فلسطين ومستقبل العرب.. بحثاً عن معنى الحرف ''و''
النص الكامل: 

أود أن أبدأ هذا المساء بتقديم اعتراف سيجده معظمكم بلا شك، غريباً للغاية... اعترافي هو أنني أشعر ـ من دون أي تواضع زائف ـ بأن ليس لديّ ما يكفي من الكلام الإيجابي والجازم. إن الشعور الذي طغى عليّ خلال الأسابيع القليلة الماضية، في أثناء إعدادي لهذه المناسبة، هو أن كل شيء قيل تقريباً، كما أنني شعرت، مثلما شعر معظمنا، بأن العالم العربي مجزأ ومثبّط بصورة محبطة، إلى درجة أن قول أي شيء له أي قيمة سيكون إمّا لانتقاد المشهد بأكمله، وإمّا للحديث عن ماضينا التليد ومستقبلنا المجيد بلهجة واثقة تماماً، ستؤدي حتماً إلى جذب مزيد من الانتباه إلى حالة اليأس الحقيقية والمتجذرة التي يشعر بها معظمنا حيال الحاضر. ... أود أن أسلط الضوء قليلاً على العبارة المقترحة للمناقشة: "فلسطين ومستقبل العرب". وأريد منكم أن تضعوا أمرين في ذهنكم وأنا أتحدث: الأول، أن حقيقة كون معظم الأشياء قد قيل بالفعل، ربما تكون أمراً حسناً، بمعنى أنها تتيح لنا أخيراً، الفرصة لغربلة كل شيء بحثاً عمّا هو ثمين؛ الثاني، أن اللحظة الحالية ملأى بالغموض والإرباك والآمال المثبطة، بحيث إنها في الحقيقة تمنحنا مزيداً من الوقت للتفكير والتمحيص بدلاً من البحث عن العبارات الرنانة والتصريحات المنمقة. باختصار، أنظر إلى هذه المناسبة باعتبارها لحظة سلبية يمكن فيها شحذ تصوراتنا المعتادة لوضعنا الكئيب من أجل الخروج بشيء جديد نسبياً، ومحتمل ـ مجرد احتمال ـ أن يكون مفيداً. أريد أن أقترح أن الحساسية السلبية، أو الوعي السلبي، اللذين أريد مناقشتهما، وبعيداً عن كونهما مجرد وسيلة للرثاء، يمكن أن يقودانا إلى طرق تفكير وتغيير جديدة ومفيدة، وهي طرق أُهملت خلال أعوام الوفرة والتفكير الإيجابي. كمثال للوعي السلبي الجديد بالأشياء، خذوا عبارة "فلسطين ومستقبل العرب". عودوا بتفكيركم بضعة أعوام إلى الوراء، هل كان سيخطر لأي منا أن حرف العطف "و" في عبارة "فلسطين ومستقبل العرب"، يمكن أن يعني أي شيء آخر غير "و" الوحدة وتلازم المصير والشراكة، والروابط الطبيعية؟ لو لم تكن فلسطين هي معنى العروبة، فهي على الأقل أحد موضوعاتها المركزية. لم يشكك أي زعيم عربي، أو حزب عربي، أو طالب أو فنان أو جندي أو عامل عربي، في أن العلاقة بين العالم العربي وقضية فلسطين ليست طبيعية فحسب، بل غير قابلة للانفصام أيضاً. لم تتوقفوا للتفكير فيما تعنيه عبارة "فلسطين ومستقبل العرب"، لأنكم افترضتم أن العلاقة بين الاثنين لا تحتاج إلى تفكير، وهي طبيعية بمثل الطريقة التي نستخدم فيها الحرف "و" الذي يفيد ببساطة الوصل من دون إمعان تفكير. لا يفكر المرء في الحرف "و"، وإنما يستخدمه ببساطة. لكن اليوم، أكثر ما يلفت النظر في عبارة "فلسطين ومستقبل العرب" هو الغموض الساطع للحرف "و"، وهو مجرد حرف تعلّمنا الآن أن ننظر إليه بكثير من الشك والمرارة والتهكم. لم يعد الحرف "و" الآن شيئاً نسارع إلى الحصول عليه كي نصل إلى أشياء أكثر أهمية: إنه مسألة الصلة، أو الافتقار إليها، في حد ذاتها. وهنا، نتوقف لنسأل أنفسنا، ربما لأول مرة، إن كان لحرف الـ "و" أي معنى حقيقي. تأملوا ما يمكن أن يعنيه الحرف "و" بعد حصار بيروت، ومعارك طرابلس، والانقسام في الصف الفلسطيني، وزيارة ياسر عرفات لمصر، ومحاولاته التقارب مع الأردن، والعداوة العميقة بين سورية والعديد من الفلسطينيين، والاشمئزاز وخيبة الأمل التي يشعر بها كثيرون منا تجاه دول الخليج الغنية. في المقام الأول، الحرف "و" يعني سلسلة كاملة من الإخفاقات للوصل بين فلسطين والعالم العربي. إنه فشل فلسطيني بقدر ما هو فشل عربي عام. نتذكر بحزن وغضب كيف لم يُسمح خلال حصار بيروت، سوى بتنظيم عدد قليل من التظاهرات في العالم العربي، والأهم، كم كانت قليلة تلك الموارد والجهود العربية التي بُذلت للتخفيف من حصار بيروت، وممّا سيكون عليه المصير البائس لمجتمع فلسطيني بأكمله. لم يتم بذل مجهود فلسطيني كافٍ لتعبئة الجهود العربية قبل وقوع الكارثة، ولا في أثنائها؛ فقد حال خنوع مختلف الأنظمة العربية الذليل للأميركيين، دون القيام بما يكفي لممارسة ضغوط اقتصادية أو سياسية أو عسكرية فاعلة على الولايات المتحدة وعميلتها إسرائيل. يمتلىء وعينا اليوم بإدراك التناقض بين الفلسطينيين، وخصوصاً منظمة التحرير الفلسطينية، وبين العالم العربي، على المستوى الرسمي على الأقل، بدلاً من الروابط التي تربطهم بعضهم ببعض. والآن يستدعي الحرف "و" طرح علامة استفهام: "و" ماذا بعد؟ نسأل على سبيل المثال، عندما نرى أن لدى كل دولة عربية قوانين منفصلة للتعامل مع الفلسطينيين. أو عندما تصدر تصريحات من هنا وهناك في العالم العربي، بأنه يجب نقل الفلسطينيين من مكان إلى آخر، في حين أنه ليس مرحّباً بهم في أي منهما. حرف الـ "و" الجديد هو "و" عدم الثقة والسخرية والإنكار. إنه يفرض علينا ضرورة إعادة النظر في هذه الصلة، لكن ليس في قطعها تماماً، وهنا تكمن الصعوبة الحقيقية نظراً إلى واقع الانتماء المشترك بين فلسطين والعالم العربي، على الرغم من التوتر في علاقاتهما. كان الأمر أسهل كثيراً لولا هذا الانتماء، ولكان بوسع المرء أن يقول "فليذهب العالم العربي إلى الجحيم"، أو على المقلب الآخر وبالنيابة عن العالم العربي، لأمكن القول ـ وربما فعل ذلك كثيرون بالفعل ـ "فلتذهب فلسطين إلى الجحيم." لكن مثل هذا الفصل الجازم أو القطيعة، أمر مستحيل على كل حال؛ فالفلسطينيون والعرب ويهود إسرائيل محكوم عليهم أن يعيشوا أحداث المستقبل المنظور معاً في السراء والضراء. لكن، إذا نظرنا إلى ما تتطلع إليه الآن هذه المجموعات الثلاث فيما يخص المستقبل، فإن "و" التي تربط فيما بينها بصورة عامة ومبهمة، تصبح غامضة تماماً ومعقدة. فالفلسطينيون، في معظمهم، يفهمون قضية فلسطين على أنها مسألة تتعلق بتقرير المصير وإنصاف شعب. وبالتالي، فإنهم، وعلى غرار أي شعب آخر، يعبّرون ـ وفقاً لسيمون فيل (Simone Weil) ـ عن الرغبة الدفينة لدى الإنسان، في الحاجة إلى الجذور. وتكمن المفارقة بالنسبة إلى القضية الفلسطينية في أنها كفكرة تجسد المطالبة بالعدالة وتقرير المصير، تبدو قادرة على التعبئة الفعلية لعدد ضئيل من الناس في العالم العربي وفي أماكن أُخرى. وفي الواقع، ليس من قبيل المبالغة القول إن فكرة فلسطين لا تتعرض للإنكار فحسب، بل هناك أيضاً هجوم لا هوادة فيه ضد حقيقة الواقع الفلسطيني، إلى درجة لا أجد لها تفسيراً. فلسطين اليوم تعادل مشكلة، وهذا أمر يعرفه الجميع، وأولهم الفلسطينيون. وفي الأراضي المحتلة، فإن لفظ الكلمة بحد ذاتها يعرّض صاحبها لعقوبة الاعتقال. وعلى مدى العامين الماضيين، قامت إسرائيل ومؤيدوها في الغرب بشن حملة مهووسة كي تمحو من الذاكرة ما كانت عليه الحملة العسكرية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في لبنان، بكل ما بلغته من شراسة وهمجية لا مثيل لهما، حتى إنها وصلت في الآونة الأخيرة إلى حد نشر كتب ـ مثل ذاك الذي يحمل عنوان: "منذ العصور الأزلية" لجون بيترز* ـ "تثبت" أن الفلسطينيين لم يوجدوا في الأصل على أي حال. إلى جانب ذلك، شُن هجوم متواصل ضد وسائل الإعلام الغربية لاتهامها بالجهل والعداء لليهود؛ وأحدث مثال لذلك كتاب زئيف تشافيتس مسؤول الدعاية السابق لدى [مناحم] بيغن، والذي يقترح فيه أن الخوف من منظمة التحرير الفلسطينية هو الذي يملي جميع الانتقادات التي توجهها وسائل الإعلام إلى إسرائيل. لدينا هنا مفارقات غنية؛ فإسرائيل لم تكتفِ بكونها فريدة من نوعها في التاريخ كدولة تم بناء سمعتها في الخارج على النفاق والتزوير بشكل كامل تقريباً، والفضل في ذلك يعود إلى امتثال وسائل الإعلام الغربية ومفكري الغرب الليبراليين، بل إنها انقلبت الآن بوحشية على آلة البث والنشر التي جعلت انتصاراتها في الماضي تبدو نقية وتستحق الثناء، فباتت تتهم هذه الآلة بمعاداة السامية. المحزن في الأمر، والحق يقال، أن أنصار فلسطين لم يواجهوا هذه الحملة بتحرك فاعل. ففي الواقع، من المزعج ملاحظة أنه في اللحظة التي انطلقت هذه الحملة الموالية لإسرائيل بكل اندفاع، كانت تنطلق كذلك التحضيرات لمؤتمر الأمم المتحدة الدولي لسنة 1983 عن قضية فلسطين. لقد تعاقدت معي الأمم المتحدة كمستشار لإعداد الوثائق الخاصة بالمؤتمر، وأهمها ـ وفقاً لتكليف الجمعية العامة ـ إعداد لمحة تعريفية عن الشعب الفلسطيني، وعملت مع جانيت وابراهيم أبو لغد وإيليا زريق ومحمد حلاج، وأعددنا، بحسب اعتقادي، لمحة ممتازة تضمنت وصفاً لحالة الفلسطينيين أينما يكونوا، في جميع ظروفهم السياسية والديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ومع أن الوثيقة كانت بالضبط ما طلبته الجمعية العامة، إلاّ إنها رُفضت في المؤتمر فيما بعد. لماذا؟ لأنها لقيت معارضة قاطعة من بعثة عربية لدى الأمم المتحدة. وأخبرني سكرتير ثانٍ شاب في بعثة هذه الدولة العربية بدا أنه يتمتع بسلطة أكبر من السفير نفسه (وكان وزير خارجية سابق)، أن السبب في المعارضة هو أن الشعب الفلسطيني الوحيد المعترف به من طرف بلده [السكرتير] هم أولئك المقيمون في الضفة الغربية وقطاع غزة. وذهب إلى القول إننا حتى لو تمكنّا من تجاوز اعتراض بلده على الوثيقة، فإن أي دولة عربية أُخرى ستصوّت ضدها أيضاً. بدا الأمر كما لو أن جميع الفلسطينيين وممثليهم، ومنظمة التحرير الفلسطينية، يواجهون جبهة عربية وإسرائيلية موحدة، معارضة للفرضية القائلة إن الشعب الفلسطيني موجود كأمّة، حتى إن كانت أمّة في المنفى. هذان إذاً مثالان صغيران، أحدهما صهيوني والآخر عربي، لكيف أصحبت "و" العطف مشحونة بمعنى سلبي في عبارة "فلسطين ومستقبل العرب". لكننا سنكون مخطئين إن استنتجنا أن مثل هذه الأمور هي نتيجة مؤامرة راسخة ضد فلسطين، أو أن العرب والعروبة ماتوا بالفعل، أو أنه من دون فلسطين لن يكون هناك مستقبل للعرب. هذه الآراء الإجمالية العشوائية العامة هي، في رأيي، غير مثيرة للاهتمام، وسطحية على حد سواء. فكرة فلسطين موجودة بالضبط ليس فقط بقدر ما نؤمن بها، بل بقدر ما نكافح من أجلها، ونجعلها فاعلة، ونمنحها تأثيراً وقوة. عند هذه النقطة يظهر معنى جديد للحرف "و"، وهذا المعنى يعتمد على صلة نخلقها وننتجها ونصممها، بين فلسطين ومستقبل العرب. لكن، للقيام بذلك علينا، في اعتقادي، الاعتراف بأن هذا الصلة، مثل أي شيء في العالم العلماني للمجتمعات والشعوب والأمم، ليست هبة من الله، ولا من فعل الطبيعة. يجب أن يتم إنتاجها، مثلما تقوم المجتمعات، وكذلك البشر، بإنتاج أنفسهم في نهاية الأمر، ثم إعادة إنتاجها من جديد. نحن الآن في تلك اللحظة الحرجة في تاريخ العالم العربي، والتي تنهار فيها هياكل المجتمع والدول والفكر التي جلبت العالم العربي الحديث إلى الوجود. من الواضح أن هذا هو السبب في تحوّل كثير من الناس من التاريخ العلماني إلى التاريخ المقدس، ومن إنتاج الواقع إلى إحاطته بالغموض، ومن ضرورات العمل والإرادة إلى جاذبية السلطة والإخضاع الإرادي للذات. جوهر الفكرة الفلسطينية أنها علمانية وديمقراطية، ولا أعني بالضرورة أن عليكم أن تؤيدوا دولة ديمقراطية علمانية. ما تعنيه فلسطين هو أنه كي يحقق الفلسطينيون تقرير المصير والعدالة، فإنه يجب أن يتم إنتاج عمليات علمانية ـ وهي العمليات التي يتصورها رجال ونساء، ويضعونها موضع التطبيق ويحافظون على استدامتها على امتداد زمن تاريخي. غير أن مثل هذه العمليات لا يمكن أن يظهر فجأة مثل انبعاثات أرسلتها إرادة إلهية، أو أوجدتها قوانين التاريخ الأسطورية، بل إنها تتطلب الكفاح من أجلها بصورة عامة، والأهم من ذلك، بالتفصيل. من هذا المنظور، يمكننا أن نفهم الحرف "و" في عبارة "فلسطين ومستقبل العرب"، على أنها تجسد خياراً لإنتاج نوع من المستقبل؛ مستقبل يمكن أن يكون مشتركاً بالنسبة إلى الفلسطينيين والعرب. فبقاء الفلسطينيين مرهون به، كما أن مستقبل العرب، كونهم أكثر من مجرد مجموعة غير متجانسة من الدول الصغيرة، مرهون به أيضاً. ليس سراً اليوم أن العالم العربي، على الرغم من ثروته الطائلة وموارده البشرية وتنوّعه، يمثل حالة جماعية سلبية تحتدم في باطنها مشكلات وتوترات لا تجد طريقها إلى الحل، وتفتقد الرؤية والقيادة. واليوم، يبدو أننا أصبحنا رموزاً للثروة العمياء من دون أي مكان نذهب إليه، إلاّ ـ مثلما حدث في الأسبوع الماضي ـ أن ينتهي بنا المطاف في مقالات عنصرية في صحيفة "وول ستريت جورنال"، تصف كيف يحافظ "العرب" على ازدهار دور الأزياء الفرنسية الراقية لأن النساء العربيات على استعداد لإنفاق 60,000 دولار في جولة تسوّق واحدة، أو كيف أعادت المستشفيات الفخمة في وسط أميركا، تجهيز أنفسها لتكون ملائمة لاستقبال كبار أثرياء العرب من شيوخ وسلاطين، خلال إقاماتهم الطويلة المترفة التي ينفقون فيها بلا حساب. ما الذي نقدمه غير ذلك إلى العالم اليوم؟ يمكن للمرء أن يشير إلى إنجازات عدد من الرجال والنساء الموهوبين، من علماء ومثقفين وفنانين ورجال أعمال وموظفين عامّين عفيفي النفس ومتفانين، إلاّ إن المركّب الإجمالي للجماعة التي تشكل الشعب العربي، غير متجانس، ويشبه في مميزاته محرك عربة متهالك. الآن، من المؤكد أنه في كثير من أركان العالم العربي، هناك مَن يجتهدون في التفكير والبحث في طبيعة العروبة، ومشكلة التراث والابتكار، ومشكلة التبعية والاستقلال. وعلى المرء ألاّ يقلل من أهمية هذا العمل، ولا سيما أنه في كثير من الحالات، فإن الأشخاص الذين يكتبون ويفكرون في هذه القضايا، يفعلون ذلك في ظروف تنطوي على تهديدات خطرة: معظم الأنظمة العربية لا يبدي اهتماماً بمثل هذه المسائل، بل يميل فعلاً إلى اعتبار أي شخص يفكر فيها بجدية تهديداً للوضع القائم. وعلى نحو مماثل، فإن الجهود التي بُذلت في الآونة الأخيرة لإطلاق عمل منظمات حقوق الإنسان العربية ـ وهي جهود تثير لدى الأنظمة شكوكاً لها ما يبررها ـ كانت مبادرات علمانية يغذيها النضال الفلسطيني جزئياً، وساهمت في نشوئها كذلك، ينابيعُ من القوة الأصيلة الكامنة في الثقافة العربية الإسلامية التي تضمن رفاه الفرد وكرامة البشر. غير أن هذه ظواهر صغيرة نسبياً ومعزولة، على الرغم من روعتها. كما أنه لا طائل هنا من إعادة تكرار ما نراه كلنا: السلسلة المألوفة من الفساد والضعف والنظرة الدونية، والتي يبدو أنها كلها تميز حياة العرب كمجموعة. أتساءل أحياناً عمّا إذا كانت القوائم المعتادة والقصص اليومية عن انعدام الكفاءة والفساد، لا تشكل بذاتها جزءاً من المشهد الذي تمثله، وما إذا كان تعداد المشكلات والشرور هو بمثابة أحد أعراض المرض، وليس مجرد وصف موضوعي له. أياً يكن الأمر، أعتقد أن المشكلة الرئيسية تبقى الحرف "و"؛ مشكلة كيفية ربط الجوانب العامة والخاصة للحياة العربية والفلسطينية بعضها ببعض، بطريقة تمكّنها من التفكير في المستقبل العربي كأكثر من كونه حفنة من الفورات السريعة هنا وهناك. من المؤكد أن العقدين الأخيرين علّمانا، بقدر ما علّما بقية العالم الثالث، أن النماذج القائمة على التنمية والتحديث، والمأخوذة من العالم الصناعي، لم تؤتِ ثمارها ببساطة، أو لم تكن كافية للتأثير في مسار الأحداث بالطرق المطلوبة لإحداث تغيير مفيد للمجتمعات التي خضعت للاستعمار سابقاً. وبالمثل، فإن خطط نقل التكنولوجيا واستخدام التقنيات الإلكترونية وأحدث قواعد البيانات وأكثر الممارسات الهندسية حداثة، زادت في رأيي، الخلل القائم أساساً بين القطاعات الاقتصادية العربية غير المتوازنة بالفعل. لقد أنتجنا طبقة إدارية جديدة، وطبقة جديدة من أصحاب المال، وطبقة عسكرية جديدة، لكن، ظهرت ضمن هذه الفئات الثلاث الجديدة مشكلات أكثر من أي وقت مضى: مشكلات متساوقة مع فقدان الرؤية، وفقدان الاتجاه بصورة عامة، وكذلك القيم. ولم تتماشَ هذه التطورات مع التقدم المذهل الجاري في جميع أنحاء العالم العربي: التقدم في مستوى المعيشة والتعليم والرفاه العام، والذي أثّر بشكل إيجابي في حياة معظم العرب، منذ الحرب العالمية الثانية. من ناحية أُخرى، يرى المرء أن أموراً مثل التعاون البيني العربي، هي في أدنى مستوياتها على الإطلاق، إذ تقلصت آفاق الفرد بشكل كبير، إلى درجة طغيان الاتجاهات الوطنية الإقليمية الصغيرة على الدائرة الأيديولوجية التي كانت القومية العربية تحكمها سابقاً. وقد أشار عالم الاجتماع اللبناني، سمير خلف، مؤخراً إلى أن محدودية الأفق لدى مثقفي ومفكري رأس بيروت تعكس بدقة أفقاً محدوداً شاملاً في العالم العربي. فرأس بيروت ربما كان الحي الأكثر انفتاحاً على العالم، والأكثر تعددية من أي مجتمع عربي بمفرده: ففي العشرينيات والثلاثينيات كان مثقفوه من القوميين العرب، وفي الأربعينيات والخمسينيات كانوا قوميين سوريين، وفي الستينيات والسبعينيات أصبحوا وطنيين فلسطينيين، ولم يصبحوا وطنيين لبنانيين سوى في أوائل الثمانينيات. أمّا الآن، كما يقول خلف، فإنه تطغى على تفكير هؤلاء أيديولوجيا المذهب الطائفي، أكانوا من الدروز أم السنّة أم الشيعة أم الموارنة. وفي موازاة هذا التركيز التنازلي ـ في لبنان مثلما هو في أي مكان آخر ـ نما عداء عام أو عدم اكتراث نحو المجموعة الأكبر؛ فأي مجموعة أكبر بات يُنظر إليها على أنها غريبة، وبالتالي معادية. فكيف يترجم، العرب اليوم هويتهم الوجودية المحلية ضمن المجموع الاجتماعي؟ إجابتنا عن هذا السؤال يجب أن تكون على مستوى الصعوبة الهائلة لإشكالية العلاقة بين قضية فلسطين والعرب، والعلاقة بين الأفراد العرب والدول العربية والعالم العربي. لكن، وعلى الرغم من ذلك، ومن أننا نرى التشظي في كل مكان، فإن استنتاج أن "العرب" ليسوا موجودين فعلياً كمجموع كلي يتخطى الحدود الوطنية، وأن العروبة نفسها ليست أكثر من مجرد أسطورة عفّى عليها الزمن، سيكون تبسيطاً شديد الإفراط. هناك أسباب براغماتية وكذلك وجودية لرفض منطق نهاية العروبة، مثلما يُطلق عليها، والتي أصبحت نذير شؤم وكارثة يهوّل به بعض العرب في الغرب. أولاً، قلّما يتحرك التاريخ في خط مستقيم، فكل مجتمع في التاريخ عبر من خلال متاهة من الصراعات الدموية والانتكاسات، قبل أن يحقق ما يشبه الكمال أو الوضوح كمجتمع؛ ثانياً، أنا شخصياً ما زلت متأثراً جداً بالمفردات الراسخة، والقوة العاطفية الجاذبة للوحدة العربية، وبمختلف الدعوات التي يطلقها كثيرون من العرب دفاعاً عن فكرة الأمة المطروحة. ومن المؤكد أن التناقضات مذهلة بين خطاب العروبة، والممارسة الشديدة الهمجية والمتمثلة في الخصومات والفِرقة بين العرب، لكنها لا تنال من الفكرة نفسها، حتى إن كانت تَدين ممارسيها. نحن نعيش في عالم علماني غير مكتمل، حيث الجهود والمشروعات التاريخية هي في الأساس غير مكتملة وغير منجزة وغير كاملة، فلماذا نرمي جانباً ونهائياً الأفكار العظيمة لمجرد أن الحقيقة في أحسن الأحوال غير سارة، وفي أسوئها كارثية؟ أخيراً، إذا طرحنا جانباً فكرة وجود كلٍّ عربي، أفلا نعترف بأن قانون الغاب الدارويني ـ القائل بتفوق الأغنى والأقوى ـ هو الذي اخترناه طواعية لأنفسنا كشعب يؤمن بأنه صاحب تاريخ متشابك وتراث ثري، وينتمي إلى واقع معاصر شديد التنوع؟ هل الصراع بين سورية والأردن، أو المغرب والجزائر، أو فلسطين وسورية، أفضل من فكرة الانسجام بين العالم العربي بمجمله؟ حسناً إذاً، دعونا نعترف بنواقص الحاضر، ونبدأ في التفكير ليس فقط في العلاقة، وفي الـ "و" التي تربط العرب والفلسطينيين بعضهم ببعض، لكن أيضاً ـ وهذه هي الـ "و" الناقصة في عبارة "فلسطين ومستقبل العرب" ـ في العلاقة بين العرب وبقية العالم. فإذا كان جزء من المعادلة المتعلقة بفلسطين هو الرابط بين العرب، فإن الجزء الآخر هو الرابط بين العرب وبقية العالم. هذه القضايا المهولة بالكاد يوضع مخطط لها، فضلاً عن طرحها في سياق قصير لكلمة تُلقى خلال مأدبة. لذا سأختم كلمتي بالتطرق إلى جانبين أو ثلاثة من هذه الأمور، مثلما تبدو لي من وجهة نظري المحدودة، لأن ما نحتاج إليه فعلاً هو مجهود فكري وأخلاقي وسياسي جماعي هائل. الخصائص الرئيسية للفكرة الفلسطينية هي، وقلت هذا سابقاً، علمانيتها وعدالتها، ويمكننا أن نضيف: محاولتها الإيحاء بأن المجتمعات التعددية لا تحتاج إلى أن توجد ضمن علاقة عدائية تجاه بعضها البعض. الفكرة باختصار هي أن اليهود والمسيحيين والمسلمين الذين يعتبرون فلسطين وطنهم، يجب أن يجدوا طريقة لحياة مشتركة، على أرض مشتركة، على أساس العدل والمساواة. هناك مشكلات هائلة تحول دون وضع هذه الفكرة موضع التطبيق، مثلما نعرف من التاريخ العنيف لهذا القرن [القرن العشرين]. لقد كانت مساهمة الصهيونية الإيجابية محدودة، إن وُجدت، في إطار مشكلة التعايش، لكن الصهيونية يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار. فالسبب الذي جعل فكرة فلسطين تفشل في الفضاء الذي توفره الأيديولوجيات الأُخرى، هو أن مشكلة العلاقة لم تُدرس أو تحاط بالقدر المطلوب من العناية. وقد يكون تاريخ السيطرة الاستعمارية الأوروبية والأميركية علينا، هو السبب في كوننا أكثر اهتماماً بتأكيد هوياتنا، من النظر في العلاقات فيما بينها. ولهذا، أعتقد حقاً أن العلاقات بين الأشياء، أكثر كثيراً من الأشياء نفسها، هي ما يجعل الإنتاج والتغيير ممكنين، وهي في التقويم النهائي تجعل هذا التغيير ينحو في اتجاه إيجابي. سأطرح مثالين قويين للغاية لما أعنيه بأمرين مختلفين جداً: المال، ومجمل قضية العلاقة بين العروبة والحداثة. فكلاهما مسألة معقدة للغاية تجد مجموعات من الاقتصاديين والفلاسفة وعلماء السياسة والمؤرخين وعلماء الاجتماع صعوبة في التعامل معها على نحو مُرضٍ. لكن، دعونا نحاول النظر إليهما كمشكلات اتصال، وليس كأشياء في حد ذاتها. من الغريب، في البداية، أن المال لم يحظَ بكثير من التفكير فيه بصفته مجموعة من العلاقات الاجتماعية، على الرغم من أن كثيراً كُتب عنه كمورد جديد مهم في العالم العربي، أو على العكس من ذلك، كمصدر للضعف والفساد. فقد تعامل ماركس في "رأس المال"، وكذلك الاقتصاديون السياسيون الذين سبقوه، مع المال والسلع ضمن السياق التاريخي والميتافيزيقي للإنتاج، أمّا رأس المال في العالم العربي فله مصدر مختلف تماماً، وبالتالي بيئة مختلفة تماماً. ما الذي فعله هذا الشكل الجديد من المال، للأسرة والتقاليد والدين والعلم؟ نحن لا نعرف. علاوة على ذلك، تسلل المال ورأس المال في العالم العربي إلى أركان وجودنا كلها، وبجميع أنواع الطرق المتضادة: عمّقا الانقسامات الاجتماعية، وأحدثا تحسناً اقتصادياً هائلاً؛ أحدث المال ثورة، وردة فعل؛ دمر رأس المال الأسرة، لكنه حصّن العشيرة. ويمكن للمرء أن يسترسل في تعداد التأثير الهائل وغير المسبوق للمال الذي أُغدِق أو انهمر فجأة على العالم العربي، لكن كل ما نحتاج إليه هو جردة ونظرية عن هذه التغييرات، قبل أن نتمكن نحن من توجيه مسار الأحداث نحو مستقبل كريم للأجيال المقبلة. أنت لا تحتاج إلى المال فحسب، بل إلى الوعي لفهمه والتحكم فيه أيضاً، مثلما هي الحال في أوروبا حيث فكّر ماركس وغيره ودرسوا التأثير الهائل لرأس المال المنتج صناعياً، والذي يتم إنفاقه على المستوى الوطني. أخيراً، إن هذه الإشارة إلى أوروبا تجعلني أعرّج على مسألة لا تقل أهمية، وهي علاقتنا بالعالم الخارجي. إنها فكرة مكررة (كليشيه)، لكنها حقيقة أيضاً: فوسط مسارات القوتين العظميين، نحن كعالم عربي، نقع عند مفترق طرق بين أوروبا وآسيا، قريبين من أفريقيا ونشكّل جزءاً منها. لقد اختلطت تقاليدنا وثقافتنا بتقاليد بلاد فارس والهند والصين وأوروبا وأفريقيا وروسيا وثقافاتها، لكننا في المقابل، نُعتبر بين أهم ورثة اليونان القديمة واليهودية والمسيحية والبيزنطية. وإذا كان عليّ أن أعدد سلسلة الثقافات والاتجاهات والمذاهب الفكرية، والمجموعات والأسر اللغوية، والمجتمعات التي التحمنا معها وشاركناها التجارب، فستكون النتيجة مذهلة. لكن عصرنا، عندما يتعلق الأمر بالعرب، هو عصر مواجهتنا المديدة مع الغرب الذي وُجد هنا كسيد استعماري داعم لإسرائيل، والأهم أنه كان، وعلى طرفين متناقضين، سبب خيبات أملنا الكبرى، ومصدر فهمنا للحداثة. إن وجود جمعية "خريجي الجامعات العربية ـ الأميركية" (AAUG) بحد ذاته هنا في الولايات المتحدة، حيث تناضل وتكافح وترتبط بشكل غامض بثقافة سياسية أنتجت للتو رئيساً غير متعاطف مع أي شيء عربي، لكنه على ما يبدو، يستخدم بحريةٍ النفط العربي ورأس المال العربي والموقع الاستراتيجي للعرب، أمور كلها تدل على الهيمنة التي نعيش في ظلها ونناضل ضدها، لكننا نتعاون معها أيضاً، شئنا أم أبينا. وبالتأكيد، حان الوقت للكفّ عن الهجمات الفارغة على الإمبريالية، وكذلك عن الشعارات الثورية الجوفاء، ولا سيما أننا في معظم الوقت الذي كنا نهاجم الإمبريالية لفظياً، كنا خدماً لها من دون وعي، وبينما كنا نُشيد بالثورة، كنا نخونها في وضح النهار. وفي المقابل، فإن جميع دفاعاتنا الطقسية الروتينية عن أمجاد العرب المجيدة، تكذّبها تماماً الأفعال غير المشرّفة للعرب المعاصرين. أذكر في العام الماضي، خلال اجتماع فلسطيني كبير عُقد في نيو آرك [في ولاية نيوجيرزي] كيف أن شفيق الحوت ـ عندما طُلب منه أن يؤكد تأييده فكرة تحرير فلسطين ـ أجاب بنفاد صبر: لا تتوقع من أي شخص أن يقول أنه أو أنها ضد تحرير فلسطين. هذا غباء. وطبعاً، أنا أؤيد ذلك، فالسؤال المهم حقاً والأكثر صعوبة، هو كيفية تحقيق ذلك. لذا أختم بالقول: فلسطين ومستقبل العرب، وعلاقتنا بالعالم: كيف سيتم تصور علاقاتها بعضها ببعض من أجل إنتاج مغزى علماني وتقدمي، وقبل أي شيء، محدد لحقيقة أن الفكرة العظيمة لتحرير فلسطين لها دور مهيب في العالم العربي مستقبلاً، وفي مستقبل العالم بصورة عامة؟ ربما تقولون إن ما أقترحه كله هو العثور على كلمات، أو لغة ملائمة تتيح التعبير بشكل حسن عن هذه الأمور، وسأجيب عن ذلك بأن دورنا في هذه الفترة اليائسة والرثة ربما لا يزيد قليلاً، عن تهذيب لغة القبيلة، مثلما يفعل الشاعر. الكلمات ليست مجرد أصوات، بل إنها تعبّر أيضاً عن بواعث الإبداع لدى الكائن البشري. إن العثور على الكلمات الصحيحة للمستقبل الصحيح لا يقتصر على تعليم أمة بأكملها أن تتكلم، بل هو أيضاً جعل الوجود الفعلي لتلك الأمة وإدراكها ممكناً. فمَن منا يشك في أن شعراءنا وروائيينا هم مَن أبقوا لغة فلسطين حيّة؟ وأنهم هم مَن سلطوا الضوء على وقائع الحياة العربية وتفصيلاتها، وأشاروا إلى مستقبل جماعي واجبنا الأول هو أن نترجمه إلى لغة النثر التي نحكيها في حياتنا اليومية، ثم نعيشه بأمانة؟     * Joan Peters, From Time Immemorial: The Origins of the Arab-Jewish Conflict over Palestine (Tamil Nadu, India: JKAP Publications, 2001).     هذه المقالة مداخلة استشرافية لإدوارد سعيد، ألقاها في جمعية متخرجي الجامعات العربية ـ الأميركية في واشنطن، ونُشرت مع مجموعة من المداخلات، في كتيّب صدر في سنة 1987، بعنوان: "القومية العربية ومستقبل العالم العربي". المصدر: Edward Said, “Palestine and the Future of the Arabs”, in Arab Nationalism and the Future of the Arab World, edited by Hani A. Faris (Belmont, Massachusetts: Association of Arab-American University Graduates, Inc., 1987), pp. 25–34. ترجمة: صفاء كنج.