نحو النهوض بالاقتصاد العربي الفلسطيني في إسرائيل
كلمات مفتاحية: 
الاقتصاد الفلسطيني
الفلسطينيون في إسرائيل
الموارد البشرية
القوى العاملة
الزراعة
الصناعة
المياه
الإسكان
التجارة الخارجية
نبذة مختصرة: 

تعالج الدراسة الموضوع تحت العناوين الفرعية التالي: الموارد البشرية والقوى العاملة؛ الزراعة والأرض والمياه؛ الصناعة؛ قطاع الإسكان والبنية التحتية؛ الخدمات والتجارة والمال؛ إمكانات التطوير الاقتصادي؛ حاجات وإمكانات قطاعية.

النص الكامل: 

 خلفية عامة وأهداف الدراسة

يدور النقاش مؤخراً، في الأوساط الفكرية العربية في إسرائيل، بشأن مفهوم المساواة بين المجتمع العربي والمجتمع اليهودي في إسرائيل، وبشأن عملية البناء الذاتي للمجتمع العربي. وفي أغلب الأحيان، تترك جانباً أهمية التنمية الاقتصادية، ويركز على الجانب المرئي من مستوى المعيشة، وعلى الحياة ضمن أوضاع اقتصادية مقبولة. وعند وجود انحسار في الناتج القومي الإسرائيلي وازدياد عدد العاطلين عن العمل، تتعالى من جديد الصيحات بأهمية التنمية الاقتصادية لدى الفلسطينيين في إسرائيل، وأهمية وجود فرص عمل للعاطلين عن طريق مطالبة السلطات الإسرائيلية المختصة بتوفير أماكن عمل ملائمة، وغير ذلك من مطالب للإصلاحات في السياسة الرسمية تجاه تنمية الوسط العربي، ويمكن تشخيص هذا التوجه التنموي بأنه يطمح إلى تحقيق تنمية ثنائية عربية / يهودية (فصل الوسطين).

من جهة أخرى، يقوم طرف من اليسار الإسرائيلي بالاهتمام بهذه الأمور، إذ يطرح تطوير المجتمع العربي صناعياً ضمن المعطيات والمفاهيم التي يرتئيها، وخصوصاً "التطوير المشترك" العربي – اليهودي، واضعاً نصب عينيه تطوير الاقتصاد الإسرائيلي ضمن الموارد الموجودة لدى العرب، واستغلالها بصورة تعود بالفائدة على الاقتصاد الإسرائيلي أولاً، وضمنه المجتمع العربي الذي يعتبره جزءاً غير قابل للانفصال عن المجتمع الإسرائيلي، ويمكن تشخيص هذا التوجه بأنه يطمح إلى تحقيق تنمية مشتركة عربية – يهودية (دمج الوسطين).

وإلى جانب هذين النموذجين (الفصل والدمج)، هناك سياسة السلطات الإسرائيلية الرسمية، التي ما زالت تتمثل في تجاهل حاجات الوسط العربي عامة والوقوف ضد إنمائه، وبصورة خاصة فيما يتعلق بحاجات وخطط السلطات المحلية العربية والقطاع الصناعي العربي، إضافة إلى التهميش المستمر والمتعاظم للقطاع الزراعي العربي (كما تمثل مؤخراً في إغلاق المكتب اللوائي لوزارة الزراعة في الناصرة ونقله إلى بلدة يهودية). وتبقى السلطة الإسرائيلية بعيدة كل البعد عن النقاش الدائر في شأن مستقبل التنمية العربية في إسرائيل. وحين تتدخل، يكون ذلك من وجهة نظر سلبية، أي إمّا أنها تعترف بوجود تمييز ضد الأقلية العربية وتدعو إلى الإصلاح من دون أن تفعل شيئاً جذرياً (مثل الحالة مع السلطات المحلية عامة وقطاع التعليم الثانوي مؤخراً)، وإما أنها تنكر وجود تمييز وتصل في دفاعها عن السياسة الرسمية إلى الادعاء أن التنمية الصناعية (على سبيل المثال) في الجليل العربي ستكون مضرّة لما تحويه من تلوث بيئي!؟ ويمكن وصف النموذج المعتمد من قبل السلطات بأنه يطمح إلى منع التنمية العربية عامة، أو على الأفضل توجيهها نحو خدمة التنمية اليهودية (نموذج "اللاتنمية").

إذاً، علينا الاقتراب أكثر ما يمكن من النمط التنموي الأول المذكور أعلاه، أي إنماء الوسط العربي بمعزل عن الخطط والسياسات المطبقة للوسط اليهودي الإسرائيلي، من دون الانغلاق عنها تماماً، إذ لا بد من الاستفادة من أية فرص أو تجارب قد تدعم توجهنا بالتركيز على أولويات الوسط العربي. ومع أنه لا يمكن إغفال التأثير السلبي المهم الذي تتحمله السياسات الرسمية تجاه الوسط العربي، فلا بد من التذكير بأنها (أي  السياسات الرسمية السلبية) أقل توغلاً في جميع مجالات النشاط الاقتصادي العربي مما هي الحالة في الأراضي المحتلة منذ سنة 1967، وهو ما يتيح للمواطنين العرب في إسرائيل اللجوء إلى أساليب أكثر "قانونية" من أجل تحقيق طموحاتهم.

ويمكن فحص هيكلية الاقتصاد العربي وإمكاناته، الحالية والمستقبلية، من خلال تحديد موارد المجتمع العربي التي يمكن تصنيفها كالتالي:

  1. الموارد البشرية والتركيبة الاجتماعية السائدة.
  2. الزراعة والأرض والمياه.
  3. الصناعات الناشئة وفروع الورش الصغيرة.
  4. قطاع الإسكان والتشييد.
  5. القطاع التجاري والمالي والخدمات المتصلة.

وخلال عرض أهم التطورات في هذه القطاعات الاقتصادية الأساسية، سنتمكن من تحديد أبرز الاحتمالات للنمو والصمود الاقتصاديين العربيين في إسرائيل خلال العقد المقبل. وبذلك يصبح ممكناً أيضاً طرح بعض الأفكار المتعلقة بسبل دعم هذه التطورات الاقتصادية الحيوية وتشجيعها. ونأخذ في الاعتبار إمكانات ربط التوجهات المقترحة بتلك السياسات الملائمة للأراضي المحتلة منذ سنة 1967 عامة، وخصوصاً فيما يتعلق بالتكامل في التبادل التجاري (والإنتاج) مع بعض الفروع الصناعية المفضلة في الأراضي المحتلة.

نعرض في الأجزاء التالية ملاحظات فنية وسياسية تتعلق بمسار "التنمية" الاقتصادية العربية في إسرائيل. ولا ندعي الشمولية أو التعمق، بل نحاول لفت الانتباه إلى أهم ما نراه من تطورات وخصائص وتوجهات مهمة وقابلة للإنماء في حال التفضل بتشجيعها. وذلك طبعاً من دون الادعاء أن ما نسجله هنا يعتبر برنامجاً أو خطة لعملية تنموية كبيرة وشاقة.

أولاً: الموارد البشرية والقوى العاملة[1]

أ السكان والقوة العاملة والبطالة

بلغ عدد السكان العرب داخل إسرائيل 714 ألفاً (من دون سكان القدس الشرقية)، بحلول سنة 1990. وهم يشكلون 16% تقريباً من مجموع سكان إسرائيل. ويتميز المجتمع العربي من ناحية ديموغرافية بأنه مجتمع شاب، 50% منه دون سن 16 عاماً. ويتركز السكان في المنطقة الشمالية (الجليل) بنسبة 56%، وفي الوسط (المثلث وحيفا ويافا وقرى القدس) بنسبة 34%، وفي النقب بنسبة 10%. ويشكل السكان العرب أغلبية بنسبة 52% في المنطقة الشمالية، على الرغم من الجهود الصهيونية المستمرة لمنع ذلك.

وتشكل القوة العاملة العربية نسبة 11% من القوة العاملة الإسرائيلية عامة. وبلغت نسبة الاشترك في قوة العمل 39,4% لدى المواطنين العرب سنة 1989، قياساً بـ 53,6% لدى المواطنين اليهود (و37,6% لدى الفلسطينيين في الأراضي المحتلة). ويبز الفارق باشتراك النساء في قوة العمل، إذ بلغت نسبة اشتراك النساء اليهوديات في قوة العمل 45%، بينما بلغت نسبة النساء العربيات 12%. ويدل ذلك على وجود تراجع في اشتراك النساء العربيات، إذ بلغت نسبة الاشتراك في قوة العمل بين 14% و18% في منتصف الثمانينات (وهذا لا يشمل النساء العاملات في الزراعة الموسمية غير الرسمية)، ويعود سبب انخفاض نسبة مشاركة المرأة العربية في العمل إلى قلة فرص العمل المتوفرة في المجتمع العربي، والتي تتلاءم مع إمكاناتها وحاجاتها، إضافة إلى العوامل الاجتماعية المختلفة التي تعوق تعبئة هذه الفئة المهمة من الموارد البشرية العربية في البلد.

يعاني المجتمع العربي نسبة بطالة عالية، وخصوصاً بين الشباب والأكاديميين. وبحسب إحصاءات أخيرة (حزيران/يونيو 1990)،[2]  وصلت معدلات نسبة البطالة إلى نحو 16% من القوى العاملة. ونجد قطاعات تزيد فيها نسبة البطالة على 20%، كما هو الحال عند المواطنين العرب في النقب وفي منطقة الناصرة. ولا تشمل هذه النسب أولئك الذين يقومون بأعمال غير موافقة لثقافتهم أو مهارتهم. فمثلاً، ثمة أدلة على أن 38% من الأكاديميين العرب يعملون في أعمال غير ملائمة لمهارتهم واختصاصهم.[3]  كذلك، فإن لبطالة الأكاديميين أبعاداً سلبية، وخصوصاً على المجتمع العربي. وتعود نسبة البطالة العالية عند العرب إلى عدة أسباب، منها:

  1. الطلب القطاعي المتفاوت.
  2. التوزيع المهني العربي وإمكانات التخلي عن هذه القوى العاملة العربية في حالة الحد من فرص العمل في الاقتصاد الإسرائيلي عامة.
  3. مسؤولية الدولة تجاه توفير الأمن لليهود، حتى على حساب العرب، في فترات الانحسار الاقتصادي، وتوفر فائض قوى عاملة يهودية بسبب الهجرة، الأمر الذي يساهم في عدم استقرار اليد العاملة العربية في الاقتصاد الإسرائيلي.
  4. غلق ووضع حواجز أمام استيعاب العرب في قطاعات اقتصادية مهمة لارتباطها بالأمن.
  5. محدودية تمثيل العرب في النقابات، وهو ما يقلل من الدفاع عن حقوقهم.

ب عمالة وتعليم ومداخيل

              تركزت القوة العاملة العربية (بما في ذلك القوة العاملة في القدس الشرقية التي تحتسب رسمياً جزءاً من إسرائيل) سنة 1989، قطاعياً، على النحو التالي:

  • خدمات تجارية ومالية وشخصية 32%
  • الصناعة والماء والكهرباء 24%
  • الخدمات العامة 20%
  • البناء               17%
  • الزراعة               7%

ومع أن ما يزيد على النصف من هذه العمالة لا يزال يخدم الاقتصاد العربي المحلي مباشرة، فإن هذه النسبة كانت أكبر كثيراً في الماضي، حين كانت الزراعة العربية وحدها تعيل ما نسبته 40% من القوة العاملة في الخمسينات. وفي مقابل التراجع الزراعي الهائل في الاقتصاد العربي، يمكن ملاحظة بروز قطاعات "جديدة"، وخصوصاً العمالة الصناعية والخدمات التجارية والخاصة، ناهيك بالتضخم النسبي في قطاع الخدمات العامة الذي تتشكل العمالة في الوسط العربي بنسبة كبيرة منه. بينما نجد نسبة أكبر من الاندماج في الاقتصاد الإسرائيلي في العمالة الصناعية والخدماتية التجارية والتشييد.

لقد ارتفعت نسبة التعليم الثانوي والأكاديمي في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات. وبغياب فرص العمل الملائمة ارتفعت نسبة البطالة والبطالة المقنعة لدى الأكاديميين خاصة، الأمر الذي جعل الكثيرين منهم يغيرون اختصاصهم بعد أن كانوا في مراحل متقدمة في الدراسة.[4]  وارتفعت، من جهة أخرى، نسبة اشتراك النساء بزيادة أعوام تعليمهن، وخصوصاً في جيل 18 – 35 عاماً.[5]

ويظهر الفارق في الأجر بين العاملين العرب واليهود، حتى بعد ملاءمة كل التغيرات لمعادلة الأجر الشهري؛[6]  إذ يحرم المواطنون العرب دخول كثير من القطاعات الحكومية، وخصوصاً الوظائف الحكومية والصناعية، ويسود جو من عدم المساواة في فرص العمل والرقي من خلال وظائفهم، وينعكس هذا، بالتالي، على مستوى رفاهية العامل. ومن هنا تنتشر ضائقة الفقر بين المواطنين العرب، إذ بلغت نسبتها سنة 1988 (بحسب المقاييس الإسرائيلية) 64,5% لدى مجموع المواطنين العرب.[7]  وتأتي فوارق الأجر أيضاً نتيجة نوع القطاعات التي يعمل العمال فيها؛ فمثلاً، متوسط معدل الأجر في قطاع النسيج أقل انخفاضاً من قطاع البناء، والأجر في القرية أقل من الأجر في المدينة. وأحد أسباب ذلك هو تكاليف التدريب على المهنة، لأن نوعية الإنتاج في الوسط القروي لا تحتاج إلى يد عاملة ماهرة كما هي الحال في المدينة.

ج أجراء ومستقلون

              على الرغم من حجم الضرائب التي تفرض على المستقلين، فإنه يلاحَظ ميل عدد غير قليل من العرب إلى العمل مستقلين في قطاعات الصناعة والبناء والتجارة والخدمات. وتشير المعطيات المتوفرة إلى أن 83% من المشتغلين العرب هم أجراء، وأما الباقون فمستقلون. وهذه النسبة انخفضت عن مستوياتها في النصف الأول من الثمانينات، الأمر الذي يدل على استمرار تهميش الموارد البشرية والمالية والمادية العربية، ودفع أعداد متزايدة إلى العمل موظفين بدل العمل في الزراعة العائلية أو امتلاك / تشغيل وحدات إنتاجية أو تسويقية في قطاعات أخرى. لكن الانخفاض يخفي ظاهرتين: أولهما، الميل إلى العمل في أكثر من مهنة أي في وظيفة "رسمية"، إضافة إلى عمل ثان غير رسمي، وعادة بصفة مستقلة؛ وثانيهما، العوامل التي تشجع ظاهرة العمل المستقل، بأشكال جديدة، ومن أهمها:

1-  زيادة السوق الاستهلاكية عند العرب داخل إسرائيل، وفي الضفة الغربية وقطاع غزة، وخصوصاً خلال الانتفاضة، إذ زاد الطلب على البضاعة العربية، أي التي تصنّع في مصانع عربية، أو التي يكون الوسيط فيها عربياً، أو الخدمات المقدمة لهذه الصناعات والتي تعتمد على الإنتاج العربي.

2-  ميل وتفضيل العمل في محل تجاري خاص، أو أن يكون الشخص مقاولاً حتى باطنياً، أو مزارعاً، فيكون بذلك حراً أكثر، ويمكن أن يربح أكثر على الرغم من أنه يدفع ضرائب أكثر ويعمل عدد ساعات أكثر.

3-  زيادة نسبة الخريجين الأكاديميين الذين يقومون بإدارة الحسابات، أو يعملون في مكاتب الهندسة، أو يعملون أطباء أو محامين، أو يزاولون أعمالاً حرة أخرى.

4-  تغيير في السياسة الاقتصادية الإسرائيلية العامة بعد نجاح الليكود، وتمشياً مع التغيرات العالمية، حيث يتم تفضيل العمل بموجب مقاولات وشركات خاصة مكان موظفين وشركات حكومية، الأمر الذي وفر الفرص للعرب المستقلين، حتى لو كانت الفروع التي يعملون فيها فروعاً هامشية.

5- تخصيص وزيادة الإنتاج في الزراعة نتيجة استخدام المكننة والتكنولوجيا (البيوت البلاستيكية مثلاً) في الزراعة، وهو ما زاد في إمكان جني أرباح من قطاع الزراعة بعد التخصيص.

6-  الحواجز والمضايقات التي يعانيها الأجير العربي، وخصوصاً الموظفين في القطاع الحكومي (تعليم / صحة). وعند مزاولة العمل المستقل، يتم تجنب هذه المضايقات التي لها خلفيات سياسية وانتمائية.

7-  استعداد إخوة يعملون في المهنة نفسها لأن يعملوا معاً، فيكوّنوا بذلك مشروعاً عائلياً اقتصادياً.

ثانياً: الزراعة والأرض والمياه

على الرغم من التراجع المتدرج منذ سنة 1948 في الزراعة العربية، فإن هذا القطاع شهد تطوراً ملحوظاً بمرور الأعوام، ولا سيما في تطوير التكنولوجيا الحديثة. وتشير الأدلة إلى ذلك بصورة جلية، إذ إن إسرائيل من الدول التي تقدم الاستشارات في هذا المجال للدول الصناعية المتطورة، ولدول العالم الثالث. ومما لا شك فيه أن المكننة حلت مكان اليد العاملة، فانتقلت الزراعة من النوع الذي يتطلب كثافة العمل إلى كثافة العلم ورأس المال، وقد أثرت إسقاطات ذلك في قطاع الزراعة العربية، وكان التأثير مبالغاً فيه؛ فالسياسة الموجبة لتحويل الفلاحين العرب إلى أيد عاملة غير مهنية في قطاع العمل، أثبتت نجاعتها، وخصوصاً في إثر سياسة مصادرة الأراضي الزراعية وإقامة المستعمرات على أراض عربية، وعن طريق التحديدات التي فرضت على الفلاحين العرب، مثل مصادر المياه وتحديد المزروعات وتحكم شركة ميكوروت الإسرائيلية في كل مصادر مياه الري والشرب أيضاً. ومن جهة أخرى، تُفرض التحديدات على نوعية الإنتاج الزراعي وبحسب توزيعه على جميع الفلاحين في إسرائيل، وهو ما يجعل الفلاح العربي خاضعاً لأنواع زراعات مفروضة عليه وملائمة لما تطلبه شركة "تنوفا" التي تحدد كميات الاستيعاب من قبل المزارع والمزارعين اليهود، ثم الفلاحين العرب، وكذلك الأمر بالنسبة إلى شركة "أغريسكو" للتصدير.

ونتيجة عملية مصادرة الأراضي المستثمرة، بموجب ما يزيد على 34 قانوناً،[8]   انخفضت كمية الأرض الموجودة في تصرف العرب، كما أن نظام الميراث المعمول به أدى إلى تفتت الملكيات، فوصلت إلى مستويات غير اقتصادية. وبحسب المعطيات المتوفرة،[9]   ما زالت المساحة المزروعة العربية تبلغ 710 – 735 ألف دونم، منها 50% تقريباً في النقب، وبحسب إحصاءات رسمية لسنة 1983، فإن مجموع المزارع العربية يبلغ نحواً من 1100 مزرعة (من دون النقب)، ومعدل مساحة المزرعة هو نحو 30 دونماً: مساحة 65% من هذه المزارع تبلغ أقل من 30 دونماً، و16% من المساحة المزروعة مروية. لكن مصادر أخرى تشير إلى أن الأراضي المروية تشكل نسبة أقل من 10% من المساحة المزروعة العربية.[10]

ثمة ظاهرة تجسد أزمة الزراعة العربية، وهي أن الكثيرين من الفلاحين العرب الذين لديهم أسهم مياه للري لا يستغلونها، وتُزرع أراضيهم بالمحاصيل التقليدية، كالقمح والشعير والمواسم الصيفية. ويعزو الفلاحون ذلك إلى عدم الجدوى الاقتصادية من الاستثمار في هذه الأراضي الزراعية، أي أنه مع عدم توفّر الأرض والمياه الكافية فإن تكلفة "التعويض" من النقص في بعض المدخلات بواسطة الاستثمار في مدخلات أخرى (محسنة للإنتاجية)، باهظة جداً. ويشكل ذلك اختناقاً أساسياً تواجهه الزراعة العربية، وخصوصاً أن الموارد البشرية الماهرة متوفرة للعمل في الزراعة، حيث يتوفر الاستثمار اللازم للاستفادة منها.

إن البنية الزراعية، من حيث توزيع الأراضي بحسب الفروع، تظهر ثباتاً نسبياً منذ أوائل الثمانينات، مع بروز بعض الاتجاهات الجديدة. وفي سنة 1989، بلغت المساحة المزروعة 710 آلاف دونم، منها 65% مخصصة للزراعة الحقلية (أكثرها في النقب) – قياساً بنسبة 73% في سنة مماثلة (سنة 1980) – و21% مخصصة للزيتون والبساتين قياساً بنسبة 18% سنة 1980، و14% مخصصة للخضروات والمحاصيل المكثفة المماثلة قياساً بنسبة 9% سنة 1980. أي أننا نلاحظ تقلصاً في التخصص بالمحاصيل التقليدية / الكفاف في مقابل زيادة في التخصص بالزيتون والأشجار المثمرة والخضروات المكثفة ("المحاصيل النقدية").

وتعكس هذه البيانات عدة عوامل مؤثرة، منها عدم جدوى الاعتماد على الأصناف التقليدية (قمح وشعير وحبوب وأعلاف) في مقابل تدني أسعارها وصعوبة زراعتها في ظل القيود المعروفة على حجم وشكل المزارع والمساحات (التنظيم الزراعي)، إضافة إلى جاذبية المحاصيل الأخرى (فواكه وخضروات وزيتون) نظراً إلى قابليتها للتسويق المنظم (بواسطة أجهزة الدولة أكثر)، وعلى الزراعة الفلسطينية في الأراضي المحتلة منذ سنة 1967 التي تتجه منذ الانتفاضة نحو الاعتماد على الذات من خلال التنويع والتركيز على زراعة كفاف أكثر فأكثر.

كما يعكس التوجه العربي نحو هذه المحاصيل النقدية وبعض الأصناف القابلة للاستهلاك المحلي / المنزلي (في مقابل عدم الاستفادة من احتمالات الزراعة الحقلية وزيادة تنويعها)، استبعاد الوسط العربي عن آليات التخطيط والتنظيم والتسويق الزراعي الإسرائيلي، وإخضاع الفروع العربية لمصالح الزراعة الإسرائيلية عامة، من خلال توجيهها بحسب معطيات متغيرة سنوياً (حاجات التصدير والسوق المحلية والتخصصية / التفوق العربي في بعض الأصناف مكثفة العمالة). وأكثر من أي قطاع إنتاجي آخر، تواجه الزراعة العربية جملة من العوامل المحددة التي لن يخفف من وطأتها الاستثمار، أو الإرشاد، أو التنظيم الأفضل، وحدها. فلا بد من معالجة هذه العناصر المتشعبة والمعقدة نسبياً بأسلوب متجانس ومتواز قدر الإمكان، حيث توفير أحد شروط النجاح / التقدم لوحده لا يكفي لفك الاختناقات الصارمة التي تطغى على الزراعة العربية. وتبقى مشكلات التنظيم الزراعي (وليس الناحية الاجتماعية لذلك فقط) أهم التحديات أمام تطوير الزراعة العربية والحفاظ عليها، مع الاعتراف طبعاً بالحاجة الملحة إلى الإرشاد وإدخال التقنيات المحسنة والمدخلات المتطورة، واستغلال أفضل للموارد القليلة المتاحة (الأرض والمياه والعمالة).

ثالثاً: الصناعة

أ- خصائص عامة

              لقد تطور نوعان من الصناعة في المجتمع العربي: الأول صناعة أولية تحويلية، والآخر صناعة ورش ومهن. بالنسبة إلى النوع الأول، تطور في المجتمع العربي نحو 600 مصنع ومعمل يعمل في كل منها أكثر من ثلاثة أشخاص.[11]   وتشمل هذه المصانع المخايط الكبيرة، ومصنع الفولاذ قضماني، ومصنع الرخام إخوة بولس، ومصنع الطحينة في عارة لعائلة رشدي من أم الفحم. أمّا قطاع الورش والمعامل الصغيرة (المناجر، والألمنيوم والتريس والمعاصر... إلخ) فقد بودر إليها من جانب اشخاص تعلموا المهنة ثم وجدوا حاجة إلى مهنتهم فقاموا بالمبادرة إلى فتح محل للاستهلاك المحلي أو للورش اليهودية. ويعمل في هذه المصانع والمعامل نحو 6% من القوى العاملة العربية، وبالنسبة إلى المخايط، نجد أن معظمها فروع لمصنع نسيج كبير في المركز – تل أبيب – والمخيطة أُقيمت لاستغلال القوى العاملة الرخيصة في القرية.

تتركز المصانع والمعامل في فروع اقتصادية غير متطورة (باستثناء مصنع قضماني) تستهلك قوى عاملة ورأس مال صغيراً، وقد ساهمت هذه الفروع، إلى حد ما، في تنشيط العملية الاقتصادية في البلدات العربية، ورفعت من الدخل. إلا إن هذه المصانع لا تستطيع أن تستوعب القوى العاملة الأكاديمية والماهرة. كذلك ليس في إمكانها تكوين دورة مالية داخلية في البلدة، وتشجيع المبادرة لفروع اقتصادية مكملة، وبذلك تكون عاملاً مضاعفاً للاقتصاد والتنمية (أي مثل الوضع الذي شرحناه بالنسبة إلى قطاع الزراعة).

وبالإضافة إلى المصانع، هناك نحو 1200 وحدة إنتاجية (مناجر ومحادد ومحلات ألمنيوم، إلخ). ويلاحظ زيادة عدد المخايط الصغيرة في البلدات العربية منذ سنة 1980، إذ وصل عددها إلى نحو 220 مخيطة في نهاية العقد.

وما عدا بعض الاستثناءات المذكورة أعلاه، نرى أن ليس هناك مصنع إنتاجي متطور، إذ إن صناعة المأكولات والمشروبات تعتمد في الأساس على الأفران ومصانع الشراب. أما صناعة النسيج، فهي عبارة عن خياطة الملابس التي تتم بموجب اتفاقيات مبرمة منذ البداية مع مصانع نسيج إسرائيلية. وكذلك الأمر بالنسبة إلى باقي الصناعات، إذ تعتبر في الأساس صناعات تركيبية لا أكثر، باستثناء عدد قليل جداً من المصانع.

ويدل بعض الأبحاث الأخيرة[12]  على أن الصناعات / الورش المحلية تستوعب عدداً أكبر من العاملين في القرى التي لا تتبع مجلساً محلياً. ولا بد من التذكير بأن هذا يدل على أن العقبات التي تقف أمام قطاع الصناعة تتشابه على الرغم من حجم البلدة أو شكلها. ولا فارق إذا كان هناك مجلس محلي أو لم يكن بالنسبة إلى تطوير الصناعة في القرى، مع أن من المفروض أن تكون نسبة العاملين في الصناعات داخل القرى والمدن أعلى من نسبتها في القرى التي لا تتبع مجلساً محلياً، لأن إمكانات تشجيع الاستثمار هي أيضاً إحدى مسؤوليات السلطة المحلية. أما بالنسبة إلى القوى العاملة بحسب الجنس، فنرى أن نسبة النساء العاملات أكثر من نسبة الذكور العاملين في الصناعات المحلية في القرى التابعة المحلية، الأمر الذي يدل على انتشار صناعات النسيج وانتشار قطاع المخايط في الوسط العربي.

ب المشكلات الصناعية

              ونرى سوء توجيه الموارد البشرية المحلية في التفاوت الذي ظهر سنة 1990 بين نسبة العاملين في الصناعة الإسرائيلية التي تبلغ 23% من القوة العاملة  فما فوق، وبين نسبة العاملين في الصناعة المحلية العربية التي تبلغ 6% من القوة العاملة العربية. ويدل هذا على انحسار قطاع الصناعة في المجتمع العربي، وتوجه العمال الصناعيين إلى العمل في الوسط اليهودي. ناهيك بأن العاملين في الوسط العربي هم، في أغلبيتهم، عمال خدمات صناعية ومهن صناعية وليسوا عمال صناعات تعتمد على كثافة العلم ورأس المال، كما هي الحال في الوسط اليهودي. وتبرز حاجة المجتمع العربي إلى النمط الإنتاجي الذي لا يتطلب مهارة عالية ورأس مال مكثفاً. ولذلك، فمن الضروري أن تبرز نسبة المتاجر العالية كي تخدم المجتمع العربي وتلبي حاجاته، كما تبرز أهمية المتاجر الصغيرة والخدمات المصرفية والمكتبية لمجتمع استهلاكي يعتمد على غيره في سد حاجاته اليومية. وتكثر متاجر الأغذية بالذات والأنواع الأخرى من المتاجر في السوق العربية، التي تنتظر التزويد بالمواد المطلوبة من المزودين والمنتجين اليهود الإسرائيليين.

وهناك عناصر أخرى للضعف الهيكلي الصناعي العربي، من أهمها:

1- عدم توفر البنية التحتية، وحتى التخطيط، لمناطق صناعية في المخططات الهيكلية للبلدات العربية. فنجد أن المخططات الهيكلية التي أُعدّت مؤخراً في البلدات العربية (بعد سنة 1975) قد عينت، في معظمها، منطقة صناعية ضمن استعمالات الأراضي المقترحة، إلا إن هذا ما زال في طور الاقتراح، وحتى لو أن المخطط الهيكلي قد صودق عليه، فإن المنطقة الصناعية ما زالت من دون كهرباء ومياه ومجار... إلخ، وهذا الوضع نجده بصورة خاصة في البلدات العربية الكبيرة التي من المفترض أن تتطور الصناعة فيها أكثر من البلدات الصغيرة.

2- محدودية إمكانات المبادرين الاقتصادية، ويحظى عدد صغير من المصانع والمعامل بدعم حكومي، وهو ما يؤدي إلى محدودية تطوير هذه المصانع واستخدامها للآلات والمعدات.

3- منافسة غير متوازنة بين القطاع الصناعي في المجتمعين اليهودي والعربي، وكمية الإنتاج غير المتكافئة بين الإنتاجين العربي واليهودي، وحجم السوق المفتوحة أمام تسويق المنتوجات؛ كل ذلك يوفر إمكانات أكثر أمام الصناعة اليهودية التي في إمكانها الاستفادة من "اقتصاديات الحجم".

4- مستوى المبادرين العرب التعليمي والمهني الذي لا يمكنهم من تطوير مبادراتهم وتوسيع رأس المال، أو المخاطرة في توسيع المبادرة، وكذلك النقص في القوى العالمة المدربة تكنولوجياً والفروع التكنولوجية في المدارس العربية.

5- إغلاق فروع وفرص مبادرة أمام الصناعة العربية، وخصوصاً المتطورة منها، الأمر الذي يدفع المبادرين العرب إلى إنشاء مصانع ومعامل في الفروع نفسها، وإلى المنافسة فيما بينهم بشأن حجم السوق نفسه، وهو ما يقلل من دخلهم وأرباحهم.

6- مساهمة محدودة من قبل السلطات المحلية العربية لتشجيع المبادرين، أو دعم أو تنسيق جهودهم لإنشاء المصانع، كما أن المجالس المحلية لا تعمل كجسم اقتصادي يسعى لتطوير الدخل الذاتي من خلال فتح الآفاق أمام مبادرين وحرفيين لإقامة مصانع ومعامل في حدود مناطق نفوذها، حتى لو كان ذلك بتخصيص بنية تحتية ملائمة وتسهيلات.

7- عدم توجيه الموارد المالية المتاحة إلى الاستثمار الإنتاجي، والتشتت والخناق في عملية الوساطة المالية وأنماط الادخار والاستثمار لدى الجماهير العربية عامة، وحتى لدى "روادهم وقادتهم" الماليين.

رابعاً: قطاع الإسكان والبنية التحتية

              نلاحظ في الفترة الأخيرة مبادرة السلطات المحلية العربية، وجهات محلية أخرى، إلى تطوير البنية التحتية في بلداتهم كالمجاري، وتحديث شبكات المياه، وشق الطرق... إلخ، ويمكن أن تشكل هذه الأعمال مصدر عمالة ودخل لعدد كبير من المواطنين العرب، وخصوصاً لمقاولين ينافسون المقاولين اليهود، فتتوفر بهذا لديهم الإمكانات والخبرات الملائمة.

              أما فيما يتعلق بقطاع البناء، فإنه يلاحَظ مؤخراً انخفاض نسبة العاملين فيه، على الرغم من أن حجم البناء والطلب على المباني في القطاع اليهودي في ازدياد، ومرد ذلك إلى استيعاب الهجرة اليهودية في البلد. إن انخفاض العمالة في قطاع البناء جاء نتيجة التغيرات البنيوية فيه، وخصوصاً البناء المصنع.

              يبلغ عدد المقاولين العرب المسجلين اليوم 45 مقاولاً، يشكلون 7% من مجموع المقاولين في إسرائيل. وقد أقام المقاولون العرب، في معظمهم، مشاغل صغيرة، 63% منها تعمل في فرع اقتصادي واحد، و18% منها تعمل في فرعين اقتصاديين. كما أن 92% من المقاولين العرب محدودون بحجم الأعمال التي يمكن تنفيذها. وهناك تسعة مقاولين عرباً فقط غير محدودين بقيمة الأعمال التي يمكن تنفيذها، بما في ذلك مشاريع حكومية.

في المقابل، هناك تغيرات في طريقة توفير المسكن للمواطنين العرب. ومن المتوقع أن يتوفر حتى سنة 2000 نحو 100 ألف وحدة سكنية للعرب، الأمر الذي يفتح آفاقاً جديدة أمام المقاولين العرب وأصحاب المحاجر والورش المتصلة بقطاع البناء، وخصوصاً أن كل طاقات الدولة في مجال الإسكان ستبقى موجهة لاستيعاب المهاجرين اليهود الجدد، وذلك باستبعاد الوحدات الإنتاجية العربية عن العملية (إلاّ في شكل التعاقد من الباطن). وهكذا فإننا نرى، في هذا القطاع أيضاً وإمكاناً لـ"التوجه إلى الداخل"، والمبادرة إلى محاولة ربط عمليتي الإنتاج والاستهلاك الإسكانيين العربيين بدائرة واحدة، إلى جانب إمكان البحث عن أوجه التكامل مع القطاع نفسه في الأراضي المحتلة منذ سنة 1967ـ والتي تعاني انخفاضاً كبيراً في الطلب والاستثمار في الإسكان.

خامساً: الخدمات والتجارة والمال

              يمتاز فرع الخدمات المكتبية بوجوده الكثيف في المدن العربية والقرى العربية ذات الحجم السكاني الكبير. وبحسب إحصاءات ميدانية جديدة، هناك ما يقارب 700 مكتب في الوسط العربي يتوزع 88% منها على النحو التالي: الهندسة المعمارية، والحسابات، والتأمين بأنواع كافة، والمحاماة، بالإضافة إلى مكاتب الدعاية والنشر والوساطة والسياقة والمكاتب الصحافية التي يبلغ عددها ما يزيد على 30 مكتباً، يصدر عنها 21 صحيفة ومجلة. أما المحلات التجارية فيزيد عددها على 400 متجر ودكان، يعمل أكثر من نصفها في مجال الأغذية (البقالة)، بينما يعمل الباقي في مجالات أخرى مثل: الأحذية والملابس،والإلكترونيكا، وألعاب الأطفال... إلخ. أما المصارف فيعمل نحو 72 مصرفاً في الوسط العربي، منها 29 فرعاً للبنك العربي الإسرائيلي الذي يعمل في الوسط العربي فقط، ويتلوه بنك باركليز ديسكاونت الذي يعمل معظم فروعه في الوسط العربي أيضاً، بالإضافة إلى فروع بنك هابوعاليم وبنك لئومي. والواقع أنه لا تتوفر أية معطيات عن حجم الدورة التجارية في الوسط العربي والعمل المكتبي، لذا فإنه لا يمكننا التفصيل في هذا الإطار، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الدورة المالية.

وكل ما نستطيع تفصيله هنا هو فيما يتعلق بميزانية البنك العربي الإسرائيلي الذي يعمل، كما ذكرنا، في الوسط العربي فقط، والذي يعطينا مؤشراً على الدورة المالية. فبحسب ميزانية البنك لسنة 1990 نرى أن ودائع الجمهور فيه انخفضت في الأشهر التسعة الأولى إلى 241,228 مليون شيكل، بينما كانت الودائع قد بلغت حتى نهاية كانون الأول/ديسمبر 1989 ما قيمته 282,162 مليون شيكل. أما اعتمادات الجمهور في نهاية أيلول/سبتمبر 1990 فارتفعت إلى 350,901 مليون شيكل، بعد أن كانت في كانون الأول/ ديسمبر 1989 قد بلغت 338,696 مليون شيكل. وفي كلتا الحالتين، نرى أن اعتمادات الجمهور تفوق الودائع، ونعتقد أن هذا هو الوضع أيضاً في باقي الفروع المصرفية. ونود هنا أن نشير، بالتخصيص، إلى الديون المشكوك فيها؛ فقد بلغت في الأشهر التسعة الأولى من سنة 1990 ما قيمته 4,352 ملايين شيكل، بينما كانت بغلت 21,628 مليون شيكل في نهاية سنة 1989 (وكل هذه الأرقام ملائمة لتأثير التضخم المالي وفق جدول أيلول/ سبتمبر 1990). وإذا رجعنا إلى تفصيل ميزانية سنة 1989 (مع ملاءمة التضخم المالي بحسب جدول كانون الأول/ديسمبر 1989) نرى أن اعتمادات الجمهور قد بلغت في 31 كانون الأول/ ديسمبر 1989 ما قيمته 299,736 مليون شيكل (أي نحو 150 مليون دولار) بعد حسم التخصيصات المعينة لديون مشكوك فيها.

من هذه المعطيات، نرى أن ودائع الجمهور هي، في معظمها، ودائع في برامج توفير. وتعود ملكية أغلبية الودائع إلى طبقة معينة من الجمهور، مثل الموظفين والعمال، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الاعتمادات؛ فاعتمادات الأشخاص الآخرين ترجع إلى الطبقة التي ذكرت سابقاً، ويتلو ذلك من ناحية الحجم اعتمادات مخصصة لقطاع الخدمات العامة والجماهيرية. أما رصيد اعتمادات الزراعة والصناعة، فهو قياساً بباقي أرصدة الاعتمادات قليل ويدل على ضعف هذين القطاعين من الناحية الإنتاجية، حتى أنه في بعض الأحيان توزع هذه الاعتمادات على غير المزارعين، ويستغلها التجار الذين يفوق حجم اعتماداتهم اعتمادات هذه القطاعات. ويؤكد معدّو التقرير السنوي للبنك العربي "أن هناك تباطؤاً في النشاطات الاقتصادية، وزيادة في البطالة وفي الصعوبات التي واجهتها الشركات في الفروع المختلفة، ولذلك انخفضت أرباحها قياساً بسنة 1988." ومن المعطيات المتوفرة حتى أيلول/ سبتمبر 1990، يمكن الاستنتاج أن التباطؤ مستمر، وأن عملية الركود الاقتصادي تزداد. ويبقى السؤال المحدد وارداً: ما حجم الدورة المالية في الوسط العربي، وهل هناك رؤوس أموال غير مستغلة؟

من المعطيات المتوفرة نستطيع أن نقول إنه لا توجد أموال فائضة هنا إذا استثنينا العقارات الثابتة، كالأراضي الزراعية التي تعتبر وسيلة إنتاجية، والأراضي المخصصة للبناء في الوسط العربي. والدليل أن الاعتمادات تفوق الودائع، وأنه إذا وجدت رؤوس أموال في الوسط العربي فإنها مستغلة. ويبقى السؤال: هل هذه الأموال مستغلة لدفع عجلة الإنتاج في المجتمع العربي أم لا؟ وهذا كله يعتمد على التكهن لا على الإجابة الدقيقة.

ويسود الرأي القائل إن هذه الأموال غير مستغلة في القطاعات الإنتاجية، وإنما في القطاعات التجارية. ويعود السبب في ذلك إلى عدة عوامل، منها:

1- عدم المخاطرة (risk aversion) بهذه الأموال، اي أن المستثمرين من النوع الذي يكره المجازفة.

2- الربح السريع وعدم الانتظار حتى تعيد هذه الأموال ريعها.

3- إن نوعية المجتمع الاستهلاكي تدفع بالمستثمرين إلى الاتجاه التجاري.

4- إن العقبات التي تضعها السلطات أمام الصناعة والزراعة تحول دون إقامة مشاريع إنتاجية في المجتمع العربي.

سادساً: إمكانات التطوير الاقتصادي

أ بعض المنطلقات

              بعد أن أوجزنا الموجودات الرئيسية من خلال نظرة إلى الواقع، يمكننا القول إن التنمية تنطلق وترتكز على قوى المجتمع العربي الذاتية، ضمن الموجودات والمحدوديات، آخذة بعين الاعتبار انفتاحها على المشاريع الاقتصادية الإسرائيلية بصورة حضارية تميل إلى التكافؤ في تطوير المجتمع العربي.

ولا شك في أن محدودية الموجودات الطبيعية والمالية و(إلى حد أقل) البشرية، تشكل نقطة الاختناق، وكذلك نقطة الانطلاق في مسيرة التطوير الاقتصادي، إذا ما استغلت استغلالاً صحيحاً وسخرت لمطالب الاقتصاد العربي البنيوية. وكي نظهر الأمر بصورة صحيحة، سنحاول تقدير إمكانات التطوير ضمن الموجودات والمتطلبات لهذا المجتمع.

لقد تبين مما سبق أن هناك تحولاً في البنية الاقتصادية، من مجتمع قروي زراعي إلى مجتمع يعتمد على الخدمات والعمالة في المنشآت الإسرائيلية، على الرغم من رقي مستوى الحياة من خلال ارتفاع مداخيل القوة العاملة الأجيرة والمستقلة.

إن التفاوت بين العرب واليهود، مواطني إسرائيل، ما زال كبيراً على الرغم من أن الكوادر المهنية المدربة والمتعلمة العربية تزايدت في العقدين الأخيرين، وأصبحت مؤهلة وقادرة على تنمية مجتمعها اقتصادياً وفكرياً، لكننا نلاحظ أيضاً أن القرية العربية أصبحت، في أغلب الأحيان، تفتقر إلى المقومات الاقتصادية الأساسية على الرغم من وجود إمكانات للتطوير. ونورد، على سبيل المثال، نموذجاً للموشافيم والقرى اليهودية؛ فنرى أن هذه القرى قادرة على جذب أيد عاملة عربية تعمل في منتوجاتها الزراعية. إذ إن القرية، كما هو معروف عالمياً، هي مصدر الإنتاج الزراعي، لذا من الواجب أن تكون قرانا العربية أيضاً مصدراً للإنتاج الزراعي. فالأراضي الزراعية متوفرة، حتى لو كانت مشتتة أو مهمّشة، ويمكن أيضاً تطوير فروع أخرى في الزراعة، مثل تربية الحيوانات البيئية والدواجن، إذ إن النصيب الإنتاجي لهذه الفروع في المجتمع العربي لا يسد متطلبات هذه القرى، مع أنه بحسب المعطيات يمكن هنا التركيز على هذا النوع الإنتاجي؛ فجدوى الاستثمار في هذه الفروع أفضل من جدوى الاستثمارات في الصناعة، وخصوصاً في القرى الصغيرة التي تفتقر إلى الأيدي العاملة المهنية والأكاديمية، وأن هذا النوع من الإنتاج الزراعي لا يتطلب كفاءات خاصة.

وفي جميع المجالات والقطاعات التي ذكرناها أعلاه، توجد احتمالات / إمكانات ومقترحات عملية وقابلة للتنفيذ، بالأولوية ودرجة "البرمجة" التي يمكن أن ترغب فيها الجهات المعنية بالعملية التنموية عامة، والصمود خاصة. ونقوم، فيما يلي، بسرد ما يبدو لنا بديهياً لكن من دون تنظيمه في إطار موحد أو متناسق أو "مبرمج"، إذ إن هذا هو مرحلة لاحقة من عملية التخطيط نتركها للجهات المعنية كي تضع خططها بحسب أولوياتها وإمكاناتها.

ب أية تنمية؟

              ثمة ملاحظات "منهجية" ترشدنا في نمط و"فلسفة" توجهاتنا التنموية المتضمنة هنا، ومن أهمها:

  • تعتبر التنمية الاقتصادية عند المواطنين العرب داخل إسرائيل، كما هو حالها في جميع أنحاء العالم، جزءاً من التنمية الاجتماعية الثقافية، وتشكل سبباً ونتيجة. لذا، يجب أن يكون هناك اتزان بين الخطوات والبرامج والأموال التي تصرف على التنمية الاقتصادية وبين الأموال التي تصرف على أشكال التنمية الأخرى.
  • يجب أن تتوافق المساهمة في دعم التنمية الاقتصادية مع نشوء المبادرة الذاتية، وهو ما يزيد في فرص نجاحها. ولا يعتبر دعم التنمية سبباً لإنشاء مبادرات، بل تكون الأخيرة نتيجة لنجاح المبادرات الذاتية والفردية التي يقدم لها الدعم الملائم.
  • بالإضافة إلى دور المؤسسات في الخارج التي تساهم في دفع عجلة التنمية الاقتصادية، يوجد هناك مؤسسات محلية كالمصارف ووزارات حكومية وشركات خاصة وهستدروتية، بالإضافة إلى التوفيرات والأموال التي يستطيع المستثمر جمعها وصرفها على المشروع.
  • إن تنمية اقتصاد المجتمع العربي في البلد هي حلقة من تنمية شاملة ذاتية للعرب، غير متعلقة بالاقتصاد الإسرائيلي العام إلى حد ما، وبغية تخفيف تأثير سلبيات الاقتصاد العام فيه.
  • يجب أن يتم التركيز على العملية التثقيفية في عملية التنمية، وإخراج العرب من أنماط التفكير السائدة (مع وجود بداية تغيير) التي تعمل على استمرار التبعية كأساس في عملية التنمية.
  • ننطلق أيضاً من أن التنمية الاقتصادية هي تعبئة للموارد المالية والطبيعية والبشرية، وتنبع من واقع المجتمع. ولأن المجتمع العربي قادر اليوم أكثر من أية مرحلة مضت، بحسب موارده، على التنمية الاقتصادية، فلا بد من الاستعانة بهذه الموارد والقدرات البشرية أولاً.

سابعاً حاجات وإمكانات قطاعية

أ -  تنمية الموارد البشرية

              تهدف التنمية البشرية إلى تعميق الوعي الذاتي وقدرة الإنسان على تغيير ومواكبة المستجدات العلمية والإدارية الحديثة. وقبل كل شيء، لا بد من إعادة النظر في، والتركيز على أهمية تنمية الموارد البشرية في الوسط العربي، ولا سيما الشابة منها، إضافة إلى الدور المحتمل للعنصر النسائي في ميادين اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية مختلفة.

ونرى أن الهستدروت يقوم بإجراء دورات قطاعية لعاملين في قطاع معين، لكن هذه الدورات غير ملائمة لتنمية الاقتصاد العربي وإنما لتعميق عملية التعبئة الاقتصادية. كذلك، يقوم بعض المؤسسات الأهلية بإجراء دورات دراسية ولقاءات لا تتعدى يومين أو ثلاثة أيام، يجري خلالها عرض موضوع معين. وتلفت هذه الدورات الانتباه إلى موضوع معين كي يتكون نمط تفكير جديد لاستيعاب المستجدات والمستحدثات واستغلالها في عملية التنمية.

وهناك أساسيات فيما يتعلق بتوجيه الموارد البشرية اقتصادياً بصورة أفضل، منها:

1-  عملية تثقيفية يتم من خلالها تشجيع المبادرين، وتشجيع الاستهلاك المحلي، وحث رؤساء السلطات المحلية، على إنشاء قاعدة وبنية تحتية موافقة لتطوير الصناعة.

2- استثمار القوى العاملة الأكاديمية، والخريجين العرب، وتحويلهم من الخدمات إلى إنشاء فعاليات اقتصادية.

3- ربط وتكامل بين الضفة والقطاع وبين المناطق العربية في إسرائيل، وتخفيف الازدواجية، والاستفادة من الخبرات المتوفرة عند كل جانب.

4- وضع وتنفيذ برامج للتعليم المهني الملائم، ودورات مركزة وهادفة إلى كسب مهن للمواطنين العرب، و"إعادة التدريب" عند الحاجة.

5- يمكن أن نستنتج أن النشاط الاقتصادي للمستقلين هو الذي يجب توجيه الدعم إليه، لأنه من خلال هؤلاء المبادرين المستقلين يمكن فتح فرص عمل عربية ونشوء عامل مضاعف لإنماء قطاعات اقتصادية وتنموية أخرى.

6- من الضروري إجراء أبحاث قطاعية للنظر في حاجات ومشكلات كل قطاع لوحده، إذ تختلف الحاجات والحلول الملائمة اختلافاً كبيراً بين قطاع وآخر، وبين منطقة وأخرى، إلخ...

ب التنمية الريفية: الزراعة والتصنيع الزراعي

              يزيد عدد القرى التي لا يبلغ عدد سكانها أكثر من 5000 نسمة، على ثمانين قرية معترفاً بها رسمياً، بالإضافة إلى القرى غير "المعترف بها" والتي يزيد عددها على 40 قرية. وتعتبر معدلات النشاط العام للسكان في قوة العمل في هذه القرى الصغيرة، أقل من مثيلاتها في القرى الأخرى، وخصوصاً معدل نشاط النساء. ويعود السبب في نسبة الاشتراك المنخفضة نسبياً إلى التركيبة العمرية الشابة. ويلاحظ أيضاً التفاوت النسبي بين هذه القرى والقرى الأكبر حجماً، في الالتحاق بالدراسات العليا. وتكثر فيها القوى العاملة غير المدربة، وغير الأكاديمية، لذا فمن الطبيعي، وضمن هذه الإمكانات، التوجه إلى تنمية الزراعة بصورة رئيسية، وخصوصاً أن الصناعة تتطلب أيدي عاملة مدربة، وأكاديمية، وسوقاً قريبة لتسويق المنتوجات، بالإضافة إلى رأس المال. وبما أن رأس المال المستثمر في القطاع الزراعي أقل منه في القطاع الصناعي، وأن كثيراً من المقومات الأساسية لهذا القطاع موجود حالياً وتاريخياً، مثل الأراضي والقوى العاملة، وخصوصاً أنه قبل سنة 1948 اعتمد سكان هذه القرى اعتماداً كلياً على الزراعة، ومع مرور الزمن تضاءل نصيب هذا القطاع، فإن من المفيد حالياً الرجوع إلى هذا القطاع وتطويره من جديد، وإفساح المجال أيضاً للنساء من أجل المشاركة الفعالة بنصيبهن الإنتاجي.

فالمرأة التي عملت في السابق في الإنتاج البيتي والزراعي، بصورة غير رسمية، شكلت قطاعاً إنتاجياً مهماً، وخصوصاً في فرع تربية الماشية البيتية والطيور وما يترتب عليها من منتوجات، كالحليب واللحوم.

وعلى الرغم من تقلص مساحة الأرض المزروعة، والحد من كمية المياه، والحواجز التي توضع أمام تسويق المحصول الزراعي العربي، فما زالت الزراعة العربية تشكل أحد الفروع الاقتصادية الأساسية الرئيسية التي تساهم في تخفيف التبعية. ولذلك، من الواجب دعم هذا القطاع كونه أحد الأسس في عملية التنمية، وحتى في استمرار البقاء.

ج التصنيع الزراعي والتطوير الصناعي

              ذُكر سابقاً أن لمعظم الصناعات والخدمات الصناعية تركيبة وخدمات ضرورية فرضت ضمن أوضاع الواقع، وأبرزت أيضاً إقبال النساء على المشاركة الفعلية في هذه الصناعات، وخصوصاً فرع النسيج. وهنا، يمكن تفنيد أقوال بعض المدعين أن التقاليد والتراث تمنع المرأة من المشاركة في القوى العاملة؛ إذ يلاحظ أن النساء في القرى والمدن التي تتوفر فيها أماكن العمل، يشاركن في العمل مشاركة فعالة.

وسنتطرق هنا إلى القرى الأكبر حجماً سكانياً؛ ففي هذه القرى ترتفع نسبة القوى العاملة المدربة والمهنية، بالإضافة إلى معدلات الالتحاق بالتعليم العالمي المرتفعة نسبياً، وكذلك الأمر بالنسبة إلى رأس المال؟ ومن المفروض التركيز على الموجودات وإقامة برامج إنمائية يسهل تنفيذها. فإذا توفرت المنتوجات الزراعية من المفضل أن يُعمل على تصنيعها. وبهذه الوسيلة يمكن توفير الكثير من التكاليف مثل النقل. وكذلك استيعاب هذه المنتوجات وتنويعها بشكل يخدم أيضاً توفير المنتوجات الأساسية لسكان هذه القرى والمدن، وإيجاد سوق لها هي السوق المحلية العربية، وكذلك السوق الإسرائيلية. ومع تركيز الصناعات في المدن، تجمّع الكثيرون من العاملين حولها مع ما يحتاجون إليه من خدمات. ولأن معظم المجتمع العربي لا يزال قروياً، فمن المفروض في الوقت نفسه إيجاد مصادر رزق محلية ملائمة لكفاءة سكان القرى وقدراتهم الإنتاجية، وهو ما يساهم في صد هجرتهم إلى المدن.

ويؤكد بعض المؤشرات الحديثة أن أغلبية الكفاءات الصناعية العربية تتركز في فروع البناء والأغذية والنسيج. وهنا، يمكن تطوير هذه الصناعات والاختصاص بها في المدى القريب، وخصوصاً التصنيع الزراعي، وتصنيع الأغذية، واستيعاب الكفاءات والتوجهات العلمية الموجودة. أما في المدن الكبيرة، حيث تتركز الخدمات والبنية التحتية اللازمة، فيمكن العمل على بناء صناعات أكثر تطوراً، مع أنه في الأوضاع الحالية من شبه المستحيل إقامة هذه الأنواع من المصانع الإنتاجية. لذا، يمكن إقامة صناعات تخدم التصنيع الزراعي والمنتوجات الأساسية التي يستهلكها كل إنسان وكل مزارع.

د - تشجيع التكامل مع الضفة والقطاع

              تخضع عملية التكامل بين الضفة والقطاع من جهة، وبين المجتمع العربي في إسرائيل من جهة أخرى، للاختصاص وللأفضلية النسبية لكل طرف في نوعية الإنتاج التي يقوم بها. ويتم تحقيق هذه المعادلة بتبادل تجاري بين الطرفين يعود بخفض تكلفة الإنتاج والوصول إلى الحد الأقصى من النجاعة والإنتاج، وبالترفع عن وجود بطالة مقنعة وهيكلية لوسائل الإنتاج المختلفة الموجودة عند الطرفين. ولأن عملية التبادل التجاري بين الطرفين لا تخضع لعملية تجارية منظمة، ولأنه لا يوجد أية معطيات دقيقة عن حجم هذا التبادل التجاري، وبالذات السلع الإنتاجية، فلا بد من السعي لتحقيق هذا الهدف عن طريق دراسة الموجودات في كل من الضفة والقطاع والمجتمع العربي في إسرائيل؟ وكما ذكرنا في سياق هذه الدراسة أن المجتمع العربي في إسرائيل هو من نوع المجتمعات الاستهلاكية ولا يتوفر فيه سوى القليل من الوحدات الإنتاجية قياساً بالضفة والقطاع، فإننا نرى أن سعر المنتوجات الفلسطينية وجودتها هما اللذان يفرضان وجود هذه المنتوجات في الأسواق العربية في إسرائيل. ونستطيع أن نشير هنا إلى بعض المنتوجات الفلسطينية التي تسوّق لدى المجتمع العربي بكثرة، مثل الحلويات (من إنتاج شركة سنقرط وسلفانا)، والمشروبات الخفيفة (من صناعة رويال وكلاب)، والمواد الغذائية وخصوصاً الطحينة، وورق التواليت و"حفّاضات" الأطفال، وبعض أنواع العطور، والأدوات المنزلية، بالإضافة إلى حجر البناء والأحذية وبعض الملبوسات (النسيج) والأثاث الخشبي والحديدي. أما بالنسبة إلى المنتوجات الزراعية، فإن جميع ما يزرع في الضفة الغربية والقطاع يسوّق أيضاً داخل المجتمع العربي في إسرائيل. وبينما لا تخضع عملية التصدير الصناعي للكثير من المضايقات من جهة السلطات، فإن التصدير الزراعي من الضفة والقطاع إلى إسرائيل يتم بوسائل سرية أو غير مرخصة.

أما تسويق المجتمع العربي إلى الضفة والقطاع، فإنه يقتصر على الحبوب، وخصوصاً علف الحيوانات البيتية (القش) والبطيخ والشمام، أي الزراعة الموسمية الصيفية. أما في مجال المواد الغذائية والمشروبات الخفيفة، فيكاد ينعدم وجود أي تبادل تجاري بين الضفة والقطاع وبين إسرائيل، باستثناء القليل من المشروبات الخفيفة إلى قطاع غزة (شركة مشروبات الجليل – عرطول). وبعد فترة الانتفاضة بدأ، وبصورة واسعة، توريد منتوجات وبضائع إسرائيلية يهودية أو منتوجات تعبأ في القرى العربية وترسل إلى مدن الضفة، كالسكر والأرز والبن.

كذلك هو الأمر بالنسبة إلى القوى العاملة. فهناك عدد قليل من عمال الضفة والقطاع يعمل داخل المجتمع العربي في مجال البناء والنظافة، ولا يوجد عمال عرب من إسرائيل يعملون في الضفة والقطاع. ويتشابه الأمر بالنسبة إلى الخدمات الصناعية والمهنية؛ فالكثيرون من فلسطينيي الداخل يتوجهون إلى الضفة لتصليح السيارات وشراء المنجور والتعاقد مع أصحاب المهن هناك. ولا نجد أن جماهير الضفة والقطاع يتوجهون إلى المجتمع العربي في إسرائيل لقضاء هذه الأعمال. من هنا، نستنتج أن عملية الاختصاص والأفضلية النسبية موجودة، وأن عملية التنمية في المجتمعين يجب أن تسير في الاتجاه نفسه، مع التركيز على تنمية التصنيع الزراعي والصناعات الخفيفة في المجتمع العربي في إسرائيل في الوقت الحاضر، والتركيز على التبادل التجاري بين الطرفين بحيث لا يتعارض ولا يدخل في منافسة في القطاع نفسه وإنما التركيز على منافسة البضائع الإسرائيلية، وخصوصاً في مجال تعليب المنتوجات الزراعية واللحوم والحليب وشركات النايلون الزراعي – بالإضافة إلى السعي للرقي بإنتاج الصناعات المتقدمة عند الفلسطينيين في الداخل وفي الضفة والقطاع

من جهة أخرى، فإن انقطاع الكثيرين من العمال الفلسطينيين عن العمل في إسرائيل، نتيجة ازدياد عدد المهاجرين الجدد وفصل آلاف العمال الفلسطينيين، فجّر أزمة جديدة في قدرة استيعاب الصناعة الوطنية لهؤلاء العمال. ولا بد من التذكير بأن فصل العمال قد مس العمال الفلسطينيين الذين لديهم مواطنة إسرائيلية، وأن المجتمع العربي بدأ يرزح تحت أزمة مشابهة لأزمة عمال الضفة والقطاع، لكن بوطأة اقتصادية أقل مما هي في الضفة والقطاع. من هنا، فإن عملية تشجيع التكامل الاقتصادي أصبحت واقعاً لا مفر منه ضمن ما طرح سابقاً لتطوير المجتمع العربي في إسرائيل.

هـ - تعبئة الموارد المالية

مما سبق يلاحظ تعدد الاحتمالات والمجالات الاقتصادية الحيوية القابلة للتطوير، وذلك حتى من دون تدخل جهات خارجية إذ إن الوسط العربي لا يفتقر إلى المبادرات المحلية الجيدة والخبرة الأساسية. كما يلاحَظ أهمية تقوية الروابط ما بين القطاعات والمناطق (بما فيها الأراضي المحتلة منذ سنة 1967) وإمكان ذلك. ويمكن هنا الاستفادة من تجربة الأراضي المحتلة منذ سنة 1967، منذ الانتفاضة، والتوجهات الجدية هناك إلى بناء اقتصاد محلي يعتمد على الذات قدر الإمكان. وبينما جاءنا هذا التوجه في الأراضي المحتلة أمراً واقعاً في إطار مبادرات الانتفاضة، واشتد التوجه إلى التقليل من الاستهلاك بسبب الأوضاع المعيشية الصعبة هناك، فإن الوسط العربي في إسرائيل يواجه أزمة اقتصادية متفاقمة ستجبره على التقليل من الاستهلاك الإضافي وغير المبرر في أحوال تقشفية ستدفع أيضاً في اتجاه سياسات الاقتصادات المنزلية / المحلية (حواكير، واستغلال أراض هامشية، والتصنيع الغذائي المنزلي، وغيرها من الإجراءات التي تؤمن نوعاً من الاكتفاء الذاتي).

وإذا كان مثل هذه التوجهات ممكناً ومرغوباً فيه وناجعاً، فإن عملية تمويله ليست في الدرجة نفسها من الوضوح أو التأكد؛ إذ نلاحظ أنماط التمويل السائدة والمديونية الكبيرة نسبياً لدى الكثير من العائلات والفعاليات الاقتصادية (الاعتماد على القروض المصرفية، وظاهرة استعمال الشيكات المؤجلة /Post-Dated/، وأساليب الدفع على الحساب، إضافة إلى تزايد مؤسسات الخدمات الخاصة المختصة بحل مشكلات الزبائن مع المصارف ومصلحة الضرائب، إلخ). وحتى لو افترضنا أن وجود التمويل المحلي ليس، في حد ذاته، عائقاً أمام الاستثمار المنتج في الاقتصاد العربي، فإنه لا شك في أن ثقة الجمهور بجدوى توجيه الموارد المالية إلى مثل هذه المجالات معدومة أو مفقودة، إذ لا توجد تجارب كثيرة لتشجيع الناس والمبادرين على المغامرة، ولم يصل الضغط الاقتصادي بعد إلى درجة تجعل مثل هذا التفكير حتمياً، كما حدث منذ سنة 1987 في الأراضي المحتلة.

إذاً، حين نجد المبادرين إلى المشاريع الاقتصادية يفتقرون إلى رأس المال الأولي، فلا بد من توفيره: حين يتوفر جزء من رأس المال لا بد من إيجاد السبل الكفيلة بتكملته وتسهيل توظيفه؛ وحين لا يوجد رأس المال لكن توجد القدرة والأفكار والخطة الاقتصادية المدروسة، فلا بد من محاولة دعمها بما يمكن من موارد خارجية. ويمكن للتعاونيات الإنتاجية الجماعية أن تضع أمامها إقامة مشاريع إنتاجية ضمن التوصيات المذكورة، أو شركات عائلية عامة، تستمد رأس مالها من توفيرات محلية ومن قروض تنموية بفائدة معقولة، مع إمكان فتح أسواق خاصة في الضفة والقطاع، وكذلك في الدول الأوروبية التي تهتم ببناء اجتماعي واقتصادي للدول النامية، وكذلك التوحيد والجمع بين وحدات إنتاجية قائمة تستغل من خلالها أفضليات التوسع والعمل المكثف. وفي مثل هذه المحاولات، يمكن الاستفادة من تجارب المؤسسات التمويلية التي أُنشئت في الضفة والقطاع بغرض تعبئة الموارد المحلية والخارجية وتوجيهها اقتصادياً، وذلك ضمن مراقبة ومحاسبة دقيقتين لتشجيع العناصر والفعاليات الاقتصادية على الاعتماد على الذات، والتخطيط، وعدم هدر الطاقات البشرية والمالية المحدودة المتوفرة لعملية دفع الاقتصاد العربي في إسرائيل إلى الأمام.  

[1]   البيانات هنا مستخرجة من Statistical Abstract of Israel, 1990 إلا إذا ذكر عكس ذلك، ومعظمها يعود إلى سنة 1989.

[2]  Labour and Social Affairs, No. 5, July 6, 1990, pp. 179-183.

[3]  ماجد الحاج، "ضائقة الأكاديميين العرب" (حيفا: المركز اليهودي العربي – جامعة حيفا، 1989).

[4]  المصدر نفسه.

[5]  عاص أطرش، "الاشتراك في قوة العمل ومبنى دالة الأجرة"، 1988 (غير منشور).

[6]  Ruth Klinov, Arabs and Jews in the Labour Force (Jerusalem: Hebrew University Department of Economics Working Paper, 1988).                                                                                     

[7]  عاص أطرش، "ازمة الفقر عند العرب في إسرائيل" (الناصرة: مركز يافا للأبحاث، 1989).

[8]   أنظر مثلاً: راسم خمايسي، "مصادرة الأراضي وأبعادها على تطوير البلدات العربية" (القدس: الجامعة العبرية – قسم الجغرافيا، 1990).

[9]   رجا الخالدي، "اقتصاد الفلسطينيين العرب في إسرائيل"، في: جورج العبد (محرر)، "الاقتصاد الفلسطيني – تحديات التنمية في ظل احتلال مديد" (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1989).

[10]  مركز يافا للأبحاث، "سلسلة معجم القرى..." (1990).

[11]  عزيز حيدر، "العرب في الاقتصاد الإسرائيلي" (تل أبيب: المركز الدولي للسلام، 1990).

[12]  مركز يافا للأبحاث "سلسلة معجم القرى..." (1990).

السيرة الشخصية: 

راسم خمايسي: باحث في مركز التخطيط والدراسات - كفر كنّا.

عاص أطرش: باحث في مركز يافا للأبحاث – الناصرة.