غزة - فلسطين والصراع العربي-الإسرائيلي
نبذة مختصرة: 

لا تنفصل حرب الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة بغطاء من الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، عن مسار بدأ قبل نكبة 1948 في فلسطين، وعن أحوال المنطقة برمّتها. وفي حين وضّحت هذه الحرب أكثر التخلي الرسمي العربي عن فلسطين، والدعم الغربي اللامحدود للدولة الصهيونية، فإن الحراك الشعبي / الطلّابي العالمي، وبعض الحراك الشعبي العربي، يُظهران مركزية القضية الفلسطينية فيما يجري وسيجري في المنطقة.

النص الكامل: 

سيمرّ وقت قبل أن يرقى الفكر السياسي، وليس فقط الأدب والفن، إلى مستوى التعبير عمّا شاهدنا وشهدنا عليه في غزة والضفة في الأشهر الماضية من وحشية مدرعة بالذكاء الاصطناعي تواجهها بسالة المقاومة والعبقرية الشعبية اليومية في ابتكار جميع الحيل للبقاء والتشبّث بالأرض.

وقد أمضيت فترة طويلة منذ حصار بيروت في سنة 1982، وأنا أبحث في مختلف الطرق للتعبير عن العنف وعن مقاومة البشر له، لكن الحصيلة كانت دائماً مقصّرة. وحسبي في هذه الأيام القلقة والمحمومة، أن أضع عدداً من نقاط الاستدلال على حرب الإبادة الجمعية في غزة، مع تركيز خاص على العلاقة بين النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي، والنزاع العربي - الإسرائيلي. ومع ذلك، لست أدري كيف يمكن الجمع بين فورة الدم والتفكير بدم بارد. لكنني سأحاول. 

الإفلات من معسكر اعتقال

في سنة 2006 جرت في أراضي السلطة الوطنية - الضفة الغربية وغزة - انتخابات نيابية فازت فيها حركة "حماس" بأكثرية 42% من الأصوات. وعبّر التصويت بوضوح عن معارضة أكثرية سكان الضفة والقطاع لاتفاق أوسلو، أو على الأقل لما آلى إليه في التطبيق. فقد استقال رئيس الحكومة وعيّن رئيس السلطة الوطنية محمود عباس إسماعيل هنية أحد قادة "حماس" رئيساً للحكومة، غير أن إسرائيل والإدارة الأميركية رفضتا ذاك التعبير الحر عن إرادة الفلسطينيين، فحاولت أجهزة في السلطة وفي حركة "فتح" الانقلاب على "حماس" في غزة، لكن المحاولة فشلت وبسطت "حماس" سيطرتها على غزة.

على الفور أعلن الاحتلال الإسرائيلي قطاع غزة "كياناً معادياً"، وباشر فرض حصار شامل عليه سمح بدخول عدد محدود من شاحنات الغذاء يومياً. وقد احتسب أطباء إسرائيليون، مثل أسلافهم النازيين، مقدار السعرات الحرارية المسموح بأن يتناولها الفلسطيني كي يبقى على الرمق. وهكذا تحولت غزة إلى ما سمّاه عالم الاجتماع الإسرائيلي باروخ كيمرلنغ "أوسع معسكر اعتقال وُجد في التاريخ."

تلت ذلك عدة مواجهات وانتفاضات في سنوات 2008 و2012 و2014 و2022، تخللتها عمليات قصف صاروخي تقابله غارات للطيران الحربي الإسرائيلي تم خلالها تدشين تقليد اغتيال الأفراد بالصواريخ، مترافقاً مع عمليات برية للجيش الإسرائيلي داخل القطاع، كانت تنتهي باتفاقيات وقف إطلاق نار وتبادل أسرى، إلخ.

في 30 آذار / مارس 2018 ذكرى يوم الأرض، انطلقت "مسيرة العودة الكبرى" لسكان غزة من أجل الخروج من معسكر الاعتقال، وتواصلت هذه المسيرة كل يوم جمعة لعدة أشهر تجلّت فيها البطولة الجمعية للغزيّين نساء ورجالاً، إذ كانوا يهجمون لاختراق حاجز المعتقل بأجسادهم ويسقطون تحت نيران القنّاصة. وكان أسرى معسكر الاعتقال الإسرائيلي مستعدين للموت على البقاء في الاعتقال والجوع والفقر والقهر. وسقط في تلك الملحمة 214 شهيداً بينهم 41 طفلاً، وأصيب أكثر من35,600 بجروح معظمها في الساق، بينها 8000 من الجروح الخطرة جرّاء القنص بالذخيرة الحية.

ولم يكرر أهالي غزة محاولة الإفلات من المعتقل بتمزيق الأجساد على الحاجز.

في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، حلّقت أفواج من "كتائب القسّام" فوق السياج وبأيديهم السلاح، ثم خرقوا السياج ودمّروه. وللتذكير فقط، فإن مستعمرات وثكنات ما يسمّى غلاف غزة مبنيّة في معظمها على قرى فلسطينية جُرفت وأُخليت من أهلها الذين يسكن معظمهم في قطاع غزة. 

أول حرب ضد مدنيين

"طوفان الأقصى" من أكبر عمليات التحرر الوطني الفلسطيني منذ ثورة 36، بل أكبر عملية لحركة تحرر وطني في المنطقة العربية منذ "معركة الجزائر العاصمة" التي احتل خلالها مجاهدون ومجاهدات في جبهة التحرر الوطني الجزائرية حي القصبة في العاصمة في سنة 1957، وهي العملية التي أعلنت الثورة الجزائرية للعالم. وهذه بعض معالم تميّز العملية التي سمّيتها "طوفان الحقّ الأقصى": الإعداد الذي استغرق أعواماً؛ شبكة الأنفاق المدهشة؛ التصنيع المحلي للأسلحة والقذائف والصواريخ؛ التخطيط والمخيلة وعنصر المفاجأة للعدو؛ والأهم دقة التنظيم والجودة في استخدام الأرض والسلاح؛ الاستبسال غير المحدود. ولا بد من التشديد على دقة المطالب الثلاثة: وقف الاعتداءات على المسجد الأقصى؛ تبادل الأسرى؛ رفع الحصار عن غزة.

وهذا ما يفسر، من دون أن يبرر طبعاً، السعار الذي جوبهت به العملية، فقد كشفت تقصيراً فادحاً في الاستخبارات والقوات المسلحة والقيادة السياسية التي أُخذت على حين غرة.

حرب غزة هي أول حرب في المنطقة والعالم يخوضها جيش ضد مدنيين، حتى يمكن القول إن الضحايا من المسلحين أقرب إلى أن تكون من قبيل "الأضرار الجانبية". هي حرب الطيران، النظامي والمسيّر، والمدفعية، والصواريخ والدبابات لتدمير المنازل على أهلها  (يجوز للجيش الإسرائيلي في قواعد الاشتباك أن يقتل من 10 إلى 30 مدنياً لتصفية مقاوم واحد!) وحرق أحياء بأكملها بواسطة "زنار النار". وقد نال أهل غزة قنابل تزن 2000 رطل، علاوة على قذائف فوسفورية وانشطارية. هي حرب يُقنص فيها الأفراد بصاروخ المسيّرة كما بصاروخ طائرة ف 36، وتُرتكب فيها جرائم نموذجية كتلك التي مارستها التنظيمات الصهيونية المسلحة في تطبيق الخطة دلتا خلال سنتَي 1947 و1948 لإجبار مئات الألوف على إخلاء قراهم والهجرة القسرية. وعند كتابة هذه السطور، لم تكن رفح تأوي إلّا أقل من مليون ونصف مليون لاجىء في خِيَم، يلاحقهم الحقد والقتل، وقد باتوا في العراء. وإلى جانب هذا كله، كانت تنفَّذ في غزة السياسة المتعمدة في جرف مناطق سكنية بأكملها والقضاء على أبرز معالم الحياة في القطاع: القطاع الصحي، والمدارس، والمؤسسات الإدارية والأمنية.

وكي لا ننسى، فقد قُدِّر لمنطقتنا أن تكون أول منطقة في العالم جُرّب فيها الطيران الحربي لاستهداف المدنيين على سبيل الترهيب أو السيطرة أو العقاب. وكانت الريادة في هذا الأمر لبريطانيا، وونستون تشرشل هو صاحب هذه النظرية عندما كان وزير الحرب والطيران في الحكومة البريطانية بُعيد الحرب العالمية الأولى. وكان هيو ترينشارد (Hugh Trenchard)، قائد سلاح الجو البريطاني، قد استخلص من دروس الحرب العالمية الأولى أن "الطائرة سلاح هجومي وليست سلاحاً دفاعياً"، فتقرر أن تكون أولى تطبيقات تلك الاستراتيجيا استخدام الطيران الملكي البريطاني لقمع ثورة العشرين في العراق. وفي العراق أُدخل تطوير على أدوات الموت إذ تقرر استخدام الغازات السامّة ضد المدنيين على اعتبارها أقل تكلفة مادية من قتلهم بواسطة القنابل. ولم تتخلف فرنسا عن دورها في تجربة السلاح الجوي على المدنيين العرب المطالبين بالاستقلال عندما قصفت دمشق بالقذائف المتفجرة والحارقة خلال الثورة في سنة 1925. 

المسؤولية الأميركية والأطلسية

تتحمل الولايات المتحدة الأميركية المسؤولية الكاملة عن هذه الحرب التي دعمتها منذ البداية واستنفرت لها دول الحلف الأطلسي، وقاد بايدن رتلاً من زعمائه الذي هبّوا إلى زيارة إسرائيل وإغداق الدعم عليها، وزوّدوها بوسائل القتل والدمار كلها، وبالمعلومات الاستخباراتية ، بل شاركوا في عملياتها العسكرية تخطيطاً وتنفيذاً.

وقد امتحنت إسرائيل ردات الفعل على جرائمها المتمثلة في مجزرة ضد المدنيين تلو المجزرة، فلم تلقَ معارضة تشغل البال من بروكسل أو واشنطن، اللهم إلّا "حماية المدنيين،" وترجمتها في الدوائر الغربية هي تخفيض عدد الضحايا من المدنيين. وعندما بلغ أهل غزة حدود المجاعة وبات الخطر يتهدد بتجديد الحرب على مليون ونصف مليون مدني في رفح، أُطلقت حملة جوية لإسقاط المساعدات بواسطة الطيران والعمل على فتح خط بحري من قبرص إلى سواحل غزة. ومع أن واشنطن هددت بوقف الدعم العسكري في حال وقع الهجوم على رفح، إلّا إن الحكومة الأميركية وافقت على أكثر من 100 صفقة سلاح إلى إسرائيل منذ تشرين الأول / أكتوبر الماضي، كانت آخرها صفقة مقاتلات وصواريخ متطورة شُحنت بعد ذلك التهديد، وتوّجت الدعم بإقرار الكونغرس 16 مليار دولار لمساعدة الدولة العبرية. وفوق ذلك لم تتراجع واشنطن ولا حلفاؤها عن قرارها وقف الدعم المالي لمنظمة الأونروا مع أن الحاجة إليها تضاعفت بسبب الحرب والحصار والتجويع والتهجير والتشريد.

من جهته، تولى الإعلام الغربي، وخصوصاً معظم إعلام الدول والشركات المتعددة الجنسيات، ارتكاب جريمة إبادة إعلامية جمعية بواسطة الكذب المتعمّد والتزوير والتمييز العنصري بين الضحايا.

ولا بد من التذكير بأن الإبادة الإسرائيلية وانتهاكاتها المتمادية لقوانين الحرب والقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني ومعاهدات جنيف، فضلاً عن قرارات مجلس الأمن منذ أن كانت، أفادت وتفيد من عقود من دعم القوى الغربية أو التغاضي عن أفعالها. وقد أفادت إسرائيل أيضاً، وخصوصاً في الآونة الأخيرة، عندما أطاحت الولايات المتحدة الأميركية بتلك القوانين والمعاهدات منذ إعلانها "الحرب الكونية ضد الإرهاب"، وهي تجاوزات بلغت ذروتها في احتلال أفغانستان والعراق.

وفي المقابل لا يبدو أن خصوم الولايات المتحدة الدوليين - مطلع الحرب الباردة الجديدة - ذوو وزن كبير في لجم الحرب على غزة. فقد أحبط الاتحاد الروسي مشروع قرار في مجلس الأمن لإدانة حركة "حماس"، وآخر برر الحرب الإسرائيلية باسم حقّها في الدفاع عن النفس. أمّا الصين فدانت انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي داعية إلى مؤتمر دولي للسلام على أساس حل الدولتين. 

أوسع حملة تضامن شعبية عالمية

أثارت حرب الإبادة الجمعية الإسرائيلية موجة من التضامن غير مسبوقة قياساً بالتضامن مع أي قضية أُخرى، كالاحتجاجات على الحرب ضد العراق، إلى التضامن مع أوكرانيا. ويكفي ذكر التظاهرات والاعتصامات المليونية كل يوم سبت في 55 دولة، وكذلك الدعوى الجنوب أفريقية على إسرائيل لدى محكمة العدل الدولية بارتكاب إبادة جماعية، والقرار الذي اتخذته المحكمة بمطالبة إسرائيل بمنع ارتكاب إبادة جماعية في غزة، من دون مطالبتها بوقف إطلاق النار. لكن منذ صدور القرار واظبت إسرائيل على نهج الإبادة الجماعية من دون أن يصدر إلى الآن قرار جديد من المحكمة.

اللافت هو عدد الدول في أميركا اللاتينية التي قطعت العلاقات مع إسرائيل أو استدعت سفراءها: فنزويلا، وبوليفيا، وكولومبيا، وتشيلي، وهندوراس، ونيكاراغوا، والبرازيل الذي شبّه رئيسُها لُولا دا سيلفا جريمةَ الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة بالمحرقة النازية في حقّ اليهود. واللافت أيضاً نيكارغوا التي أقامت دعوى على ألمانيا لدى محكمة العدل الدولية بتهمة التواطؤ على شنّ إبادة جماعية.

أمّا على الصعيد الشعبي، فقد أيقظت فلسطين إرهاصات لنشوء أُممية جديدة للعدل والحرية.

أود أن أذكر أيضاً بعض الحوادث: عمال الموانىء في الهند يرفضون تحميل بواخر نقل السلاح إلى إسرائيل؛ "حركة البدون أرض" في البرازيل (مليونا عضو - أكبر حركة شعبية في العالم الثالث) تتبرّع بالغذاء لغزة؛ مواطنون إيرلنديون يتبرّعون بالطعام والأدوية لغزة داخل محلات السوبر ماركت؛ انتقال حملات مقاطعة إسرائيل من مقاطعة الجامعات والسلع إلى حملات الضغط لمنع تزويد إسرائيل بالأسلحة والمساعدات العسكرية. ولا بد هنا من ذكر حركات الاحتجاج العارمة للطلاب والأساتذة في الجامعات الأميركية، وقد لحق بهم زملاؤهم في فرنسا وبريطانيا.

والأهم أن حملات التضامن تلك باتت ترتكز إلى عوامل داخلية لأنها تعبّر عن تناقض متزايد بين قطاعات شعبية واسعة، والسلطات الحاكمة التي تزداد جنوحاً نحو اليمين اقتصادياً واجتماعياً، ونحو اعتماد سياسات عنصرية ضد المهاجرين والعرب والمسلمين بصورة خاصة. هذا من جهة، ومن جهة أُخرى، هناك النفور المتزايد لدى الرأي العام المكوّن من الأحزاب والتنظيمات الفاشية وشبه الفاشية، التي باتت شبه مجمعة على دعم إسرائيل، والتي انقلب لديها العداء لليهود إلى عداء للعرب والمسلمين، وأحياناً كثيرة من دون أن تتخلى عن عدائها الأصلي لليهود. لقد تحولت فلسطين أكثر من أي وقت مضى، إلى جزء عضوي من الحياة السياسية (حركة الاستنكاف عن دعم بايدن لرئاسة جديدة في الحزب الديمقرطي الأميركي) والثقافية، ومن فكر وممارسات الحركات الشعبية في أوروبا وأميركا وعلى امتداد الكرة الأرضية. وهذا الرسوخ الداخلي ضمان لتجاوزها مرحلة الاحتجاجات الموقتة والموسمية نحو الاستمرارية والتصعيد. 

الوضع العربي

نقطة الضعف الكبرى في مقاومة أهل غزة والضفة سببها وضع عربي عاجز عن احتضان مقاومتهم.

لا يجوز الاستهانة بالمسيرات الشعبية والاحتجاجات على امتداد العالم العربي، وكثافة التضامن في الأردن، وخصوصاً طابعه المتمرد، وما أكدته حرب غزة من طلاق متزايد بين جماهير عربية واسعة وأنظمتها. إلّا إن الحرب أبانت بشكل ساطع المفارقة بين النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي، أي مقاومة الشعب الفلسطيني، وبين النزاع العربي - الإسرائيلي.

نجح اتفاق أوسلو في الفصل بين النزاعين، ونجحت أنظمة الهزيمة في التبرؤ من التزاماتها على طريقة: "ما دام القاضي راضي. وهل علينا أن نزايد على أصحاب القضية؟" وارتاحوا في ظل مبادرة سلام عربية لفّقها الملك عبد الله السعودي (مع الألمعي طوماس فريدمان)، وتقايض الانسحاب الكامل من أراضي 67 بالاعتراف العربي الكامل بالدولة الصهيونية. وفي المقابل نجحت إسرائيل بدعم من الراعي الأميركي في تجويف الاتفاق، وصولاً إلى وقف مفاعليه وتحويل الجهد الأكبر من السلطة الوطنية إلى أجهزة لحماية أمن إسرائيل. فكأن من الأوامر الطبيعية أن يلاحق الجيش الإسرائيلي مقاومي الضفة في ضواحي رام الله، عاصمة السلطة الوطنية الفلسطينية!

وفي مرحلة لاحقة، وبمبادرة من إدارة دونالد ترامب، نجحت الولايات المتحدة الأميركية في جمع قاعدتَي سيطرتها في المنطقة - إسرائيل والأنظمة النفطية - لأول مرة في تاريخ النزاع العربي - الإسرائيلي. ففي "اتفاقيات أبراهام" تشابكت حاجة الولايات المتحدة إلى التنصّل بالتدريج من المنطقة، والتفرّغ المتزايد لمواجهة الصين الشعبية، مع مشروع بنيامين نتنياهو لقلب المعادلة السابقة القائمة على تحقيق الحد الأدنى من مطالب الشعب الفلسطيني كطريق للسلام بين العرب وإسرائيل، إلى السلام العربي - الإسرائيلي بغضّ النظر عن شعب فلسطين، وبديلاً من تحقيق أي من مطالبه المشروعة.

لم أستخدم مصطلح "التطبيع" لاستغرابي كيف درج هذا المصطلح وساد في الإعلام ووسائل الاتصال المجتمعي في بلادنا على اعتباره البداهة عينها. فكأن الحروب السابقة والتضحيات والاحتلالات وحروب المقاومة والخسائر والشهداء والجرحى والمعوّقين والدمار، في الصراع مع العدو الصهيوني، هي الشواذ، بينما الاعتراف بالعدو والتبادل الدبلوماسي معه وتقديم الأفضليات والامتيازات له في المجالات المالية والاقتصادية والتكنولوجية والالتزام بإملاءاته في الفروض الأمنية والبرامج المدرسية والإعلام وغيرها هي الطبيعي، هذا كي لا ننسى تنظيم المناورات العسكرية المشتركة معه. وإني أتساءل: لقتال أي عدو كانت القوات المسلحة العربية تتدرب مع الجيش الإسرائيلي في صحراء النقب الفلسطينية؟

المسمّى الفعلي لـ "التطبيع" هو اعتراف عدد من الدول العربية بالدولة الصهيونية (التي تعرّف نفسها دستورياً على أنها "الدولة اليهودية") بما هي قوة إقليمية فاعلة، والتحالف معها في لعبة جديدة للعلاقات الجيو - استراتيجية في وجه إيران مثلاً، أو توسلاً لتحقيق تلك الدول التوازن مع الجمهورية الإسلامية بالتحول إلى قوة إقليمية بذاتها. وذاك هو دأب المملكة العربية السعودية التي تطالب، في مقابل الاعتراف وتبادل المصالح، باتفاق دفاع ثنائي مع الولايات المتحدة الأميركية، وبتسهيلات أميركية لبناء قدرات نووية للمملكة. ولديك حال الإمارات أيضاً التي لا تزال تطالب بجائزتها من التطبيع وهي السماح لها بشراء مقاتلات ف 36 من الولايات المتحدة، وهي صفقة بعشرات المليارات لا تزال إسرائيل تفرض الفيتو عليها.

كانت مبادرة السلام العربية لسنة 2002 تحتضر منذ أعوام، لكن أُهيل عليها التراب عملياً عندما أقدمت عدة دول عربية على الاعتراف بإسرائيل قبل الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، فضلاً عن أن أحداً لم يكترث لبنود المبادرة المتعلقة بالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية وبحقّ العودة.

هكذا، وعلى خلفية اقتصار الموقف الرسمي العربي على مطلب وقف إطلاق النار في الحرب الحالية، وأداء دور الوساطة بين أهل غزة والاحتلال، تتمايز الإمارات والبحرين بالتماهي شبه الكامل مع الموقف الإسرائيلي، حتى إن وحدات بحرينية تشارك في الحملة البحرية الأميركية ضد أنصار الله في البحر الأحمر. وفي مقابل عدم فتح معبر رفح لخروج الفلسطينيين إلى الأراضي المصرية، فإن الموقف الرسمي المصري يخضع للقرار الإسرائيلي فيما يتعلق بمسألة إدخال المساعدات الإنسانية والغذائية إلى غزة التي يعيش أكثر سكانها عند حدود المجاعة، هذا فضلاً عن وجود مافيا ذات غطاء رسمي تؤمّن الخروج الفردي والعائلي لمَن يستطيع دفع آلاف الدولارات.

وأود هنا الإشارة إلى مفارقتين في السلوك السائد للأنظمة العربية نادراً ما يجري التعامل معهما.

المفارقة الأولى: وفق أي منطق، وبناء على أي سابقة تاريخية، يقع على الطرف المهزوم والمعتدى عليه والمحتل أن يقدّم مبادرات السلام إلى المنتصر؟ وبالمناسبة، هل تقدمت إسرائيل مرة بمبادرة سلام واحدة؟ على العكس، إن العرب هم الذين يقدمون المبادرات بالنيابة عنها. لنقف لحظة ولنتساءل: هل لإسرائيل رؤية إلى السلام؟ هل لإسرائيل شروط لسلام فلسطيني - إسرائيلي وعربي - إسرائيلي؟ المبدأ الذي أرساه دافيد بن - غوريون هو أن إسرائيل لا تتحمل أن تخوض المعركة الأخيرة من أجل إنهاء الصراع مع أعدائها، وهو ما يعني أمرين: الأول أن لا سلام بين العرب وإسرائيل لأن لا حرب قادرة على إنهاء النزاع العسكري، والثاني أن المنطق الذي يحكم العلاقة بين إسرائيل والجوار هو منطق الحروب المستمرة، وأن كل حرب يجب أن تفسح في المجال أمام هدنة يجري خلالها تعزيز تطور القوات المسلحة للدولة الصهيونية وقدراتها العسكرية.

ففي فترة زمنية أقرب، وافقت الدولة الصهيونية على اتفاق أوسلو، ودفع يتسحاق رابين حياته ثمناً لتلك الاتفاقية، غير أن أحد معاونيه شهد أن رابين لم يكن ينوي تطبيقها. كان ثمة خياران أمام القيادة الإسرائيلية في تلك المداولات: اتفاقية مع سورية، أو مع منظمة التحرير الفلسطينية. وقد اختار رابين الاتفاقية مع منظمة التحرير الفلسطينية، لأن الاتفاق مع الفلسطينيين في رأيه أسهل ارتداداً عليه من الارتداد على اتفاقية مع سورية، وهذا ما حدث!

لنسأل ولو افتراضاً: ما هي شروط الاستسلام الإسرائيلية؟ ينوب بعض الغرب عن إسرائيل بالقول: حماية أمن إسرائيل. لكن أين يبدأ أمن إسرائيل وأين ينتهي أمنها، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي لم ترسّم حدودها، والمعنى الوحيد للأمن هو الخضوع للمشيئة الإسرائيلية القائمة على القوة العسكرية المزودة بالسلاح النووي؟ فهل هناك مَن يعرف سابقة عن احتلال يملك رابع أقوى جيش في العالم، ومزود بمئتي رأس نووي على الأقل، يحتل بلداً بأكمله ويخوض حروباً مستمرة ضد الجوار، وأبعد من الجوار، وكله بدعوى أنه مهدد باستمرار، ويلخص وظيفة الشعب الواقع تحت الاحتلال وشعوب الدول المجاورة بحماية أمنه؟ هذا هو التناقض الأصلي والمستمر مع الاحتلال الصهيوني لفلسطين.

المفارقة الثانية: تخوض إسرائيل الحروب ضد الفلسطينيين، بينما العرب - عرب النفط - يموّلون إعادة إعمار ما دمرته، كأن تلك المهمة هي البداهة عينها. ففي حرب الإبادة الجماعية الحالية أعلنت المملكة العربية السعودية، فيما يبدو أنه جواب على طلب أميركي، أنها مستعدة للمساهمة في إعادة إعمار غزة شرط تحقيق الدولة الفلسطينية. ألا تخرق هذه الممارسة القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، فضلاً عن معاهدات جنيف؟ وبالتأكيد فإن تولّي دول عربية إعادة إعمار ما دمّرته إسرائيل في غزة، والذي تعترف أرفع هيئة محكمة دولية بأنه يوازي حرب إبادة جمعية، سيمرّ مرة أُخرى من دون مساءلة لإسرائيل عن الأهوال الي ترتكبها ضد الفلسطينيين. 

المقاومات المسلحة

إن مشاركة حركات مقاومة مسلحة في لبنان والعراق واليمن تحت تسمية "محور الممانعة" يؤكد – في رأيي - وجود قطاعات واسعة من جماهير تلك الدول راغبة في الانخراط المباشر بالصراع العربي - الإسرائيلي من موقعها المحلي، علاوة على ممارستها التضامن مع نضال الشعب الفلسطيني. غير أن تلك المشاركة ليست بمعزل عن خيارات داخلية: فأنصار الله في تعرّضهم للسفن الإسرائيلية أو التي تنقل بضائع لإسرائيل في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، يؤسسون أيضاً لوجود قوة بحرية يمنية تنافس المملكة العربية السعودية على النفوذ في البحر الأحمر. والمجموعات المسلحة الشيعية في العراق إذ تتضامن مع فلسطين بقصف القواعد العسكرية في العراق وسورية، فإنها تضغط في الوقت ذاته من أجل جلاء القوات الأميركية عن العراق. وإن لجوء تلك القوى إلى دعم ومساندة الجمهورية الإسلامية الإيرانية إنما هو بديل من ضائع هو الدعم الرسمي العربي. وكل مَن يعترض على تلك الحصرية ما عليه إلّا المبادرة إلى التمويل والتأسيس والدعم، علماً بأن بعض الدعم العربي ورد ويرد من دولة قطر منذ عدة أعوام.

أمّا في لبنان، فقد نشأت في إبان الغزو الإسرائيلي في صيف سنة 1982 مقاومة شعبية مسلحة، يسارية مدنية وإسلامية جهادية، بعدما منعت رئاسة الجمهورية (إلياس سركيس) الجيشَ اللبناني من تنفيذ واجبه في الدفاع عن الوطن والتصدي لجيش الغزو وخوض معركة تحرير البلد من الاحتلال الإسرائيلي. وليس هناك بلد يحترم نفسه كوطن، ثم يدعو إلى سحب السلاح من مقاومة شعبية بعد أن أتمّت الجزء الأكبر من مهمة التحرير وتعرّضت لحربين إضافيتين للقضاء عليها، ولا سيما إن كان ذاك الوطن لا يزال يطالِب رسمياً باستكمال التحرير وانسحاب العدو من سائر أراضيه المحتلة في البحر والبر، ووقف استباحة الطيران الإسرائيلي لسيادته في الجو.

لكن، مثلما يحقّ لمواطن لبناني أن يؤيد واجب جيشه في الدفاع الوطني وحقّ المقاومة الإسلامية في الوجود والمساهمة في استكمال تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة، فإنه يحقّ له، في الوقت ذاته، معارضة استخدام نفوذ المقاومة المسلحة لتخريب انتفاضة 17 تشرين الأول / أكتوبر الشعبية، واعتبار أن مطالب اللبنانيين في العمل والخبز والعدالة الاجتماعية يمكن معالجتها على مستوى الطائفة. فهذا المواطن يحقّ له أن يرفع أشكال الاحتجاج كلها على حركة مقاومة تدّعي أنها مكرسة لسيادة لبنان وتحرير فلسطين، بينما هي تتدخل عسكرياً في سورية دعماً لنظام ديكتاتوري دموي. بل يتوجب على المواطن ذاته أن يكشف ويعارض دور المقاومة الإسلامية في تمرير القسط الأكبر من سياسات طبقة حاكمة من السياسيين الفاسدين ومن رجال الأعمال السارقين، المسؤولة عن الانهيار المالي والاقتصادي وإفلاس الدولة ونهب مدخرات اللبنانيين وإفقارهم وتشتيتهم في أصقاع الأرض الأربعة بحثاً عن عمل.

أمّا وقد عُقد تواطؤ كبير على خصخصة الوضع في الجنوب اللبناني، إمّا باعتباره في عهدة منظمة سياسية أو طائفة، كأن المعركة فيه لا تعني "لبنان"، وإنما جهة منه، وإمّا بتنصل الحكام من تحمّل مسؤوليات فعلية عن الإيواء والعناية بالنازحين، فضلاً عن التعويضات، إذاً فليُترك لأهل الجنوب أن يقيّموا أداء المقاومة وسائر مؤسسات الدولة ومختلف الهيئات السياسية خلال الأشهر الأخيرة. 

الاستقطاب في الحركة الشعبية العربية

مع أن المنع الرسمي والقمع يتحمّلان جزءاً من المسؤولية عن حال الاحتجاج الجزئي والتعبئة المحدودة في سلوك قطاعات واسعة من الحركة الشعبية العربية وضعف دورها في هذه الحرب، إلّا إن ذلك يعود أيضاً إلى عاملَين نادراً ما يتم البحث فيهما.

الأول هو عسكرة النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي، والنزاع العربي - الإسرائيلي، بحيث لا يُترك للفعل الجماهيري، في إبان المواجهات المسلحة، أكثر من أدوار الاحتجاج والتظاهر، فضلاً عن أشكال محدودة من التضامن والمساعدة، أو تنفيس الغضب والاحتقان على وسائل الاتصال الاجتماعية. وسأعود إلى هذا الموضوع.

أمّا العامل الثاني والأهم فهو الشرخ الكبير الذي يخرق الحالة الشعبية والجماهيرية العربية بصورة عامة، وأقصد الاستقطاب، وصولاً إلى حد الخصومة والعداء، بين تيار الإسلام السياسي والتيار "المدني". والترجمة العملية لهذا الاستقطاب – ولو من قبيل إظهار أوجهه البارزة - هي النظرة الأحادية إلى المسألة الوطنية (القضية الفلسطينية)، والنظرة البرّانية إلى الأوضاع الداخلية، والتماهي مع الأنظمة القائمة وصولاً إلى الاعتداء على حركات المعارضة والاحتجاجات المطالبة بالخبز والعمل والحريات ومكافحة الفساد في العراق ولبنان واليمن والسودان. ومن جهة ثانية، هناك وفرة في حركات اجتماعية وجمعيات أهلية مدنية ليبرالية تبشّر بالجملة سياسياً واقتصادياً، باللاعنف، وتركّز على حقوق الإنسان الفردية والشخصية، وعلى التعددية السياسية والثقافية على حساب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والحقّ في تقرير المصير وفي الدفاع الوطني ومقاومة الاحتلال بالوسائل كافة.

وقد ظهر هذا الشرخ بوضوح في سنة 2011، وها هو يتوالى فصولاً في مصر، وتونس، واليمن، وسورية، ولبنان، وفلسطين، والسودان، وغيرها من الدول.

وغني عن القول أن أحد أبرز وجه لذاك الاستقطاب يهيمن علينا الآن هو الانقسام الفاجع في الحركة الوطنية الفلسطينية بين الضفة وغزة، وبين السلطة الوطنية وحركة "فتح" من جهة، وحركتَي "حماس" والجهاد من جهة أُخرى. 

"الفصل العنصري"، "الدولتان، الدولة...

أبرز "الحلول" المتداولة في حرب غزة هو العودة إلى "الدولة الفلسطينية"، الأمر الذي شجّع على مبادرة في الأمم المتحدة إلى قبول فلسطين كدولة كاملة العضوية ، لكن الفيتو الأميركي قتلها. وهل يعني ذلك دولة على كامل أراضي 1967 بما فيها غزة، وجلاء القوات الإسرائيلية من أراضيها، وسيادة "الدولة" على الأرض والموارد والقوانين والاقتصاد والعملة والمعابر والعلاقات الخارجية، وقيام نظام سياسي مرتكز على المبدأ الانتخابي وتداول السلطة؟ هذه هي الأسئلة المطروحة على الدول ذاتها التي تتحدث الآن عن "حل" قيام "دولة فلسطينية"، وهي الدول ذاتها التي رعت على امتداد 30 عاماً مسارات نسف اتفاق أوسلو كله، ومفاعيله، وخرائط الطريق اللامتناهية لتطبيقه، وتغاضت عن زحف الاستيطان، والانسحابات من المناطق، والسيطرة على المعابر، ومفاوضات الحل النهائي عن اللاجئين، وحق العودة، والقدس.

لم يقتصر اتفاق أوسلو على الفصل بين النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي والصراع العربي - الإسرائيلي، بل أصاب المشروع الفلسطيني الموحّد بإصابة قاتلة أيضاً. فـ "العودة" كانت شعاراً جامعاً إلى حد كبير لمكونات الشعب الفلسطيني في ظل حركته الوطنية و"منظمة التحرير الفلسطينية" بعد حرب حزيران / يونيو 1967، وكان يرتكز إلى قيام "دولة فلسطين الديمقراطية" لجميع أبنائها (أي يتعايش فيها اليهود والمسلمون والمسيحون، مثلما جاء في صيغة حركة "فتح")، وإلى حقّ العودة الفلسطينية إلى كامل أراضي فلسطين التاريخية، غير أن هذا الهدف، ومنذ مطلع السبعينيات، تقلّص إلى الدولة الفلسطينية وإزالة الاحتلال عن الضفة والقطاع. وفي ضوء ذلك، شرع سكان أراضي 48 يتعاملون بمشاريع خاصة بهم، مثل "الحكم الذاتي الثقافي" للعرب في الدولة الصهيونية، إلى أن ساد تشخيص لإسرائيل بما هي دولة "فصل عنصري"، وهو تشخيص مليء بالالتباسات، مع أنه حاز قبولاً ولا يزال لدى قطاعات واسعة من الرأي العام الأوروبي والأميركي لما يثيره من ذكريات عن حملات مقاطعة جنوب أفريقيا العنصرية في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته.

إن تطبيق مفهوم الأبارتهايد على أراضي 48 لا يحمل معنى الفصل الأفقي بين سكان تلك المنطقة من فلسطين (بحسب الترجمة الشائعة، وخصوصاً عندما يُرمز إليه بجدار الفصل)، بل هو نظام تراتب قهري وتمييز عنصري بين دولة كرّست هويتها اليهودية دستورياً، وبين الأقلية العربية فيها. غير أن هذه الدولة اليهودية هي في الأصل دولة تهجير ومصادرة للأراضي وتجريف للقرى والبلدات؛ ولهذا فإن محاولة نقل "الفصل العنصري" إلى الضفة والقطاع لا تتطابق مع واقع الحال، ذلك بأن الدولة اليهودية ما زالت تمارس سيطرة كولونيالية عسكرية على ذلك الجزء من فلسطين التاريخية، وهي سيطرة لا تقتصر على الاحتلال والإدارة العسكرية، بل لا تزال تتضمّن هدف التهجير القسري داخل فلسطين (غزة سابقاً وغزة حالياً) وخارجها. وقد أفاد هذا النظام من تعاون وتواطؤ القوى الغربية على الإطاحة بجميع معالم السلطة الوطنية والحكم الذاتي – مثلما نصّ عليها اتفاق أوسلو – بواسطة الغزو الاستيطاني (ما يزيد على 700,000 مستوطن)، والسيطرة على المعابر والوجود العسكري غير المحدود (تلاحق القوات الإسرائيلية الآن المقاومين الفلسطينيين في ضواحي رام الله)، وفرض التعامل بالعملة الإسرائيلية، والخنق الاقتصادي، ومصادرة الأراضي والمياه، إلخ. وإلى هذا كله، فإن هذا النظام نجح في تقسيم "منطقة السلطة الوطنية" إلى منطقتين متمايزتين، عبر فرضه الحصار على قطاع غزة.

أتكلم بحذر على السجال الفلسطيني والعربي عن دولة واحدة أو دولتين. وتنطلق الرواية الأولى من أن اتفاق أوسلو، بل تطبيقه، قضى على حل الدولتين. لكن هل إن العجز عن تحقيق الجزء يمنح القدرة على تحقيق الكل؟ وعلام يُبنى إمكان تحقيق دولة ديمقراطية لكل أبنائها أو "دولة واحدة لشعبين" من دون إلغاء الإعلان الدستوري الذي يكرس يهودية الدولة الإسرائيلية الحصرية (تموز / يوليو 2018)؟ وفوق ذلك، ما مصير حقّ العودة اليهودي وحقّ العودة الفلسطيني في هذا المشروع؟ والمستبعد، في هذا كله، هو حقّ الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، كأن هذا تأكيد على التمييز الأصلي في اتفاق أوسلو، إذ توجد "إسرائيل" ويوجد "فلسطينيون" الذين هم أنفسهم المغيّبون منذ أن صُنّفوا على أنهم "الجماعات غير اليهودية" في "إعلان بلفور". وفي هذه الحال، ما هو المسار لتحقيق "حل الدولة الواحدة"، أو مَن هي القوى التي ستفرض ذلك؟ ولماذا تتعارض المطالبة به مع هدف مرحلي هو الدولة المستقلة على جزء من فلسطين؟

واسمحوا لي بهذا الاستطراد عن النموذج الجنوب أفريقي: أبارتهايد / إزالة الأبارتهايد، حيث التمييز العنصري هو ركيزة للاستغلال الاقتصادي، موارد وبشراً.

سأتحدث بإيجاز عن كيف تم تفكيك نظام التمييز العنصري في أفريقيا الجنوبية: أربعون عاماً وأكثر من الكفاح المسلح عبر الحدود تُوّج بمباشرة العمل المسلح في المدن (وسبب السجن المؤبد الطويل على نلسون مانديلا أنه كان قائد الفرقة التي أُنشئت لهذا الغرض)؛ انتفاضات شعبية عارمة متواصلة؛ توحّد الكل تحت قيادة "المؤتمر الوطني الأفريقي" ونواته "الحزب الشيوعي في جنوب أفريقيا"؛ ولادة جناح من الأقلية البيضاء يسعى لتسوية؛ ضغوط حملات المقاطعة عبر العالم؛ وفوق هذا كله سقوط الأنظمة الداعمة لنظام التمييز العنصري في دول الطوق، وبعضها بدعم عسكري من قوات كوبية. جميع هذه العوامل مجتمعة دفعت شركات التعدين المتعددة الجنسيات التي تسيطر على الاقتصاد الجنوب أفريقي والحكومات الغربية إلى التسوية.

أمّا التسوية التي فككت نظام التمييز العنصري فكان لها وجه آخر غير نهاية حكم الأقلية البيضاء، ومباشرة حكم الأكثرية الأفريقية. فقد قضت التسوية ببقاء السلطة الاقتصادية، وخصوصاً الثروات المعدنية، بيد الأقلية البيضاء وكبريات الشركات الغربية العابرة للقوميات. وبموجب تلك التسوية التاريخية تخلى "المؤتمر الوطني الأفريقي" عن أبرز بند في برنامجه للتحرر الوطني، وهو تأميم مناجم الذهب والمعادن، وسيطرة الشعب على ثرواته الطبيعية، وهي التسوية التي قادها نلسون مانديلا وتحسّر في آخر أيامه على إخفاقه في انتشال شعبه من الفقر. ولا يزال خلفاؤه يعملون لاستعادة سيطرة شعب جنوب أفريقيا على ثرواته الطبيعية.

هذا نموذج للتأمل والاستلهام، كي لا يأخذنا التبسيط. 

بانتظار اليوم التالي...

أكتب الآن في الفترة الرمادية التي تتخللها المبارزة الإيرانية - الإسرائيلية المباشرة، وما تثيره من تساؤلات عن إجازة أميركية لفتح معركة رفح، أو عن غضّ نظر عن حرب برية في الجنوب اللبناني، فضلاً عن تعثّر مفاوضات تبادل الأسرى، وانسحاب قطر من دور الوساطة الذي نُقل إلى تركيا، وافتتاح عملية المحاسبة على "التقصير" الأمني والعسكري والسياسي في إسرائيل باستقالة رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية، إلخ. ولذا سأكتفي بتسجيل نقطتين:

أولاً، "الإصلاح الوحيد" الذي يستحق الحديث عنه بالنسبة إلى السلطة الفلسطينية هو إنهاء القطيعة والانقسام بين الضفة والقطاع؛ وانضمام "حماس" والجهاد إلى منظمة التحرير، وتنظيم انتخابات حرّة في الضفة والقطاع لإعادة تشكيل السلطة ومؤسساتها.

بهذا يتحقق الغرض الأول الذي لم يسعَ له "طوفان الأقصى"، وهو: محو آثار 2006 – 2007، وتحطيم معسكر الاعتقال، وإعادة توحيد هذين الجزأين الحيويين من فلسطين التاريخية.

ثانياً، الموقف الوطني والسيادي اللبناني هو الذي يجب أن يدعو إلى استعادة جميع المواقع والأراضي المحتلة التي يطالب بها لبنان لاستكمال سيادته على حدوده المائية والبرية الجنوبية، بما فيها مزارع شبعا ومرتفعات كفرشوبا والقسم اللبناني من قرية الغجر، علاوة على تصحيح النقطة B1 العالقة في ترسيم الحدود المائية. والأهم التوازي في تحقيق الانسحابات ووقف الخرق الإسرائيلي المتمادي للأجواء اللبنانية.

فيما عدا ذلك، كنت ولا أزال أرجّح وجودعاملين فاعلين في لجم انتقال إسرائيل من حرب عبر الحدود، إلى حرب برّية متحركة ولو في حدود الجنوب اللبناني: العامل الأول هو عجز إسرائيل عن تنفيذ عملية عسكرية محدودة جنوبي الليطاني ما دامت المقاومة تتمتع بترسانة من الصواريخ الدقيقة المتوسطة والطويلة المدى تطال عمق فلسطين المحتلة، وتستطيع أن تُحدث تدميراً بيّناً في البُنية التحتية والخدمات الأساسية، كي لا نتحدث عن الأضرار العسكرية. وتحييد تلك الترسانة أو تعطيلها يستدعيان نقل العمليات العسكرية البرية إلى العمق اللبناني، وهذا لا يمكن تحقيقه بواسطة الطيران الحربي فقط، بل يستدعي العمليات البرية أيضاً، وهو ما لا تنفك تكرره التقارير العسكرية الإسرائيلية منذ أعوام.

أمّا العامل الثاني فهو توافق ضمني أميركي - إيراني لا يزال يساعد على استبعاد هذا الخيار الشامل؛ وأعتقد أن هذا التوافق لا يزال قائماً بعد المبارزة الصاروخية الأخيرة بين إيران وإسرائيل. 

ما العمل بين مواجهتين عسكريتين؟

أود أن أختم بطرح سؤال: ما هو اليوم التالي بالنسبة إلى حركات الجماهير العربية؟ بعبارة أُخرى: "أين الملايين" التي بلغت أقصى درجات التعبئة وشاركت في المعركة بأشكال متنوعة من الاحتجاج والتضامن وتفريغ الغضب عبر وسائل الاتصال المجتمعية؟ ما دورها، ما مسؤوليتها، بعد أن تصمت الأسلحة؟ هل يوجد صراع عربي - إسرائيلي غير مختزل بالصراع العسكري؟

لن أكتفي بطرح السؤال عمّا إذا كان يوجد مستوى غير عسكري للصراع العربي - الإسرائيلي يتجاوز المستوى الإعلامي الدعاوي، بل سأقترح فيما يلي بعض العيّنات للتفكير والتداول:

1 - ما الذي يمنع من تنظيم حملة عربية في العالم تحت شعار "شرق أوسط خالٍ من السلاح النووي؟" لقد رفع جمال عبد الناصر هذا الشعار، وظلت الدبلوماسية المصرية ملتزمة به إلى عهد مبارك. فإيران لا تعترف بأنها تنتج سلاحاً نووياً، ولست أدري ما إذا كانت ستنجح في إنتاجه أصلاً، لكن هذا لا يتعارض مع شنّ حملة تجرّم الاستثناء الإسرائيلي الذي لا يعترف بامتلاكه سلاحاً نووياً، ولا هو خاضع لمعاهدة حظر الأسلحة النووية.

2 - كتبتُ منذ عقد من الزمن مطالباً بحملة عربية في العالم لتجريم المستوطنين. واقتضى الأمر أن ترتكب إسرائيل جريمة إبادة جماعية موصوفة كي يبادر بعض دول أوروبا وأميركا إلى فرض عقوبات اقتصادية على أفراد من المستوطنين. والسؤال هو: لماذا لا تنظَّم حملة شاملة ترصد جرائمهم العنصرية، وتتعقب زعماءهم وتجرّهم إلى المحاكم وتفرض العقوبات في حقّهم؟

3 –بالنسبة إلى النطاق العربي الأضيق، يمكن تجديد حملة مقاطعة بضائع وخدمات الشركات التي تموّل إسرائيل أو حتى التي تتعامل معها. وإذا لم نستطع إلزام الجامعة العربية بتفعيل قوانين مقاطعة إسرائيل، وأجهزة المقاطعة، فإنه يمكن الاستمرار في الضغط لذلك، وتنظيم حملات أهلية وشعبية لا بد من أن تؤتي أُكلها، ذلك بأن عدة شركات دولية تكبدت خسائر فادحة جرّاء المقاطعة التي تعرضت لها عربياً وعالمياً بسبب تبرعاتها للمجهود الحربي الإسرائيلي، وكانت الحملات ناجحة في أوروبا وأميركا أكثر منها في الدول العربية.

4 - على أهمية دور المنظمات المسلحة في المعركة ضد الاحتلال الصهيوني، وعلى الرغم من التطور البيّن في مستوى أدائها، وتكوُّن محور تنتظم فيه عملياتها، إلّا إن هذا كله لا يلغي الحاجة إلى وجود جيوش تؤدي دورها في الدفاع الوطني وحماية الحدود والسيادة الوطنية، وتحقق التوازن الضروري مع العدو الإسرائيلي قبل الحديث عن ترجيح هذا التوازن لمصلحة الحقّ الفلسطيني والعربي.

ولا يمكن تصوّر مستقبل الصراع العربي - الإسرائيلي من دون إعادة تأهيل الجيوش، وخصوصاً في دول الطوق لحماية أمنها وتعيين دورها الفعلي في الصراع.

أعرف أن الموضوع دقيق وحساس ومعقّد، لكن عنده ينجدل أيضا الوطني والديمقراطي. فتحوُّل الجيوش من القمع الداخلي إلى الاقتتال الداخلي كما في عدد كبير من الدول العربية، وانفكاك بعضها لمصلحة ميليشيات، ليس يكتفي بتهديد الوحدة الداخلية للبلد وسيادته تجاه الخارج فحسب، بل يثير أيضاً الحاجة التاريخية الملحّة إلى النضال من أجل توحيد القوات المسلحة، وعودة الجيوش التي لا تزال قائمة إلى ثكناتها وإعادة بنائها وتدعيم قدراتها ومهاراتها القتالية، وتفرّغها لدورها الأوحد في الدفاع الوطني. وهذا يعني ترتيب العلاقات مع التنظيمات المسلحة الموازية، بحيث يرتهن استمرارها أو حلّها بحسب موقعها ودورها في المعركة الوطنية.

ومن هنا نبدأ!

 

* من محاضرة بالعنوان ذاته في "مسرح المدينة"، بيروت، 5 آذار / مارس 2024.

السيرة الشخصية: 

فواز طرابلسي: كاتب ومؤرخ لبناني.