بعد غزة ـ أريحا: مشكلات إعادة الانتشار في الضفة الغربية
كلمات مفتاحية: 
الاتفاق حول قطاع غزة ومنطقة أريحا
الضفة الغربية
إعادة الانتشار
حرية الحركة
حرية التنقل
نبذة مختصرة: 

يبدأ المقال بتناول "مشكلات التعريف". ثم ينتقل إلى "مشكلات التطبيق" في الضفة الغربية، وهي: كثافة المستوطنات وانتشارها، ومناطق المستوطنات؛ حرية الدخول والحركة للمدنيين والعسكريين الإسرائيليين في الضفة الغربية؛ إعادة الانتشار في المدن الكبرى؛ إعادة الانتشار في المناطق الريفية. وينتهي المقال بتناول "حدود إعادة الانتشار".

النص الكامل: 

أولاً: مشكلات التعريف

ستطرح المرحلة المقبلة من عملية السلام الفلسطيني – الإسرائيلي جملة من التحديات الشديدة الصعوبة في مجال الأمن على الفريقين. لقد ركز اتفاق 4 أيار/ مايو 1994 في القاهرة تركيزاً شديداً على أداء قوة الشرطة الفلسطينية (التي باتت الآن تسمى رسمياً المديرية الفلسطينية لقوة الشرطة) وعلى علاقتها بالقوات الإسرائيلية الباقية والمستوطنين من جهة وبالسكان الفلسطينيين في غزة – أريحا من جهة أخرى. إلا إن التعقيدات الناجمة عن مثل هذه القضايا ربما بدت غير ذات أهمية قياساً بالمشكلات التي قد تنشأ عن السعي لبسط نظام أمني جديد على باقي أنحاء الضفة الغربية.

يلحظ "إعلان المبادىء" إطاراً عاماً جداً للترتيبات الأمنية بعد تنفيذ اتفاق غزة – أريحا، ويركز على النقاط التالية:

1)  إعادة انتشار القوات العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة تنفذ بعد بدء العمل بـ"إعلان المبادىء" (أي في 13 تشرين الأول/ أكتوبر 1993) لكن ليس بعد عشية الانتخابات المقررة لإنشاء المجلس الذي سيكون أعلى سلطة للحكم الذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة. و"المبدأ العام" هنا هو أن على إسرائيل "إعادة تموضع قواتها العسكرية خارج المناطق المأهولة بالسكان" [أنظر المادة 13، الفقرتين 1 و2].

2)  انتشار قوة الشرطة الفلسطينية بالتدريج في باقي أنحاء الضفة الغربية. ويشار إلى ذلك في سياقين مترابطين: أولاً، باعتباره عنصراً في "عملية التحضير لانتقال السلطات والمسؤوليات" (المعروفة أيضاً باسم "تسلم السلطات المبكر") المنصوص على الشروع فيه مع إتمام الانسحاب من غزة – أريحا. وفي انتظار إنجاز انتخابات المجلس فإن الجانب الفلسطيني مكلَّف تسلُّم المسؤولية عن التربية والثقافة، والصحة، والرعاية الاجتماعية، وجباية الضرائب المباشرة، والسياحة في الضفة الغربية وقطاع غزة كليهما، فضلاً عن بدء "بناء قوة الشرطة الفلسطينية" خارج غزة – أريحا [أنظر المادة 6]. ثانياً، باعتباره نشاطاً من الأنشطة المترتبة على تطوير قدرات قوة الشرطة الفلسطينية. وهنا تستمر عمليات إعادة الانتشار الأُخرى [زيادة على تلك المذكورة آنفاً]... على نحو "تدريجي بالتناسب مع تولي المسؤولية عن النظام العام والأمن الداخلي من قبل قوة الشرطة الفلسطينية..." [المادة 13 – الفقرة 3].

يحدد هذا الإطار الواسع بعض نقاط الانطلاق المتفق عليها لكنه يترك كثيراً من النقاط الملتبسة للجولة المقبلة من المفاوضات. فمن المتفق عليه أن الإسرائيليين سينفذون في الضفة الغربية إعادة انتشار واحدة على الأقل قبل "عشية" الانتخابات. لكن لئن جرى تأخير الانتخابات إلى أجل غير مسمى – مثلما حدث حتى الآن – فقد تؤجل إعادة الانتشار هذه أيضاً إلى أجل غير مسمى أو إلى حين تعيين موعد جديد للانتخابات. والاتفاق يتيح إعادة الانتشار بصورة مستقلة عن الانتخابات، لكن من دون مَعْلم الانتخابات ليس لإعادة الانتشار تلك أي جدول محدد. ولا ينص الاتفاق على أي تحرك إلزامي للجنود الإسرائيليين في الضفة الغربية، وإن يكن من الممكن أن يحدث تحرك "آخر" بحسب استنساب إسرائيل وتقويمها لأداء قوة الشرطة الفلسطينية و/ أو أية عوامل أمنية وسياسية أُخرى ذات علاقة بالوضع. وقد تستجرُّ إعادة الانتشار أيضاً تخفيضاً للوجود العسكري الإسرائيلي في "المناطق المأهولة بالسكان"، لكن ذلك لا يستجرُّ بالضرورة تخفيضاً لمجموع القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية. وفي هذا الإطار، ربما أدت إعادة الانتشار إلى زيادة العدد الإجمالي للجنود الإسرائيليين في الضفة الغربية. (على الرغم من بند "الانسحاب" الخاص بغزة – أريحا، فقد أشار بعض المصادر العسكرية الإسرائيلية إلى أن الوجود العسكري الإسرائيلي الباقي في غزة قد يصل إلى نحو ثلثي المجموع الذي كان قبل الاتفاق).

يشير الاتفاق إلى تحرك ممكن للجنود الإسرائيليين إلى خارج المدن الرئيسية ومخيمات اللاجئين والبلدات، لكن عبارة "المناطق المأهولة بالسكان" غامضة إلى حد يكفي الدلالة على ما هو أقل من ذلك كثيراً (مثال ذلك تحرك بسيط نسبياً للجنود إلى داخل المناطق الريفية الفلسطينية). وعلى مستوى آخر، يبدو أن ثمة ترابطاً واضحاً بين إعادة الانتشار الإسرائيلي وانتشار قوة الشرطة الفلسطينية؛ فالانتخابات تستلزم وجود هذه القوة "للحفاظ على النظام العام" [المادة 13 – الفقرة 1] ومن شأن ذلك، في أرجح الظن، أن يترابط مع إعادة الانتشار الإسرائيلية عشية الانتخابات. وفي حال تسلم مبكر للسلطة، فمن المسلم به أن نوعاً ما من "تزايد" قدرات قوة الشرطة الفلسطينية سيكون ضرورياً للتماشي مع بسط السلطة المدنية الفلسطينية على الضفة الغربية انطلاقاً من غزة – أريحا. لكن ليس من الواضح كيف سيرتبط هذا التزايد بإعادة الانتشار الإسرائيلي و/ أو هل سيسمح لعناصر قوة الشرطة الفلسطينية بالعمل خارج السيطرة والقيادة الإسرائيليتين المباشرتين.

والواقع أن مفاوضات غزة – أريحا سلطت الضوء على غموض عبارة "إعادة الانتشار" نفسها. فمرحلة غزة – أريحا تدعو إلى "الانسحاب" مثلما هو منصوص عليه في "إعلان المبادىء" [الملحق الثاني]، لكن محادثات ما بعد أوسلو كشفت عن صعوبة إقامة تمييز واضح بين "الانسحاب" و"إعادة الانتشار". فـ"إعادة الانتشار" تشير إجمالاً، إلى أن حركة الجنود (أ) موقتة وطارئة و(ب) عرضة لمنح مرونة عامة للجهة التي تقوم بتطبيقه. لكن "الانسحاب" يتصف، على الضد من ذلك، بشيء من الشمول والنهائية (ومن الجائز أن ينطوي على تداعيات سلبية بالنسبة إلى الجهة التي تقوم بتطبيقه)، ولذلك كان من الجائز لقائل أن يقول إن إعادة الانتشار المتفق عليها يمكن أن تُعكس، بينما الانسحاب المتفق عليه أقل عرضة للعكس. وفي غزة – أريحا ازدادت المشكلة تعقيداً لكون المفترض في القوات الإسرائيلية أن "تنسحب" من ناحية، وأن تظل طليقة الحركة وتكفل أمن المستوطنات والإسرائيليين وأن تتمكن فعلاً من إعادة الانتشار، من ناحية أُخرى. وبذلك بدا الانسحاب متناقضاً مع إعادة الانتشار، كما باتت الإجراءات العملانية، المساوية لإعادة الانتشار، تنفي الانسحاب.

أما بالنسبة إلى الضفة الغربية فليس ثمة من التزام إسرائيلي مكتوب بـ"الانسحاب تحديداً، كما أن مشكلات المفاهيم التي ينطوي اتفاق غزة – أريحا عليها ربما لم تنشأ، من حيث المبدأ على الأقل؛ إذ إنه من الممكن، عملياً، أن ينظر إلى إعادة الانتشار والانسحاب باعتبارهما متداخلين، وإلى المعنى الدقيق ومدى تطبيق كل منهما باعتبارهما خاضعين لصلاحيات المفاوضين وللظروف السياسية الاستراتيجية العامة السائدة. فمن المستبعد، في غزة مثلاً، أن يسعى الجيش الإسرائيلي لإعادة احتلال الأراضي التي أخلاها إلا في حال الضرورة القصوى، وذلك بصرف النظر عن بنود الاتفاق وشروطه. ويمكن لإعادة الانتشار في الضفة الغربية خلال الفترة الانتقالية أن تفسر (ولا سيما من قبل الجانب الفلسطيني) باعتبارها تمهيداً لإخلاء بعض الأراضي الفلسطينية، على الأقل، من الوجود العسكري إخلاء نهائياً، وغير مختلف، بالتالي، عن انسحاب مرحلي وإن كان مشروطاً. لكن العكس قد يكون صحيحاً أيضاً: فربما أدت إعادة الانتشار إلى تمهيد السبيل لوجود عسكري إسرائيلي غير محدود الأجل على التراب الفلسطيني، أو إلى أجل طويل جداً، وذلك انسجاماً مع التيار السائد على تفكير المؤسسة السياسية العسكرية الإسرائيلية.

ثانياً: مشكلات التطبيق

إذا افترضنا أن المرحلة المقبلة من المفاوضات ستجري وفقاً لما هو مرسوم في "إعلان المبادىء"، فإن أية إعادة انتشار إسرائيلية في الضفة الغربية ستستلزم قبل كل شيء ترتيب إجراءات واضحة وعملية من أجل تمييز المناطق التابعة لولاية قوى الأمن الإسرائيلية وتلك التابعة لولاية قوى الأمن الفلسطينية. وينطبق ذلك على مختلف مستويات الولاية الإقليمية والوظيفية والشخصية بحسب ما ميَّز بينها اتفاق 4 أيار/ مايو المعقود في القاهرة. إلا إن الضفة الغربية تطرح مشكلة أصعب كثيراً من مشكلة غزة – أريحا في هذا المجال، لأسباب كثيرة:

1-  كثافة المستوطنات وانتشارها، ومناطق المستوطنات: بينما يمكن إعادة تشكيل مستوطنات غزة السبع عشرة بمستوطنيها (3500 – 4000 نسمة) في كتلتين كبيرتين (غوش قطيف في الجنوب وكتلة إيرز في الشمال) مع وقوع مستوطنتين صغيرتين فقط خارج هاتين المنطقتين، فإن نظائر هذه الترتيبات الأمنية الواضحة نسبياً قد يستحيل تحقيقها في أماكن أُخرى من الأراضي المحتلة. فالـ 135.000 مستوطن في الضفة يقيمون في نحو 145 مستوطنة نشرت في أرجاء الأراضي الفلسطينية تحديداً من أجل الحيلولة دون أي فك لالتحام أمني/ ديموغرافي بين الجانبين. ولانتشار المستوطنات في الضفة الغربية نتيجتان أساسيتان بالنسبة إلى أية إعادة انتشار إسرائيلية: أولاً، كي تتمكن القوات الإسرائيلية من القيام بمهماتها المحددة في "إعلان المبادىء" (الأمن للإسرائيليين وللمستوطنات، والدفاع ضد المخاطر الخارجية – أنظر المادة 8)ـ فلا بد لها من أن تكون قادرة على بلوغ أية نقطة تقريباً في الضفة الغربية خلال فترة قصيرة نسبياً. بعبارة أخرى، إن "إعادة الانتشار" ربما استلزمت وجوداً عسكرياً إسرائيلياً على درجة من التوزع في الأراضي الفلسطينية بحيث تغدو أية ترتيبات جديدة لهذا الوجود غير ذات وجه عملانياً وسياسياً. ثانياً، إن أية محاولة لتكوين كتل كبيرة من المستوطنات تستطيع القوات الإسرائيلية أن تعيد انتشارها فيها على غرار مستوطنات غزة سيشكل خطراً جدِّياً على السلامة الإقليمية والسياسية للسلطة الفلسطينية. وستبدو هذه، من منظور فلسطيني، بمظهر السوابق المسيئة إلى مفاوضات الوضع النهائي، ولا سيما إذا ما أخذت في الاعتبار غاية حزب العمل المعلنة والقاضية بضم بضع الأراضي تحت عنوان "الحل الوسط الإقليمي".

وتنطوي في ثنايا المظهر الإقليمي لإعادة الانتشار مشكلة التصرف في "أراضي الدولة" التي تكوِّن 50% - 60% من الضفة الغربية والتي من المرجح أن تطالب الحكومة الإسرائيلية بها أو أن تصرَّ، أقله، على صيغة لتقاسمها مع السلطة الفلسطينية خلال المرحلة الانتقالية. وتضم أراضي الدولة مساحات شاسعة حظر استعمالها على الفلسطينيين "لأسباب أمنية" متنوعة تتراوح بين مناطق الانتشار الاستراتيجي لمواجهة طوارىء "الجبهة الشرقية"، إلى ميادين تدريب الجنود الإسرائيليين، إلى المناطق الواقية المصممة لمنع التسلل عبر الحدود. ومفاد التأويل الإسرائيلي الرسمي لـ"إعلان المبادىء" والمعمول به حتى الآن، هو أن أراضي الدولة قد شملت مبدئياً – وإن لم تشمل عملياً – في بند الانسحاب بالنسبة إلى غزة، وأنه لا بند لانسحاب كهذا بالنسبة إلى الضفة الغربية. (وهذا يفسِّر، جزئياً، تمنُّع إسرائيل عن أن تعيد إلى الفلسطينيين أراضي الدولة في أريحا وجوارها، وما يتسم به شكل هذه المنطقة من محدودية وتشويه). وقد يكون احتفاظ إسرائيل بالسيطرة الحصرية على هذه المناطق الأمنية مصدراً للمشكلات من وجهة النظر الفلسطينية، ولا سيما إذا كان لهذه السيطرة تأثير كبير في فرص التنمية الاقتصادية الفلسطينية ومشاريع البنى التحتية.

إن من شأن تضافر كتل المستوطنات الكبيرة، واستمرار إسرائيل في استعمال و/ أو السيطرة لأغراض أمنية على أراضي الدولة أن يحدَّ نطاق إعادة الانتشار الإسرائيلي وطبيعتها في المستقبل. وفي الوقت نفسه يبدو من المستبعد أن تتراجع الحكومة الإسرائيلية عن موقفها بالنسبة إلى أي من الأمرين. فمن وجهة نظر رئيس الحكومة الإسرائيلية رابين تبدو فكرة كتل المستوطنات كأنها المفتاح لصيانة، إن لم نقُلْ لتحسين، أوضاع المستوطنين الأمنية خلال المرحلة الانتقالية، فضلاً عن انسجام هذه الفكرة انسجاماً تاماً مع خيارات حزب العمل الطويلة الأجل في "الحل الوسط الإقليمي" من جهة، ومجابهة انتقادات اليمين الممكنة من جهة أُخرى. أما الخطط البديلة المستندة إلى إعادة توزيع القوات الإسرائيلية على 145 مستوطنة مبعثرة، فمن المستبعد أن تنظر إسرائيل إليها بعين الجد لأسباب عملانية واقتصادية. ويذهب بعض السيناريوهات إلى أن النتيجة النهائية ربما كانت زيادة ملحوظة في عدد أفراد القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية إذا ما جرت إعادة توزيع كهذه. والعامل الأوحد والأهم في تسهيل عملية إعادة انتشار حقيقية تنطوي على تخفيض فعلي لعدد الجنود الإسرائيليين في الضفة الغربية إنما هو تفكيك عدد كبير من المستوطنات. أما كون هذا الأمر مقبولاً سياسياً عند الحكومة الحالية فمسألة فيها نظر.

2-  حرية الدخول والحركة للمدنيين والعسكريين الإسرائيليين في الضفة الغربية: من المسائل المتعلقة بقضية الولايتين المنفصلتين على الأراضي المسألة الحيوية المتمثلة في الطرق واستعمال الطرق في الضفة الغربية. فالطرق هي المجال الأكبر للاحتكاكات الممكنة بين أفراد الشعبين، نظراً إلى محدودية حركة المدنيين الإسرائيليين في المدن العربية منذ الانتفاضة. ولذلك فالحركة على الطرق ستكون مرتبطة ارتباطاً مباشراً بوتيرة العنف المتوقع وبإمكان المواجهة والصراع بين المدنيين والعسكريين من الجانبين طوال المرحلة الانتقالية. وعلى الرغم من أن "إعلان المبادىء" لا ينص صراحة على منح إسرائيل حق استعمال طرق الضفة الغربية [ملحق "إعلان المبادىء" ينص صراحة على حرية استعمال الطرق في غزة – أريحا]، فمن المتوقع أن تطالب إسرائيل بهذا الحق من أجل الوصول سريعاً إلى المستوطنات وحماية المدنيين والمستوطنين الإسرائيليين لدى مرورهم عبر الأراضي الفلسطينية. وهذا يثير بضع مسائل مهمة بالنسبة إلى تضمينات أية إعادة انتشار جديدة، من ذلك، أولاً، أن الحفاظ على دوريات إسرائيلية دائمة على الطرق لمواكبة حركة المدنيين الإسرائيليين سيخفِّض، حتماً، مدى إعادة الانتشار، كما أنه سيستلزم مستوى عالياً من الظهور العسكري الإسرائيلي المستمر، نظراً إلى تبعثر المستوطنات. وسيزداد ذلك تعقيداً بالمطالبة الإسرائيلية الممكنة للدخول السريع بلا معوقات إلى المناطق العسكرية المغلقة، والمواقع الاستراتيجية، وقواعد التدريب في الضفة الغربية. ثانياً، ستكون إعادة توزيع استعمال الطرق، بين الجانبين، تبعاً للقومية، أمراً في غاية الصعوبة عملياً، نظراً إلى درجة اختلاط الشعبين في بعض المناطق، ولا سيما في المدن الكبرى وضواحيها (منطقة القدس الكبرى، ومنطقة نابلس، الخليل.. إلخ.) ثم إن من شأن ترتيبات كهذه أن تظهر، في أعين الفلسطينيين، بمظهر قضم آخر في الولاية/ الوظيفة للأراضي الفلسطينية، وهو قضم يؤذن محادثات الوضع النهائي ويؤثر فيها.

وقد يكون من الممكن تصميم نظام متعدد المستويات مبني على تصنيف الطرق إلى طريق يستعملها المستوطنون غالباً، وهي "طرق المستوطنين" (كالطرق الثلاثة المسماة "التفافية" في غزة)، والطرق التي تكثر من استعمالها القوات الإسرائيلية (لبلوغ القواعد والمنشآت الاستراتيجية)، والطرق التي يكثر استعمالها الفلسطينيون، والطرق المختلطة للمناطق التي لا يمكن تمييزها جغرافياً أو وظيفياً. وذلك على أن يكون لكل من هذه الطرق نظام أمني/ قضائي خاص به، على غرار ما اتفق عليه بالنسبة إلى غزة – أريحا: فيكون بعضها تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية المحضة، وبعضها من مسؤولية قوة الشرطة الفلسطينية، وبعضها الآخر تحت سيطرة فلسطينية إسرائيلية مشتركة. إلا إنه من المشكوك فيه جداً أن يكون من الممكن تشغيل نظام كهذا في 5.5 من ملايين الدونمات من الأرض وعشرات الشرايين الكبرى في الضفة الغربية قياساً بـ 363.000 دونم ونصف دزينة من الطرق الكبرى في قطاع غزة.

3-  إعادة الانتشار في المدن الكبرى: من المرجح أن تركز أية إعادة انتشار إسرائيلية على الانسحاب من المراكز السكانية الفلسطينية الكبرى تبعاً لما نص "إعلان المبادىء" عليه. وإعادة الانتشار من البلدات والمدن ومخيمات اللاجئين في المدن ربما ارتبطت أيضاً بالانتخابات البلدية أو العامة بحسب ما يتفق عليه في المرحلة التالية من عملية السلام، إضافة إلى الجو السائد في السياسة الفلسطينية الداخلية. لكن حتى إعادة الانتشار هذه ستثير المشكلات التالية:

أ)  ماذا ستكون طبيعة الوجود الإسرائيلي الباقي، إذا ما كان ثمة مجال لوجود كهذا؟

فمن الجائز أن يفترض المرء أن إعادة انتشار القوات الإسرائيلية خارج المدن والبلدات الفلسطينية ستستلزم أيضاً إخلاء جميع المكاتب والمنشآت الرسمية المدنية الإسرائيلية (وإلا فإن إسرائيل ستكون مضطرة إلى الإبقاء على قوة عسكرية لحماية هذه المنشآت المدنية). في هذه الحال يكون الفارق الفعلي بين "الانسحاب" من غزة وإعادة الانتشار من مدن الضفة الغربية وبلداتها طفيفاً. من ناحية أُخرى، قد تفسر إسرائيل "إعادة الانتشار" بأنها ليست أكثر من تخفيف الظهور العسكري الإسرائيلي في معظم مدن الضفة الغربية وبلداتها، بحيث تتفادى إظهار مظهر الجلاء التام لجملة من الأسباب السياسية أو الأمنية أو العملية. في معظم المدن والبلدات الكبرى لن يشكل الانسحاب الإسرائيلي مشكلة عملانية. إلا إن إعادة الانتشار في الخليل ربما طرحت مشكلة خاصة على الحكومة الإسرائيلية نظراً إلى فرادة الاستيطان الإسرائيلي القائم في قلب المدينة. فإكراه المستوطنين على الخروج من وسط المدينة ربما كان من  الخيارات المتاحة أمام رابين الذي يستطيع الاحتجاج بأن ذلك مطلوب منه تبعاً لشروط بند إعادة الانتشار في "إعلان المبادىء". ويمكن أن يوضع مستوطنو الخليل أمام الأمر الواقع: فإما أن ينسحبوا مع الجيش الإسرائيلي وإما أن يمكثوا وينقادوا للسلطة الفلسطينية. غير أن كلتا الحالتين ستتيح الفرصة لاختبار القوة أمام كامل اليمين الإسرائيلي المتحالف مع حركة المستوطنين. ولما كان رابين قد تحاشى كشف الأوراق على هذا النحو عقب مجزرة الخليل مباشرة، يوم كان الرأي العام الإسرائيلي ميالاً إلى التشدُّد على المستوطنين، فإنه من المشكوك فيه أن يبدي رئيس الحكومة الإسرائيلية استعداداً أكبر للإقدام على ذلك في المستقبل القريب وفي ظل أوضاع سياسية أقل ملاءمة قد تطرح فيها إمكانات انتخابات مبكرة. ولذلك ربما كان من الخيارات الإسرائيلية أيضاً الإبقاء على وجود عسكري قوي في الخليل من أجل تأمين "الحماية" للمستوطنين والحيلولة، من خلال ذلك، دون أية إعادة انتشار حقيقية من وسط المدينة. وربما اتخذ بعض الإجراءات الإضافية الرمزية، كإدخال بعض العناصر من قوة الشرطة الفلسطينية إلى جانب الوجود العسكري الإسرائيلي، لكن الوضع القائم سيظل جوهرياً على حاله.

إن منظومة مختلطة من أنماط "إعادة الانتشار"، الكاملة أو الجزئية أو حتى الرمزية فقط، في مدن وبلدات الضفة الغربية قد تشكل الخيار الإسرائيلي المفضل، وذلك تبعاً لكيفية الإدراك الإسرائيلي للوقائع على الأرض، ولتقدير الحكومة لميزان القوى السياسية الإسرائيلية الداخلية. فمن الممكن أيضاً انتهاج نهج التشدد حيال المستوطنين إذا ما تصاعدت أعمال العنف من قبلهم، إلا إن مدى إعادة الانتشار ستتأثر أيضاً بقراءة إسرائيل لأفعال الفلسطينيين وردات أفعالهم وللاتجاه العام للعملية كلها. وبالمقارنة، فإن المنظومة المختلطة هذه تبدو أقل جاذبية من وجهة النظر الفلسطينية. ذلك بأن من شأن عدم التوازن في إعادة الانتشار أن يزيد في التوتر بين مختلف المناطق الفلسطينية "المحررة" و"غير المحررة"، وأن يشكل خطراً جديداً على استقرار السلطة الفلسطينية الحديثة العهد في غزة – أريحا، فضلاً عن أي توسيع ممكن لها في باقي أنحاء الضفة الغربية.

ب)  كيف سيتم تنسيق تزايد قوة الشرطة الفلسطينية بالتزامن مع أية إعادة انتشار إسرائيلية؟

واضح أن أية إعادة انتشار إسرائيلية من المراكز المأهولة بالسكان ستستلزم إدخال عناصر من قوة الشرطة الفلسطينية للحفاظ على النظام العام والقانون داخل المناطق التي تم الجلاء عنها. وهذا بدوره يرتبط بإمكان "تولي السلطات المبكر" قبل انتخابات المجلس بكامله. ذلك بأن إدخال عناصر من قوة الشرطة الفلسطينية إلى داخل المدن والبلدات الكبرى بمفردهم، ومن دون أي انتقال للسلطات المدنية، لن يكون له شأن كبير سياسياً، لأن هذه العناصر ستكون عملياً في خدمة إدارة مدنية إسرائيلية. لذلك فإن تولي الفلسطينيين أية سلطات مدنية في الضفة الغربية خارج غزة – أريحا سيستلزم قدراً معيناً من ظهور الشرطة الفلسطينية للحفاظ على القانون والنظام وحماية الأفراد الفلسطينيين وممتلكاتهم. في هذا الإطار سيكون للجهوزية العملانية التي تتمتع قوة الشرطة الفلسطينية بها للقيام بهذه المهمات تأثير واضح مباشر في طبيعة إعادة الانتشار الإسرائيلي وكذلك في مدى أي تحويل "مبكر" للسلطات. ولذلك فستستلزم إعادة الانتشار وإدخال عناصر الشرطة الفلسطينية وتولي السلطات المبكر تنسيقاً متقناً جداً من الجانبين.

إلا إن التوتر ربما نشأ من جراء أي تباين ذي شأن بين جدول أولويات الفريقين. فمن ذلك أن أي قرار إسرائيلي، مهما يكن سببه، بالتباطؤ في تسليم السلطات المبكر سيؤثر في انتشار قوة الشرطة الفلسطينية في باقي أنحاء الضفة الغربية، وفي إعادة الانتشار الإسرائيلي تالياً.

4-  إعادة الانتشار من المناطق الريفية: على الرغم من عدم الإتيان في "إعلان المبادىء" إلى ذكر صريح لإعادة الانتشار في مناطق أُخرى غير المدن والبلدات الكبرى، فلا شيء يمنع من ذلك. فوجود إسرائيل العسكري في المناطق الريفية من الضفة الغربية يختلف في الواقع عن وجودها في المناطق المأهولة بالسكان لأسباب منها: (أ) إن الانتفاضة ومعظم المقاومة الناشطة قد تركزتا في مخيمات اللاجئين في المدن، وفي البلدات والقرى، خلافاً للمناطق الريفية. (ب) إن معظم الانتشار العسكري الإسرائيلي القتالي في المناطق الريفية من الضفة الغربية مرتبط بعوامل غير فلسطينية، كالتطورات الاستراتيجية الممكنة في المنطقة وراء نهر الأردن والتي تستلزم نوعية مختلفة من الوجود العسكري (كالمدرعات الثقيلة، والرادارات، ومواقع الصواريخ المضادة للطائرات، إلخ). (ج) إن الانتشار غير القتالي (كالمدارس ومعسكرات التدريب) غير مرتبط أيضاً بالتطورات داخل الضفة الغربية نفسها، ويمكن أن يعدَّ إجمالاً بمثابة "انتشار ظرفي" مرتبط بتوافر المجال والأراضي.

ومع ذلك فإن من شأن أي انسحاب إسرائيلي من المناطق الريفية الفلسطينية أن يواجه عدة مشكلات: أولاً، لما كان الوجود العسكري الإسرائيلي المباشر في المناطق الريفية محدوداً في جميع الأحوال، فمن المرجح أن تبدو إعادة الانتشار في تلك المناطق كأنها إعادة انتشار رمزية فحسب، ولا سيما إذا طرحت أمام الجانب الفلسطيني كبديل من التغيير الجدي في الوضع القائم داخل المدن والبلدات الكبرى. وفي الوقت نفسه ستدعو الضرورة إلى إدخال عناصر من قوة الشرطة الفلسطينية إلى المناطق الريفية التي تجلو إسرائيل عنها، وفي ذلك ما يعقِّد عملية تدريج قدرات الشرطة الفلسطينية في مباشرة مهماتها لكن على رقعة أوسع مساحة. ثانياً، إن انتشار إسرائيل "الاستراتيجي" في المناطق الريفية سيظل، في أرجح الظن، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بإدراك إسرائيل للبيئة العسكرية الإقليمية. لذلك فإن من شأن أي تقدم جاد في المفاوضات مع باقي الفرقاء العرب، متوجٍ بترتيبات أمنية ثنائية أو متعددة الأطراف، أن يفتح الباب أمام مراجعة مهمة لوجود إسرائيل العسكري في الضفة الغربية. ولذلك أيضاً ربما أدَّت التغيرات في المناخ الإقليمي إلى تعزيز المطالب الفلسطينية المتعلقة بطبيعة الوجود الإسرائيلي ومداه (الوجود غير المنقاد للسلطة الفلسطينية) في الضفة الغربية، غير أن المفاوضات بشأن هذا الأمر تقع خارج نطاق "إعلان المبادىء" ولا علاقة لها بالعملية الجارية والمتفق عليها بين الجانبين [الفلسطيني والإسرائيلي]. ثالثاً، قد تكون إعادة الانتشار "الريفية" أيسر فيها يتعلق ببعض المنشآت غير الحربية الثابتة و/أو مناطق التدريب. ونظراً إلى المسوغات الانتهازية لهذه القواعد والمنشآت، فإن الاحتجاج الفلسطيني بضرورة "إعادة نشرها" في إسرائيل ينبغي أن يكون قوياً وإن كانت إسرائيل ستدعو، في الأرجح، إلى مساهمة دولية (أميركية) لتمويل نقل هذه المنشآت (مثلما قد تفعل بالنسبة إلى أية إعادة انتشار مستقبلية في الضفة الغربية). 

ثالثاً: حدود إعادة الانتشار

إن من شأن أية إعادة انتشار في الضفة الغربية، وفي جميع الأوضاع تقريباً، أن تكون محفوفة بالمشكلات على المستوى العملي البحت. كما أن استعداد إسرائيل لإعادة الانتشار يتعلق بما يحدث في المجال السياسي الأمني داخل منطقتي غزة – أريحا، فضلاً عن باقي الأراضي المحتلة. يضاف إلى ذلك أن عوامل، منها المشهد السياسي داخل إسرائيل نفسها، ومنها التطورات التي قد تطرأ داخل عملية السلام العربية – الإسرائيلية، ستؤثر أيضاً في أفعال إسرائيل وقراراتها. والنموذج المثالي المطلوب هو منظومة "نظيفة" لإعادة الانتشار، منظومة يمكن تطبيقها بصورة متوازنة وموسعة على مدى الأراضي الفلسطينية، ومن شأنها ألا تنطوي إلا على القدر الأدنى من فرص الاحتكاك، بينما تتيح أفضل الفرص لزيادة الاندفاع باتجاه حل نهائي مرضٍ.

في الواقع تبدو مختلف عناصر إعادة الانتشار في معظم الأحيان كأن بعضها يعمل ضد بعضها الآخر. فمن وجهة النظر الفلسطينية ربما اعتبر "تخفيض فرص الاحتكاك" مبدأ عاماً لإعادة الانتشار مرغوباً فيه، لكنه لا يظل كذلك إذا كان يستتبع تعزيزاً لنظام المستوطنين وإمعاناً في اقتطاع ما بقي من الأرض الفلسطينية. أما بالنسبة إلى الحكومة الإسرائيلية فإن الانسحاب من المراكز المأهولة والتنازل للفلسطينيين عن السيطرة المطلقة على الطرق ربما أفضيا إلى أزمة سياسية داخل إسرائيل نفسها وعجَّلا في وضع قضية التسوية كلها في موضع التساؤل. وفي هذا الإطار ربما بدت المنظومة "المختلطة" أكثر جاذبية، من وجهة النظر الإسرائيلية، بقدر ما يمكن تفصيلها على نحو يلائم حلولاً موضعية لمشكلات موضعية. لكن ربما كانت المنظومة المختلطة والمنوعة، داخل نطاق جغرافي محدود نسبياً مثلما هي حال الضفة الغربية، وصفة لمزيد من التنازع الفلسطيني – الإسرائيلي والتوترات الفلسطينية الداخلية. وفي التحليل الأخير، وأياً يكن مآل قضية إعادة الانتشار من حل أو تأجيل، أو ربما مزج بخطوة نوعية في المفاوضات (كقفزة نحو مسائل الوضع النهائي)، فإنه ليس في وسع أي من الجانبين أن يغفل عن جوهر العملية التي تسير بمقتضاها دينامية تنازل إسرائيل المتدرج عن السيطرة على الأرض الفلسطينية، في اتجاه معاكس لواقع عدم التكافؤ في ميزان القوى وميله إلى مصلحة إسرائيل.

18/5/1993