوى المؤيدة لها على أرض لبنان، وكانت هذه المعركة – العظيمة حقاً – الاشتباك الوحيد بين المنظمة والعدو الإسرائيلي، لكن المنظمة لم تستطع تحويل الإحباط الإسرائيلي إلى نصر سياسي، وسرعان ما غطت أميركا على البلبلة الإسرائيلية بخطوات بلغت ذروتها بإيقاد حرب أهلية عربية شاملة.

وقد كثرت الأحاديث عن "أخطاء" و"تجاوزات" من قبل المنظمة. ومن الناس مَن يقول إنها في الحقيقة لم تكن سوى "أقدار" لا يد للمنظمة فيها. وأي عمل يخلو من الأخطاء في أية حال؟ وفي استطاعتنا القول إن ما حصلت عليه المنظمة في إطار مفاوضات أوسلو لا يتناسب إطلاقاً مع إنجازاتها في إنهاك الخصم وكشف الكثير من عيوبه ومكامن ضعفه، وتحويل هجرة اليهود إلى هجرة معاكسة، وإفشال هجرة اليهود السوفيات، وخلخلة الاقتصاد الإسرائيلي، وسد المنافذ عليه، وتضييق الآفاق المستقبلية لإسرائيل. ويرجع السبب في ذلك إلى التقلب بين تفاوض في واشنطن – بوفد – والتفاوض في أوسلو – بوفد آخر؛ بين تفاوض في العلن وتفاوض في السر، مثلما يرجع إلى ضعف جهاز المفاوضة واستعجال القيادة الوصول إلى شيء ما، حتى أن رئيس المنظمة ذكر في خطابه في الجامعة العربية، في مجال التفاخر، أن من الأسباب التي جعلته يفتح المفاوضات السرية في أوسلو بَرَمَهُ بعجز الوفد الفلسطيني المفاوض في واشنطن عن الوصول إلى اتفاق بعد اثنين وعشرين شهراً من المفاوضات.

ثم إن القوى والمؤهلات السياسية والفكرية الفلسطينية، التي عزلت لفترة طويلة تحت شعار أن الثورة ملْك لحَمَلَة البندقية، هي مؤهلات كبيرة كان يجدر الاعتماد عليها بعد أن انتقل العمل الفلسطيني من مرحلة العنف إلى مرحلة التفاوض. وعندما قرأنا أوراق أوسلو تعجبنا لغياب تلك المؤهلات الخبيرة بالقانون، وبالعلاقات الدولية، وبالتدوين، وبنظرية المباراة، وبعلم النفس. ومن هنا جاءت المفاوضات مبنية على واقع المنظمة وانفرادية قرارها، لا على قدرات الشعب الفلسطيني وإمكاناته العظيمة.

لكن من المسلم به أن كل فلسطيني يجب أن يكون حريصاً على المنظمة. وفي اعتقادنا أن أوراق أوسلو هي عبارة عن طريق مسدود، أُحكم إغلاق جميع منافذه. فيه إشارات كلها تمويهية: سهم يرشدك أن تذهب في هذا الاتجاه، فإذ  سرت فيه قابلك حاجز، فَتُغَيِّر اتجاهك لتلقى حاجزاً غيره.  ولا نتوقع حدوث شيء في إطار أوراق أوسلو. ولا بد في رأينا من الخروج من هذا الإطار.

إن المسألة مسألة قضية كبرى ومصير شعب وأرض وتراث. وسنكتفي بإعطاء أمثلة لما قد يمكن عمله للخروج من هذا المأزق.

عندما وقِّعت معاهدة ماستريخت لإنشاء الاتحاد الأوروبي، وظهرت معارضة للمعاهدة في بعض الدول الأوروبية، لم تتردد حكومة الدانيمارك التي وقعت المعاهدة، مثلاً، في إحالتها على استفتاء شعبي. وحتى بريطانيا حصلت على تعديل لها.

وعندما لم يستطع الحكم في لبنان بقيادة أمين الجميل أن يقنع الشعب اللبناني بالمعاهدة المنفردة التي عقدها مع إسرائيل، والمعروفة باسم اتفاقية 17 أيار (مايو) 1983، أسقطت تلك المعاهدة كلياً. وقد حصلت تونس، بقيادة الحبيب بورقيبة، على استقلالها من فرنسا في معاهدتين متواليتين، أسقطت ثانيتُهما الأولى، وتم ذلك في غُضون عام واحد من الزمن.

إن مؤشرات كثيرة قد أظهرت أن أوراق أوسلو تحظى بمعارضة واسعة من القاعدة الشعبية الفلسطينية في الداخل والخارج. فإذا لم تعتبر قيادة المنظمة هذا استفتاء، فلتجرِ استفتاء، ولو في إطار عينة مدروسة يشرف على وضعها خبراء مخلصون صادقون، ولتلتزم بنتيجة هذا الاستفتاء، وبذلك تكون قد أعادت إلى الصورة الفلسطينية بهاء تفتقده. فإن هذا الشعب ديمقراطي ومؤمن بالنظام الديمقراطي، وليس من حق أحد أن ينفرد بالقرار في مصيره. ولا يضير زعيماً أن يستجلي إرادة شعبه ويمتثل لها.

 إن ما جاء في الأخبار عن أن روسيا طلبت فتح مؤتمر جديد في مدريد للقضية الفلسطينية يدل على أن ثمة إدراكاً بدأ يظهر بأن شعب فلسطين قد غُبن غبناً هائلاً في أوراق أوسلو. ونعتقد أن الدعوة إلى مؤتمر جديد لبدء المفاوضات مجدداً هو المطلب المنطقي لهذه اللحظة التاريخية. ومن المطلوب من القيادة الفلسطينية أن تسير أمام الأحداث، لا أن تنتظر حدوثها وتحتار وترتبك إزاءها.

وبعبارة أوضح وأدق، فإن منطق المباراة يقضي – في الجانب الإسرائيلي – بأن تمضي إسرائيل في "محادثات" مع منظمة التحرير الفلسطينية، حتى تؤمِّن قيام الشرطة الفلسطينية؛ فالشرطة هذه هي البند الأول – والأخير – في جدول أعمال إسرائيل بالنسبة إلى تعاملها مع منظمة التحرير الفلسطينية. حصل الإسرائيليون على ما حصلوا عليه – وقد سبق أن ألمحنا إليه، ولم يبق إلا هذا. فإذا حصلوا عليه فستكون تلك هي نقطة الفراق بينهم وبين المنظمة وقيادتها. لكن مسألة إنشاء الشرطة يجب أن تكون الأخيرة في جدول الأعمال بالنسبة إلى الجانب الفلسطيني؛ فمن الواضح أنها تختص بأمن إسرائيل، لا أمن الفلسطينيين أو أمن الحكم الذاتي. وقد سبق أن أعطينا مثلاً يبين ذلك. والسؤال الآن هو  هل تنتظر المنظمة حتى تؤمِّن لإسرائيل قيام تلك الشرطة، أملاً بأنها إذا تنازلت هنا فوراء التنازل مكسب يلوح به وقد تحصل عليه، بل إنها إذا أهملت هذه فلن يبقى لها ما تعطيه؟ ولذا فإن منطق المباراة يقضي بأن إسرائيل ستنهي المباراة معها حالما يتم لها إقامة الشرطة.

المديان المتوسط والأبعد، والعناصر الإضافية

لقد تركز بحثنا الآن على جوانب المباراة الآنية التي تدور حول محور "إعلان المبادئ". لكن هنالك في طبيعة الحال اعتبارات أُخرى مؤثرة، ذات دور مهم في تحريك الأحداث. وسنحاول الإلمام بها باختصار.

أولاً، إذا كان الفلسطينيون يواجهون وضعاً مستعصياً لا يستطيعون تبين مخارجه، فإن إسرائيل تواجه وضعاً مستعصياً أيضاً. إنْ يَمْسَسْكُم قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ."*

ومن أهم مظاهر هذا الوضع، التركيبة الديموغرافية للسكان القاطنين الآن في فلسطين الانتدابية؛ فالزعماء الإسرائيليون يشيرون دائماً إلى أن عدد السكان الفلسطينيين في الضفة والقطاع يبلغ أكثر من مليون وثمانمئة ألف نسمة. ومصطلح "أكثر من" هذا هو من الأمثلة على الإبهامات المقصودة التي يتعاملون بها حيال الوضع السكاني. إذ إن الرقم الحقيقي لسكان الضفة والقطاع – بما في ذلك سكان القدس الكبرى – هو الآن نحو مليونين وربع المليون نسمة. ومعنى ذلك أن هنالك ما بين 400 ألف  - 500 ألف فلسطيني موجودون الآن في أراض فلسطينية أكثر مما يقر به الإسرائيليون، فقد أظهرت دراسة دقيقة وعملية أجرتها مؤسسة "فافو" (FAFO) النرويجية أن سكان الضفة والقطاع، بما في ذلك سكان القدس الكبرى، من الفلسطينيين بلغوا (سنة  1993) 2,200,000 نسمة. وذكرت الدراسة النرويجية أنه بموجب أي افتراض للخصوبة الأنثوية والأوضاع الصحية، فإن هذا العدد سيتضاعف تقريباً بعد عشرين عاماً، أي سيصبح 4,500,000 نسمة. فإذا أضفنا "عرب إسرائيل" البالغين 900,000 نسمة، بموجب الأقوال الإسرائيلية، ولْنَقُل مليونا، وحسبنا لهم نسبة التضاعف ذاتها، فإن الفلسطينيين داخل فلسطين الانتدابية سيبلغون، سنة 2012، ستة ملايين ونصف المليون. في مقابل هؤلاء، كم يهودياً سيبقى حتى ذلك الحين؟ وماذا سيكون شأن ثلاثة ملايين فلسطيني مشردين الآن خارج فلسطين، سيصبحون بعد عشرين عاماً نحو ستة ملايين إنسان؟

شاهدنا أن إسرائيل تفكر في هذا الموضوع من خلال فذلكات قانونية تعزل بين السكان والأرض: يريد الإسرائيليون تخفيف الوجود الفلسطيني – لكن كيف؟ في مقدم تصوراتهم أن يتبع الفلسطينيون المقيمون في الضفة والقطاع، الأردن من حيث الجنسية والحقوق السياسية (المتبادلة). لكن ماذا لو رفض الأردن؟ وماذا لو رفض الفلسطينيون أنفسهم هذه الجنسية؟ وتلاحظ في هذا الصدد أن الإسرائيليين أشاروا إلى كونفدرالية للمنطقة يذكرون أنها كونفدرالية بين إسرائيل والأردن وبينهما الفلسطينيون. والإشارة هنا إلى شعب بلا أرض.

لا يعود حينذاك مفر من أحد حلول ثلاثة: إما التفريغ أو الترانسفير (مع "أخف وجود فلسطيني بيننا"، كما يقولون)، ربما بافتعال أحداث على غرار مجزرة الحرم الإبراهيمي، وعلى نطاق أكبر، أو حتى بافتعال حرب شاملة، وإما الخيار النظري الثاني، وهو إقامة دولة فلسطينية على جانب من أرض فلسطين، تكون متواصلة المساحة، وذات أهلية اقتصادية. وهذا أمر يرفضه الفكر السياسي الإسرائيلي حتى الآن. والخيار الثالث هو القبول بإقامة الدولة الديمقراطية الموحدة لكل فلسطين، وإلغاء الأبارثيد والتمييز العنصري والفصل العنصري، على غرار ما يحدث الآن في جنوب إفريقيا. لكن الحلين الثاني والثالث لا يمكن تحقيقهما إلا من خلال قرار أساسي كبير وخطر يتخذه الشعب الإسرائيلي والصهيونية العالمية، وهو القبول باندماج اليهود الإسرائيليين بالسكان في المنطقة، كعنصر من عناصر التكوينة الديموغرافية لـ"الشرق الأوسط"، فلا تعود "الشرق أوسطية" آنذاك تجمّع دول بل تجمّع بشر. لقد أوضح رابين في حديثه إلى "دير شبيغل" أن هذا التصور غير وارد. "والشعب الفلسطيني يختلف عنا ديناً وحضارة وسياسة." معنى ذلك أن اليهود في إسرائيل وخارجها ما زالوا بعيدين عن القرار الحاسم، الذي لا يستطيعون من دونه الحصول على سلام حقيقي ودائم.

ثم هنالك الاستعصاء الاقتصادي، الذي يتمثل في كون الاقتصاد الإسرائيلي يحتاج إلى ضخ ما يقارب 15 مليار دولار سنوياً، لمجرد استمرار دوران الدولاب، على مستوى معقول من العمالة والرفاه للسكان. ويأتي هذا المبلغ هبات من أميركا وألمانيا، بعضها معفى كمعونات وبعضها مؤجل كقروض، وبعضها مبطن كإعفاءات ضريبية، وبعضها مقنع كسندات دين، وبعضها سري، وتحاط المعلومات المتعلقة بها بالتكتم والتعتيم، شأنها شأن المعلومات الحقيقية المتعلقة بالسكان والهجرة الوافدة والمعاكسة، لأن المعلومات التي تتناول هذين البندين (أي المعونات والسكان) تشكل المؤشر البارز لمجمل الأوضاع الإسرائيلية. وثمة ما يشير، مثلاً، إلى عجز إسرائيل عن استيعاب هجرة اليهود السوفيات، وتضعضع الاقتصاد الإسرائيلي إلى حد يقارب الانهيار خلال الفترة 1991 – 1993، وهو ما دفع أميركا إلى تقديم معونة استثنائية وإضافية (طوارىء) بمقدار عشرة مليارات دولار، تحت ستار قروض تضمنها الخزينة الأميركية (ناهيك بتسعير حرب عربية – عربية). وهذا الحادث يؤشر على أمرين: أولهما أن قدرة إسرائيل على استيعاب مهاجرين جدد قد هبطت إلى نقطة الصفر تقريباً، وثانيهما أن أزمات الاقتصاد الإسرائيلي ليس لها حلول داخلية أو محلية، ولا يمكن حلها بالتالي إلا من خلال ضخ أموال خارجية في الجسم الاقتصادي الإسرائيلي. وهذا أمر مفهوم لأن أي حل داخلي يتطلب انتهاج أساليب كالتي تتبعها الدول الصناعية في أوقات كسادها، ومنها تقليص العمالة تبعاً لانخفاض الطلب على المنتوجات، أو من أجل تمكين المنشآت من تخفيض تكاليفها وتحسين قدراتها التنافسية. فإذا أضيفت إجراءات لكبح التضخم، مثل تخفيض عجز الموازنة، ورفع نسبة الفائدة، فإن ذلك يعني فرض نظام من التقشف وتطويل أجل الركود. وإذا اتجهت معدلات الأجور الحقيقية إلى الانخفاض نقص المدخول الفردي والرفاه الاستهلاكي. والمهم في الأمر كله أن إسرائيل لا تستطيع أن تصبر على وضع كهذا وقتاً طويلاً، في انتظار تغير اتجاه الريح وبدء التحرك الصعودي للاقتصاد، لأن البطالة وانخفاض الأجور، يحثان الهجرة المعاكسة. وربما يدرك المسؤولون الاقتصاديون الإسرائيليون في قرارة أنفسهم أن الهجرة المعاكسة تشكل تخفيفاً للعبء الاقتصادي المحلي. وباختصار، فإن وضع إسرائيل الاقتصادي أكثر حساسية وارتباطاً بتركيبها السكاني من وضع الاقتصاد في أي بلد في العالم. وهذا يشكل استعصاء حقيقياً سيصبح فتاكاً كلما قل تدفق الأموال الخارجية.

وتأخذ البنود المتعلقة بالاقتصاد موقعاً بارزاً في ورقة "إعلان المبادئ". وتتجلى الأهداف الاقتصادية في عناوين ثلاثة: أولها محاولة إلغاء المقاطعة العربية لإسرائيل، حتى بقطع النظر عن تقدم عملية السلام. ونذكر محاولة اندفع الأوروبيون بها لمقايضة المقاطعة بتوقيف بناء المستوطنات، وفشلت، ومحاولة جديدة قام بها وزير التجارة الأميركي رون براون إلى عدد من البلاد العربية للحث على إلغاء المقاطعة، ومطالبة في الكونغرس الأميركي بعدم بيع سلاح من أية دولة تقاطع إسرائيل. وقبل ذلك كان القانون الأميركي الذي جعل التعاون مع أجهزة المقاطعة العربية لإسرائيل جرماً جزائياً، وحذت ألمانيا حذو أميركا. لكن المقاطعة ما زالت باقية، ولن تنفع إسرائيل فذلكات قانونية بشأنها ما دامت في عداء مع العرب، كما أظهرت التجربة المصرية. وتتطلع إسرائيل ثانياً إلى مشاريع كبرى تمول عالمياً، من خلال صندوق شرق أوسطي للتنمية يصبح فيما بعد بنكاً للتنمية. من هذه المشاريع خط لأنابيب الغاز والنفط يصب في غزة، ومجمّع بتروكيماوي في غزة، وقناة لتوليد الكهرباء بين غزة والبحر الميت، ومشاريع إقليمية لتحلية المياه (بالطاقة النووية)، وربما في غزة أيضاً، ناهيك بمشاريع ربط شبكات الكهرباء وتوليدها، ومشاريع الطرق والسكك الحديدية وغيرها. إلى جانب ذلك ثمة حديث عن منطقة للتجارة الحرة بين إسرائيل و"الفلسطينيين" والأردن، توسَّع لاحقاً لتشمل مصر وسوريا ولبنان، ومشاريع مياه إقليمية، قد تشمل جر كمية من مياه النيل إلى النقب في إسرائيل. ثم هنالك المجال الثالث، الذي قد يتضح نتيجة لاتفاقية التجارة العالمية التي ستوقع في مراكش في منتصف نيسان/أبريل المقبل، من خلال إتاحة الحرية لتجارة الخدمات (التوكيلات التجارية؛ البنوك؛ شركات التأمين؛ فروع الشركات)، تجارة التكنولوجيا (الحقوق الصناعية)، وتطمح إسرائيل إلى ركوب موجتها لتصبح مركزاً مالياً وسياحياً وتكنولوجياً للمنطقة وللشركات الأممية العاملة فيها.

لكن سعي إسرائيل الدائب من خلال أميركا ودول أوروبية من أجل الفصل بين السلام والحاجات والأهداف والأماني الإسرائيلية في المنطقة يلقى شكاً قوياً حول نياتها الحقيقية؛ فالسياسة الإسرائيلية لا تقوم على مبدأ التبادل أو الأخذ والعطاء، أو أخذ شيء وترك شيء، وإنما تقوم على مبدأ أخذ كل شيء بلا مقابل، ما دامت لديها القوة التي تمكنها من ذلك، وقد أمنت لها أميركا ذلك كله حتى الآن.

ثم إن إسرائيل تواجه استعصاء آخر في تعاملها مع الشعب الفلسطيني. فهي قد اعترفت أخيراً بوجود هذا الشعب، في ورقة "إعلان المبادئ"، بعد أن كانت تنكر وجوده. واعترفت أيضاً بأن له حقوقاً "مشروعة" و"متبادلة" – أياً كانت معاني هذه المصطلحات. لكن تعاملها مع الشعب الفلسطيني ما زال يعكس وجود  "فراغ" فكري يهودي بالنسبة إلى هذا الشعب، يتجلى في تعريف هذا الشعب وهويته، وفي كيفية معاملته. فالشعب معزول عن أرض فلسطين (ومما يذكر أن كلمة فلسطين قد محيت من القاموس اليهودي تماماً). وقبل ذلك، نجح الإسرائيليون في الفصل بين الشعوب العربية والشعب الفلسطيني، من خلال تخويف تلك الشعوب من ناحية، ومن ناحية أُخرى من خلال إيقاع أضرار بها لقاء تأييدها للشعب الفلسطيني أو تعاطفها معه، أو فتح مجالات العمل له. والمرحلة المقبلة تقوم على تفتيت هذا الشعب والعمل على تسليط جزء منه على الجزء الآخر، مع حرمانه من أية مشاركة في أي من الأمور الحيوية التي تتشكل منها حياته. فالصلاحيات الست التي أبقيت له بموجب "إعلان المبادئ" لا تغطي ولو جزءاً صغيراً من المساحة التي تتألف منها الحياة اليومية.

والجانب الآخر لهذه القضية هو تصور إسرائيل بأن السلام هو سلام مع الدول العربية لا مع الشعب الفلسطيني. فهذه الدول ستوقع معها معاهدات صلح تُبقي لها كياناتها وسياداتها. أما الشعب الفلسطيني فلا يملك كياناً ولا سيادة، بل أُعطي عناوين، وأسماء، وكلمات فارغة المحتوى.

هل يمكن تصور سلام قائم على مثل هذا المحو التام للدور الفلسطيني وللشعب الفلسطيني، الذي لا يشك أحد في مستواه العلمي وقدراته الإدارية والتنظيمية، وعمق تمسكه بهويته والتزامه برؤياه، وفيما أسسه لنفسه من دور ونفوذ وتأثير؟

من الجائز أن تكون اعتبارات كتلك التي أوجزناها فيما تقدم هي التي دفعت إسرائيل وأميركا إلى الشروع في "عملية السلام". لكن من الجائز أيضاً أن تكون "عملية السلام" مجرد فترة ركود تحتاج إسرائيل إليها لإزالة خلل ضخم (متوطن في الكيان الإسرائيلي ذاته) تبدى وتفشى مجدداً في مطلع التسعينات. وقد ذكرنا في مقال سابق أنهم يقدرون الحاجة إلى خمسة أعوام لتصحيحه. ولْنقُل أن هذه الأعوام الخمسة تنتهي سنة 1998. ومن الجائز أيضاً أن تكون إسرائيل بحاجة إلى هذه الأعوام لبناء قدرات حربية جديدة، ومن الجائز أن تكون مجرد تغيير في الأسلوب للوصول إلى الأهداف ذاتها التي رسمتها الصهيونية العالمية، من خلال بذر الفتن والحروب الأهلية العربية – العربية والفلسطينية – الفلسطينية والعربية – الفلسطينية.

لقد استطاعت إسرائيل وأميركا أن تدفعا الأحداث تحت عنوان "عملية السلام". وقد أوجز رابين بعض أسباب نجاحها، كـ"انتهاء الحرب الباردة. وانحسار التدخل السوفياتي في الشرق الأوسط"، من ناحية، ومن ناحية أُخرى "فقد أنهت أميركا في حرب الخليج مشكلات نحن في غنى عنها." ويعتقد الإسرائيليون أيضاً أن تفرد إسرائيل بالسلاح النووي ربما كان العامل الحاسم وراء تغيير المفاهيم العسكرية العربية.

لكنهم ينظرون إلى مخاطر تلوح في أفق المستقبل "مثل الخطر الإسلامي الذي يهددنا ويقوى يوماً بعد يوم... وتطور السلاح الذري لدى العراق وإيران، والذي سيصبح بحلول سنة 2000 حقيقة كبرى... وإمكان قيام تحالف ثلاثي مكون من دمشق وطهران وبغداد."

يبقى أن نتساءل عن تصور إسرائيل لما قد يجري من أحداث في حال توقف "عملية السلام" أو في حال وقفها.

عندما سُئل رابين عما إذا كان فشل عملية السلام يعني الحرب لا محالة، أجاب: "محتمل، لكن ليس في العام المقبل بل في الأعوام الخمسة أو السبعة المقبلة." لكنه أوضح في الوقت نفسه "أننا نقف الآن على مفترق طرق، وسنة 1994 هي تقرير المصير بالنسبة إلينا جميعاً. إما السلام وإما الدمار الجماعي."

طبعاً يدخل هذا القول، للوهلة الأولى، في إطار المفاوضات الجارية الآن، وخصوصاً مع سوريا، تخويفاً لها. وهذا هو معنى الإشارة إلى سنة 1994. فإن رابين نفسه كان قد وعد بإنهاء المفاوضات خلال سنة 1993، لكن الوعد لم يتحقق بسبب موقف ثابت لسوريا. والآن فإنه نقل الحد الزماني إلى نهاية سنة 1994، حين يكون موعد الانتخابات الإسرائيلية قد بدأ يلوح في الأفق.

ومع ذلك فإن على العرب – جميع العرب، بجميع دولهم – أن يرقبوا بدقة ما يجري من أحداث بعد الآن على أساس إدخال احتمال الحرب في الحسبان.

إن ما قاله رابين – وهو أحد أهم المخططين لحرب سنة 1967 (الاستباقية) – يقع في إطار "العقيدة الاستراتيجية" الإسرائيلية، التي تشكل المستند لوضع التصورات، وتحديد الخيارات، وتحويلها إلى خطط شمولية وظرفية، والعمل على تسيير الأحداث بحيث تتوافق مع المواقف والفواصل المرسومة في تلك الخطط.

الأفق الاستراتيجي (5 – 7 أعوام مقبلة) ملبد بنذر مثل الخطر الإسلامي، وتطوير سلاح ذري لدى العراق (وإيران) بحلول سنة 2000، وإمكان قيام تحالف إيراني – عراقي – سوري، وإمكان تواطؤ روسي خفي أو علني مع الجانب العربي. هنالك أيضاً الاستعصاء الاقتصادي الذي سيتحدد مدى عمقه بعد كل شريحة من شرائح قرض الـ 10 مليارات دولار الذي التزمت أميركا به، والذي يكون قد أوشك على النفاد سنة 1998 (مثلاً). ثم هنالك عامل الهجرة المعاكسة، وهنالك عامل ولاية كلنتون التي توصل فيها اللوبي الإسرائيلي إلى أعمق وأشمل وأسلس علاقة مع الإدارة الأميركية (إما سنة 1996 وإما سنة 2000). هذه كلها تشكل إطاراً لعناصر تتجمع كلها في حدود سنة 1998. فإما أن يكون سلام قد تحقق، وإما ضربة استبقاية على غرار ضربة سنة 1967. والكلام عن "الدمار الجماعي"، هو من باب الابتزاز النووي (ومن هنا خشية إسرائيل من استقلالية روسيا بشأن أحداث الشرق الأوسط).

وربما تكون تلك الضربة آنذاك حاجة أميركية على غرار حرب سنة 1967، (حين كانت أميركا بحاجة إلى إغلاق قناة السويس لسد الطريق البحري الأقرب، بين موانىء البحر الأسود السوفياتية وموانىء فيتنام الشمالية)، أو على غرار حرب سنة 1991، لتحجيم القدرة العربية واتخاذ قواعد في المناطق النفطية.

وثمة سؤال لا بد من طرحه وهو "هل انعقد إجماع يهودي على عملية السلام؟ وهل اتخذ قرار أميركي بشأن السلام؟" إن ما نشهده الآن هو مسرحية فُرض تحت شعار السلام. وإذا جاز لنا أن نفسر حادث الحرم الإبراهيمي، فإنه يبدو من صنع جانب يهودي قوي ومتغلغل، يعارض أي تقدم نحو السلام، وكل تقدم نحو السلام، فالحادث نفسه جاء في إطار زيارة قام بها وفد من يهود أميركيين من الجانب المعارض لعملية السلام، وجذوره تمتد من إسرائيل إلى أميركا، وتتغلغل في مؤسستيهما، ويبدو أنه موجّه ضد المفاوضات مع سوريا، أي حتى ضد مفهوم السلام بين الدول. وستظهر سنة 1994 مدى قدرة هذا الجانب على حسم الأمر لجانبه، وله حظ وافر بعد أن تعهدت أميركا، بعدم التدخل في مسار السلام، وتركه بأكمله ليهودها.

واقع الحال أن "عملية السلام" لو استمرت على مسارها الحالي، القائم من ناحية على إقامة سلام بين الدول، ومن ناحية ثانية على عزل الشعب الفلسطيني وتفتيته، وتفريغه، وتسليط بعضه على بعضه، ومن ناحية ثالثة على إثارة الفتن بين العرب، ومن ناحية رابعة على ابتزاز مشاركة في الثروات العربية وفتح أنبوب عالمي لتغذية إسرائيل بالمال بدل الاعتماد على الأنبوب الأميركي وحده، فإن هذه العملية ستنهار حتماً، حتى قبل سنة 1998. ولا مفر في اعتقادنا من أن يقبل يهود العالم بأن يصبح وجودهم في فلسطين قائماً على مفاهيم حضارية، وقيم خلقية وروحية، وتبادل في الأخذ والعطاء، واحترام للغير وحقوق الغير وقبول للصبغة التراثية الحقيقية لهذا العالم العربي الإسلامي. فلن يغير من حقيقة الأشياء محو اسم فلسطين، ما دام الشعب الفلسطيني موجوداً. ولن يغير من حقيقة الأشياء حشر مصطلح "الشرق الأوسط" بدل مصطلح العالم العربي والإسلامي، ما دام سكانه وحضارته إسلاميين. ثم إن واقع الحال أن وجود إسرائيل قائم على السيوف، ولا فارق بين أن تكون السيوف جارية بالدم أو تكون مغمدة وجاهزة، هي والأيدي التي تستعملها.

عملية السلام تبدأ عندما تدرك اليهودية العالمية، والصهيونية العالمية، وإسرائيل، وكل مؤيد لها، أن السلام هو سلام الأحرار المتساوين، سلام المبادئ والأخلاق، سلام الحق والحقيقة.

وحتى ذلك الحين، يجب ألاّ يغيب عن بال العرب حقائق أساسية تشكل مبادىء ثابتة في الاستراتيجية الصهيونية الإسرائيلية، وهي: أولاً إن إسرائيل كانت دائماً تلجأ إلى شن حرب كلما لاح أن الاستعصاء الذي تواجهه قد أوشك على إحداث جو "انهياري". وتعتبر الحرب في تلك الحالة من باب كسب وقت، وتستير مستجد على وضع مسدود. ولقد ألمحنا إلى تطور هذا الاستعصاء، وإلى المستوى الخطر الذي وصله، والمستوى الأخطر الذي سيتخذه خلال الفترة الباقية من هذا القرن. ولنتذكر أن التمديدات "الطبيعية" لكل المؤشرات التي تقاس إسرائيل بها تشير إلى وضع محكم القتام بحلول سنة 2000. فإذا لم تظهر في القريب العاجل مؤشرات سلام حقيقي، ولا سيما بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني، فإن تصريح رابين يجب أن يُعتبر من باب التحضير لحرب مقبلة.

وثانياً، إن إسرائيل كانت دائماً تمهد لـ"الحرب" بالحديث عن "السلام". وثالثاً، إن الحرب "استباق" و"مفاجأة". وقد أضيف إلى هذا المبدأ – بعد حرب سنة 1973 التي حققت مصر وسوريا فيها عنصري الاستباق والمفاجأة – أضيف إليه مبدأ "التيقن التام" من أن العرب لن تتاح لهم فرصة أُخرى في هذا المجال.

 

[1]   هذا الاقتباس وكل إشارة لاحقة إلى حديث رابين لمجلة "دير شبيغل" مأخوذة من ترجمة "الدستور السياسي" الأردنية، 8/3/1994.

*  سورة آل عمران، الآية 140.

السيرة الشخصية: 

برهان الدجاني: الأمين العام للاتحاد العام لغرف التجارة والصناعة والزراعة للبلاد العربية.