ملاحظات أولية بشأن الانتخابات الفلسطينية
كلمات مفتاحية: 
الانتخابات الفلسطينية
الضفة الغربية
قطاع غزة
انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني
منظمة التحرير الفلسطينية
المعارضة السياسية
نبذة مختصرة: 

يذهب الكاتبان إلى أنه مهما تكن نواقص انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، فإن قيادة م.ت.ف. تستطيع الادعاء أنها استمدت شرعية جديدة، وساهمت الانتخابات في دعم فرص تطوير الكيان السياسي الفلسطيني، وشكلت نكسة واضحة للقوى الفلسطينية المعارضة، وأفرزت تحديات جمة.

النص الكامل: 

أولاً: مهما تكن نواقص الانتخابات الفلسطينية وشوائبها، فإن قيادة م.ت.ف. تستطيع الادعاء أنها استمدت شرعية جديدة نتيجة مشاركة القاعدة الفلسطينية الشعبية في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس مشاركة واسعة في العملية الانتخابية، كما أنها باتت تمثل هذه الشريحة من الشعب الفلسطيني نتيجة الاختيار الحر نسبياً ومن دون منازع يذكر. وهذا بلا شك سيدعم موقع القيادة الفلسطينية في تعاملها مع إسرائيل والأطراف العربية الأُخرى، ومع الأُسرة الدولية عامة، وسيساعد في تعزيز موقف القيادة في مواجهة مختلف القوى الفلسطينية الرافضة، داخل الأراضي الفلسطينية وخارجها، وسيقلص مكانة هذه المعارضة كقطب سياسي مضاد أو كبديل من القيادة الحالية ذي صدقية.

لكن في غمار الحديث عن "الديمقراطية" الناشئة على الأرض الفلسطينية، لا بد من القول إن الشرعية السياسية الحقيقية - وخصوصاً في المجتمعات العربية - لا تعتمد فقط على الآلية الانتخابية أو على التنفيذ الصوري للنموذج الديمقراطي الغربي - الليبرالي. فالشرعية الحقيقية تنبع من جذور المجتمع ومن قواه وتياراته الشعبية المختلفة، ومن تقاليده وتراثه الأصيل؛ وهو الأمر الذي يولد نوعاً من الالتفاف الفطري أو شبه الإجماع حول شخص أو مجموعة من الأشخاص تعترف الأغلبية بأنهم يتمتعون بالسمات القيادية "الطبيعية" من جهة، وبالقدرة على التعبير الحقيقي عن تطلعات الشعب وآماله من جهة أُخرى. وليست "المبايعة" سوى التعبير الأًدق عن مثل هذه العملية الاختيارية في التراث العربي. وهكذا، فإن التقويم الكمي القائم على التعداد المجرد للأصوات أو لنسبة الناخبين ليس بالضرورة هو السبيل الوحيد للحكم على مدى شرعية القيادة في أي من المجتمعات العربية. فهنالك قيادات تمثل شعوبها أفضل تمثيل من دون إجراء الاستفتاءات الانتخابية (هل كان أبو عمار "غير شرعي" قبل الانتخابات؟). كما أن هنالك انتخابات لم تُضفِ أية صفة شرعية حقيقية على الأطراف المنتخَبة.

ثانياً: مهما يكن الأمر، فلا بد من النظر إلى التجربة الفلسطينية الانتخابية الأخيرة كبداية لا كنهاية. وإذا كان من الصحيح أن هذه البداية جاءت ناقصة وغير مكتملة نتيجة عدم إمكان مشاركة أهل الخارج فيها، أو أنها كانت مطوقة بالقيود والضوابط المجحفة نتيجة ارتباطها بنصوص اتفاق أوسلو، فإن ذلك لا يلغي كونها خطوة أُولى بالاتجاه الصحيح. والأرجح أنه سيكون من الصعب، وإن لن يكون من المستحيل، على التشكيلة السياسية الفلسطينية الناشئة العودة عن السبيل الديمقراطي فيما بعد. وهذا يساهم في وضع إطار ثابت للعمل السياسي الفلسطيني المستقبلي مع القيادة الحالية أو مع أية قيادة لاحقة. والحقيقة إن التجارب الديمقراطية في العالم العربي، وفي العالم الثالث عامة، لا تزال بدائية وهشة، ولا ضمانة قاطعة لعدم انزلاق التجربة الفلسطينية نحو مسارات أُخرى في أية حال من الأحوال. غير أن التطلعات الشعبية الفلسطينية التي أحيتها الانتخابات الأخيرة وأكدتها، علاوة على احتمالات المراقبة والمحاسبة الدقيقتين من قِبَل الأطراف الدولية والخارجية، ستساهم في تثبيت الحد الأدنى الممكن من هذه الضمانات.

ثالثاً: لا شك في أن الانتخابات الأخيرة ساهمت في دعم فرص تطوير الكيان السياسي الفلسطيني على الأرض الفلسطينية. فمع الانتخابات تكتمل دائرة السلطة والأرض والإرادة الشعبية، أي الدائرة الحيوية اللازمة لنشوء الدولة الفلسطينية. ومع أن الكيان الحالي لا يزال ناقصاً وبعيداً عن تحقيق الحد الأدنى من التطلعات السياسية والوطنية الفلسطينية، ولا سيما فيما يتعلق بالرقعة الإقليمية التي تمارس السيادة الفعلية عليها، فقد أصبحت مسألة الكيان/الدولة مسألة كمية أكثر منها نوعية: أي مسألة توسيع نطاق السلطة الفلسطينية المستقلة، لا مبدأ إقامتها. غير أن ذلك في حد ذاته لا يعني أن الطريق بات مفتوحاً أمام قيام الدولة المستقلة في الضفة والقطاع والقدس. ويستدل من تصريحات بيرس ومواقفه المعلنة أنه ينظر إلى الفصل بين مصير قطاع غزة من جهة، ومصير الضفة - والقدس طبعاً - من جهة أُخرى. ففي حين يرى بيرس أن ليس هنالك من إشكال أو اعتراض مبدئي على إقامة الدولة الفلسطينية "الكاملة السيادة" في غزة، فإنه يجد أن الحل الأمثل من وجهة نظره بالنسبة إلى الضفة الغربية، هو حل "مبدع" (بحسب قوله) يتم فيه تقاسم الضفة وظائفياً بين الفلسطينيين والأردن وإسرائيل، على امتداد فترة طويلة من الزمن، من دون ضرورة الإقرار المسبق بالنهاية المرجوة من مثل هذه التجربة.

والواقع أن مسألة السلطة الفعلية للمجلس الجديد تشكل تحدياً للجانبين الفلسطيني والإسرائيلي على حد سواء؛ فمن جهة سيكون من الأصعب على إسرائيل - ومعها الولايات المتحدة - أن تتجاهل من الآن فصاعداً رغبة ممثلي الشعب الفلسطيني المنتخَبين "ديمقراطياً"، في حال دعوتهم العلنية والصريحة والمسالمة إلى الاستقلال والسيادة (كما توقع أبو مازن ذلك أخيراً). فالإرادة الشعبية الممثلة في المجلس قد تشكل نقطة ارتكاز معنوية مهمة للاندفاع خارج النصوص المقيدة لاتفاق أوسلو. ولن يكون من السهل على إسرائيل قمع مثل هذا المجلس بالقوة، أو فك الارتباط السياسي معه كلياً في الأحوال كافة. لكن في المقابل، إذا كان من الصحيح - كما يطرح بعض المحللين الإسرائيليين - أن سلطة الشعب قد حلّت مكان سلطة الاتفاق كمصدر شرعي للمواقف السياسية الفلسطينية، فإن قيام الجانب الفلسطيني بخرق النص القانوني للاتفاق سيمد إسرائيل بجميع الحجج اللازمة للتنصل من تعهداتها كافة. وهذا بدوره سينعكس بالضرورة على مسار مفاوضات الحل النهائي وفرصها. وباختصار، فإن الدور السياسي الممكن للمجلس يثير احتمالات الصدام مع إسرائيل على أكثر من مستوى، الأمر الذي قد يزيد الوضع تعقيداً فيما يتعلق بقضايا المرحلة النهائية.

رابعاً: علاوة على دور المجلس وتأثيره في فرص الحل النهائي، فإن هنالك تحديات جمة أُخرى. فعلى الصعيد السياسي الداخلي العام، شكلت نتائج الانتخابات نكسة واضحة للقوى الفلسطينية المعارضة، وعلى رأسها حركة "حماس". وتجد المعارضة نفسها الآن محصورة بين خيارات ضيقة: فغيابها عن المجلس سيقلل من فرصها في التأثير المباشر في العملية السياسية الفلسطينية، وسيزيد في نفوذ وسلطة حركة "فتح" (بما في ذلك المستقلون) على حساب التيارات الأُخرى. وفي المقابل، فإن فشل الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات سينال من صدقية المعارضة كقوة فاعلة في الساحة. ويضاف إلى ذلك أنه بات من الأسهل على القيادة الفلسطينية التشكيك في "شرعية" المعارضة و"شرعية" نهجها السياسي - النضالي السابق، وخصوصاً فيما يتعلق بالعمل المسلح ضد إسرائيل.

هذا لا يعني أن المعارضة انتهت. بل هنالك إمكان لقيام ائتلافات عملية بين الحركات المعارضة خارج المجلس وبين بعض القوى أو الشخصيات المستقلة داخل المجلس المنتخَب. وقد تشتمل هذه الائتلافات على بلورة المواقف المشتركة حيال القضايا الاجتماعية/الاقتصادية/المعيشية من جهة، وحيال القضايا السياسية الحيوية، مثل قضايا المرحلة النهائية (القدس، المستوطنات.. إلخ)، من جهة أُخرى. وفي الوقت نفسه، وبغض النظر عن نتائج الانتخابات، فإن القوى المعارضة لا تزال تمثل تياراً شعبياً لا يمكن تجاهله من قِبَل المجلس أو القيادة الفلسطينية.

ولعل من أسباب فشل المعارضة في تقويمها الوضع الانتخابي كونها اعتبرت الانتخابات استفتاءً بشأن اتفاق أوسلو. والواقع أن الاتفاق وما تفرع منه لا يحظيان بأي تأييد شعبي يذكر على الصعيد الفلسطيني العام. غير أن الانتخابات لم تكن امتحاناً لشرعية أو لشعبية اتفاق أوسلو (أو لشعبية أبو عمار) بقدر ما كانت تعبيراً عن قناعة أهل الداخل بأن أملهم بالخلاص من الاحتلال بات يعتمد أساساً على النهج السياسي، لا العسكري، في حل النزاع مع إسرائيل. ومن هذا المنطلق، فإن فرص المعارضة للانتعاش والتأثير - في المديين القريب والمتوسط على الأقل - قد تزداد كلما تلاءمت طروحاتها ومواقفها مع هذا الواقع الجديد على الساحة الفلسطينية.

علاوة على جميع هذه التحديات التي أفرزتها الانتخابات الأخيرة، فلعل التحدي الأكبر في المرحلة المقبلة هو تحدي ضمان وحدانية المؤسسات الفلسطينية السياسية وتجانسها. فالمجلس ينشئ واقعاً جديداً في الداخل يختلف نوعاً عن الوضع السابق القائم على انفراد م.ت.ف. والمجلس الوطني الفلسطيني بتمثيل الشعب الفلسطيني. ومن الواضح أن إسرائيل تسعى لحصر الصفة التمثيلية "الشرعية" للفلسطينيين في المجلس المنتخب الجديد، ولتذويب م.ت.ف. وتهميش دورها كمؤسسة سياسية تمثل الداخل والخارج على حد سواء. وفي التضارب والتناقض الكامنين بين المجلس المنتخب والمجلس الوطني (حتى على افتراض دمج عضوية الأول في الثاني) تهديد بالانقسام السياسي الخطِر بين أهل الداخل وأهل الشتات. وليس من المستبعد أن تكون مسألة تعديل ميثاق م.ت.ف. الامتحان الأول في هذا السياق، وإنْ كان يصعب التأكد من نتائج هذا الامتحان مسبقاً في الأحوال كافة.