نحو عقيدة فلسطينية للأمن القومي
كلمات مفتاحية: 
فلسطين
الأمن القومي
الأمن الفلسطيني
الأمن الإقليمي
الكفاح المسلح
المشاركة الشعبية
نبذة مختصرة: 

تنطلق الدراسة من أن الأمن الفلسطيني بقي لفترة طويلة أحد البنود الأقل ظهوراً في سجل القضايا المتعلقة بالتسوية السياسية. وهي تعالج الموضوع تحت عدد من العناوين الفرعية: الأمن الفلسطيني من زاوية عدم التماثل وانعدام الأمن؛ ثلاثة عناصر أساسية في الأمن الفلسطيني (الدفاع عن النفس، الدعم الخارجي، الربط الإقليمي)؛ الأمن الداخلي الفلسطيني؛ أمن الشتات.

النص الكامل: 

بقي الأمن الفلسطيني، لفترة طويلة، أحد البنود الأقل ظهوراً في سجل القضايا التي تتعلق بالتسوية في الشرق الأوسط. وكان الاعتراف الواسع النطاق باحتياجات إسرائيل الأمنية يتناقض، تناقضاً حاداً، مع تهميش المخاوف وأوجه القلق الفلسطينية المماثلة، ومن ثم الحد من شأنها مقارنة بذلك. وفي حين ترسّخ حق إسرائيل في حدود آمنة في اللغة الدبلوماسية الدولية، فإن التسليم بحق الفلسطينيين في الأمن كان ضئيلاً أو معدوماً. ويتبدى هذا الإغفال بصورة صارخة وبدرجة أكبر في ضوء رجحان كفة القوة لمصلحة إسرائيل المستمر منذ أمد طويل.

بغض النظر عن الأسباب السياسية والتاريخية الكامنة وراء العزوف الظاهر للعالم الخارجي عن معالجة أوجه القلق الأمني الفلسطيني والإسرائيلي على قدم المساواة، فإنه يقع على عاتق مجموعتي الصراع أن توفقا بين آرائهما المتباينة حول الأمن، باعتبار ذلك خطوة حيوية نحو تدعيم عجلة السلام الراهنة، وباعتباره شرطاً ضرورياً لنجاحها في نهاية المطاف. ويقتضي هذا الأمر اعتراف الطرفين كليهما بأن لكل منهما مخاوف مشروعة، وأنه ينبغي ألا يسعى أي منهما لتحقيق احتياجاته التي يتصورها عن الأمن على حساب الطرف الآخر. ينبغي، من ناحية، أن يقوم أي حل عادل لمشكلة الأمن الفلسطيني ـ الإسرائيلي على القبول المتبادل بعضهما بعض كشريكين متساويين، وبالتالي رفض أي فكرة عن الهيمنة أو الفرض. ومن ناحية أخرى هناك المشكلة العملية الصعبة المتعلقة بالتنفيذ، والحاجة إلى ترجمة فكرة التكافؤ إلى ترتيبات محددة متناغمة في الواقع في إطار قيود الوقت وحدود الواقع السياسي.(1) 

الأمن الفلسطيني: عدم التماثل وانعدام الأمن

ينزع المحللون الاستراتيجيون الإسرائيليون إلى تأسيس عرضهم لاحتياجات إسرائيل الأمنية على ما يتصورونه أوجه عدم التماثل الحادثة في التوازن الشامل بين إسرائيل وجيرانها العرب. ولكن من منظور فلسطيني صرف فإن أبرز شكل لعدم التماثل يكمن بين إسرائيل والفلسطينيين أنفسهم. ولا يعني هذا إغفال قلق إسرائيل الأمني الأوسع نطاقاً العائد لأسباب غير فلسطينية، وإنما مجرد إعلان ما هو واضح: ففي سياق علاقات إسرائيلية ـ فلسطينية ثنائية الجانب، كان ميزان القوى الشامل مائلاً لمصلحة إسرائيل منذ العام 1948 وما قبل ذلك، وسيظل كذلك، بصورة مؤكدة تقريباً، حتى مستقبل غير محدد.

ولّد عدم التماثل هذا إحساساً فلسطينياً عميقاً وعاماً بانعدام الأمن استناداّ إلى التجربة التاريخية والنظرة للمستقبل على حد سواء. ومن بين أطراف النزاع العربي ـ الإسرائيلي كافة، فإن الفلسطينيين كانوا، ولا يزالون، الأشد خسارة من الزاوية الوطنية والإقليمية والإنسانية والمادية. وفضلاً عن ذلك، فإن حتى احتمالات العلاج الجزئي للضرر (أي وطن "آمن" في أدنى حد) تظل أمراً بعيداً عن التعيين في ضوء الاختلال الهيكلي في توازن القوى، والعملية الجارية للتغيير السياسي والديموغرافي ـ السياسي فيما تبقى من الميراث الفلسطيني.

وهكذا، فإن ما هو موضع مراهنة في عملية السلام الحالية فيما يتعلق بالفلسطينيين، ليس مجرد توفير ظروف أمن "أفضل" للشعب الفلسطيني ككل، بل هو الأمر الأكثر حيوية، وهو إيجاد نظام جديد يوقف التهديد الذي يتعرض له وجودهم، والذي كان التجربة السائدة لهم لنحو قرن من الزمان، ويوفر لهم، في نهاية المطاف، الأمن مستقبلاً بأكثر المعاني أساسية: التحرر من الاعتداء أو التوسع أو العدوان الخارجي.

وحقيقة أنه يمكن النظر إلى هذه المفاهيم باعتبارها نسخة دقيقة مكررة بصورة غريبة عن الشواغل التي سبق أن شغل بها الإسرائيليون والصهيونيون، لا تنتقص شيئاً من أهميتها وتأثيرها في آفاق السلام، بل العكس هو الصحيح. وإذا كان يمكن تصوير إسرائيل كتجسيد لـِ "أمن" الشعب اليهودي، فعندئذ ينبغي، على وجه التأكيد، فهم الاندفاع الفلسطيني نحو إقامة دولة بطريقة مماثلة.

تتضمن أساسيات "الأمن"، فيما يتعلق بالفلسطينيين، تبديد مخاوف الماضي وتهديدات الحاضر، وتحييد عدم التماثل في علاقتهم بعدوهم الرئيسي، وإن كان بصورة جزئية. وسيتطلب هذا، في المحل الأول، إنهاء الاحتلال والاستيطان، وإنشاء كيان قومي على التراب الفلسطيني كواقع لا يمكن تغييره. وفضلاً عن ذلك، فإن الأمن القومي (أي أمن الشعب الفلسطيني كله)، نظراً لأن ثلثي الشعب الفلسطيني يعيش في الشتات، يقتضي توفير قدر من الأمن الشخصي للذين ربما يبقون خارج حدود السلطة الوطنية المباشرة.

ربما تبدو هذه الأهداف، للوهلة الأولى، طموحة بل حتى غير واقعية على حد سواء، في ضوء استمرار أوجه عدم اليقين التي تحكم عملية السلام الراهنة، والتعاطف المحدود جداً حتى الآن داخل إسرائيل مع التسوية ومع هذه الأسس. ومع ذلك، يمكن القول هنا إنه بدون إيلاء الاعتبار المناسب للشواغل الأمنية الفلسطينية، فإن تسوية مستقرة حقاً ستظل مسألة مراوغة، وسيظل كذلك أمن إسرائيل نفسها. بعبارة أخرى، فإن مبدأ التبادل ليس شرطاً سياسياً سيكولوجياً للسلام فقط، وإنما هو ضامن لاستمراره أيضاً. وفضلاً عن ذلك، فإن التنفيذ البرنامجي لنظام الأمن الفلسطيني الجديد سيكون بالضرورة أمراً مقيداً بعامل الوقت (أي إتمامه على مراحل) وبالدينامية الأوسع نطاقاً التي تؤثر في الأبعاد الإقليمية للنزاع، وكذلك بدور الأطراف الخارجية وأهدافها. ومن الواضح أيضاً، أن مدى كفاية التأثير المجمع لمثل هذه القيود لسد الفجوة بين الرؤيتين الفلسطينية والإسرائيلية للأمن، أمر سيتوقف على التفاصيل العملية التي يتصورها كل طرف، وسنناقش بعضها فيما يلي.

الأمن القومي الفلسطيني: ثلاثة عناصر أساسية

ليست هناك عقيدة شاملة للأمن القومي الفلسطيني، على حد علم الكاتب، تشبه تلك التي طورتها إسرائيل عبر العقود الماضية. وقد لا يكون هذا مدعاة للدهشة بصورة كلية في ضوء عدم وجود دولة فلسطينية أو كيان قومي له مبرره الأمني الخاص به. وقد أصبحت مفاهيم مثل "الكفاح الثوري المسلح" و "الحرب الشعبية الطويلة الأمد" التي هيمنت، من قبل، على الفكر السياسي الاستراتيجي الفلسطيني مفاهيم متقادمة إلى حد كبير في ظل الضغوط المزدوجة للفشل العملي وتغير الأحوال داخل كل من الشعب الفلسطيني والأمة العربية. وفي حين أن "الكفاح المسلح" لم يتم التخلي عنه رسمياً باعتباره منحى من مناحي سياسة منظمة التحرير الفلسطينية، فقد تقلص دوره وهدفه بصورة مطردة إلى مزيج من العمليات ذات الطابع الرمزي والأهداف التكتيكية. والواقع أن الإدراك التدريجي لحقيقة أن اللجوء إلى القوة ليس مثمراً ولا كفؤاً على حد سواء، كخيار استراتيجي تجاه إسرائيل، كان من أهم التغييرات في النظرة الفلسطينية. ومن ثم، وإلى حد كبير، لم تعد العسكرة (ومن ثم التعبئة الشاملة من أجل الحرب والعمليات العسكرية) هدفاً استراتيجياً أساسياً للفلسطينيين.

ومع تقلص الطموحات السياسية الفلسطينية إلى مجرد إنشاء سلطة وطنية على جزء من التراب الفلسطيني في إطار شامل للسلام والتعايش مع إسرائيل، أصبحت الحاجة إلى تطوير عقيدة متماسكة للأمن القومي أكثر إلحاحاً وأهمية لسببين: أولاً، كملحق حيوي لعملية الحوار غير الرسمي والمفاوضات الرسمية مع الطرف الآخر. وثانياً، كجزء لا يتجزأ من عملية توضيح وصقل أهداف الفلسطينيين وغاياتهم الخاصة. وآمل أن يكون ما أقدمه فيما يلي إسهاماً متواضعاً في كلا العمليتين.

يمكن تحديد ثلاثة عناصر أساسية لأي عقيدة فلسطينية للأمن القومي: الدفاع عن النفس، والدعم الخارجي، والربط الإقليمي. وسنبحث كل عنصر من هذه العناصر بتفصيل أكبر، آخذين في الاعتبار الإطار الزمني ذا الصلة (أي ترتيبات المرحلة الموقتة، وترتيبات المرحلة النهائية) وكذلك إمكان تناسقها مع الشواغل الأمنية لإسرائيل. 

أولاً: الدفاع عن النفس

ينبغي أن يكون حق الدفاع عن النفس هو العنصر الأول في الأمن القومي الفلسطيني. وبافتراض أن أي كيان فلسطيني لن يكون لديه حافز لاستخدام القوة على نحو هجومي (ولن يكون قادراً على الحصول على الوسائل اللازمة للقيام بذلك في أي سيناريو واقعي للتسوية)، فإنه سيحتاج، على الرغم من ذلك، إلى الوسائل الكفيلة بالدفاع عن النفس ضد العدوان الخارجي و/أو التخريب الداخلي. ويترتب على ذلك أن نزع السلاح الكامل ليس خياراً مقبولاً من وجهة النظر الفلسطينية.

وتنبع الحاجة للدفاع عن النفس من عدة حتميات: أولاً، حق الكيان الفلسطيني في ضمان بقائه، حيث ليس ثمة أي سلطة وطنية تستطيع أن تعتمد كلية، أو بصورة خالصة، على حسن نية جيرانها، أو النوايا غير العنيفة للعناصر الداخلية المعادية. ثانياً، أن الحق في الاحتفاظ ببعض عناصر قوة الدفاع سمة من سمات السيطرة والسلطة، ولم ينكر هذا الحق حتى على ألمانيا واليابان اللتين كانتا خاضعتين كلية للحفاء بعد الحرب العالمية الثانية، وبالقياس فهو حق لا يمكن إنكاره على كيان فلسطيني. ثالثاً، إن الانكشاف والضعف هما خير وصفة لعدم الاستقرار، وهما تهديد محتمل لقدرة أي اتفاقية سلام على البقاء في الأجل الطويل.

ومع ذلك، فإن الدفاع عن النفس لا يتطلب الحصول على أكثر من الحد الأدنى الضروري لزيادة تكاليف العدوان الخارجي و/ أو منع استيلاء عناصر مسلحة معادية على السلطة. ومن ثم، يمكن ترجمة الدفاع عن النفس إلى "الحد الأدنى من قدرة الردع"، مما يمكن أن يخضع للتفاوض على الحد الأعلى للعدد الإجمالي لأفراد القوات المسلحة، ولحظر متفق عليه على حصول السلطات الفلسطينية على نظم أسلحة معينة "مزعزعة للاستقرار". وفضلاً عن ذلك، يمكن إقامة كل من المناطق المنزوعة السلاح والمناطق المحدودة السلاح في مناطق مجاورة للحدود الإسرائيلية ـ الفلسطينية على أساس متبادل، وإن لم يكن متماثلاً بالضرورة، وبذلك تقل، إلى حد بعيد، إمكانات الانتشار المفاجىء أو الأمامي للقوات الفلسطينية أو معداتها، مما يثير المخاوف الأمنية الإسرائيلية.

إن مطلب الدفاع عن النفس يمكن النظر إليه في سياق بناء قوات وقدرات فلسطينية على مراحل وبالتدريج، بالارتباط مع اتفاقيتي المرحلة الانتقالية والمرحلة النهائية، ومع تحديد أهداف متفق عليها ربما تتجاوز الإطار الزمني الذي تفرضه العملية السياسية وحدها. وفي غياب الاتفاق على هذه الصيغة في مفاوضات واشنطن حتى الآن، لا يمكن أن نتوقع على نحو معقول، في ضوء "قوة الشرطة المحلية القوية" المنصوص عليها في اتفاقيات كامب ديفيد، أن يرضى الفلسطينيون بأي شيء أقل من ذلك كنقطة بداية أولية. ومع ذلك فإن من غير المرجح أن يرضى الفلسطينيون بهذه القوة فحسب، باعتبارها الضمان النهائي لأمنهم القومي بمجرد الوصول إلى تسوية شاملة. ويمكن التغلب على ما يتبقى من قلق لدى الإسرائيليين بشأن إنشاء قوة دفاع فلسطينية بمزيد من الآليات التنظيمية كجزء من نظام متفق عليه للأمن فيما بعد التسوية. ويمكن أن تتضمن هذه الآليات أحكاماً حول تدابير التحقق والمراقبة الثنائية، وإنشاء لجنة عسكرية مشتركة دائمة، وتعهدات ملزمة على نحو متبادل حول عدم الاعتداء على الحدود و / أو عدم انتهاكها.

ومن المرجح أن تكون المعارضة الإسرائيلية لأي درجة من "العسكرة" الفلسطينية قوية بغض النظر عن الضمانات التي سبق اقتراحها. وعلى الرغم من ذلك فإن إصرار إسرائيل على أن تنكر على الفلسطينيين الحق في الحد الأدنى من قوة الدفاع عن النفس لا يمكن أن يصمد على مر الزمن بصورة تحظى بالصدقية، خاصة أن ليس هناك أي طرف آخر في النزاع يحتمل أن يتنازل عن هذا الحق، أو أن يذعن لمطالب من الخارج بنزع سلاح من جانب واحد. إن قوة دفاع فلسطينية محددة ومحدودة لن تزيد كثيراً في التهديد المتصور لإسرائيل، وستفيد كثيراً في دعم الاستقرار بعد التسوية، خاصة أن السلام الشامل حقاً (أي مع الأطراف العربية الأخرى) سيقطع شوطاً كبيراً في تهدئة القلق الأمني الأساسي لإسرائيل.

ثانياً: الدعم الخارجي

فضلاً عن مطلب الدفاع عن النفس، فإن عقيدتنا المقترحة للأمن القومي الفلسطيني تتضمن فكرة "الدعم الخارجي".  ولهذا الدعم مكونان منفصلان: أولاً، تعزيز الأمن الفلسطيني عن طريق وجود عسكري خارجي (طرف ثالث)؛ وثانياً، ضمانات خارجية (من طرف ثالث) لنظام ما بعد التسوية.

(أ) وجود عسكري خارجي: في ظل أية ظروف منظورة، فإن قوة الدفاع الفلسطينية وحدها لن تعوض عدم التماثل الشامل في القوة مع إسرائيل. ولذلك، فإن وجوداً عسكرياً خارجياً متفقاً عليه يمكن أن يهدىء القلق الأمني الفلسطيني مع تلبية احتياجات إسرائيل، في الوقت نفسه.

وتتركز الحجة الأمنية الإسرائيلية الأساسية المتعلقة بالانسحاب من الأراضي المحتلة على الخطر الذي سينجم فيما لو شن "ائتلاف حرب" عربي يضم الأردن وسوريا وقوة عراقية (وربما فرق من أطراف عربية أخرى مثل السعودية) هجوماً بعد إنذار قصير أو مفاجىء في اتجاه الغرب عبر الضفة الغربية بهدف شق إسرائيل عند وسطها المركزي الضيق.

أكد بعض المحللين الإسرائيليين أن هذا الخطر المحتمل لا يمكن مواجهته ببساطة بمجرد الاعتماد على الظروف المسكنة التي تخلقها تسوية سلمية شاملة، حيث أن "أي إضعاف للقدرة الدفاعية الإسرائيلية قد تجعل هجوماً عسكرياً [عربياً] أمراً أقل خطراً [على العرب] ومن ثم أكثر إغراء، ومن ثم أكثر احتمالاً.(2)    ونشأ عن هذا توافق عام في الرأي يحبذ الاحتفاظ بوجود إسرائيلي دائم أو طويل الأجل على امتداد وادي الأردن، حتى بين من يدعون إلى الانسحاب أو تقديم تنازلات إقليمية في الضفة الغربية. ويقولون إن هذا الوجود سيقوم بوظيفة حيوية للإنذار المبكر والإبلاغ السريع، بما يكفي لإتاحة الوقت اللازم للتعبئة الإسرائيلية الكاملة، نظراً إلى أن ائتلاف الحرب المزعوم يمكن أن ينشأ بصورة سريعة تماماً استناداً إلى القوات النظامية العربية الدائمة التي تفوق، من حيث العدد، جيش إسرائيل النظامي الصغير نسبياً.(3)  

ولكن بغض النظر عن مدى معقولية سيناريو الحالة الأسوأ لقيام ائتلاف حرب عربي (وسنذكر مزيداً عنه فيما بعد)، فإن الأمر لا يقتضي تفويض وظيفة الإنذار المبكر والإبلاغ السريع هذه إلى القوات الإسرائيلية. ويمكن من ناحية المبدأ أن يُعهد بها إلى قوة دولية أو متعددة الجنسيات، أي إلى طرف ثالث. وتتناقص مشروعية اعتراضات إسرائيل القديمة العهد على أي إشراف لطرف ثالث على أمنها في ضوء تجربة القوات متعددة الجنسيات المتمركزة في سيناء، وإرسال بطاريات صواريخ باتريوت مع طواقمها للدفاع عن الأجواء الإسرائيلية خلال الحرب مع العراق. وفضلاً عن ذلك فإن صدقية مقاومة إسرائيل التقليدية لدور الأمم المتحدة في حفظ السلام أو تنفيذ القرارات، تتناقص نتيجة للتغيرات العميقة في هيكل الأمم المتحدة وقيمتها المتصورة الجديدة كأداة للسياسة الدولية من قبل أشد أنصار إسرائيل حماسة بما فيهم الولايات المتحدة.

من الواضح، من وجهة نظر فلسطينية، أن نشر قوة للأمم المتحدة أو قوة متعددة الجنسيات في المناطق الحساسة مثل وادي الأردن، ليس فقط أمراً أفضل من الاحتفاظ بقوة إسرائيلية في مثل هذه المواقع فقط، بل لأن توسيع نطاق "الدعم الخارجي" المماثل للأمن الفلسطيني إلى مناطق أخرى على امتداد الحدود الإسرائيلية ـ الفلسطينية ستكون له قيمة كبيرة في تحقيق الاستقرار للتسوية السلمية أيضاً. وفي حين أن ذلك سيحد من خيارات إسرائيلية معينة، مثل محاولة إعادة احتلال الضفة الغربية و/ أو قطاع غزة، فإنه سيشكل عائقاً سياسياً عسكرياً مهمّاً في وجه أي عمل مغامر عسكري من جانب العرب أو محاولة لاستخدام الأراضي الفلسطينية كنقطة وثوب على إسرائيل. والواقع أن وجوداً عسكرياً دولياً على امتداد وادي الأردن والحدود الإسرائيلية ـ الفلسطينية الأخرى سيساعد في تحييد الأهمية العسكرية للأراضي الفلسطينية بالنسبة إلى جميع الأطراف. ولا يمكن أن يضر هذا بإسرائيل إلا إذا كانت النوايا الإسرائيلية تجاه الكيان الوطني الفلسطيني عدائية بصورة جوهرية.

ومن الواضح أن الاتفاق على تكوين هذا "الدعم الخارجي" شرط مسبق لنشره. وكما هو الحال لقوة الدفاع الفلسطينية، فإن وجوداً عسكرياً خارجياً يمكن تنظيمه على مراحل مع إعادة نشر القوات الإسرائيلية وسحبها في نهاية المطاف من الأراضي الفلسطينية المحتلة. ويمكن أن تتمثل الخطوة الأدنى المفيدة في خلق الاندفاعة المطلوبة من أجل قوة دولية ذات ولاية أوسع، في نشر مراقبين غير مسلحين، دوليين أو تابعين للأمم المتحدة، للإشراف على الانتخابات التي ستجري لاختيار مجلس الحكم الذاتي الفلسطيني الموقت و/ أو إعادة نشر القوات الإسرائيلية خلال الفترة الانتقالية. ويمكن أن يبقى المراقبون الإسرائيليون ملحقين بأية قوة دولية، ويمكن الإبقاء على المطلب الإسرائيلي الذي يُذكر كثيراً الخاص بفرص الحصول على محطات للإنذار المبكر على امتداد العمود الفقري للضفة الغربية إذا ما وضعت مثل هذه المحطات تحت إشراف دولي. وخلاصة القول إن الأمر لا يقتضي نشر أية قوات إسرائيلية مستقلة على التراب الفلسطيني بعد تنفيذ المراحل النهائية من نظام الأمن الإسرائيلي ـ الفلسطيني.

(ب) الضمانات الخارجية: إن مجرد وجود قوة دولية سيدل، في حد ذاته، على وجود التزام خارجي قوي تجاه نظام الأمن الإسرائيلي ـ الفلسطيني الجديد والتسوية السياسية التي نجم عنها. لكن آفاق الاستقرار طويل الأجل ما بعد التسوية ستتعزز كثيراً إذا رافقت هذه القوة ضمانات خارجية صارمة من الأطراف الدولية المعنية. ويمكن التغلب على هواجس إسرائيل المفترضة بشأن مدى استمرارية مثل هذه الوسائل لـِ "الدعم الخارجي" بنظام متعدد المستويات من الاتفاقيات والمعاهدات بين المكوِّنَين الإسرائيلي والفلسطيني والأطراف الخارجية ذات الصلة بصورة مستقلة، وكذلك بالتعهدات والضمانات التي تصدر للجميع.

وهكذا، لن يُسمح بأية أعمال من جانب واحد لزعزعة النظام الجديد أو تغيير الوضع القائم بعد التسوية (كما جرى لقوات الأمم المتحدة في سيناء قبل العام 1967). ولن يجد الفلسطينيون صعوبة في قبول أية تعهدات ثنائية تلتمسها إسرائيل من الولايات المتحدة مثلاً على هذا الأساس (أو العكس). والواقع أن دوراً بارزاً للولايات المتحدة من كل جوانب "الدعم الخارجي" الخاص بالنظام الجديد يبدو شرطاً ضرورياً لتهدئة المخاوف الأمنية لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين. وبالمثل، فإن موافقة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (في ضوء أرجحية التوسع في دوره الدولي وصدقيته) على كل الأحكام الأمنية والسياسية للتسوية ستضيف ثقلاً زائداً إلى الهيكل الشامل المطروح فيما سبق.

تعتبر الضمانات الخارجية، في الغالب الأعم، نقطة التتويج للتسوية بمجرد تغلب الأطراف المحلية على خلافاتها بأنفسها. ومع ذلك، فإن مثل هذه الضمانات يمكن أن تكون مفيدة في تيسير التحرك نحو التسوية، ويمكن التماسها على أساس موقت مع تقدم العملية. وإذا ما تشكلت القوات الدولية على مراحل حسب انسحاب القوات الإسرائيلية، فإن هذا قد يقتضي بعض الضمانات الموقتة التي يتم تدعيمها فور الوصول إلى اتفاق نهائي. وبالمثل، فإن بيانات إعلانية تصدرها الولايات المتحدة والدول المشتركة في الإشراف و/أو الأمم المتحدة فيما يتعلق بعدم مشروعية استخدام الأطراف المحليين القوة خلال المرحلة الموقتة، قد تكون إجراء مفيداً لبناء الثقة، وسابقة لضمانات أوسع تتوج التسوية الشاملة.

إن "الدعم الخارجي" من وجهة نظر إسرائيلية، قد يبدو كأنه يعني ضمناً فرض قيود شديدة على حرية إسرائيل في العمل. ومن المرجح أن تظل حجج مثل "عدم جدوى" مثل هذا الدور الخارجي هي الرد الإسرائيلي المعتاد. لكن فيما يتعلق بالفلسطينيين، فإن هدف "الدعم الخارجي" يتمثل في إنشاء آلية محكمة تستبعد نزعة المراجعة الإسرائيلية من جانب، ومع ذلك فإنها لا تتحدى، من ناحية المبدأ، الأمن الأساسي لإسرائيل من جانب آخر.

إن "الدعم الخارجي" يلعب، فضلاً عن ذلك، دوراً تصحيحياً حيوياً لعدم التوازن الإسرائيلي - الفلسطيني، وهو بهذا يشكل مطلباً أساسياً للأمن القومي الفلسطيني.

ثالثاً: الربط الإقليمي

تظل إمكانات الوصول إلى أية اتفاقية أمنية إسرائيلية ـ فلسطينية ضعيفة إذا فُصلت عن القضية الأوسع للأمن الإقليمي. ولا يقتصر الأمر على أن التسوية الفلسطينية ـ الإسرائيلية المنفصلة (بما في ذلك انسحاب إسرائيل) غير محتملة في ظل عدم تحقيق تقدم نحو السلام العربي ـ الإسرائيلي الشامل، بل إن الشروط المسبقة الأخرى للأمن الفلسطيني مثل الدعم الخارجي الكفء ربما لا يمكن تحقيقها، أو تضعف بصورة جوهرية إن لم تتخذ أية خطوات حقيقية لحل المشكلات الأمنية لإسرائيل مع جيرانها العرب.

ومن منظور عقيدة الأمن القومي الفلسطيني، يمكن إبداء عدد من الملاحظات ذات الصلة:

(أ) إذا كانت تحفظات إسرائيل من الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة موجهة، في المقام الأول، إلى خطر قيام "ائتلاف حرب" عربي مزعوم، ولا تنصب على تهديد تطرحه الدولة الفلسطينية بذاتها، فعندئذ يصبح من الواضح أن أي شيء يبدد هذا التصور الإسرائيلي عن التهديد هو في مصلحة الفلسطينيين.

(ب) يترتب على ذلك أن الأمن القومي الفلسطيني يتوقف إلى حد كبير على قيام نظام أمني جديد يكون للفلسطينيين أنفسهم تأثير ضئيل فيه (مثل اتفاق إسرائيلي - سوري على الجولان). ومع ذلك سيكونون أوائل الرابحين أو الخاسرين بحسب الأحوال.

(ج) يرتبط الأمن القومي الفلسطيني، استطراداً، ارتباطاً وثيقاً بالأمن الإقليمي، ليس بسبب صعوبة الفصل السياسي بين البعدين الفلسطيني والعربي فقط، وإنما لأن الطموحات الفلسطينية لا يمكن تحقيقها حقاً بغير هذا، على الرغم مما قد يبدو لكثيرين من الفلسطينيين ضمانات كافية لإسرائيل فيما اقترحناه بموجب العنصرين الأولين لعقيدتنا المقترحة للأمن القومي وحدها.

(د) إن الربط الإقليمي حتمي للأمن القومي الفلسطيني. وكلما زاد نطاق نظام الأمن الإقليمي وأحكامه قلَّ احتمال إرهاق المطالب الإسرائيلية للأرض الفلسطينية، والعكس بالعكس. ولكن من المهم بالقدر نفسه أنه كلما اتسع نطاق نظام الأمن الإقليمي وزاد استقراره زادت فرص ترسيخ السلطة الوطنية الفلسطينية باعتبارها حقيقة لا يمكن الرجوع عنها. وهكذا يصبح الأمن الإقليمي (الربط الإقليمي) عنصراً ثالثاً جوهرياً في توفير الأمن الشامل للشعب الفلسطيني على التراب الفلسطيني وفي الشتات.

ومع ذلك، فلا شيء من هذا يعني ضمناً أن سيناريو، "ائتلاف الحرب" سليم بالضرورة. لأن هذا السيناريو يقوم على افتراضات تبدو مشكوكاً فيها في أحسن الأحوال: أولاً، الافتراض بأن انسحاباً إسرائيلياً سيتم خارج سياق تسوية شاملة، أو في سياق اتفاق فلسطيني ـ إسرائيلي منفصل لا توافق عليه الأطراف العربية الرئيسية الأخرى. إذ ليس من المرجح أن يتحقق أي من الاحتمالين في ضوء عدم اهتمام إسرائيل بمثل هذا الترتيب. وبهذا المقياس، فإن الحجة الإسرائيلية مرتبكة ومربكة: فهي تبدأ بالقول "إننا لا نستطيع أن ننسحب بسبب احتمال قيام (ائتلاف حرب عربي)"، ثم تفترض خطر قيام ائتلاف عربي بعد التسوية كذريعة ضد الانسحاب. وهنا يبدو كأن تحقيق السلام بين هذين المفصلين هو أمر ثانوي لا لزوم له، وهكذا يغدو خطر قيام ائتلاف حرب عربي عنصراً ثابتاً دائماً. لكن من الواضح أن منطق الحرب أو موقف اللاحرب/ واللاسلم يختلف جذرياً عن منطق التسوية الشاملة التي تفترض سلفاً حل القضية التي أدت إلى النزاع في المحل الأول. ومع ذلك، فحتى مع افتراض أن الحافز العربي للحرب لن يتأثر بالحل العادل لأسباب النزاع، ولن يرتدع بالثمن الذي سيتكبده العرب جراء أي "عدوان" كامل في ظل البيئة العالمية الجديدة، ولن يتأثر بعدم وجود حليف استراتيجي خارجي كبير (مثل الاتحاد السوفياتي)، ولن تكبحه الآلية المعقدة لحفظ السلام المرجح أن تكون سارية المفعول، ولن يلقى مصير العراق في حرب الخليج، ولن يتأثر بالقدرات الإجهاضية والعقابية لإسرائيل، فكيف سيتجسد خطر ائتلاف حربي عربي؟ هل سيكون: (1) أمراً معقولاً في ضوء تاريخ علاقات الشقاق بين أطرافه المفترضين، (2) أمراً عملياً من الناحية التطبيقية من زاوية القيادة والسيطرة والإمداد والتموين... الخ (3) أمراً قابلاً للتنفيذ كمشروع استراتيجي تكتيكي يتحقق له عنصر المفاجأة  المطلوب، (4) أمراً يمكن مواجهته فقط عن طريق احتفاظ إسرائيل بالضفة الغربية؟ ولكي يكون "ائتلاف الحرب" تهديداً جدياً فإن الإجابة عما سبق ينبغي أن تكون بالإيجاب! وفضلاً عن ذلك، فإن على المرء أن يفترض فشلاً كاملاً لإسرائيل في اكتشاف أية تغييرات طويلة الأجل من شأنها أن تؤدي إلى ظهور مثل هذا الائتلاف غير المسبوق.

مهما يكن الأمر، إن "الحالة الأسوأ" هي فعلاً الحالة الأسوأ، وستبقى كذلك بحكم تعريفها، عل الرغم من كل الحجج عن السوابق التاريخية والمنطق السياسي والمبرر الاستراتيجي. ومن هنا تنبع الحاجة إلى نظام أمني إقليمي يجابه هذه "الحالة الأسوأ" إلى جانب "الحالات الأسوأ" الأخرى التي تشغل أطراف النزاع العرب. وتتضمن هذه الحالات الأسوأ محاولات إسرائيل مستقبلاً تحدي أحكام التسوية أو إلغائها من خلال عمل عسكري مباشر أو إكراه. ويمثل هذا، بوضوح، تهديداً حقيقياً من وجهة النظر الفلسطينية، لكن أطرافاً عربية أخرى قد تشعر بالمثل بأن ظهور إسرائيل ساعية للتوسع والهيمنة من جديد أمر يتهددها. ومن أمثلة هذه "الحالات الأسوأ"، وصول حكومة راديكالية يمينية في إسرائيل إلى السلطة تحركها دوافع أيديولوجية (ربما يدعمها المستوطنون الساخطون أو الذين تم إجلاؤهم) وتنزع للمطالبة بـِ "يهودا والسامرة" وللقضاء على أي كيان قومي فلسطيني. وبالمثل، وتحت ستار الإجهاض أو الدفاع عن النفس، فإن إسرائيل المفرطة في الثقة بنفسها (سواء كانت راديكالية أم لا) ربما تسعى، في مرحلة ما في المستقبل، لإعادة رسم الخريطة السياسية الاستراتيجية الإقليمية من خلال نزعة المغامرة العسكرية أو حتى الخطأ في الحساب. ويؤكد مثالا سيناء في سنة 1956 ولبنان في سنة 1982 للعرب أن مثل هذه الأعمال ليست خارج نطاق الممكن على الأقل.

ليس الهدف هنا هو إبراز مبرر إيمان العرب بصيغ سيناريو "الحالة الأسوأ"، بل التشديد على الحاجة إلى التبادلية. ذلك لأن الحالات الأسوأ تنطبق على الجانبين وينبغي بالتالي علاجها في نظام الأمن الإقليمي الجديد.

ويخرج عن نطاق هذا البحث رسم مخطط كامل لنظام أمني إقليمي جديد. ومع ذلك، يمكن تقديم بعض المبادىء الأساسية:

(أ) إن الشرط المسبق لقيام نظام أمن إقليمي هو تحقيق تقدم في حل الجوانب السياسية للنزاع. والمحاولات المبذولة لفصل الأمر الأول عن سياق الأمر الثاني ستلقى مقاومة قوية من الجانب العربي في ضوء قلقه من أن "الحد من السلاح" لن يغدو في مصلحته إذا ظل الوضع السياسي الإقليمي القائم حالياً من دون تغيير. ويظل الشرط الضروري لتحقيق تقدم حول الأمن وكل القضايا الثنائية والمتعددة الأطراف الأخرى هو التزام إسرائيل المبدئي بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية والعربية الأخرى التي احتلت في سنة 1967. وإذا أصبح مثل هذا الالتزام وشيكاً، فإن تطوراً متدرجاً باتجاه الأمن الإقليمي قد يصبح إمكانية حقيقية.

(ب) ينبغي أن يتضمن أي نظام للأمن الإقليمي، في جملة أمور أُخرى، حدوداً لعمليات توريد الأسلحة الخارجية وإنتاجها المحلي، وقيوداً على تدفق التكنولوجيا العسكرية والمزدوجة الاستخدام؛ واتفاقيات حول عدم استخدام أنظمة جديدة تزعزع الاستقرار؛ وإدخال تغييرات في العقائد، وبصفة خاصة عقيدة إسرائيل الهجومية والتحرك نحو مبدأ الاكتفاء الذاتي والردع؛ وإعادة نشر وهيكلة القوات المسلحة، وإنشاء مناطق منزوعة السلاح ومناطق محدودة السلاح... الخ. وليس من المرجح أن يقبل الجانب العربي أياً من هذه التدابير من جانب واحد. وينبغي أن يكون الهدف الأخير لنظام الأمن الإقليمي الجديد هو رفض منح حق البدء باستخدام القوة (الهجوم) لأي طرف بعد الوصول إلى التسوية السياسية النهائية. ولا بد أن يبدد هذا الأمر سيناريو الحالة الأسوأ بالنسبة إلى الطرفين، خاصة إذا اقترن بعنصر قوي من "الدعم الخارجي". وفي حين أنه لا يمكن توقع احتفاظ الجانب الإسرائيلي بحرية الاختيار فيما يتعلق باستخدام القوة، مع إنكار ذلك على الجانب العربي في الوقت نفسه، فإن أحكاماً معينة مثل احتفاظ إسرائيل موقتاً برادع نووي ربما تكون ممكنة. ومع ذلك، فإن استقرار النظام السياسي الاستراتيجي الجديد سيتطلب، في نهاية المطاف، إنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية وكل الأسلحة غير التقليدية في الشرق الأوسط.

(ج) سيتطلب الأمر تدابير مراقبة وتحقق موسعة واقتحامية للحفاظ على تكامل نظام الأمن الجديد. ومعظم هذه التدابير معروف، ولا يقتضي الأمر إعادة تكرارها (التفتيش الموقعي، والدخول بعد إخطار قصير الأجل، والخطوط الساخنة العسكرية، والتعاون بشأن الوسائل التقنية للتثبت، الخ). وسيقتضي الأمر أن يذعن الطرفان لعملية تدقيق غير مسبوقة في قدراتهما العسكرية مما قد يثير معارضة داخلية كبيرة. ويتطلب في كل الأحوال إجراء تغييرات بعيدة المدى في النظرة السياسية والمفاهيم عن العدو. ومع ذلك، يمكن تطبيق بعض التدابير بالتدريج وبالترادف مع التقدم الشامل نحو التسوية السلمية. ومع ذلك، فإن مبدأ التبادلية سيظل أساسياً في هذا المجال مثلما هو في كل المجالات الأخرى.

ومن منظور الأمن القومي الفلسطيني، فإن قيام مثل هذا النظام للأمن سيكون كافياً للقضاء، بصورة جوهرية، على حجة إسرائيل الإقليمية فيما يتعلق بالأمن كما يطبق على الأراضي الفلسطينية المحتلة. وفي ضوء مثل هذا الهيكل المعقد، و "الدعم الخارجي" المطلوب للحفاظ عليه، ينبغي أن يكون انسحاب إسرائيل العسكري من التراب الفلسطيني والعربي نهائياً وكاملاً في نهاية المطاف. وتتوقف قضية هل أن مثل هذا النظام أمر يمكن بلوغه إلى حد كبير على إسرائيل نفسها، وهل هي مستعدة للتسليم بأن السلام يعني هذا على وجه الدقة، أي لا مزيد من الحروب؟ والمسألة الأساسية هنا هي حسن نيّة إسرائيل واستعدادها للتغلب على تعلقها المرضي بالأرض (أي مبادلة السلام بالأرض)، وكذلك استعداد العرب لإنهاء النزاع بشكل دائم، على الرغم من أنه ينبغي القول إن هناك دلائل أكثر وضوحاً على الأمر الأخير مقارنة بالأول. وأخيراً، فإن ما يميز عقيدتنا المقترحة للأمن القومي الفلسطيني عن نظيرتها الإسرائيلية هو أنها تقوم على التعهد بتسوية نهائية تجعل الحرب غير ضرورية وغير قابلة للتنفيذ على حد سواء باعتبارها أداة للسياسة. 

قضايا أخرى معلقة

أخيراً هناك قضيتان أخريان تتعلقان بالأمن الثنائي الإسرائيلي ـ الفلسطيني، ربما كانتا جديرتين بالعلاج بإيجاز:

أولاً: الأمن الداخلي الفلسطيني

من المرجح أن تصر إسرائيل على الاحتفاظ بدائرة عريضة من السلطات لمجابهة النشاط "الإرهابي"، خاصة في المرحلة الانتقالية وربما في مرحلة ما بعد التسوية. وينبع هذا بدرجة أكبر من أسباب سيكولوجية ـ سياسية ترى أن أي تهديد حقيقي محتمل لأمن إسرائيل الأساسي سيكون نتيجة لنشاط "إرهابي" فلسطيني.(4)   ومع ذلك، فإن السلطات الاقتحامية من جانب واحد، مثل حق "الملاحقة الساخنة" أو الاحتفاظ بشبكة مخابرات واسعة على التراب الفلسطيني، من المرجح أن تلقى مقاومة قوية من الفلسطينيين. ومن وجهة نظر فلسطينية، فإن قضية الأمن الداخلي يجب أن تكون في المحل الأول مسؤولية السلطة الفلسطينية نفسها سواء في المرحلة الانتقالية أو النهائية. والسبب في هذا بسيط جداً، وهو أن السماح لإسرائيل بأن تكون مطلقة اليد عملياً في تحديد طبيعة المعارضة الداخلية ونوعيتها والتعامل معها هو وصفة مؤكدة لمنح هذه المعارضة ـ إن قامت ـ المشروعية الشعبية التي تحتاجها لكي تصبح تهديداً خطيراً للأمن والاستقرار. بعبارة أخرى، إن مثل هذا المطلب الإسرائيلي من الأرجح أن يخلق ويديم ما يسعى للحيلولة دونه على وجه التحديد (بافتراض أن هذا المطلب مقدم بحسن نية). ومن ثم، فإن الحل الأكثر نجاعة لمشكلة الأمن الداخلي المحتملة، يتمثل في منح السلطات الفلسطينية صلاحيات أكبر وليس أقل، والتقليل إلى أدنى حدّ من جوانب التدخل الإسرائيلي وليس العكس. وفضلاً عن ذلك فإن قبول إسرائيل شكل ما من الإشراف الدولي على المرحلة الانتقالية ينبغي أن يكون شكلاً مكملاً للضمانات ضد "الإرهاب" وشكلاً أكثر قبولاً لدى الفلسطينيين من الناحية السياسية، على الرغم من أن هذا قد لا يخلو من المشكلات. وفي المدى الأطول، فإن نظاماً أمنياً إسرائيلياً ـ فلسطينياً يتضمن لجاناً مشتركة ونشر قوة دولية، لا بد أن يقلل احتمالات التسلل عبر الحدود، وهي مشكلة تهم الجانبين على قدم المساواة في ضوء القلق الفلسطيني من "الإرهاب اليهودي" بعد التسوية.

كما يمس الأمن الداخلي قضية حيوية هي قضية المستوطنات الإسرائيلية والمستوطنين الإسرائيليين. ومن منظور الأمن القومي الفلسطيني، فإن الاحتفاظ بمجموعة من المستوطنين المسلحين، النظاميين وشبه النظاميين، في جيوب شبه مستقلة عميقاً في الأراضي الفلسطينية، أمر مرفوض بجلاء. وذلك لأن مثل هذا الوجود لن يتحدى أسس الأمن القومي الفلسطيني نفسها فحسب، بل سيكون كفيلاً بإحداث احتكاك وانعدام استقرار مستمرين داخل حدود السلطة الوطنية الفلسطينية. وإلى حد كبير، فإن قضية المستوطنات والمستوطنين هي قضية سياسية، وينبغي أن يحسمها قرار إسرائيلي بالانسحاب. ومن المرجح أن يؤدي هذا، في حد ذاته، إلى تغيير طبيعة هذه المشكلة وأبعادها، وبالتالي تقليل آثارها الأمنية.

ثانياً: أمن الشتات

ينبغي لعقيدة شاملة للأمن القومي الفلسطيني أن تعالج أمن الفلسطينيين في الشتات. ويجب أن يشكل توسيع نطاق امتيازات الدولة كلها (جواز سفر، حماية دبلوماسية، الخ) لتشمل في النهاية فلسطينيي الشتات كخطوة أولى كبيرة في تطبيع وجودهم وتوفير الحد الأدنى من الاستقرار في حياتهم اليومية. وبالمثل، فإن حق الفلسطينيين في العودة إلى المناطق الواقعة تحت سيطرة السلطة الوطنية سيوفر الأمن في الشتات بمعناه الأساسي بإتاحته ملاذاً محتملاً في حالة الضرورة القصوى. وفي ضوء الأذى الذي تواجهه المجتمعات الفلسطينية في لبنان والكويت وأماكن أُخرى، فإن "حق العودة" أو التعويض للاجئين ما قبل 1948 ذو أهمية أمنية كبيرة، حيث أنه خاضعاً لقيود الاستيعاب الاقتصادية وغير الاقتصادية الأخرى. وبالإضافة إلى ذلك، فإن "حق العودة" أو التعويض للاجئين ما قبل 1948 ذو أهمية أمنية كبيرة حيث أن استمرار مأزقهم ربما يؤدي إلى اغترابهم عن عملية السلام. وإلى جانب الأطراف الأخرى، فإن هذه العناصر من الشعب الفلسطيني ينبغي أن تكون لهم مصلحة واضحة في حل النزاع لأسباب كثيرة ليس أقلّها أنهم كانوا ضحاياه الأوائل.

 

* عُرضت هذه الورقة في ندوة دولية شارك فيها خبراء من بلدان مختلفة، ونظمتها في روما، في كانون الثاني/ يناير 1992 الجهات التالية: جمعية الدراسات العربية (القدس)؛ معهد هاري س. ترومان لأبحاث السلام (الجامعة العبرية في القدس)؛ المعهد الإيطالي للشؤون الدولية (روما).

 

المصادر:

(1) Ahmad Samih Khalidi and Yair Evron, “Arab Threat Perceptions, Peace and Stability,” in Middle East Security: Two Views (Cambridge, Mass: American Academy of Arts and Sciences, May 1990).                                           

(2) Mark Heller and Sari Nusseibeh, No Trumpets, No Drums: A Two-State Settlement of the Israeli-Palestinian Conflict (London: I.B. Tauris, 1991), p. 61.                                                                                                                      

(3) Aryeh Shalev, The West Bank: Line of Defence (New York: Praeger, 1984); Shalev, The West Bank and Gaza: Israel’s Options for Peace (Tel-Aviv: Jaffee Center for Strategic Studies, 1989).                                                      

(4)  للاطلاع على هذه النقطة وعلى مناقشة أوسع لمشكلة الأمن الداخلي أنظر:

Ze’ev Schiff, Security for Peace: Israel’s Minimal Security Requirements in Negotiations With the Palestinians (Washington: The Washington Institute for Near East Policy, 1989).