بعد الاتفاق: نقاط توتر في العلاقة الفلسطينية ـ الإسرائيلية الجديدة
كلمات مفتاحية: 
منظمة التحرير الفلسطينية
الاعتراف الرسمي الإسرائيلي بمنظمة التحرير الفلسطينية
الاعتراف بدولة إسرائيل
إعلان المبادىء بشأن ترتيبات الحكم الذاتي المؤقت 1993
نبذة مختصرة: 

 المقال استكشاف أولي وتجريبي لنقاط التوتر الأولى في الدينامية والتحديات التي يطرحها الاتفاق بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل بشأن الاعتراف المتبادل و "إعلان المبادىء"، أكثر مما هو (المقال) تفحص لنتائج هذه النقاط النهائية المحتلمة. وهو يحدد بعض نقاط التوتر في لوحة أولية.

النص الكامل: 

إن التحديات التي يطرحها الاتفاق بين م. ت. ف. وإسرائيل بشأن الاعتراف المتبادل وإعلان المبادئ لن تتكشف بكاملها إلاّ مع مرور الوقت. فمن ناحية، فإن أية محاولة لوضع قائمة شاملة بهذه التحديات لا بد من أن تكون سابقة لأوانها في هذا المنعطف. ومن ناحية أُخرى، فإن صعوبة التعامل مفاهيمياً مع نتائج الاتفاق ليس من المحتمل أن تزول (في المدى القريب على الأقل) في ظل تجذر ديناميات التحول في المنطقة. ومن نواح كثبرة، فإن الحاجة الى تطوير الأدوات العقلية والتحليلية الضرورية لمرافقة عملية التغيير والمساهمة في صوغها هي في حد ذاتها تحد من التحديات الرئيسية المرتقبة.

وبالتالي، فإن ما يلي مجرد استكشاف مبدئي وتجريبي لنقاط التوتر الأولى في هذه الدينامية الجديدة أكثر مما هو تفحص لنتائجها النهائية المحتملة. وفي هذا السياق، يمكن ملاحظة عدد من الفئات المتميزة لقضايا – تحديات ذات طبيعة سياسية – أمنية: 

بعض نقاط التوتر: لوحة مبدئية 

أولا: إن جوانب الغموض المحيطة بالبنود الأمنية في إعلان الميادئ لن تجري معالحتها بأي تفصيل. وبصورة عامة يمكن رؤية مشكلات تطبيق البنود الأمينة في الاتفاق باعتبارها في الأساس إما مشكلات تكتية في مستوى معين، وإما مشكلات سياسية (بالمعنى الواسع للكلمة) في مستوى آخر. وفي الحقيقة يمكن القول إن دور قوة الشرطة الفلسطينية ليس مسألة "أمنية" إطلاقا، بل إنه مسألة قانون ونظام؛ فرض القانون وعلاقات اجتماعية (وأيضاً مسألة إرساء الأنماط الملائمة للتنسيق والتعاون مع إسرائيل). أما القضايا الأعم التي تشتمل عليها (مثلا، كيف ستتعامل م. ت. ف. مع المعارضة؟)، فإنها تتطلب إجابة سياسية أولاً وقبل كل شيء، ولا إجابة أمنية بالمعنى الضيق والحصري للكلمة. وبالتالي، فإن جزءاً من الإجابة عن هذه المشكلة الأخيرة يكمن في مقدار السلطة السياسية التي ستُمنح للفلسطينيين و/أو فيما إذا كانت المعارضة - ولا سيما حماس - ستشرك في المؤسسة السياسية الجديدة في فلسطين، أم أنها ستبقى خارجها.

إن ما يشير هذا إليه هو نقطة أولى من عدة نقاط التوتر الممكنة بين التصورات الإسرائيلية والفلسطينية للاتفاق. فكما هو جدير بقوة محتلة منهمكة منذ فترة طويلة بقمع نشاط معاد لها، فإن النظرة الإسرائيلية الغالبة بالنسبة الى الأمن في المرحلة الانتقالية هي، كما يبدو، إيجاد الوسائل لمواجهة أي عداء متجدد بإجراءات شبيهة جوهرياً بتلك التي استخدمت خلال ما يزيد على ربع القرن الفائت من الاحتلال، وبكلمات أُخرى، تتركز الاهتمامات الإسرائيلية على هل أن م. ت. ف. ستكون مستعدة، وراغبة، وقادرة على سحق العناصر المعادية إذا اقتضت الضرورة ذلك، على الأقل فيما بتعلق بمنع استخدام القوة ضد أهداف إسرائيلية. وهكذا فإن النقاش الإسرائيلي الأمني يسعى في الأساس لتقييد م. ت. ف. بالتزام كبح المعارضة بالقوة إذا لزم الأمر.

وإذا كان ذلك يبدو أنه يشغل إسرائيل ويهمها في المقام الأول، فإن الأمر ليس كذلك بالضرورة بالنسبة الى الفلسطينيين. إن نظرة الفلسطينيين الى الأمن في المرحلة الانتقالية أكثر شمولاً وأقل ميلاً الى العسكرة. إن استخدام القوة ضد المعارضة، بالنسبة إلى الفلسطينيين، سيكون، على الأرجح، سلاحاً يتم اللجوء إليه في الملاذ الأخير، ولا يعدو كونه عنصراً واحداً فقط في بنيان معقد يشمل تسويات سياسية مع مختلف الفصائل داخل الجسم السياسي المحلي، وبرنامجاً اجتماعياً - اقتصادياً مصمِّماً لامتصاص مصادر الاحتكاك الداخلية وإعادة توجيهها نحو بناء الدولة، ويشمل كذلك تشديدا على التربية والتعليم بصورة خاصة، وإعادة للتأهيل الاجتماعي بصورة عامة (مع اهتمام موجه بالتحديد الى العناية بالشباب في مرحلة ما بعد الانتفاضة، وإعادة تثقيفه)، بالإضافة الى خطوات ذات وزن باتجاه تأسيس مجتمع تعددي ومنفتح نسبياً.

وربما تكون الفوارق بين المقاربتين الفلسطينية والإسرائيلية للأمن انعكاسا لاختلاف الأولويات أكثر مما هي انعكاس لتصادم الرؤيتين. فبالنسبة الى الإسرائيليين، فإن النتيجة النهائية ينبغي التوصل إليها منذ البداية تقريباً: لا نشاط عدائياً من المناطق الفلسطينية؛ التزام كلي من جانب م. ت. ف. بأمن إسرائيل؛ لا غموض فيما يتعلق بمجابهة المعارضة. ومع أننا لا نحاول الإيجاء بأن الفلسطينيين ينبغي أن يكونوا، أو سيكونون، غير راغبين في الوفاء بالتزاماتهم المنصوص عليها في الاتفاق، فإن المشكلة هي الى حد كبير مشكلة وقت وسياق. إن المطالب الإسرائيلية يراد لها أن تتحقق الآن، في حين أن القدرات الفلسطينية لا يمكن أن تنمو إلا مع الوقت، وستكون فعالة أكثر مع بروز نظام اجتماعي - اقتصادي وسياسي جديد. وبمقدار ما تكون مطالبة الفلسطينيين بالقيام بعمل مباشر ضد المعارضة في المدى القصير أشد وطأة، يكون محتملاً أن يصبح هذا النظام في المدى البعيد أقل استقراراً.

ثانياً: إن نقطة التوتر الرئيسية الثانية تنبع من الأولى تلقائياً تقريباً. إن عنصراً أساسياً في مفهوم إسرائيل للأمن في المرحلة الانتقالية يقوم على الفكرة المزدوجة المتمثلة في التجريبية وإمكان عكس مجرى الأمور. وفي الحقيقة، فإن المنطق السياسي - الاستراتيجي الكامن خلف الإصرار الإسرائيلي على وجود مرحلة انتقالية يقوم إلى حد بعيد على الافتراض المسبق بأن إسرائيل تستطيع، أو أنها ستحتفظ بالحق و/أو بالقدرة على، إلغاء ما قد تم فعله خلال المرحلة الانتقالية إذا ما ناقض ذلك مصالحها الحيوية. أما النظرة الفلسطينية الى المرحلة الانتقالية فهي مختلفة بصورة جذرية: فبالنسبة الى الفلسطينيين، فإن العنصر الأساسي في المرحلة الانتقالية هو كونها موقتة وعابرة؛ وبالتالي فإنها فترة سينتقل الفلسطينيون خلالها بخطوات تراكمية غير صارخة من كونهم تحت الاحتلال الكامل إلى وضعية استقلال كامل، أو إلى أقرب ما يمكن إلى استقلال كامل. إن الفكرة الفلسطينية خطيّة وتصاعدية، والفكرة الإسرائيلية تجريبية، وتنطوي على إمكان الانكفاء.

إن هذا ليس مصدراً جديداً للتوتر نابعاً من الاتفاق بين م. ت. ف. وإسرائيل في حد ذاته. بل إنه لازم بالأحرى عملية السلام منذ بدايتها، وتوقفت عنده محادثات واشنطن مطولاً. لكن تنبغي الإشارة، في أية حال، الى أن اتفاق الثالث عشر من أيلول/سبتمبر يمثل شيئاً من التنازل لمصلحة النظرة الفلسطينية؛ (أ) بوضعه جدولاً زمنياً واضحاً وتسلسل أفعال خطياً وتصاعدياً، ومفضياً إلى الانتخابات والمفاوضات بشأن الوضع النهائي، و (ب)بتشديدها على الارتباط العام الجوهري والموقت بين الاتفاقيات المرحلية واتفاقيات الوضع النهائي.

وهذا لا يعني في حد ذاته أن الإسرائيليين تخلوا كلياً عن الفكرة المزدوجة المتمثلة في التجريبية وإمكان عكس مجرى الأمور. بل إن الاتفاق يشتمل في الواقع على كثير من الأدلة التي تشير إلى عكس ذلك، سواء فيما يتعلق بالشروط المتصلة بمزيد من (خطوات) إعادة الانتشار خارج غزة/أريحا، أو فيما يتعلق بمهمات الشرطة الفلسطينية في باقي أنحاء الضفة الغربية.

وفي المجال السياسي أيضاً، من الممكن أن يعيد فيها الإسرائيليون تأكيد أفكارهم بالنسبة إلى السيطرة والشَرْطية فيما يتعلق بالاتفاقية التي سيتم التفاوض بشأنها والمتعلقة بنقل السلطة إلى المجلس المنتخب.

لكن بغض النظر عن المسائل التعاقدية/المنصوص عليها في الاتفاق، فإن الإسرائيليين قد يشعرون بنفور من التخلي عما شكل لفترة طويلة، من وجهة نظرهم، الأساس المنطقي للمرحلة الانتقالية. وفي المقابل، من السليم الافتراض أن الفلسطينيين سيواصلون التشديد على أية نقطة هي في مصلحتهم، وسيسعون بعزم وتصميم لنسف هذا المنطق من خلال مزيج من سياسات يّقصد بها طمأنة الإسرائيليين من ناحية، وخلق حقائق فعلية "غير قابلة للعكس" على الأرض من ناحية أُخرى.

ومن نواح كثيرة، من المشكوك فيه أن من الممكن المحافظة من الآن فصاعداً على الفكرة الإسرائيلية المتمثلة في التجريبية وإمكان عكس مجرى الأمور. وإحدى المشكلات الأساسية هي انعدام أي معيار واضح ومقبول من الطرفين لقياس الفشل. وبينما ليس محتملاً أن يتفق الطرفان على تعريف مشترك أو محدد، للفشل، فإنه ليس محتملاً بالمقدار ذاته أن يوافق الفلسطينيون على "فعل المعالجة الإسرائيلي"، في جال الإقدام عليه من جانب واحد. كما أنه من شبه المؤكد أن حرية إسرائيل في التصرف في هذا الخصوص ستكون مقيدة أكثر بفعل المصلحة الدولية (وخصوصاً المصلحة الأميركية) السياسية والاقتصادية المستثمرة في إنجاح "التجربة"، وبعدم وجود بديل آخر من النجاح قابل للتطبيق.

وثمة مشكلة أُخرى متعلقة بكون المقاربة الإسرائيلية وحيدة الجانب؛ ففي أية تجربة يشترك فيها الطرفان، من المنطقي الافتراض أن أياً منهما يمكن أن يفشل، على الأقل احتراماً للمبدأ العلمي. لكن في الفكرة الإسرائيلية المتعلقة بالتجربة، فإن الطرف الوحيد الممكن أن يفشل، كمبدأ، هو الطرف الفلسطيني فقط. ويستتبع ذلك، من وجهة النظر الإسرائيلية، أنه يمكن، وينبغي، وضع نظام عقوبات ضد الفلسطينيين بناء على طبيعة الفشل ومداه. وتتراوح هذه العقوبات بين تأخير نقل صلاحيات معينة وبين إعادة الاحتلال بصورة كاملة في الحالة القصوى. لكن ما العقوبات التييمكن أن تجازى إسرائيل بها لتذبذب أدائها لالتزاماتها؟ هل سيحصل الفلسطينيون على استقلال مبكر في حال فشل "كارثي" منم جانب الطرف الإسرائيلي؟ إن الفكرة التجريبية كما هي مطروحة حاليا لا تسمح بتبادلية كهذه.

إن مسألة وضع معايير للنجاح أو الفشل بناء على حسن أو سوء الأداء تعود الى البروز مرة أُخرى هنا. وحتى لو كان وضع تعريفات كهذه أمراً ممكناً موضوعياً، فإن فرص تطبيقها ليست مؤكدة في أفضل الأحوال، مع أنه من المحتمل أن تطالب إسرائيل بمقدار من حرية العمل من جانب واحد. ومع أنه ليس من المحتمل أن يكافأ الفلسطينيون في حال حدوث إخفاقات إسرائيلية، فإن الإسرائيليين من ناحيتهم قد لا يكونون في وضع يسمح لهم بفرض عقوبة عكس مجرى الأمور كلياً رداً على إخفاقات فلسطينية متخيلة.

ثالثاً: يمكن القول إن اتفاق 13 أيلول/سبتمبر، بمقدار ما يمثل مقابة حزب العمل للحكم الذاتي، يختلف في بعض النواحي المهمة عن النماذج الليكودية للحكم الذاتي (التي بقيت إلى حد بعيد النماذج الأصلية السائدة في المحادثات الرسمية في واشنطن).

وبهدا المعنى، فإن فكرتيْ التجريبية وإمكان عكس مجرى الأمور قد يكون طرأ عليهما تأكل ما باستعداد حزب العمل (في الواقع استعداد رابين نفسه) للتفكير برباطة جأش في إمكان قيام كيان فلسطيني ما – أقل من دولة لكن مع ذلك كيان قومي واضح وهكذا فإن المقاربة الفلسطينية الخطية والتصاعدية يمكن قبولها إمكاناً ضمن حدود معينة ولغرض استراتيجي محدد هو: "تسوية إقليمية" وبروز كيان فلسطيني أقل من كيان قومي كامل مرتبط بالأردن سياسياً (ما زال رابين يمتنع من التصريح بأنه يؤيد قيام كونفدرالية أردنية- فلسطينية بحجة أن ذلك يفترض مسبقا وجود دولة فلسطينية مستقلة كشريك في الكونفدرالية).

لكن هنا يكمن ما قد يكون أهم وأعقد مصدر للتوتر بين التصور السياسي – الاستراتيجي الشامل لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين. ذلك بأن حزب العمل (في مسودات ومقترحات مشتقة من "خطة آلون" في الغالب) يتصور "التسوية الإقليمية" بأنها ضم ما يرقى الى 40% من الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1967، بما في ذلك المنطقة الاستيطانية الموسعة حديثاً، المسماة القدس الكبرى (Greater Metropolitan Jerusalem) التي تمتد الى ما وراء حدود بلدية القدس الموسعة، وصولاً إلى مشارف أريحا ذاتها. وعلى خلفية تنازل الفلسطينيين عن حقوقهم السياسية والإقليمية في 75% من وطنهم، فإن المطالبة بـ "حل وسط" من هذا النوع تبدو ثمناً باهظاً جداً لمصالحة تاريخية حقيقية.

في أية حال، فإن من مفارقات الاعتراف المتبادل واتفاق إعلان المبادئ أنهما يؤديان إلى بدء عملية تحول ما كان في صميمه نزاعاً وجودياً، نزاعاً يقوم على الإنكار والرفض المتبادلين، الى نزاع "عادي" نسبياً بشأن ما يدعو حزب العمل إليه بالضبط، أي إعادة رسم للحدود. وفي أبسط أشكاله، فإن ما كان سابقاً صداماً تاريخياً عميقاً أصبح، أو يمكن أن يصبح قريباً، خلافاً بشأن الحدود ورسم خطوطها.

وبهذا المعنى، فإن المواجهة الفلسطينية - الإسرائيلية المتوقعة بخصوص "التسوية الإقليمية" ستصبح أقرب في جوهر طبيعتها إلى نزاعات إسرائيل الحدودية مع جيرانها العرب الآخرين.

إن هذا لا يعني أن رسم الحدود القومية النهائية بين فلسطين وإسرائيل مسألة قليلة الشأن. إن ذلك سيقرر، بين أمور أُخرى، مصير المستوطنين والمستوطنات، ومصير عرب القدس، ومستقبل التصرف في حقوق المياه في الضفة الغربية؛ أي في الحقيقة جملة المشكلات التي تشكل لب عملية المفاوضات الجارية حالياً. وبمجرد المقابلة بالنزاع السابق حول الحقوق الوجودية، قد يبدو مثل هذه المسائل اعتيادياً نسبياً.

بالنسبة إلى الفلسطينيين، ثمة هدفان للمرحلة المقبلة: (أ) بسط الوجود، والمؤسسات، والسلطة الفلسطينية على أوسع مساحة ممكنة في الضفة الغربية وغزة، و(ب) طيّ الوجود الإسرائيلي المدني والعسكري في هذه المساحة على نحو يقوّض قدر الإمكان فكرة حزب العمل فيما يتعلق بالتسوبة الإقليمية. في مستوى معين، فإن اتفاق إعلان المبادئ يضع حداً للحدود القصوى للتوسع الإسرائيلي، ويوجه ما يمكن أن يكون ضربة قاضية لإيديولوجية إسرائيل الكبرى كعامل مقرر في السياسة العملية. لكن التوتر بين الجهود الفلسطينية للانتشار في الأراضي المحتلة، وبين جهود إسرائيل لاحتواء هذا الانتشاء، مع إبقاء الخيارات مفتوحة أمام تقرير الحدود النهائية، من المحتمل جداً أن يشكل السمة الأبرز للمرحلة الانتقالية.

رابعاً: من الواضح أم مسألة من يسيطر على ماذا خلال المرحلة الانتقالية هي مسألة في غابة الأهمية، ومن الواضح أن إسرائيل ستسعى للحد من استقلالية الفلسطينيين في العمل ما وسعها (جرى التعبير عن ذلك بلطف شديد في الهياكل الشاملة والتفصيلية من أجل "التعاون والتنسيق" في إعلان المبادئ، وبصورة خاصة في الملاحق الاقتصادية). لكن من الواضح جداً أيضاً أن مثل هذه الجهود الإسرائيلية سيصطدم بالميل الطبيعي الفلسطيني إلى المقاومة. وهذا يشير إلى مكمن آخر للتوتر القائم بالكمون بين الطرفين، وهو التوتر الذي سينجم عن عدم التناظر في القوة، فيما هو الآن، ظاهرياً، علاقة سلمية.

وفي حين أن الفلسطينيين والإسرائيليين اعتادوا طويلاً على عدم التناظر في علاقات القوة فيما بينهم في سياق مجابهة شاملة، فإن الصعوبة الآن تنشأ من الحاجة إلى تكييف عدم التناظر هذا مع حقائق صنع السلام. وبالنسبة إلى الفلسطينيين فإن العملية/الدينامية الجديدة قائمة تقريباً قبل كل شيء على التبادلية. وهذا يتضمن تغييراً كبيراً في المكانة النفسية/الخلقية المعترف بها للفلسطينيين كشعب على وجه العموم، وكأناس تحت الاحتلال تحديداً. كما يتضمن تغييراً في نظرة إسرائيل إلى الفلسطينيين، كشركاء متساوين في السلام. والتحدي هو في كيفية التوفيق بين امتلاك إسرائيل قدرات قمعية واسعة ومتنوعة وبين هذه المساواة المفترضة بين الطرفين.

وما هو في كفة الميزان شيء أكثر من مجرد مدركات التغيير. إن جوهر التعايش هو أن يظهر كلا الطرفين رغبة في العمل معا، بعيداً عن سياسات السيطرة. إن التوقعات الفلسطينية هنا عالية جداً، لكن قدرة إسرائيل على التغير ستكون محدودة، على الأرجح، بحاجتها المتصورة إلى المحافظة على السيطرة من ناحية، وبالحقيقة الموضوعية المتمثلة في قوتها القمعية المتفوقة من ناحية أًخرى. وهكذا، فإن الفلسطينيين سيتوقعون من الإسرائيليين أن يتصرفوا كأن الاحتلال قد انتهى تقريباً، بينما سيتصرف الإسرائيليون على الأرجح كأن الاحتلال ما زال يتعين عليه أن يبدأ الانحسار.

وبينما سيطالب الإسرائيليون، في البداية على الأقل، بجرعات يومية تقريباً من "حسن النيات" الفلسطينية، سيطالب الفلسطينيون بجرعات مساوية تدل على أن تغييراً حقيقياً قد حدث في العلاقة بين المحتلين والواقعين تحت الاحتلال. ويقدم الصراع على الإفراج عن المعتقلين في السجون الإسرائيلية مثالاً جيداً لذلك: فالفلسطينيون يرون أنه مع بدء حقبة التعايش السلمي، فإن مسألة التاريخ الشخصي لأولئك الذين قاوموا الاحتلال بأية وسيلة مهما كانت، لم تعد أكثر أهمية من سير حياة أولئك "الذين تلطخت أيديهم بالدماء" في الجانب الإسرائيلي.

إن المسألة هنا تتجاوز الجانب الرمزي لتمس الأعصاب المكشوفة التي تنشط الكوابيس القومية لدى الطرفين. وإن كان للنزاع أن يعتبر منتهياً، وللفصل الجديد في العلاقات أن يبدأ، فإن جزءاً من عملية التغيير هذه ينبغي أن يكون في اعتبار أن أنماط السلوك والتعبير السابقة لـ 13 أيلول/سبتمبر 1993 لم تعد ملائمة لما بعد هذا التاريخ. وقد يكون ذلك أكثر مما يمكن توقع حدوثه في وقت قصير. لكن ما لم يبذل من قِبل كلا الطرفين مجهود واع لتحقيق هذه الغاية فإن "التعايش" سيبدأ الظهور وكأنه لا يعدو كونه غطاء رثاً لاستمرار النزاع بوسائل أُخرى.

إن التشخيص أعلاه لبعض نقاط التوتر المحتملة في الارتباط الفلسطيني - الإسرائيلي الجديد ينطوي على قليل من العناصر المقترنة عادة بالتحليل الاستراتيجي أو الأمني. إن كثيراً من النقاش الأمني، قبل ومنذ الاتفاق (وخصوصاً في إسرائيل) قد تركز على الأدوات والوسائل الأمنية الأساسية في المناطق المحتلة أكثر مما تركز على الإِطار الأوسع. إن البحث عن الأدوات الأمنية الأكثر فعالية من أجل المرحلة الانتقالية هو، من دون شك، جزء حيوي من الصورة العامة، لكنه يبقى جزءاً فقط. وعندما يتبلور البنيان الاجتماعي – السياسي الأشمل للمرحلة الانتقالية، ويبرز كيان قومي سياسي فلسطيني متميز، فإن المقاربة "العسكرية" الأكثر تقليدية للأمن قد تفرض نفسها مجدداً بصورة تلقائية.

وهكذا، سنضطر في نهاية المطاف الى أن نبحث بالتفصيل في "الترتيبات الأمنية" البعيدة المدى بين إسرائيل وفلسطين (بالإضافة الى الأردن والمحيط الاستراتيجي الإقليمي وراءه) بالطريقة نفسها التي يبحث وفقها حالياً في الترتيبات المتعلقة بالجبهات العربية الأُخرى، لكن ريثما نصل إلى تلك النقطة، فإنه لا ينبغي الخلط بين الأمن في المرحلة الانتقالية وبين مظاهره التكتية، على أهميتها.