إسرائيل بعد الحرب
كلمات مفتاحية: 
حرب الخليج 1991
أمن إسرائيل
السياسة الدفاعية والأمنية
نبذة مختصرة: 

يذهب محرر الشؤون العسكرية في "هآرتس"، في هذا المقال المنشور في Foreign Affairs ، إلى أن على إسرائيل الآن، وقد انتهت حرب الخليج، أن تدقق النظر في نظريتها الدفاعية، وتوجه إلى نفسها عدداً من الأسئلة المهمة فيما يتعلق بأمنها في المستقبل. فقد كانت هذه أول مرة منذ سنة 1948 ينجح العرب فيها في ضرب الجبهة الداخلية المدنية في إسرائيل.

النص الكامل: 

الآن وقد انتهت حرب الخليج، فإن على إسرائيل أن تدقق النظر في نظريتها الدفاعية، وتوجه إلى نفسها عدداً من الأسئلة المهمة فيما يتعلق بأمنها في المستقبل. فالصواريخ التسعة والثلاثون التي أُطلقت عليها جلبت معها شعوراً بالصدمة، عززه شعور بالذل مرده أن البلد ملزم بتلقي هذه الضربات في عقر داره من دون أن يرد عليها. وهذه أول مرة، منذ "حرب الاستقلال" سنة 1948، ينجح العرب فيها في ضرب الجبهة المدنية الداخلية في إسرائيل.

وقد اضطر سكان البلد، شبابها وشيبها، إلى ارتداء الأقنعة الواقية من الغازات؛ ووُضع الأطفال الرضع في أجهزة خاصة شبيهة بالمحاضن، لحمايتهم من الأسلحة الكيماوية. وجاءت الذكريات الرهيبة لتقضّ مضاجع الكثيرين في إسرائيل، وخصوصاً أولئك الذين نجوا من الكارثة النازية. وعلى الرغم من الجهود الأميركية لتدمير منصات إطلاق الصواريخ، فإن هذه الهجمات لم تتوقف، ولو أنها انحسرت بعض الشيء. ويبدو أنه لم يكن من السهل حتى على دولة عظمى أن تقضي بسرعة على خطر الصواريخ.

وعلى الرغم من أن صواريخ سكود لم تشكل خطراً على وجود البلد ذاته، فإن السكان المدنيين بقوا عرضة لها. وطوال هذه الفترة، وبسبب التقييدات السياسية، كان على إسرائيل أن تكتفي بالمقاومة السلبية عوضاً من الدفاع عن نفسها دفاعاً فعّالاً.

II

              ولا مناص للإسرائيليين من التساؤل عما كان يمكن أن يحدث لو أخذت الحرب منحى آخر. ماذا لو كان صدام حسين وجّه قواته غرباً نحو إسرائيل بدلاً من توجيهها جنوباً إلى الكويت؟ ماذا لو كان أرسل العشرات من الفرق العسكرية إلى غرب العراق، ونشر البعض منها على الحدود الأردنية؟ لقد كان في إمكان عملائه أن يفتعلوا حوادث على الحدود الإسرائيلية – الأردنية، مستفزين بذلك إسرائيل للانتقام من الأردن. وكان في إمكانه أن يبرر تحرك قواته إلى غرب العراق، مشيراً إلى الحاجة إلى مساندة الأردن.

              وعندها، فإن الرأي العام النضالي كان سيفرض على الملك حسين السماح بانتشار القوات العراقية على الأرض الأردنية كما فعل سنة 1967. وهذه الخطوة كانت ستعتبرها إسرائيل بمثابة تخطي "الخط الأحمر"، لكن قدرتها على الرد كانت ستكون محدودة. ولكان على الجيش أن يعلن دعوة كثيفة جداً للاحتياطيين، لكن من دون أن يتمكن من الحفاظ على التعبئة لفترة طويلة لأن الاقتصاد الإسرائيلي عندئذ سيتعرض للانهيار. لذا، فإن الحكومة كانت ستواجه مشكلة توجيه ضربة وقائية؛ وحتى لو لم تفعل ذلك، فإن صدام حسين كان على الأرجح سيجد طريقة لاستفزاز إسرائيل وجرها إلى الحرب.

كذلك، ومن المنطقي أن نفترض أن سوريا كانت ستنضم إلى مثل هذه الحرب، الأمر الذي كان سيجبر إسرائيل على التعامل مع جبهة شرقية عريضة تواجه فيها جيوش العراق وسوريا والأردن. وكان العراقيون سيركزون معظم منصات إطلاق صواريخهم في غرب العراق، والبعض منها على مقربة من الحدود الأردنية، وحتى مخبأة في الأردن ذاته. وكان تخفيض المدى إلى إسرائيل سيمنح العراقيين القدرة على زيادة كمية المتفجرات في رؤوس الصواريخ الحربية، فتسبّب المزيد من الدمار.

ومن المشكوك فيه جداً أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة كان سيساند إسرائيل في سيناريو كهذا، أو أن الولايات المتحدة كانت ستحشد تحالفاً عسكرياً دولياً ينهض لمساندة إسرائيل. فالسلاح الجوي الأميركي ما كان سيقوم بطلعات للدفاع عن إسرائيل، ولا كانت الأقمار الصناعية الأميركية ستوفر للقدس إنذارات مبكرة في شأن الصواريخ الآتية من العراق.

ومن المشكوك فيه أيضاً أن سلاح الجو الإسرائيلي، على الرغم من فعاليته، كان في إمكانه أن يقضي قضاء كاملاً على خطر صواريخ أرض – أرض العراقية، وهو مضطر في الوقت ذاته إلى التعامل مع القوات الجوية السورية والأردنية والعراقية طبعاً؛ فهذه الأخيرة ما كانت ستهرب إلى إيران.

من هنا، فإن إسرائيل سرعان ما كانت ستجد نفسها في خضم سيناريو يشبه الكابوس؛ فالصواريخ كانت ستشل الحياة المدنية والاقتصاد. وكان سيتعيّن على سكان إسرائيل برمتها – وخصوصاً على الساحل حيث يوجد معظم الأهداف الحيوية – أن يعيشوا في ملاجىء واقية من الغارات الجوية. أما الهجوم الإسرائيلي، فكان سيجلب في طياته خسائر فادحة أكثر من أية حرب ماضية، تواكبها خسائر في صفوف المدنيين وراء الخطوط الأمامية.

أخيراً، فإن حرباً كهذه كانت ستنتهي إما إلى انتصار إسرائيلي، وإنْ لم يكن انتصاراً كاملاً بسبب حجم القوات والمسافات القائمة والثمن الباهظ الذي لن تتمكن إسرائيل على الأرجح من استرداد عافيتها بعده، وإما إلى إمكان قد يعتبره الكثيرون بعيد الاحتمال للغاية، وإنْ كان لا يمكن تجاهله تماماً؛ أي إلى هزيمة إسرائيل.

وفي حرب كهذه، يفترض أن إسرائيل قد تشعر بأنها مرغمة على استخدام الأسلحة النووية التي يقال إنها موجودة في ترسانتها. ومن شأن هذه الأسلحة أن تنقذ البلد من الهزيمة إنْ استُخدمت في الوقت الملائم، أي قبل دخول الجيوش العربية أراضيها. وقد تُستخدم لاحقاً، أي في المراحل الأخيرة من القتال، لمعاقبة الدول العربية على انتهاكها الأراضي الإسرائيلية. وثمة طبعاً إمكان قيام الولايات المتحدة بإنقاذ إسرائيل من ورطة الحرب في الدقائق الأخيرة.

ويشك معظم الإسرائيليين في أنه كان سينشأ تحالف دولي برئاسة الولايات المتحدة لإنقاذهم، كما كانت الحال في الكويت. وفي كل حال، لا معنى لمساندة كهذه إذا كان وصولها متأخراً كما في الكويت. وحتى لو وصلت هذه المساندة بسرعة، فإن إسرائيل كانت ستُصاب بالعوق النفسي من وجهة نظر معنوياتها.

والكثيرون من الإسرائيليين، بمن فيهم بعض كبار الضباط، يعلمون – وإنْ لم يصرحوا ذلك علناً – أن حرب العراق الأخيرة كان يمكن أن تتجه نحو هذا السيناريو الرهيب. فالخطأ الذي ارتكبه صدام حسين هو في توجهه أولاً إلى الكويت، وذلك على ما يبدو في محاولة لتعزيز قدراته المالية استعداداً للحرب التالية؛ أي الحرب ضد إسرائيل. لذا، فإن هؤلاء الضباط لا يتكلمون عن تسلسل الأحداث في هذه الحرب وكأنها بمثابة معجزة بالنسبة إلى إسرائيل. لكن الكثيرين من الإسرائيليين قد بدأوا يتساءلون: إلى متى يمكن لهذا البلد أن يعوّل على المعجزات؟

لربما كان هذا السيناريو الذي أشرنا إليه رهيباً جداً، غير أنه لا يمكن تجاهله عند استخلاص عبر حرب الخليج، وتقويم الأخطار على إسرائيل والمنطقة في غياب تسوية سلمية شاملة في الشرق الأوسط.

III

              حتى اندلاع الحرب، فعلت واشنطن كل ما في وسعها لإبعاد القدس عنها، حتى لا يظنن أحد أن لإسرائيل أدنى علاقة بالتحالف المناهض للعراق. وعمد الرئيس بوش، ووزير الخارجية بيكر، حتى إلى تفادي الكلام بالهاتف مع رئيس الحكومة الإسرائيلية شمير. أما وزير الدفاع الإسرائيلي، آرنس، فقد فرض نفسه تقريباً على وزير الدفاع الأميركي تشيني، حين ذهب إلى البنتاغون من دون دعوة وبرعاية مؤسسة للأبحاث مقرها واشنطن.

أما القدس، فلم يزعجها الاجتماع بين الرئيس بوش والرئيس السوري حافظ الأسد، بقدر ما أزعجها الرفض الأميركي لمناقشة – ولو بالسرّ – الخيارات العسكرية المتاحة لإسرائيل في حال حدوث هجوم عليها من قبل العراق، واضطرارها إلى الرد الفوري عليه. وفي هذه المرحلة، كان التعاون بين أجهزة الاستخبارات في البلدين في حده الأدنى، ولم يكن ثمة أي تشاور في أمور العمليات العسكرية إلى الحد الذي برزت معه الشكوك في إسرائيل بشأن جدوى التعاون الاستراتيجي بين البلدين ومغزاه.

وتعززت هذه الشكوك من خلال الاحتكاك بالإدارة الأميركية فيما يتعلق بضغوطات إسرائيل في الكونغرس لمنع إبرام صفقة هائلة من الأسلحة مع السعودية. وكان الكونغرس قد خصص مبلغ 700 مليون دولار للأسلحة والمعدات إلى إسرائيل، وبالتشاور مع الإدارة قرّ القرار أن تتضمن هذه الأسلحة صواريخ باتريوت (المضادة للطائرات، وليس النموذج المتطور المضاد للصواريخ). لكن، وباستثناء الباتريوت، لم تصل أية من هذه المعدات إلى إسرائيل، حتى بعد بدء حرب الخليج.

غير أن الرجل الذي قرر موقف إسرائيل في الحرب، في نهاية الأمر، كان صدام حسين نفسه. فمنذ لحظة سقوط أولى الصواريخ العراقية على مدن إسرائيل، خلق صدام مشكلة استراتيجية لم تستطع واشنطن تجاهلها؛ فأصبح إمكان تدخل إسرائيل في الحرب وانجرار الأردن إليها عقب ذلك، خطراً حقيقياً داهماً. وكان ثمة فرصة سانحة لأن ينجح صدام لا في توسيع رقعة القتال فحسب بل أيضاً في تطويره ليصبح حرباً عربية – إسرائيلية. ولهذا السبب، كان على واشنطن أن تقنع القدس بسرعة بأن تغيّر عادتها القديمة وأن تمتنع من الرد على الضربات الموجهة إلى مراكز سكانها.

كما اضطرت الولايات المتحدة إلى تخصيص المزيد من مواردها القتالية بما يفوق ما خططت له في البدء، وذلك من أجل تدمير منصات إطلاق الصواريخ العراقية. ومن وجهة النظر العسكرية، كان من الأفضل لو تم تأجيل العمل ضد هذه المنصات إلى مرحلة لاحقة من الحرب. لكن، وبسبب التعقيدات الاستراتيجية، صدرت الأوامر إلى القادة في ساحة القتال بأن يضعوا الخطط لآلاف الطلعات الجوية ضد الصواريخ. وهكذا، فقد كانت الطائرات تحوم فوق مناطق إطلاق الصواريخ في غرب العراق طوال النهار والليل. كما أن مدة الإنذار المبكر في شأن الصواريخ التي تم إطلاقها والتي رصدتها الأقمار الأميركية قد ازدادت، الأمر الذي سمح للمدنيين في إسرائيل بكسب الدقائق الثمينة للوصول إلى الملاجىء.

وبعد سقوط الدفعات الأولى من الصواريخ، أُرسلت ست بطاريات من صواريخ باتريوت المتطورة، مع جنود أميركيين لتشغيلها، إلى إسرائيل على وجه السرعة. وكان على القدس أن تتجاهل امتعاضها التقليدي من أن يحارب جنود غرباء حروبها؛ فكل ما كانت إسرائيل تطلبه في الماضي هو الأسلحة اللازمة للدفاع عن نفسها بنفسها. (وفي مرحلة متقدمة من الحرب، وصلت إلى إسرائيل كتيبة من الجنود الهولنديين ومعها بطارية أخرى من صواريخ باتريوت). وكانت الحرب الجارية بواسطة الصواريخ، والتي طُلب من إسرائيل فيها عدم التحرك، كافية لحمل القدس على إعادة النظر في هذا المبدأ الأساسي.

وعلى الرغم من أن التعاون بين إسرائيل والولايات المتحدة تحسّن فيما يختص بالمشاركة في حقل الاستخبارات، فقد ظل التعاون محدوداً جداً في حقل العمليات، حتى بعد أن تعرضت إسرائيل لهجمات الصواريخ العراقية. ومن هذا المنطلق، بقيت إسرائيل طرفاً خارجياً، على الرغم من أن مشورتها في شأن كيفية الهجوم على الصواريخ في غرب العراق أُخذت في الاعتبار.

وكانت القدس مستعدة تماماً لأن تكشف عن خططها العملية لواشنطن، وقد دُهشت حين تسرّب بعض التفاصيل السرية إلى وسائل الإعلام الأميركية، لكن، لم يغير أي من هذه الأمور من عزم واشنطن على منع القدس من الرد على هجمات الصواريخ. وقد نجحت جهود الحلفاء لتدمير منصات إطلاق الصواريخ في خفض عدد الهجمات على إسرائيل. لكن الأهم أن إسرائيل وجدت نفسها عاجزة عن إشهار قوتها العسكرية، وملزمة بالاعتماد على الولايات المتحدة حتى في حقلٍ ربما كانت قواتها وجدت فيه حلولاً أفضل في مجال العمليات.

والأمر الذي لفت النظر في إسرائيل هو أن الجهود الأميركية ضد منصات إطلاق الصواريخ العراقية اقتصرت على الهجمات الجوية، حتى بعد نشوب الحرب البرية (ما عدا هجوماً قبل انتهاء الحرب دُمّرت فيه صواريخ أرض – جو من نوع سام – 2). وقد وجد الإسرائيليون من المستغرب أن الأميركيين لم يستخدموا الطوافات المقاتلة ووحدات الكوماندو في عمليات "التفتيش والتدمير" ضد منصات إطلاق الصواريخ. وكان من شأن عملية برية أكثر طموحاً، تشنها قوات مظلية تنطلق من السعودية، أن توجد منطقة عازلة بين الأردن والعراق، وبذا تخفف الضغط عن الأردن بينما تضمن ألا يكون لإسرائيل أي مبرر للتدخل في الحرب.

ولمّح الإسرائيليون، مراراً وتكراراً، إلى أنهم لو تولوا مسؤولية تدمير منصات إطلاق الصواريخ في غرب العراق، لكان في إمكانهم إنجاز الأمر على وجه أفضل. ولا جدال في أن الطيارين الإسرائيليين يملكون خبرة قتالية أكبر من نظرائهم الأميركيين. فقد أمضى الكثيرون منهم الأعوام في التدريب على إصابة منصات إطلاق الصواريخ وغيرها من الأهداف الصغيرة.

ومن المرجح، أيضاً، أن سلاح الجو الإسرائيلي كان سيأمر طياريه بالهجوم من علو أكثر انخفاضاً، وذلك لتحسين فرص إصابة الهدف، حتى لو كان الأمر يعني المزيد من الضحايا. ومن المؤكد أن الطيار الإسرائيلي مستعد لتعريض نفسه للمزيد من المخاطر حين يعلم أنه يدافع عن عائلته التي ترتدي أقنعة الوقاية من الغاز في الملاجىء. لكن إطلاق يد سلاح الجو الإسرائيلي كان من شأنه، ولا شك، أن يجلب الطيران الأردني إلى الحرب، وخصوصاً أنه كان من المستحيل على إسرائيل أن تقوم بعملية واسعة النطاق في غرب العراق من دون خرق المجال الجوي الأردني. ولو قام الأردن بالتصدي للطائرات الإسرائيلية، فلربما كان قد خسر سلاحه الجوي جراء ذلك.

وبالإضافة، وعلى الرغم من أنه كان من المنطقي أن سلاح الجو الإسرائيلي كان في وسعه أن يسجل نتائج أفضل ضد المنصات العراقية، فقد اعترف قادته بأن لا ضمانة في أن العراقيين لا يستطيعون إطلاق المزيد من الصواريخ من منصات سلمت من الهجمات حتى بعد شن غارات جوية كثيفة للغاية. وحدها العملية البرية كان في إمكانها القضاء على خطر الصواريخ قضاء تاماً، لكن واشنطن وقفت بثبات وعزم ضد هذه الفكرة.

وأثارت الجهود الرامية إلى تدمير المنصات تساؤلات جدية في شأن تقارير أجهزة الاستخبارات عن أنظمة الصواريخ التي لدى العراق، وعن قدرته العسكرية ككل. في بداية الحرب، كان العراق يملك نحواً من ثلاثين منصة متحركة لإطلاق الصواريخ. لكن البيانات اليومية الصادرة في الرياض عن الناطق باسم القيادة المشتركة، أوحت بأن العراقيين يملكون عدداً أكبر كثيراً من هذه المنصات. والبلاغات الأميركية المتلاحقة، ومفادها أنه يجب ألا يستهان بقوة العراق العسكرية، وأن المطلوب حرب ضروس لإخراج العراقيين من الكويت، هذه البلاغات أيضاً أثارت الاستغراب في صفوف القيادة العامة الإسرائيلية.

IV

              كان هنالك ولأعوام عدة، خلافات جدية بين الإسرائيليين الذين طالما شددوا على الأخطار المتمثلة في الآلة الحربية العراقية، وبين خبراء الاستخبارات الأميركية الذين نصحوا لإسرائيل ألا تنظر إلى ذاك الخطر بمثل هذه الجدية. وهذه المناقشات كانت تتم، في العادة، كلما قدمت إسرائيل تقويمها للوضع العسكري في الشرق الأوسط، ولنسبة القوة المطلوبة من أجل ردع أعدائها أو من أجل الدفاع عن نفسها في حال فشل الردع.

ولم تكن الولايات المتحدة تدعي فقط أن إسرائيل تبالغ في تقديرها للإمكانات العراقية، بل كانت تدعي أيضاً أن إسرائيل، وفي حال نشوب حرب، قادرة على أن تهزم وبسهولة أي تحالف عسكري قد يأتلف على جبهتها الشرقية. وكانت واشنطن تدعي أيضاً أن القدس تبالغ في تقاريرها بشأن الخطر النووي العراقي.

وقبل اجتياح الكويت بأيام معدودة، طلب وزير الدفاع آرنس مقابلة وزير الدفاع تشيني. وكان برفقة آرنس إلى واشنطن رئيس الاستخبارات العسكرية في إسرائيل الجنرال أمنون شاحاك، وجلب الإثنان معلومات جديدة عن النشاطات العراقية في أوروبا تبيّن أن بغداد كانت تبذل جهوداً حثيثة لتسريع عملية تطوير أسلحتها النووية. وعاد الإسرائيليون من ذلك الاجتماع بانطباع مقلق بأن الأميركيين لم يأخذوا تحذيراتهم على محمل الجد تماماً.

لكن النظرة الأميركية تغيرت تغيراً جذرياً حالما وجدت الولايات المتحدة نفسها وجهاً لوجه أمام الآلة العسكرية العراقية. فجأة تحول الازدراء بالجيش العراقي إلى حذر عميق. وجاءت التنبؤات الجديدة لتفيد بأن هزيمة العراق تقتضي قوة كبرى، أكبر وأقوى كثيراً من الجيش الإسرائيلي. واستنتجت إسرائيل، من هذا الانقلاب الشامل في النظرة، أن من الضروري التعامل مع تقويمات الاستخبارات الأميركية وغيرها في المستقبل فيما يخص الأخطار على أمنها، بالقدر اللازم من التشكيك.

غير أن الواقع، وهو أن الاستخبارات الإسرائيلية كانت أوعى كثيراً للخطر العراقي من الاستخبارات الأميركية، لا يعفيها من الحاجة، وعقب الحرب، إلى التصدي لبعض الأسئلة الصعبة عن مقامها وسجل أعمالها. وبما أن لإسرائيل جيشاً يشبه الميليشيا، وقوامه من الاحتياط، فقد مُنحت الاستخبارات وضعاً خاصاً مميزاً كي توفر الإنذار المبكر والملائم حيال أي خطر ناجم عن أية دولة عربية. وهذا الدور، طبعاً، سيزداد أهمية فيما لو تخلت إسرائيل عن الأراضي المحتلة كجزء من تسوية سياسية.

وعلى الرغم من أن الأحداث أثبتت صواب الإسرائيليين في مناظرتهم مع الاستخبارات الأميركية، فإنهم كانوا هم أيضاً غير مطّلعين، بما فيه الكفاية، على ما كان يجري في العراق، وخصوصاً بالمقارنة مع معرفتهم بالأحداث في سوريا والأردن.

وفي هذا المجال، لم تؤخذ الاستخبارات الإسرائيلية على حين غرةكما حدث في حرب يوم الغفران سنة 1973؛ إذ كانت تعلم أن هناك نقصاً في المعلومات الرئيسية عن العراق. فالمسافة بين البلدين، والصعوبات الناجمة عن العمل في دولة دكتاتورية، والمخصصات المحدودة التي رصدتها الحكومة لهذا الحقل، كلها أثرت في كمية المعلومات التي كان يمكن جمعها. لقد انصب الاهتمام على دول المواجهة على الخطوط الأمامية، لكن تبيّن فجأة أن إسرائيل قد تواجه تحدياً صعباً من أقطار عربية أبعد.

فقد تسلح بعض هذه الدول بأسلحة غير تقليدية ووسائل بسيطة لإيصالها، وهذا الأمر كان يكفي لأن يجعل هذه الدول أخطر على إسرائيل من دول الخطوط الأمامية. وعوضاً من إرسال القوات الغازية ضد إسرائيل كما حدث في حروب سابقة، كان في استطاعة بلد كالعراق أن ينضم إلى نزاع مسلح عن بعد، وذلك بواسطة صواريخه. وبما أن المسافات البعيدة وحدها كانت تعوق الوصول إلى المعلومات، فلا ريب في أن أحد الاستنتاجات التي ستصل إسرائيل إليها هو ضرورة التسريع في تطوير قدراتها في مجال الأقمار العسكرية.

وثمة، ولا ريب، عبرة أخرى هي أن وجود معاهدة سلام مع دولة عربية لها حدود مباشرة مع إسرائيل، مثل مصر، لا يكفي لإيجاد التوازن ضد الخطر الداهم من دول عربية أبعد. من هنا، فإن أية تسوية لاحقة لا بد من أن تشمل جميع الدول الكبرى في الشرق الأوسط.

V

              لقد وقعت أضرار كبيرة في الممتلكات في المناطق السكنية في مدن إسرائيل، لكن العدد الفعلي لضحايا الصواريخ التسعة والثلاثين كان منخفضاً. غير أن من الخطأ الحكم على تأثير هذه الهجمات استناداً إلى هذا المعيار فحسب.

إن المعيار الحق لتقويم تأثيرها هو الدور الذي كان يمكن أن تقوم به لو كانت إسرائيل تقف وحيدة في المعركة. إذ لم يلزم سوى العدد القليل من الصواريخ لإحداث دمار كبير في اقتصاد البلد؛ فقد توقف معظم الحركة التجارية في البلد. وسارع الكثيرون من السكان إلى الهرب من منطقة تل أبيب الكبرى. حتى أن تدفق المهاجرين على إسرائيل والذي ارتفع ليصل إلى الآلاف من البشر أسبوعياً، عشية الحرب، تضاءل تضاؤلاً بارزاً. ولو فشل الأميركيون في إزاحة خطر الصواريخ إزاحة تامة، لكانت إسرائيل في كل حال قد وجدت صعوبة أكبر كثيراً في التعامل بنفسها مع هذه المشكلة؛ إذ كان على سكانها الانكفاء إلى الملاجىء لساعات، وربما لأيام متصلة.

لقد كان الإسرائيليون يعلمون منذ زمن بعيد أن العراق يملك هذه الصواريخ في ترسانته، كما يملكها بعض الدول العربية الأخرى، كسوريا مثلاً. لكنْ ثمة فارق بين العلم بوجود خطر ما وبين اختبار هذا الخطر اختباراً مباشراً.

قبل الحرب، كانت حجة بعض الجنرالات في إسرائيل أن الصواريخ لا تمثل سوى خطر محدود للغاية، بحيث أن البلد يجب ألا يهدر الأموال في الدفاع عن نفسه ضدها. وكان قلقهم الأكبر أن يضطر سلاح الجو إلى إعادة ترتيب أولوياته بسبب الضغوط الناجمة عن رأي عام أصابه الرعب. وبدلاً من التركيز أولاً على إنجاز التفوق الجوي (الذي قرّ الرأي أنه شرط لا بد منه لكسب حرب ما) كان عليه أن يعثر على منصات إطلاق الصواريخ التي تهدد مراكز السكان في إسرائيل (وهو تهديد وصفته الأوساط العسكرية بأنه غير ذي شأن ويمكن تحمله ولا ريب).

ونظراً إلى أن الصواريخ مسلحة برؤوس حربية تقليدية، فإن الأنماط منها التي أُطلقت على إسرائيل لا يمكن أن تحدد مسار الحرب. لكن إذا كانت أعدادها كثيفة فيمكن أن يكون لها تأثير تراكمي مدمر. فحتى الصواريخ التي صُممت لنشر الرعب لا لتدمير الأهداف الحيوية، قد يكون لها تأثير استراتيجي فيما لو سقطت بأعداد كافية (100 أو 200 مثلاً) على مراكز سكنية، وفي فترات غير منتظمة. وهذا، ولا ريب، صحيح إذا تزامنت هذه الضربات الصاروخية مع هجوم بري.

وما إن بدأت الصواريخ العراقية بالسقوط في إسرائيل حتى تبيّن بوضوح أن نظرية الأمن التقليدية للبلد، والقاضية بأن ينقل الجيش الإسرائيلي القتال إلى أرض العدو حالما تنشب حرب ما، قد عفى عنها الزمن. ولأن هذه الهجمات جاءت من دولة عربية بعيدة، ومن خلال صواريخ حلقت فوق بلد عربي آخر لا من قوات برية، لم يستطع الجيش الإسرائيلي – وبكل بساطة – تطبيق هذه النظرية. فقد وجدت إسرائيل نفسها مكبلة حتى فيما يختص باستخدام الطائرات والصواريخ، إذ إن واشنطن كانت تصر على أن تمارس القدس ضبط النفس تماماً.

كذلك، فإن إسرائيل أدركت أن من مصلحتها ألا تفعل شيئاً قد يؤدي إلى وقف لإطلاق النار قبل الأوان، في وقت كانت الولايات المتحدة – على الرغم من كل شيء – تدمر الآلة الحربية لأحد أشد أعدائها. والواقع، أن هذه لم تكن أول مرة تضطر إسرائيل فيها إلى أن تمتنع من القيام بعمل يقتضيه المنطق العسكري الخالص. ففي 6 تشرين الأول/أكتوبر 1973، عندما شن جيشا مصر وسوريا هجومهما المنسق، آثرت رئيسة الوزراء غولدا مئير، ووزير الدفاع موشيه دايان، أن يرفضا مشورة رئيس الأركان [قبيل الحرب] بشن ضربة جوية وقائية حتى لا تظن واشنطن أن إسرائيل هي التي بدأت الحرب.

وعند النظر إلى المستقبل، لا تستطيع إسرائيل أن تتجاهل واقع أن الصواريخ الأكثر تطوراً ستكون أدق كثيراً في إصابة أهدافها، وأنها ستوجَّه إلى أهداف استراتيجية كالمطارات وغيرها من المنشآت الحيوية، بينما تُستخدم الصواريخ الأقل دقة وتكلفة ضد المراكز السكانية. من هنا، فالمطالبون بالمزيد من الاستثمار في مجال الدفاع ضد الصواريخ سينتصرون على الأرجح، وخصوصاً أن العرب سيصبحون قادرين – في يوم ما – على تسليح صواريخهم برؤوس حربية غير تقليدية.

ولا ريب أن إسرائيل ستنفق المزيد من الأموال على تطوير صاروخ "أرو" المضاد للصواريخ. لكن، وربما أن تطوير مثل هذه الأنظمة من الأسلحة المتطورة مكلف جداً وسعره أيضاً مرتفع للغاية، فإن مصاريف إسرائيل الدفاعية سترتفع ارتفاعاً شديداً بسبب الحاجة إلى الدفاع عن نفسها ضد صواريخ أرض – أرض. وحتى لو ساهمت واشنطن في تمويل تطوير الصاروخ المضاد للصواريخ، فإن القدس ستنفق كميات كبرى من أموالها على تطوير صاروخ "أرو" وعلى شراء صواريخ أخرى. ولن ينتهي الأمر عند هذا الحد.

إن إحدى عِبَر حرب الخليج ستكون، ولا ريب، الحاجة إلى استثمار المزيد من المال في الدفاع المدني وبناء الملاجىء لحماية السكان من الحرب الكيماوية والبيولوجية والنووية. فالتركيز كان، حتى الآن، على الاستثمار في الوسائل الهجومية – أي "أنياب" الجيش – وكان الاستثمار في الوسائل الدفاعية صغيراً نسبياً. لكن إسرائيل ستجد نفسها مضطرة إلى أن تفعل الأمرين معاً. ومن المشكوك فيه، في الواقع، أن يكون الاقتصاد قادراً على تحمل هذه النفقات؛ فحتى المساعدة العسكرية السخية من الولايات المتحدة لن تكفي تغطية حاجات إسرائيل الأمنية في المستقبل.

كذلك، فإن هجمات الصواريخ على إسرائيل أثارت مجدداً الجدل القديم بشأن أهمية المناطق المحتلة، وخصوصاً الضفة الغربية، للدفاع عن إسرائيل. وقد سارع الزعيم الفلسطيني فيصل الحسيني إلى إعلان أن إمكان تعرض إسرائيل للهجوم عن بعد هو الدليل على أن المناطق لا تعزز أمنها. والسؤال هو، طبعاً، ما إذا كان هذا الزعم صحيحاً.

وتجدر الإشارة إلى أن المخاطر الناجمة عن وضع إسرائيل الجغرافي قد تكون هي العامل الأهم في صوغ نظريتها الأمنية. ولولا هذا العامل المقرر بالذات، مثلاً، لكان من الأسهل ولا شك التوصل إلى حل وسط في الصراع العربي – الإسرائيلي. وحتى سنة 1967، كانت إسرائيل تجد نفسها في ما يشبه الفخ الجغرافي: فالسهل الساحلي الضيّق حيث يقطن ما يزيد على 75 في المائة من السكان (وهذا يعني معظم جنود الاحتياط)، وحيث يوجد معظم أهداف الدولة الاستراتيجية، كان يقع تحت سيطرة المنطقة الجبلية القريبة في الضفة الغربية. وعلى سبيل المثال، كانت مطارات البلد تقع، في معظمها، ضمن مدى المدفعية المركزة عبر الحدود.

من هنا، فإن التخطيط الاستراتيجي الإسرائيلي كان يستند إلى مبدأين اثنين: الأول ضمان أن ينتقل القتال بسرعة إلى أرض العدو في حال نشوب الحرب؛ والثاني اللجوء إلى ضربات وقائية، وحتى إلى حرب وقائية، إذا اتضح أن العدو على وشك شن الهجوم.

وجاءت نتيجة حرب الأيام الستة سنة 1967 لتغيّر هذا الوضع، وإنْ يكن في الظاهر. فاستلحاق المناطق المحتلة منح إسرائيل الشعور بأنها قد كسبت الوقت (للإنذار الملائم ضد هجوم جوي)، كما منحها منطقة أمنية تساهم في تأخير هجوم عربي مدرع، وخصوصاً في حال هجوم مباغت. وهذا البعد الاستراتيجي عزز الاعتقاد أن من الممكن تحمل الضربة الأولى عوضاً من الاندفاع إلى حرب وقائية ضد عدو يحشد قواته لشن الهجوم. لكن إطلاق الصواريخ، في أثناء حرب الخليج، بيّن أن البعد الاستراتيجي الإسرائيلي الحاضر لا يمنح إسرائيل الحماية ضد أنواع الهجمات كافة.

 إن عدم التكافؤ بين إسرائيل والدول العربية التي تتمتع ببعد استراتيجي فسيح، ينطبق أيضاً على حرب الصواريخ. فالمسافة بين إسرائيل وغرب العراق، مثلاً، حيث أُطلقت الصواريخ ضد منطقة تل أبيب الكبرى، هي أقل من 600 كيلومتر، بينما المسافة بين إسرائيل وبغداد تبلغ 1000 كيلومتر تقريباً. وفي حين يستطيع العراق تغطية معظم أراضي إسرائيل بما يملكه حالياً من ترسانات الصواريخ، فإن إسرائيل لا تستطيع أن تغطي ولو جزءاً ضئيلاً من العراق فيما لو كانت لديها صواريخ مماثلة.

 VI

              وهكذا، فقد اكتشفت إسرائيل مرة أخرى أن المزيد من الأراضي لا يعزز، بالضرورة، قوتها الرادعة. لكن هذا لا يعني أن الأرض قد فقدت قيمتها في مجال الدفاع. إن هجوماً بالصواريخ على مراكز الاستدعاء ومخازن وحدات الاحتياط هو، بالضبط، ما يمكن أن يؤخر عملية تعبئة الاحتياط، الأمر الذي يجعل من الأهم أن تظل قوافل العدو المدرعة بعيدة عن المنشآت الحيوية على طول الساحل الإسرائيلي.

ومع الأسف، فحتى هذا الوصف للمناطق المحتلة بأنها حاجز ذو قيمة، ليس وافياً تماماً. وكان من شأنه أن يكون أكثر إقناعاً لو كانت هذه المناطق خالية من السكان. لكن الضفة الغربية وقطاع غزة يعجّان بالفلسطينيين الذين هم أنفسهم مشكلة أمنية (ناهيك بالمشكلة الخُلُقية والسياسية) بالنسبة إلى إسرائيل، لأنهم يقفون بعزم ونشاط كبيرين ضد العيش في ظل الحكم الإسرائيلي.

إن النتيجة التي تُستخلص من هذه الأوضاع معقدة. إن أهمية الأراضي (وفي هذه الحالة أعني الضفة الغربية) بالنسبة إلى الدفاع عن إسرائيل أمر لا يمكن استبعاده، لكن الأرض لا تعزز الأمن دوماً. ففي بعض الأحوال، كتلك التي تسود الضفة والقطاع، تكون المخاطر المتمثلة في المزيد من الأرض أعظم من المزايا الناجمة عنها. والجدل القائم في إسرائيل اليوم لا يدور في شأن المسائل العسكرية بحد ذاتها فقط، بل أيضاً في شأن طبيعة المجتمع الإسرائيلي المستقبلية في غياب السلام. والأجوبة عن هذه الأسئلة يجب أن يُعثر عليها في حل وسط مع الفلسطينيين والدول العربية، من شأنه أن يفصّل شروط إسرائيل الأمنية الدنيا لتسوية سلمية.

ومع ذلك، فإن الهم الأعظم الذي شعرت إسرائيل به جراء هذه الحرب يتعلق بقدرتها على الردع. وعلى الرغم من أن زعماءها السياسيين وضباطها العسكريين الكبار قد أعلنوا مراراً أن موقف الجيش الرادع لم يتأثر سلباً، فإن الرأي العام تتملكه شكوك عميقة حيال هذه التطمينات.

إن موضوع الردع كان على الدوام في صميم الفكر العسكري الإسرائيلي، وكثيراً ما كان هو الدافع وراء العمليات العسكرية، كما كان العامل الذي يحدد حجم هذه العمليات وشدتها. وهذه النظرية تقول إن إسرائيل يجب أن تطور قوة رادعة قصوى، وأنه إذا لم يكن مثل هذه القوة كافياً بحد ذاته، ففي الإمكان استخدام الجيش بكامل قوته. والهدف هو التأكيد للقادة العرب ولقادة الجيوش أن ثمة أموراً لا يمكن لإسرائيل احتمالها من دون الرد عليها، وأن ردها سيجلب المزيد من العقاب إذا تخطى العرب بعض "الخطوط الحمر".

وقد شنت إسرائيل أكثر من مرة ضربات ثأرية جريئة تماماً لصدم العرب وثنيهم عن اتخاذ بعض الخطوات. وكلما ازدادت هذه الأعمال جرأة تعزز الشعور بأن الردع سيكون فعالاً تماماً. وأحياناً دلّ العزم والشدة لدى إسرائيل على إحساسها بالانكشاف للخطر أكثر مما دلاّ على القوة. وكلما ازدادت إسرائيل ضعفاً وازداد الخطر عليها، وخصوصاً في الخمسينات والستينات، ازدادت أعمالها عنفاً وتطرفاً.

وفي الغالب، نجحت نظرية الردع. لكن، ولمرة واحدة في كل ثماني سنوات أو ما يقاربها، لم تكف الأعمال العسكرية العادية فوجدت إسرائيل نفسها متورطة في حرب أوسع نطاقاً. وعقب هذه الاشتباكات كان الموقف الرادع للبلد يستعيد قوته، لكنه لا يلبث أن يعود فيتآكل بالضرورة مع مرور الوقت. وقد نجح  هذا الأسلوب نجاحاً خاصاً ضد الجيوش العربية، غير أنه لم ينجح بالمقدار نفسه فيما يختص بالفلسطينيين المتورطين في أعمال إرهابية؛ فهؤلاء ليس لديهم الكثير ليخسروه.

وبالإضافة، وحتى عندما كانت فعالية الموقف الإسرائيلي الرادع منخفضة أو إلى اضمحلال، فإن الدول العربية كانت تحاذر الهجوم على مراكز البلد السكنية. فقد كان من الواضح أن هذا الأمر يشكل أحد "الخطوط الحمر" عند إسرائيل. وكان العرب يدركون أن الرد الإسرائيلي، في حال الهجوم على مدنها، سيكون على الأرجح أشد الردود وأعنفها. والاعتقاد السائد أن إسرائيل تملك أسلحة نووية قد أدى ولا ريب دوراً بارزاً في ثني الجيوش العربية عن شن هجوم كثيف على مراكز إسرائيل السكنية. وهذا هو السبب الذي من أجله أصابت الدهشة الإسرائيليين عندما سقطت أولى الصواريخ العراقية على حيفا وتل أبيب.

ولو سألني أحدهم قبل اجتياح الكويت كيف أقوّم رد إسرائيل على هجوم بالصواريخ على مدنها، لأجبت بلا تردد أن الرد الفوري سيكون فعالاً ويتسبب بقتل أعداد لا تحصى من المدنيين. وبالإضافة كنت أجبت – وبالتأكيد – بالجواب نفسه بعد أن وجه رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزير الدفاع التحذير الصارم تلو التحذير إلى صدام حسين بألا يتحرش بإسرائيل. فالحكمة السائدة كانت أن إسرائيل قد تلجأ حتى إلى الأسلحة غير التقليدية، فيما لو باشر العراق حرباً كيماوية.

ومن نافل القول إن الأمور جرت بطريقة مختلفة. فقد أدركت إسرائيل أن الخطط العملية الجيدة والاستعداد للعمل لا يكفيان، إذ يجب أن تكون الأوضاع السياسية مؤاتية أيضاً. وفيما يختص بحرب الخليج، أجبرت هذه الأوضاع إسرائيل على أن تضبط نفسها فتقتصر على الدفاع المدني وهي تحت وطأة الهجوم. وكانت هذه سياسة لم تمارسها إسرائيل قط، وحتى العرب دهشوا لتصرف القدس.

وعلى إسرائيل الآن أن تفترض أن حالة كهذه قد تحدث في المستقبل. فقد تعلمت أنها، وعلى الرغم من رغبتها في الرد بعنف على هجوم عليها، لا تعيش في الفراغ ولو كان المعتدي طاغية كصدام حسين.

وكلما ازداد اعتمادها على الولايات المتحدة ازدادت التقييدات على حرية تصرفها. فالذي سمحت الولايات المتحدة لنفسها به في زمن الحرب – بما في ذلك تدمير مفاعلين نوويين وإلقاء الآلاف من القنابل العنقودية على العراق – لا ينطبق على بلد صغير كإسرائيل حتى لو كانت الأسباب الداعية إلى اتخاذ مثل هذه الإجراءات أكثر تبريراً. ولا ريب أن إسرائيل، في هذه الحالة، كان لها من الأسباب ما يدعوها إلى أن تأخذ بمشورة الولايات المتحدة الصارمة، فلا تتحرك نحو منصات إطلاق الصواريخ في غرب العراق. كان قرار القدس مشفوعاً بمعرفتها أن صدام حسين يرغب في توسيع رقعة النزاع ليجعل منه حرباً إسرائيلية – عربية، فيحمل إسرائيل على مهاجمة الأردن في طريقها لضرب العراق.

وكان هنالك، أيضاً، خوف له ما يبرره من أن التدخل العسكري الإسرائيلي قد يؤدي إلى وقف لإطلاق النار سابق لأوانه، في اللحظة ذاتها التي تقضي مصلحة إسرائيل أن يتم تدمير الآلة الحربية العراقية. وهذا ما كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها يقومون به على نحو أفعل كثيراً مما قد تقوم إسرائيل به. وكان الافتراض السائد في إسرائيل أن القدس قد تجد، بعد نشوب الحرب البرية، فرصة لتسديد ضربتها هي إلى العراق. لكن هجمات الصواريخ كانت آنئذ قد تراجعت تراجعاً كبيراً، ولم يعد يوجد في العراق سوى القليل من الأهداف الملائمة. كذلك، فإن الحرب البرية انتهت بسرعة مثيرة للانتباه.

VII

              هل لحق الضرر بقدرة إسرائيل الرادعة نتيجة ذلك؟ الواقع أن صدام حسين لم يرتدع حتى من قوة الولايات المتحدة العظمى. فقد أخطأ التقويم واعتقد أن واشنطن سترضخ لاجتياحه الكويت. واستناداً إلى المنطق العسكري البحت، كان عليه أن يقلق منذ اللحظة التي حُشدت هذه القوة العسكرية الكبرى ضده.

فإسرائيل لم تكن سوى جبهة صغيرة في الحرب التي كانت تنتظره، وليس ثمة من سبب يدعو إلى الاعتقاد أن صدام كان سيفقد حماسته من جراء قوة الجيش الإسرائيلي، في حين لم يتأثر بالولايات المتحدة وحلفائها. ويدل عدم استخدام صدام للأسلحة الكيماوية ضد إسرائيل، حتى عندما كان يواجه ضغوطاً كبيرة من القوات المهاجمة، على أنه كان يدرك أن ثمة أموراً لا يمكن وبكل بساطة أن تتحملها إسرائيل، ولو كانت واشنطن تعارض أي رد إسرائيلي.

إن الخوف في إسرائيل من أن قوة الجيش الرادعة قد تضاءلت ينبع من شعور بالإذلال نتيجة التعرض للهجوم وعدم الرد عليه، أكثر مما ينبع من تحليل موضوعي للوضع. ولربما لم يرهب صدام الولايات المتحدة، إلا إن هذه الأخيرة لقّنته درساً قاسياً للغاية، بيما أُرغمت إسرائيل على البقاء بلا حراك عندما أُطلقت عشرات الصواريخ على مدنها.

لكن الشعور بالإذلال شيء، والردع شيء آخر. إذ إن أعداء إسرائيل لم يشاهدوا الهجمات الصاروخية فحسب، بل شاهدوا أيضاً المساعدة الأميركية الفورية لإسرائيل على شكل بطاريات من صواريخ باتريوت، وخدمات أقمارها الصناعية التي أعطت الإنذار في شأن إطلاق الصواريخ على امتداد الحرب. وحذت ألمانيا وهولندا حذو أميركا، فأعلنتا إرسال صواريخ باتريوت إلى إسرائيل. لذا، فقد شاهد أعداء إسرائيل أنها لا تقف وحدها حين يواجهها خطر عسكري داهم، وأن هذا الأمر هو أيضاً نوع من أنواع الردع.

والزمن وحده كفيل بالكشف عما إذا كان الردع الإسرائيلي قد تأثر فعلاً جراء ضبط النفس في مواجهة الصواريخ التي تساقطت على السكان. إن الجواب الحق عن هذا السؤال يجب ألا يُطلب في إسرائيل حيث عقلية الأمة المحاصرة ربما قد شوّهت نظرتها في هذا الحقل، بل يجب أن يُطلب في صفوف أعدائها المحتملين، وفي طبيعة الشرق الأوسط بعد حرب الخليج.

هل سيترجم النصر العسكري الحليف إلى مكاسب سياسية فيساهم في إنهاء النزاع العربي – الإسرائيلي، أم هل يسجل التاريخ هذا الانتصار أنه مجرد مرحلة أخرى على ساحة المعارك؟ وفي حال الفشل، هل يستنتج أعداء إسرائيل أنه إذا كان الجيش الإسرائيلي قد بقي مرة بلا حراك، فإنه سيبقى أيضاً بلا حراك فيما لو ضُربت المراكز السكنية؟ ينبغي لإسرائيل، طبعاً، أن تأخذ في الاعتبار إمكان بروز صدّام جديد في الشرق الأوسط، قد يرتكب الخطأ ذاته في تقدير الضرر الذي قد يحل بشعبه إنْ هو باشر الحرب.

وإذا ما فشلت الجهود الرامية إلى تسوية سياسية واسعة الانتشار في الشرق الأوسط، والتي عليها أن تشكل ترتيبات الحدّ من التسلح، فإنه لن يصبح في الإمكان الكلام مجدداً في موضوع الردع التقليدي. فهذه ستكون آخــر حرب كبرى في الشــرق الأوســـط تُشن بواسطة الأسلحة التقليدية. 

* Ze’ev Schiff, Foreign Affairs, Vol. 70, No. 2, Spring 1991, pp. 19-33.

السيرة الشخصية: 

زئيف شيف: محرر الشؤون العسكرية في صحيفة "هآرتس" اليومية التي تصدر في تل أبيب.