شيف ويعري. "الانتفاضة" (بالعبرية)
الكتاب المراجع
النص الكامل: 

الانتفاضة 

بقلم زئيف شيف وإيهود يعري.

تل أبيب: شوكن، ١٩٩٠.

 

زئيف شيف هو المحرر العسكري لصحيفة "هآرتس" اليومية ذات المكانة المرموقة. ويرى الكثيرون أنَّه أكثر صحافيي إسرائيل خبرة وأوسعهم اطلاعًا على الشؤون العسكرية والأمنية. وإيهود يعري هو مراسل التلفزة الإسرائيلية لشؤون الشرق الأوسط، وهو خبير بشؤون العالم العربي. ويتمتع الرجلان بشبكة واسعة جدًا من الاتصالات ومصادر المعلومات النابعة، في الغالب، من الجيش الإسرائيلي وأجهزة المخابرات، والتي تمتد أيضًا إلى بعض الدول العربية وبعض الأوساط الفلسطينية.

يحتوي كتابهما المشترك السابق: "مِلْحِمِة شولال" (ومعناه الحرفي: "حرب الخداع") الذي يشجب حرب إسرائيل في لبنان سنة ١٩٨٢، العديد من الأسرار المثيرة التي كُشف الغطاء عنها وتتعلَّق بالتحضيرات لتلك الحرب ولإدارتها من قبل أريئيل شارون ومن معه. وغَدَا الكتاب في عداد الكتب الأكثر رواجًا.

أما الكتاب الحالي فإنَّه لا يتضمن سوى القليل من الأسرار المهمة المكشوفة غير تلك التي يعرفها كل من تتبع تغطية حوادث الانتفاضة في وسائل الإعلام، وخصوصًا في الصحافة الإسرائيلية. وفي كل حال، فالمؤلفان لا يهدفان إلى تأريخ هذه الأحداث بالتفصيل بل إلى الإجابة عن بعض الأسئلة التي تطرحها الانتفاضة وتحليلها: لماذا اندلعت في الزمن الذي اندلعت فيه؟ ما هي أسبابها المباشرة؟ لماذا فاجأت الانتفاضة السلطات الإسرائيلية وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية معًا عند اندلاعها كما أدهشتهما بعنادها واستمراريتها؟ من يقود الانتفاضة، وما العلاقة بين القيادة المحلية النابعة من الأرض وبين القيادة الفلسطينية الوطنية خارج الأراضي المحتلة؟ ما هي أهمية التيار الإسلامي الأصولي في غزة والضفة الغربية بالنسبة إلى التيار الوطني الممثَّل بالمنظمة؟ ماذا أنجزت الانتفاضة، وما المتوقع من تأثير دائم لها في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي؟

يزوّدنا المؤلفان بأجوبة مهمة تتضمن نظرات ثاقبة تستند إلى الحقائق كما إلى التحليل والنقد حيال هذه الأسئلة كافة، الأمر الذي يجعل من هذا الكتاب مصدرًا لا بد منه لكل من يهتم جدّيًا بهذا الصراع.

الأسلوب المتحيز:

المنحى النقدي فيما يختص بالحقائق

ينبغي طبعًا ألَّا يتوقع القارىء أنْ يكون المؤلفان متجرّدين سياسيًا وخلقيًا. فهما صهيونيان مخلصان، وإنْ كانا من الصنف المعتدل نسبيًا. فمصلحة إسرائيل (أو ما يريانه أنَّه مصلحة إسرائيل) هي همهما الأكبر.

و"الحل" الذي يطرحانه هو قيام كيان فلسطيني سياسي داخل اتحاد كونفدرالي فلسطيني – إسرائيلي – أردني. ويتعين على الفلسطينيين التخلّي عن حق العودة، وعن المطالبة بالاستقلال التام. ويكون هذا الكيان الفلسطيني مجردًا من السلاح تمامًا. أما إسرائيل "فعليها أنْ تصرَّ على إجراء التعديلات في حدودها الشرقية. وهي تعديلات ضرورية... وخصوصًا لأن من شأن عملية حفر الآبار غير المضبوطة في السفوح الغربية من جبال السامرة أنْ تؤدي إلى إلحاق الضرر البالغ بأهم احتياطي مائي جوفي في إسرائيل." (لاحظ كيف أنَّ المياه الجوفية لفلسطين بكاملها تُعتبر "احتياطي إسرائيل"). كما يجب المطالبة ببعض التنازلات الإقليمية الصغيرة الأخرى، وذلك "لأسباب تتصل بالأمن" (أمن إسرائيل طبعًا، فالمؤلفان لا يكترثان لأمن الفلسطينيين).

(وهذا النوع من التسوية، بحسب قول المؤلفين نفسيهما، هو المفضل لدى الكثيرين في حزب العمل الإسرائيلي، ومنهم شمعون بيرس الذي لا يجرؤ على الجهر به خوفًا من خسارة أصوات الناخبين. ويبدو أنَّ تسوية مشابهة في المفضلة أيضًا لدى الولايات المتحدة).

أما فيما يختص بالأحكام الخلقية، فالتحيُّز لدى المؤلفين ينعكس في استخدام الألفاظ، وهو استخدام متحيّز إلى اللغة يتميّز به معظم صحافيي إسرائيل. ويبدو ذلك واضحًا بصورة خاصة عند تغطية الحوادث التي تقع فيها خسارة في الأرواح. فعندما يقتل الفلسطيني إسرائيليًا أو فلسطينيًا عميلًا، فإنَّ فعل "قتل" في صيغة المعلوم هو المستخدم (فيقال "قَتَل فلان فلانًا")؛ وكثيرًا ما توصف هذه الأعمال بأنَّها "جريمة قتل" حتى لو كان المصابون جنودًا مسلحين يرتدون يزاتهم العسكرية، أو مستوطنين ذكورًا بالغين مشاركين في تظاهرة استفزازية مسلحة في وسط الخليل. أمَّا حينما يقتل إسرائيليون فلسطينيين، فيفضّل المؤلفان استخدام صيغة المجهول (فيقال "قُتِل فلان على يد فلان")، وإضافة تفسير يُراد به على ما يبدو تبرير القتل إلى حد ما. فيقال، على سبيل المثال: "... قُتلت تلميذة من بلدة دير البلح في قطاع غزة رميًا بالرصاص على يد مستوطن يهودي بعد أنْ هوجمت سيارته بالحجارة...".

لكن حين يتصل الموضوع بنقل الوقائع المهمة وتحليلها، فإنَّ هذا الكتاب أبعد ما يكون عن الدفاع عن السلطات الإسرائيلية. بل على العكس، فإنَّ اهتمام المؤلفين الأساسي هو فضح وانتقاد أخطاء القيادة السياسية وقصر النظر الفكري الذي أدَّى إلى تلك الأخطاء، وذلك بهدف تسديد صدمة إلى الجمهور وأهل السياسة في إسرائيل لدفعهما نحو إنهاء الاحتلال من خلال التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية. ويبدو جليًا أنَّهما يسعيان بصدق لإعطاء صورة دقيقة لأحداث الانتفاضة والمسارات التي هي في أساس تلك الأحداث. ويرى الكاتبان أنَّ من شأن أيَّة محاولة للتقليل من أهمية الانتفاضة وإنجازاتها أنْ تؤدي إلى عكس النتائج المتوخاة.

وهما طبعًا مقيّدان بمصادر معلوماتهما المستمدة، في الغالب، من جهاز الشاباك (شين بت) وأجهزة الأمن الإسرائيلية الأخرى، ومن الآلة العسكرية. ويبدو أنَّهما على اتصال بمصادر لا بأس فيها في النظامين الأميركي والأردني وببعض الزعماء الفلسطينيين، لكنهما لا يتمتعان بأية صلات تذكر بالقادة المحليين في القطاع والضفة الغربية الذين كان لهم دور رئيسي في الانتفاضة. لكن، لعل هذه المحدودية أمر لا مفر منه، ويبدو أنَّهما استخدما ما توفر لهما من مواد على الوجه الأفضل. (طبعًا، لا يعني هذا أنَّ جميع المزاعم التي ساقها المؤلفان صحيحة بالضرورة، فعلى القارىء أنْ يعي ذلك عند قراءة السطور التالية.)

البروليتاريا الغاضبة

من أكثر النقاط إثارة في هذا الكتاب ما يلي:

  • العلاقة بين الحكومة الإسرائيلية والرُتب العليا في الجيش. يقول الكاتبان أنَّ الحكومة، وخصوصًا بعض وزراء الليكود، حاولت باستمرار دفع الجنرالات نحو استخدام المزيد من الإجراءات الوحشية، وبعضها مخالف للقانون بوضوح، وذلك بهدف سحق الانتفاضة، وأنَّ الجنرالات قد قاوموا تلك الضغوط مرارًا.
  • وصف عملية التجربة والخطأ التي اكتشفت من خلالها الجماهير الفلسطينية استراتيجيات جديدة وأنواعًا جديدة من النضال، منها – أولًا – سياسة الصدام العنيف غير المسلح مع قوات الاحتلال، ثم حملة عصيان مدني طويلة الأمد. وكما في نضالات شعبية ثورية حقًا، فالمبادرة تأتي دومًا من القاعدة من جذور المجتمع. فالقيادة المحلية ذاتها، أو ما يُدعى القيادة الوطنية الموحدة، هي نفسها منقادة من قبل القاعدة بقدر قيادتها لها تقريبًا.
  • جدلية العلاقة المعقدة بين القيادة الوطنية الموحدة وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية في تونس. يقول المؤلفان أنَّ ثمة عدة عوامل أعاقت نزوع القيادة الوطنية الموحدة الطبيعي نحو عرض مبادرات مستقلة وممارستها بمعزل عن قيادة المنظمة؛ فهناك في المكان الأول عمليات القمع الإسرائيلية، ومنها الاعتقال الجماعي وطرد عدد من القادة المحليين المهمّين. ثانيًا، لم ترغب القيادة الموحدة ذاتها في أنْ تقع في الفخ الإسرائيلي من خلال تقديم نفسها بديلًا من المنظمة. ثالثًا، يقول الكاتبان إنَّ قيادة المنظمة كانت تنظر إلى القيادة الموحدة كأنَّها تمثل خطرًا محتملًا على سلطتها، كما أنَّها اتَّخذت عدة خطوات لتحجيم هذه القيادة. (وفي شأن هذه النقطة بالذات، يدوِّن الكاتبان بعض الملاحظات التي لا إطراء فيها وتتعلق بمشاعر الغيرة التي يحمي قادة المنظمة، وخصوصًا ياسر عرفات، بها هيبتهم).
  • من أكثر الموضوعات إثارة، والتي يعالجها المؤلفان، أهمية العامل الاجتماعي ضمن الأسباب المباشرة التي أدَّت إلى اندلاع الانتفاضة. ويقول المؤلفان إنَّ حافز الجماهير في قطاع غزة في المرحلة المبكرة من التظاهرات في كانون الأول/ ديسمبر ١٩٨٧، لم يكن الروح الوطنية والرغبة في تقرير المصير الوطني بقدر ما كان شعورها العميق بالغيظ حيال الأوضاع الاجتماعية البائسة واستغلالهم الفظيع من قبل إسرائيل، مع ما يواكبه من امتعاض شديد حيال الإهانات الشخصية المستمرة على أيدي الجنود والموظفين والمستوطنين وأرباب العمل الإسرائيليين. وثمة فصل كامل بعنوان "البروليتاريا الغاضبة" معقود لهذا الموضوع.

 مكاسب لا رجوع عنها

حتى لو سُحقت الانتفاضة غدًا فمن المؤكد تقريبًا أنْ تستعر مجددًا في المستقبل. وعلاوة على ذلك، فإنَّها حققت مكاسب معينة لا رجوع عنها. ويعدد شيف ويعري بعض هذه المكاسب (ص٣٣١):

"استطاع الفلسطينيون من خلال الانتفاضة تدمير الوضع القائم بحيث لا يمكن ترميمه. وعلى الرغم من عجزهم عن فرض نظام جديد، فقد استطاعوا فتح جبهة ثالثة في وجه إسرائيل، وهي جبهة المحاربة المنتظمة وجبهة الإرهاب [أي النضال الفدائي المسلح – الناقد] وتبع ذلك جبهة جديدة هي جبهة حرب الجماهير المدنية التي تستخدم وسائل العنف من غير الأسلحة النارية."

وعلاوة على ذلك، لا يمكن أنْ تنظر إسرائيل بعد الآن إلى الأراضي المحتلة كأنَّها كسب عسكري إيجابي بالكامل؛ "[فالانتفاضة] برهنت على أهمية الحقيقة التي مفادها أنَّ [هذه] الأراضي ليست غير آهلة وأنَّ ثمة حاجة إلى الموازنة بين إيجابيات الاحتفاظ بتلك الأراضي وسلبياته. فالأراضي مهمة ولا شك بالنسبة إلى أمن إسرائيل، لكن من الضروري أنْ نضع في كفة الميزان المقابلة ثمن السرطان الناشىء الذي ينهش جسم المجتمع في إسرائيل."

"خلال مسيرة الانتفاضة، نجح الفلسطينيون في الاحتفاظ بالمبادأة وفي تحقيق إنجازات جزئية. فمن وجهة نظرهم كان الانتصاران الاستراتيجيان الأهم تخلي الأردن عن المطالبة بالأراضي، والاعتراف الأميركي بمنظمة التحرير الفلسطينية. لقد استطاعوا تحقيق السيطرة على أنفسهم، وانتزعوا السيطرة على السكان الفلسطينيين من أيدي إسرائيل، وبلوروا أنماط مجتمع معبأ مستعد لبذل تضحيات جسام. كما أَمْلوا على المنظمة تغييرات في مواقفها. [لكن] في التحليل الأخير، ومع أنَّ قيادة محلية جديدة بدأت بالبروز، فإنَّ هذا الأمر لم يقوض سلطة منظمة التحرير بل على العكس، إذ إنَّ سلطة المنظمة وتفوقها على منافسيها، كحركة حماس [حركة المقاومة الإسلامية]، في قيادة الصراع ضد إسرائيل، قد اتضحا للعيان، وباختصار، أظهرت الانتفاضة أنَّه لا يمكن تجاوز المنظمة في الطريق نحو تسوية."

 الترجمة الإنكليزية

ثمة نسخة إنكليزية عن هذا الكتاب قامت إينا فريدمان بتحريرها وترجمتها، وأصدرتها دار Simon & Schuster. ويجب أنْ أكرس بعض الوقت للحديث عن هذه الترجمة حتى لو كان الهدف فقط تحذير قارىء هذا الكتاب من أنَّ النسخة الإنكليزية تختلف عن النسخة الأصلية من نواح مهمة للغاية. والتغييرات ثلاثة أنواع:

أولًا، أُعيد ترتيب المواد بصورة جذرية. وبعض هذه التغييرات جيد، إذ أسفر عن المزيد من التماسك والوضوح.

ثانيًا، تم حذف اثنتي عشرة صفحة من الصور الفوتوغرافية، وثبت بالمصطلحات من ثلاث صفحات، واثنتين وثلاثين صفحة من الملاحق الوثائقية. وقد ألحق هذا الحذف بالكتاب ضررًا فادحًا، وخصوصًا فيما يتعلق بالملاحق الوثائقية. إذ إنَّ معظمها ذو أهمية كبيرة، منه – مثلًا – منشور باللغة العبرية أصدرته القيادة الموحدة للانتفاضة، وهو موجّه إلى الجنود الإسرائيليين.

وأخيرًا، ثمة تغييرات فاضحة تمامًا، تهدف إلى تكييف نص الكتاب إزاء متطلبات الدعاية الصهيونية في الغرب. ففي أماكن عديدة، خفف وقع أحداث موصوفة وصفًا واقعيًا أو حذف ببساطة باعتباره "غير ملائم" على ما يبدو. وهاكم ثلاثة أمثلة نموذجية لذلك:

  • يخبرنا الكاتبان، في الصفحة رقم ١٣٩، أنَّ الجيش الإسرائيلي في الأراضي المحتلة "يرغم المسنِّين العرب، وبطريقة مذلة، على إزالة الشعارات المساندة لمنظمة التحرير الفلسطينية عن الجدران." وفي الترجمة الإنكليزية (ص ١٤٢) حذفت الإشارة إلى الإذلال.
  • في الصفحة رقم ١٨٨، وفي استشهاد من وثيقة نشرها الأستاذ حنا سنيورة، رئيس تحرير جريدة "الفجر" اليومية، ثمة مطالبة بـ"إطلاق جميع سجناء الانتفاضة، وخصوصًا الأطفال منهم." وفي الترجمة الإنكليزية (ص ٢٠٦) تم استبدال كلمة الأطفال بكلمة "القاصرين". وهناك في اللغة العبرية كلمة "كتينيم"، وهي تعني تمامًا ما تعنيه كلمة "قاصرين" أي الأشخاص الذين هم دون الثامنة عشرة من العمر. لكن المؤلفين لا يستخدمان هذه اللفظة في الأصل العبري بل يقولان "يلاديم" أي الأطفال، لأن من المعلوم جيدًا في إسرائيل أنَّ الكثيرين من الأطفال الفلسطينيين – نعم الأطفال – محتجزون من قبل السلطات الإسرائيلية. أما السيدة إينا فريدمان والذين يوظفون خدماتها، فإنَّهم لا يرغبون – كما يبدو واضحًا – في أنْ يطّلع القرّاء خارج إسرائيل على هذه الحقيقة.
  • يشير المؤلفان في الصفحة رقم ٣٠٢ إلى بعض اللقطات المتلفزة "التي تبيّن الجنود الإسرائيليين وهم يضربون الشبان العرب بقساوة." وفي الترجمة الإنكليزية (ص ٢٩٦) حُذفت كلمة "بقساوة".

وفي بعض الأماكن، ذهبت الترجمة إلى أبعد كثيرًا من مجرد تدليك النص بنعومة.

وعلى سبيل المثال، يقول الكاتبان في الصفحة رقم ٢٢٩ إنَّه بخلاف ما اعتادت الفئات الإسلامية الأصولية عليه، "أحجمت المنظمات التابعة لمنظمة التحرير، وبدقة بالغة، عن أي عمل مشوب بمعاداة السامية." وقد أثار هذا الأمر، على ما يبدو، مشكلة في وجه المحررة – المترجمة: فالدعاية الصهيونية تزعم أنَّ كل مناهض للصهيونية هو معاد للسامية. كيف استطاعت أنْ تحل هذه المشكلة؟ لقد ورد في الترجمة ببساطة متناهية (ص ٢٢٧): "لكونها أكثر تناغمًا مع الحساسيات الغربية، تحاشت منظمة التحرير أي تلميح إلى مناهضة السامية." والكلمات المشدّد عليها لا وجود لها في الأصل العبري. وتقول السيدة فريدمان للقارىء الغربي، من منطلق كونها أشد تناغمًا مع أوامر آلة الدعاية الصهيونية منها مع آداب مهنة الترجمة الصادقة الدقيقة، إنَّ المنظمة، ولأسباب تكتية بحت، تتظاهر بأنَّها غير معادية للسامية.

وهذا المثال ليس الحالة الوحيدة – أو حتى الحالة الأسوأ – من حالات التزييف الصريح. فلنكتف بمثال أخير:

في الصفحة رقم ٢٧٢، وفي منتصف فقرة تعدد الإجراءات القاسية التي أدخلها رابين خلال سنة ١٩٨٨ سعيًا لقمع الانتفاضة، يقول المؤلفان: "كان من جرّاء التغييرات في الأوامر الصادرة بشأن إطلاق النار، وخصوصًا بعد اللجوء إلى استخدام الرصاص البلاستيكي في آب/ أغسطس ١٩٨٨، أنِ ازداد عدد الضحايا في الأرواح...". ومن هذه الكلمات ذاتها، كما من مضمون الفقرة كلها، يتضح أنَّ ازدياد عدد القتلى بين الفلسطينيين لم يكن أمرًا غير مقصود من قبل الذين أصدروا تلك الأوامر.

وفي النص الإنكليزي (ص ٢٦١) تظهر هذه الجملة على رأس فقرة جديدة لا تتناول إجراءات رابين القاسية. وقد وردت على النحو التالي: "إنَّ التغييرات في التوجيهات العامة للجيش المتعلقة بإطلاق النار، وذلك بعد استخدام الرصاص البلاستيكي في آب/ أغسطس ١٩٨٨، لم تقلل من عدد الإصابات في الأرواح." والانطباع الذي تخلفه هذه الكلمات – وبعكس ما يرد في الأصل بصورة واضحة – هو أنَّ التعليمات الجديدة كانت تهدف إلى التقليل من عدد الإصابات المميتة لكنها – ويا للأسف – فشلت في تحقيق ذلك الهدف الإنساني. وعُزز هذا الانطباع الكاذب بملاحظة خاصة في الهوامش أُضيفت إلى النص الإنكليزي توضح أنَّ الرصاص البلاستيكي "مصمم كي يجرح لا كي يقتل؛ لكن يمكنه أنْ يكون في المدى القصير مميتًا كالذخيرة الحية...". ولاحظ أيضًا أنَّ النص الإنكليزي يربط التعليمات الجديدة الخاصة بإطلاق النار، وبصورة حصرية، بالرصاص البلاستيكي، بينما يوضح النص العبري أنَّ بعض تلك التعليمات الجديدة (التي سهلت على الجنود فتح النار عمليًا) قد أُصدر قبل استخدام الرصاص البلاستيكي.

إنَّ هذه الأمثلة التي استشهدنا بها أعلاه لا تمثل سوى بعض التغييرات التي اكتشفتها بين الأصل العبري والترجمة الإنكليزية. لكنني لم أبذل جهدًا منظمًا لكشف النقاب عن جميع الفوارق بين النصّين. ولعل هذا العمل يقتضي أنْ يتناوله شخص يزيدني وقتًا وصبرًا. ويمكن حينئذ نشر النتائج في كُتيب تحت عنوان "بعض الحقائق التي لا تريدك الدعاية الصهيونية أنْ تعرفها."