مقدمة
تحاول هذه الدراسة الكشف عن سبل المراقبة والسيطرة التي طورتها إسرائيل في السنوات العشر الأخيرة، وبسطت أذرعها في المعازل والجغرافيات الفلسطينية المختلفة في الأراضي المحتلة في العام 1967، بما فيها السجون التي تمثّل عالماً مصغراً لما يجري تطبيقه من سياسات في الواقع الفلسطيني. وتتمحور مناقشتي حول السؤال: إلى أي مدى انتقل نظام المراقبة والسيطرة الإسرائيلية في الضفة والقطاع من نظام البانوبتيكون - Panopticon (السجن الدائري)، الذي كنت قد ناقشته في دراسة سابقة بعنوان: "صهر الوعي - أو في إعادة تعريف التعذيب"،[1] إلى نظام السينوبتيكون - Synopticon (نظام الإغراء والإغواء)؟
وقد استعنت، في ظل شحّ المصادر المكتوبة، وصعوبة الحصول عليها في السجن، بواقع الأسر ذاته، كتجربة حسية أعيشها من أكثر من [ثمانية] وثلاثين عاماً كمصدر أوضّح من خلاله نظم السيطرة الجديدة. وسيجد القارىء في تحليلي لهذه النظم، بواسطة الأدوات النظرية المتوفرة، انتقالي الدائم، وعلى طول الدراسة، بين السجون والمعازل الفلسطينية، ومن ثم إلى التحليل النظري، حيث استعنت بالسينوبتيكون - وهو تعبير استحدثه توماس ماتيسينThomas Mathiesen، ويعني الإغراء والإغواء. أي سرت من الحسّي إلى المجرّد وبالعكس. فبعد تفكيك المشهد الفلسطيني الذي بات مشهداً ملتبساً ومربكاً إلى حد بعيد، لا سيما في السجون، أعدت تركيبه بعد أن أزحت العصبات التي قادت منظومة "قيادة" الأسرى، والمعازل الفلسطينية المهندَسَة إسرائيلياً نحو مرحلة جديدة، وهي مرحلة "راقب نفسك بنفسك"، أو ربما هي مرحلة ما بعد التنسيق الأمني، التي تمثل توسيعاً للتنسيق الأمني الذي تجاوز صيغته الأصلية كما جاء في اتفاقيات أوسلو.
وقد قدَّمت لهذا الغرض عنوانين أو "ممارستين" من واقع الأسر على الأداة النظرية، وهما "العصبة" و"التفتيش" لاعتقادي أنهما يوضحان ما آلت إليه أوضاع السجون والمعازل الفلسطينية. فقد استخدمتهما لا لسرد الممارسات الحسية فحسب، وإنما كأداة تحليل. فالأول، "العصبة"، توضح تشويش الرؤية لدى الأسرى والمواطنين، وتخلق حالة تفوُّق معرفي لصالح المستعمِر على المستعمَر. كما تفسر لنا كيف تحوّلت الفصائل الفلسطينية لعصبات تعيق رؤية المواطنين لمشهد الاحتلال بكامله. أمّا الثاني، "التفتيش"، فيبيّن كيف تعمل آليات تشييىء الأسير، أو المواطن الفلسطيني، وتسعى إسرائيل من خلال ذلك إلى تحويله لموضوع فاقد الإرادة، ولكائن غير سياسي مسطّح، ذي بعد واحد، وهو البعد الاقتصادي. كما سأبيّن الإجراءات التي اتخذتها إسرائيل لملاءمة نظامها البيروقراطي الأمني الذي ابتعد كثيراً عن النموذج الفيبري، حيث استطاع الاحتلال عبر مراقبة الفلسطيني لنفسه أن يحوّله إلى احتلال أكثر خبرة وأقل كلفة.
إن القرب من موضوع البحث وتجسيداته الواقعية، لا سيما في واقع أسير مغلق ومعايشة تفاصيله الكثيرة ليس مثرياً للدراسة دوماً، وإنما قد يأتي بنتائج عكسية، وقد يترك أثره بمعنَيين: المعنى الأول، "من كثرة الشجر لا نرى الغابة"، الأمر الذي يحول دون تجريده وتأصيله نظرياً. و[المعنى الآخر]، ثقل وطأة هذا الواقع على موضوعية البحث، رغم أنني لم أحاول إخفاء انحيازي كفلسطيني وكأسير، فأنا لست باحثاً أكاديمياً، وإن حاولت استخدام أدوات البحث العلمي. لهذا، آمل أن أكون قد نجحت في تجاوز هذين المطبَّين، وبقيت رغم انحيازي موضوعياً في دراستي.
لا يمكن الخروج من الحالة الفلسطينية الرسمية الرثة، المتمثلة ليس في السلطتين وحزبَيهما فحسب، وإنما في مجمل النظام السياسي وفصائله دون النقد، حتى وإن كان قاسياً مؤلماً. فهدف الدراسة رفع "العصبة" عن أعين المناضلين الذين هم أول مَن دفع ثمن نظام المراقبة والسيطرة الجديد، وتبديد الضباب الذي نُشر من حولهم لحجب الرؤية، لا سيما الأسرى، حتى يعودوا ليشكلوا حركتهم الوطنية الأسيرة، وليستعيدوا دورهم المؤثر والفاعل في القرار الفصائلي الخاص والسياسي الوطني العام، على طريق إعادة تشكيل حركة التحرر الوطني الفلسطيني.
[....]
العصبة
تُعتبر "العصبة" التي يغطي بها الجيش الإسرائيلي أعين المعتقلين، منذ اللحظة الأولى لاعتقالهم، وأثناء التحقيق معهم، إجراء تُجمع على أهميته وتستخدمه كافة أجهزة الدول القمعية أثناء اعتقالها للمناضلين. ويبدو أن هذا الإجراء الذي قد ألفته العين الفلسطينية، أو ربما اعتبرته جزءاً من جملة إجراءات قمعية أُخرى يستخدمها الاحتلال، لم يتم مناقشته أو التفكير به والغوص في رمزيته ودلالاته التي في اعتقادنا تتجاوز كثيراً حجب بصر الأسير، وينطوي على معانٍ لم تتناولها الأدبيات الفلسطينية.
إن العصبة ليست أداة تعذيب، ومن الخطأ اختزالها والتفكير بها بهذا المعنى، لا سيما وأن جسد الأسير، ومنذ عقود خلت، لم يعد هو المستهدف، وإنما المستهدف هو عقله. والعصبة تسهّل على السجان أو المحقق إحداث تفوُّق معرفي لصالحه في مقابل الأسير منذ اللحظة الأولى لاعتقاله. وبقدر ما تحقِّق ذلك، فإنها تستهدف، بشكل خاص، معرفة الذات كقدرة، والذات كهوية، وصولاً إلى ضعضعة الإرادة. فما دام العقل الذي تستهدفه العصبة ليس هو جوهر الإنسان كما تدّعي الفلسفات التي ترفع من شأن العقل، وتدعو للتمسك به، ولا حتى العمل هو الذي يميزنا كبشر عن باقي المخلوقات كما تدّعي الماركسية، وإنما الإرادة هي جوهرنا. وبالتالي، فإن المستهدف عبر العقل بوسائل عقلية هو الإرادة، أو بكلمات أُخرى إنسانية الإنسان.
إن معرفة الذات هي الشرط الضروري لتحقيق المعرفة بمعناها الأوسع، فذات غير عارفة لذاتها هي ذات غير مؤهلة للقيام بدورها إزاء نفسها ومحيطها، [هي] ذات فاقدة للإرادة.
لا تُدرَك الذات، إن كانت ذات الفرد أو الذات الوطنية الجامعة، بذاتها، وإنما من خلال تفاعلها مع محيطها. فالكأس لا تمتلىء من ذاتها، والمرآة لا تعكس الفراغ، وإن عكست، ففراغاً تعكس، وتبقى تتوسّل الحركة لتمتلىء بها. والأسير، في لحظة الاعتقال والتحقيق، مرآة متعطّشة متنبّهة لأي حركة أو سكون، ولأي كلمة أو إشارة أو تعبير شفوي يصدر عن الذين يحيطون به من جنود وسجانين ومحققين وأسرى.
يتعلم الطفل بأنه جميل أو ذكر أو أنثى، عبر ما يعكسه محيطه له من صور. فلو تعاملنا مع الطفل وصدَّرنا له صورته عبر سلوكنا بأنه ضعيف أو جبان، فإنه سيتمثل هذه الصورة. إن الاعتقال صدمة يحاول المحتل تعظيم أثرها على نفسية الأسير وحالته المعنوية حتى يوصله إلى "عام الصفر"، حتى يغدو صفحة بيضاء مستسلمة، أو قابلة لأن يكتب عليها ما يشاء.
إن هذا النوع من الإدراك نؤسس عليه السردية الكبرى لذاتنا، ويجيب على السؤال: "مَن أنا، وما هي قدراتي؟" بينما الإدراك الذي تحول دونه العصبة، أثناء الاعتقال، يجيب على سؤال الوضع Situation. "أين أنا، وما هو تقديري للظرف؟" نحن ندرك الظرف من خلال ما يعكسه لنا الأفراد الذين يحيطون بنا بمَن فيهم الجنود والسجانون والمحققون أكثر ممّا ندركه من خلال تجربتنا الذاتية. فالاعتقال، في الغالب، إمّا تجربة أولى، ولا يملك صاحبها تجربة سابقة ومخزوناً معرفياً يمكن الاعتماد عليه، أو أنه يعتمد على معلومات في الغالب رواها له أسرى سابقون، وغالباً ما تكون تجربة مختلفة يرويها الأفراد لتعظيم الذات من خلال تضخيم التجربة.
ينشغل الاحتلال استراتيجياً بالسيطرة على الفلسطيني من خلال أشكال مختلفة من العصبات التي يحاول تطويرها بصورة دائمة لتتلاءم والواقع الدينامي، للتأثير على تشكيله وإدراكه لذاته في مستوى السرديات الكبرى. ويمثل عدم سيطرة الفلسطينيين على سجل النفوس، والأراضي، والمياه وغيرها من المعلومات التي تشكّل [البيانات الضخمة] Big Data، عصبات تحول دون قدرة المؤسسة الفلسطينية على تقدير وضعها، وإدراك قدراتها ومكامن قوتها وضعفها. وهذا النوع من العصبات لا يستهدف الآني والحاضر الفلسطيني، وإنما يستهدف المستقبل، بتعطيل الزمن [ابتداءً] عبر تقسيمه لسياقات زمنية مختلفة حتى يبقى زمناً ما قبل حداثي، إن كان على مستوى الهوية، أو على مستوى القدرة الفلسطينية، واختزالها إلى قوى من نسق واحد في أحسن الأحوال، يسهل على الاحتلال مواجهتها وإبقاؤها دون التأثير في سياساته.
إن الاحتلال أثناء استغراقه في مراقبة مرآة الفلسطيني، يتأثر بها ويتشكّل كقدرات بإزميلها، فيبني كيانه ومؤسساته وفقاً لما يراه منعكساً في المرآة الفلسطينية. إن السجان - المستعمِر ينقش السجين ويشكّله على شاكلة مخاوفه، والسجين - المستعمَر، ينقش سجّانه على شاكلة مخاوفه أيضاً. إن السجان يرى بأن السجين الذي شكّله يشبهه، وفي الحالة اليهودية التي تعتبرها الصهيونية هي الضحية التاريخية الوحيدة... فتخشى أن يحلّ الفلسطيني مكانها في غفلة منها، تسعى، دوماً، أن تضع مزيداً من القيود على معصميه، فتكبّله بالحديد، أو ربما تكبّل المواطن الفلسطيني بالزمن، حتى لا يبرح زمانه ومكانه، ويحل مكان السجان - المستعمِر وزمانه، لا بصفته، أي هذا الأخير، مالكاً للقوة، وإنما بصفته ضحية، فيسلب الفلسطيني حتى من حقه في أن يكون ضحية. ومن جهة أُخرى، وفي سعيه المحموم للسيطرة، يتأمل السجان - المستعمِر مرآة السجين - المستعمَر، فيرى نفسه وما فعله بشعاً، فيخشى ما صنعه، وما قد تصنعه انعكاسات هذه المرآة في إدراكه لذاته. وبدل أن يغير الواقع، يسعى إلى تحطيم المرآة، أو حتى إلى إنكار وجودها. وما بين التكبيل بالحديد والباطون، أو بالزمن، وتحطيم الأسير - المواطن الفلسطيني كمرآة، أو، بكلمات أُخرى، ما بين مصادرة الحرية ومصادرة الحياة عبر التصفية الجسدية، فإن السجان - المستعمِر، يسعى من خلال العصبات، على أنواعها المختلفة، إلى الحيلولة دون إحساس الفلسطيني بالزمن وإدراكه بالمعنى التاريخي والحضاري، والتلاعب بوتيرته، بما فيه الزمن الافتراضي، بهدف تشييىء الأسير والمواطن - المستعمَر ومصادرة ذاته كفاعل سياسي وصولاً إلى الإبادة السياسية.
إذا كانت المعرفة قوة، وهي كذلك، فإن معرفة الذات قدرة، أو هي القوة بمعناها العام والأشمل، والجهاد الأكبر في ثقافتنا العربية الإسلامية هو جهاد النفس. وجهاد النفس، كما أفهمه بتصرُّف، ليس قمع النوازع والغرائز وتهذيب النفس البشرية فحسب، وإنما هو، بالدرجة الأولى، معرفة النفس بما تملك من قوة وضعف للوصول إلى مثل هذا التهذيب الذي لا يمكن تحقيقه دون هذا النوع من المعرفة. إن عدم المعرفة التي تنتجها العصبة، في حالة الأسير، يخلق عدم اليقين الذي يولِّد بدوره الخوف، والخوف أنواع: الخوف المباشر من خطر داهم، صفعة أو ضربة هراوة، وهذه مهما كان حجمها وقوتها، فإن الخوف منها محدود، ولا يجهد العقل والتفكير. بينما الخوف من المجهول الذي تحجبه العصبة، هو خوف لامتناهٍ يستنزف طاقة العقل الذي يؤوّل المجهول إلى سيناريوهات غير محدودة، استناداً للتجربة الاجتماعية السابقة للفرد المعصوب، أو كما يسميه زيجمونت باومان Zygmunt Bauman "الخوف المشتق".[2]
يتغذى المستعمِر، إن كان محققاً أو سجناً أو مؤسسة، على الظلمة، كمصاصي الدماء التي يخلقها عبر أنواع مختلفة من العصبات، ويحرص على نفسه أن يبقى في هذه الظلمة، وأن يعمل في الخفاء كاستراتيجية تُفقِد المستعمَر أي إمكانية حقيقية لمواجهته. إن قوة الكائنات الماورائية، والرهبة التي تثيرها في النفوس من مجرد ذكرها، تنبع من كونها غير مرئية، الأمر الذي يجعل تأويل قدرتها لقدرات خارقة غير محدود، فيحوّلها، في نظر عامة الناس، إلى قوة لامتناهية.
إن شعار جهاز المخابرات العامة "الشاباك שב״כ" الإسرائيلي מגן ולו נראה [مغين فلو نرآه "مدافع ولا يُرى"] يموضعه تماماً في خانة كُلِّي القدرة والمعرفة، لا بما حدث في الماضي والحاضر، وإنما بما قد يحدث في المستقبل. لقد استطاع "الشاباك" تسويق نفسه، وإقناع المواطن الفلسطيني والإسرائيلي، على مدار سنوات طويلة، أنه العالِم بالغيب، وبات يتردد بين المواطنين مقولة "للجدران آذان". لقد أُسْطِرت قدرات هذا الجهاز رغم أنه فشل في توقُّع الكثير من الأحداث، بما فيها الانتفاضة الأولى والثانية.
إن من أخطر العصبات هي النخب السياسية المستعمَرة التي ينجح المستعمِر [في استغلال] ما تعتقده هذه النخب بأنها مساومات مشروعة، [و]بأن مجمل وجودها وأمنها، بل والقليل ممّا تبقّى في خطابها من مفردات ومصالح وطنية، مرتبط ارتباطاً عضوياً بما يقدمه لها المستعمِر من تسهيلات وامتيازات. ويحول وجود مثل هذه النخب، بصفتها عصبة على شكل سلطة أو سلطتين في الحالة الفلسطينية، دون قدرة الجماهير المستعمَرة [على] إدراك مشهد الاستعمار بكامله.
إن تشويش رؤية الجماهير يستهدف خلق بلبلة وتجزئة لأجندة الحركة الوطنية لمهام مطلبية تكتيكية، وتحويلها، تدريجياً، من مقاوِمة للاستعمار إلى ناقدة لسياساته تحت هذا السقف المطلبي. ويتحول الاستعمار إلى غير مكلف سياسياً واقتصادياً وأمنياً. إن إيصاله النخب السياسية المستعمَرة إلى قناعة مفادها أن بقاءه هو مصيري لاستمرار وجودها يحققه عبر تصويره الواقع بأنه واقع لا يقبل الوسط، واقع "דיכותמי - Dichotomy، إمّا، أو"، إمّا بقاء الاستعمار، أو الفوضى. ويصور الفوضى، لا بصفتها انهيار منظومة السلطة التي أوجدها فحسب، وإنما انهيار الأمن والأمان الشخصي لكل مواطن، حتى يُجيِّش دعماً لصالح هذه السلطة، ومن ثم يُعمِّق ارتباطها وتعلُّقها بالمستعمِر، لا بصفتها سلطة الشعب وإنما بصفتها سلطة الأهون شراً من الفوضى.
إن واقع وجود سلطة فلسطينية بشقّيها، إن كان في غزة أو في الضفة، يمثّل عصبة مزدوجة على بصيرة النخب السياسية، والاقتصادية، وجزءٍ من النخب الثقافية، لا سيما المؤطّرة منها سياسياً. والاحتلال يُري هذه النخب ما يشاء هو أن تراه من المشهد السياسي الفلسطيني، خصوصاً بعد أن تحوّلت مهمتها الأساسية إلى تكريس وجودها وإعادة إنتاج مصالحها، ودوماً باسم المصلحة الوطنية وثوابتها. لكن هناك دوماً مَن ينجح في استراق النظر من أسفل العصبة، ودون علم المحتل، وهذا الاستراق يمارَس خارج القوالب والسقوف الفصائلية، إلّا إنه ما زال دون القدرة لأن يتحول إلى حالة سياسية منظمة أو بديلاً فاعلاً على الأرض.
التفتيش
في الطريق إلى السجن، يجرَّد الأسرى من ملابسهم وأشيائهم وهوياتهم وروابطهم الاجتماعية التي اكتسبوها في إطار علاقتهم وغزلهم الاجتماعي. والتفتيش الذي يمرون به، بدءاً من دخولهم قسم التحقيق إلى غاية دخولهم السجون المركزية، يستهدف تشييئهم وتحويلهم إلى موضوعات لسجّانهم عبر مجموعة من الإجراءات، أو ما يمكن أن نطلق عليه "אובייקטיביזציה - أوبيكتفيزتسيا" [التشييىء]، وهي عملية لمسح معالم الذات وتفرُّدها. ولتسهيل تشييىء الأسير، فإن نظام السجن يفرض ارتداء زي الأسرى الموحد شكلاً ولوناً الذي كُتب عليه ("بيت سوهر" - سجن)، تماماً كما كُتب على فَرشات السجن والكراسي والطاولات وسائر الممتلكات ليصبح الأسير في نظر السجّان ممتلَكاً من ممتلكات المؤسسة - إدارة السجن التي يعمل بها، بعد أن يتم محو الفارق الأساسي بين البشر، وهي أسماؤهم، ويطلق عليهم، بدل الأسماء، رقم الأسير الذي لا يهدف إلى تسهيل الحوسبة، فهذا الإجراء قائم في نظام السجون قبل اختراع الحاسوب، ولهذا الغرض كان يمكن الاكتفاء برقم الهوية.
إن التفتيش الذي قد يبدو في الظاهر لدواعٍ أمنية، لمنع تهريب الممنوعات إلى داخل عنابر السجن، يتم من خلاله مصادرة أنَّات / [أناوات] الأسرى عبر مصادرة الأشياء الحاملة معاني تخصّ الأسير ذاته. كأن يتم، مثلاً، مصادرة كتاب، أو مجرّد فانيلا [لباس داخلي علوي] كانت آخر ما ارتداه قبل اعتقاله، أو مسبحة أهدته إياها والدته... فالأشياء طواطم تُذكِّرنا بالحياة قبل الاعتقال، وتعرِّفنا أحياناً، على الأقل في نظر أنفسنا، مَن نحن كذوات، كما تحمل قيمة عاطفية تشحننا في زمن القحط الإنساني والعاطفي في السجن، فهي قيمة أكثر بكثير من قيمتها المادية، يُقبَض عليها كما لو كانت تعويذة تحول، أو هكذا يعتقد الأسرى، دون ذوبانهم كذوات في الكتلة البشرية التي هي موضوع استهداف المؤسسة المغلقة كالسجن.
لا يصادر التفتيش الأشياء المشحونة بالمعاني العاطفية والذكريات الإنسانية فحسب، وإنما يصادر [كذلك] الأشياء التي تحمل مؤشرات المكانة الاجتماعية، فنظام السجن يسعى دوماً إلى الاستحواذ على كل شيء، بما فيه المكانة الاجتماعية. فهو الذي يحجب أو يمنع هذه المكانة وفقاً لمصالحه، أو على الأقل يحاول السيطرة على آليات الفرز والتراتبية الاجتماعية والتنظيمية داخل السجن من خلال روافع يملكها، وطوَّر العديد منها خلال السنوات العشر الأخيرة، إن كان داخل الفصائل أو فيما بينها؛ فالجميع خاضع لنظام السجن، والأفراد يقفون عراة لا حول لهم ولا قوة يعتمدون على سجّانهم أو ما يستطيعون انتزاعه منه في أكلهم وشربهم وعلاجهم وروابطهم الاجتماعية، وحتى في تسليتهم.
في الماضي، كان الأسير يصل [إلى] سجنه بعد مرحلة التحقيق والتفتيش في مداخل السجون وأقسام محطات الفرز الـ "معبار" (في سجن الرملة ومجدّو والسبع) منهك الجسد والنفس، فيستقبله فصيله والمنظومة الاعتقالية التي شكّلتها الحركة الوطنية الأسيرة على مدار عقود من النضال، والتي مثَّلت مقاومة لنظام السجن الدائري، كما وصفه [ميشيل] فوكوMichel Foucault. فيستعيد من خلال نظام الجماعة الاعتقالية توازنه النفسي الذي نالت منه صدمة الاعتقال، كما يستعيد أشياءه المصادرة أو ما يشبهها، فاستعادتها شرط ضروري لاستعادة التوازن النفسي، لا سيما تلك الأشياء التي تشير إلى مكانة الأسير الاجتماعية خارج الأسوار. فإذا كانت سماعة فاحص دقات القلب تعني بأن صاحبها طبيب، والكتاب يشير أنه مثقف، والصورة مع الخيل أو السيارة هي أنه صاحب مواهب واهتمامات في هذه المجالات، فإن نظام السجن عندما يصادرها، فإنه لا يصادر هذه الممتلكات بعينها فحسب، وإنما يصادر من الأسير معانيها الاجتماعية، فهي تعني المكانة والسيادة على الذات والجسد نفسياً وأرضياً.[3] وإذا كان التاج يحدد بصرياً مَن هو الملك، فإن مصادرة هذه المؤشرات البصرية تفتح مجتمع الأسرى على مصراعيه، وربما حد الفوضى الاجتماعية لإعادة إنتاج نظامه وتراتبيته الاجتماعية من جديد. ولكن نظام السجن الشمولي لا يهدف، على الإطلاق، إلى فتح مجتمع الأسرى ليعيد تراتبيته بقواه الذاتية، وعبر دينامياته الاجتماعية الداخلية، وإنما تشييئه، ليقوم هو بتشكيله وفقاً لمصالحه.
إن جعل السجين رقماً يرتدي نفس الملابس التي يرتديها جميع الأسرى، استدعت فيه قيم الذات أو الذات كقيمة، أن تكون أو لا تكون لمقاومة هذا النظام. وبالتالي، [فقد] كانت هي الدافع والمحرّك الأساسي للمقاومة وليست القيم الوطنية (قيم التحرر)، فيعيد الأسير في مواجهة التشييىء لملمة أشيائه، كما العصفور الذي يبني عشه قشةً قشةً، ليستعيد ذاته ومكانته وصورته في النظام الاجتماعي للسجن. هذا إلى جانب المنظومة الوطنية والفصائلية التي بنتها الحركة الأسيرة وشكّلت حاضنة لهذا النضال الذي أفشل نظام التشييىء، وأوجدت سبلاً للتراتبية وإعادة إنتاج الذات. وقد وضعت لهذا الغرض نظماً داخلية ومنظومة تنافسية قوامها القيم الوطنية والآليات الديمقراطية والقدرات التنظيمية والثقافية التي أتاحت حراكاً داخلها، وجددت دماء الحركة [الأسيرة] وقيادة فصائلها.
لا توجد إرادة دون ذات حاملة للإرادة، والإرادة الوطنية المتمثلة في الحركة الوطنية الأسيرة هي إرادات أفراد، أولاً وقبل كل شيء، والتشييىء الذي أجرته إدارة السجون، وفقاً لنظام السجن الدائري (البانوبتيكون)، استهدف سلب الإرادة الذاتية وتفريغ الإرادة الجماعية من محتواها. وعندما تُستَحضر الذات والإرادة فإنها تستدعي معها الكائن الأخلاقي والسياسي القادر أن يقول "لا" لسجانه، وأن لا يبقى، رغم الهوة الشاسعة بين إمكاناته وقدرات منظومة السجن، مادة طيّعة يشكّلها الأخير كما يريد.
لقد استطاعت الحركة الوطنية الأسيرة أن تقاوم التشييىء وأن تمثّل تحدياً لنظام السجن عبر برامجها الثقافية (التعبوية) والتنظيمية، وبالنضال الجماعي للأسرى. وقد حدث هذا، بل وكان ممكناً، في ظل مناخات الخطاب التحرري العالمي الذي امتد من جنوب أفريقيا إلى كوبا وفيتنام والجزائر، ومناخات المدّ الوطني الذي مثّلته الحركة الوطنية الفلسطينية بقيادة فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، والذي استمر لغاية بدء تطبيق اتفاقية أوسلو، والتي حوَّلت واقعية حركة التحرر الوطني الفلسطيني إلى سلطة، وبرنامج الحرية والاستقلال إلى مشروع دولة دون سيادة. لكن إثر هذا الواقع الجديد، استغرقنا وقتاً طويلاً نسبياً حتى استطعنا إدراكه داخل وخارج السجون، لا من حيث طبيعته السياسية، وإنما من جهة آليات الرقابة والسيطرة الإسرائيلية التي تمت ملاءمتها وابتكار الجديد منها بما يتناسب وواقع وجود سلطة فلسطينية.
وقد تطورت هذه الآليات تدريجياً وصولاً إلى نظام سيطرة مُحكَم على المعازل والجغرافيات الفلسطينية المختلفة بما فيها السجون، مستفيدة من التطور التكنولوجي ومن آثاره النفسية والاجتماعية والثقافية، ومن نظم الإدارة ما بعد الفيبرية، أو كما يسميها زيجمونت باومان "الثورة الإدارية في ثوبها الجديد"،[4] حيث انتقل نظام السيطرة والرقابة الإسرائيلية - من "البانوبتيكون" المركزي الإكراهي إلى "السينوبتيكون" الأفقي الإغرائي،[5] حيث لم يعد الأول هو "النموذج العام ولا الاستراتيجية السائدة التي كان يعتقدها بنتهام وفوكو في أزمانهما، بل لم يعد النموذج والاستراتيجية الأساسية في الممارسة."[6] وبالاعتماد على السينوبتيكون، سنحاول قراءة وتحليل واقع المعازل الفلسطينية لا سيما في مرحلة ما بعد "التنسيق الأمني"، مع التركيز على السجون بصفتها تمثّل ميكروكوزموس [عالماً مصغَّراً] للواقع الفلسطيني، خصوصاً سجن "رامون" الذي سأبيِّن بأنه يمثّل نموذجاً مثالياً لما نجحت إسرائيل في تطبيقه. فما هو السينوبتيكون؟ وكيف يعمل؟ وكيف يُجسَّد في واقع المعازل الفلسطينية؟ وما هي نظم الإدارة الجديدة (ما بعد الفيبرية) التي أتاحت تطبيق نظام المراقبة والسيطرة الجديدة؟
السينوبتيكون (Synopticon): الإغراء والإغواء
السينوبتيكون تعبير استحدثه توماس ماتيسين للمقارنة بين البانوبتيكون حيث "تراقب به القلة الكثرة" مع الواقع الجديد الذي "تراقب به الكثرة القلة"، كما هو حاصل في وسائل الإعلام الحديثة، خصوصاً وسائل التواصل "الاجتماعي".[7] ويعتقد زيجمونت باومان بأن "ملهى" الإغراء والإغواء هو نوع من البانوبتيكون الذاتي الذي يعمل وفق مبدأ "راقب نفسك بنفسك"، أو بانوبتيكون معدَّل يعمل على الرقابة دون مراقبين. والمقصود دون مراقبين من الجهة المستفيدة من نتائج المراقبة. كما يعتقد [باومان] بأن ماتيسين سكّ هذا التعبير بهدف استيعاب متغير أعمّ في الفلسفة الإدارية التي باتت، في نظره، لا تعتمد على العقلانية البيروقراطية كما حددها ماكس فيبر Max Weber، والتي سنبيّن تجسيداتها العملية في نظم الرقابة والسيطرة الإسرائيلية.
ويناقش باومان لورنا رودز Lorna Rhodes التي توصلت إلى نتيجة مفادها بأن البانوبتيكون قد "يشخصن حالتنا جميعاً"،[8] حيث تدفع تجربة السجون المشددة الحراسة بعض السجناء إلى تشويه أجسادهم بأنفسهم. فـ "الاستغلال البانوبتيكوني المحسوب" للجسد، يستدعي نقيضه، وأن الأجساد المخذولة تدفع الأسرى إلى استخدام أجسادهم لتوكيد ذواتهم، فيقاومون الانكشاف السلبي الذي يهدف إلى إخضاعهم بتعمّد انكشافه وتكثيفه بدلاً من الاختباء. ويعتقد باومان بأن النتائج التي توصلت إليها لورنا رودز لا تتناقض مع ما توصل إليه، حيث إن السينوبتيكون الذي يقود الأسرى إلى مراقبة أنفسهم بأنفسهم يعزز رأيها، فتعاون المحكومين كان، برأيه، محل ترحيب دوماً، وعبقرية الحكام تكمن في دفع المحكومين إلى القيام بمهام الحكام. فالإيذاء الذاتي للأجساد وقتلها، وصولاً إلى التدمير الذاتي بقصد توكيد الذات، هو الهدف غير المعلن أو ربما الصريح أحياناً لنظام السجن الدائري.[9]
تعتقد هذه الدراسة بأن التنسيق الأمني - "راقب نفسك بنفسك"، والتعاون الجاري بين ممثلي الأسرى وإدارات السجون، وفقاً لنظام الإغراء والإغواء، تُعتبر جميعاً أشكالاً لمقاومة الانكشاف السلبي الذي قاد إلى تعمُّد هذا الانكشاف وتكثيفه بتعميق التنسيق والتعاون بدل "الاختباء" - وقف التنسيق. وكلما يحقق هذا "الانكشاف" - التنسيق المتعمَّد، توكيداً للذات، يتورط ممارسوه في مزيد من "الانكشاف" - التنسيق، إلى حد إدمان هذا الدور على أمل تحقيق الذات. ومثلهم كمثل مَن يشرب ماء مالحاً ليروي عطشه، لكن عبثاً، فكلما شرب، زاد عطشاً.
لم ينحصر البانوبتيكون، برأينا، كما يدّعي إيرفينغ غوفمانErving Goffman، في قطاعات "قابلة للإدارة"، مثل: السجون والمعسكرات والعيادات النفسية،[10] فهو قائم دوماً ومتحفّز للقيام بمهامه عبر وسائله القسرية المباشرة، ويعمل حيث تفشل الوسائل السينوبتيكونية. ففي الأراضي الفلسطينية المحتلة، يُستدعى نظام السجن الدائري من قبل الاحتلال ليتدخل بوسائله، حيث تفشل السلطة الفلسطينية بمراقبة نفسها بنفسها، ويعجز نظام سيطرتها الذي يسوَّق على أنه ممارسة للسيادة الفلسطينية عبر فرض "النظام" على "الخارجين عن القانون" (نابلس وجنين وقراهما مثلاً). فهناك دوماً مَن يسترق النظر من أسفل "العصبة"، ولا تعمل عليه سبل الإغراء والإغواء، رغم أن نظام السينوبتيكون، في نظرنا، أكثر شمولية من البانوبتيكون، ويطال تفاصيل حياة المواطنين الفلسطينيين.
إن عمليات الطعن وإطلاق النار الفردية، غير المنظمة وغير المنتمية سياسياً لفصيل ما، هي تعبيرات جاءت لتوكيد الذات في ظل ذات وطنية غائبة، على شكل حركة تحرر، وإيذاء للأجساد المخذولة، حيث يعلم منفّذو هذه العمليات، مسبقاً، نتيجة عملياتهم. وهذا يمثل تأكيداً على أن نظام السينوبتيكون [هو] من الشمولية التي تقود نحو مزيد من الانكشاف المتعمد حدَ الموت. فهو نظام لا يترك للمواطن الفلسطيني خيارات أُخرى، أو مناطق آمنة لا تصلها المراقبة، ويمكن اللجوء إليها، لا سيما في ظل نظام "راقب نفسك بنفسك".
لم يكن نظام السينوبتيكون ممكناً كنظام رقابة إلّا بتوفر متغيرَين أساسيين يمثّلان معاً الشرط الضروري حتى يصبح نظام الإغراء والإغواء الاستراتيجية المثلى والأقل كلفة والأكثر إنتاجية مقارنة بنظام البانوبتيكون. فالمتغير الأول هو انتقال مؤسساتي كامل من النظام البيروقراطي الفيبري الذي يعتمد العقلانية إلى نظام تخلَّص من الكثير من السمات التي يجب أن يكتسبها التنظيم الهادف للأنشطة البشرية كما حددها فيبر، وعلى رأسها انتقال بعض مركبات النظام البيروقراطي من العقلانية إلى اللا - عقلانية بصفتها عقلانية جديدة، والتي تشجّع على المبادرة والجرأة والإبداع، أو ربما الوقاحة، كما سنبيّن في نظام السيطرة الإسرائيلية داخل السجون، وفي الأراضي المحتلة. فقد انتقل كل شيء، كما يصف باومان، من الإكراه إلى الإغراء والإغواء، ومن الضبط المعياري إلى العلاقات العامة، ومن المراقبة إلى إثارة الرغبة، وأصبحت المسؤولية في تحقيق النتائج المرجوة تنتقل "من الرؤساء إلى مرؤوسيهم، ومن المشرفين إلى تابعيهم، ومن المستطلعين إلى الخاضعين للاستطلاع، ومن المديرين إلى الخاضعين للإدارة."[11]
كما لم تعد الخيارات المتاحة لسجناء البانوبتيكون مختزلة، بصفتها الطريق الإداري الأنجع، إلى مجرد وظائف كئيبة أو ملل قاتل، وطعام رديء، أو حتى معاناة من الجوع. فقد اعتُبِر هذا النظام إهداراً للموارد الفردية الكامنة في موضوعات المراقبة، فتم تجاوز التراتبية وصرامة الأوامر التي لم تعد أمراً مقدساً في النظام الجديد، بل وتم استدعاء الولاءات والالتزامات الشخصية التي استبعدها النظام الفيبري. وبمجرد أن صار ذلك، انتقل واجب المديرين إلى المدارين، ومهمة المراقبة والحبس من السجانين إلى السجناء، ومن المستعمِرين إلى الواقعين تحت الاستعمار. وقد تم نقل هذه الأعباء باعتبارها هبة تُمنَح لموضوعات الإدارة، ومنحة لحقوق الاستقلال والتوكيد الذاتي والتمكين من قبل السجانين المستعمِرين للأسرى المستعمَرين، علماً أن هؤلاء "المدراء" الجدد هم موضوعات سلبية مفعول بها بالفعل الإداري. فعبقرية، أو ربما شيطانية، هذا النظام الجديد، هي أنه قادر أن يجعل هذه المتناقضات تعيش جنباً إلى جنب وتحت سقف واحد، أو كما عبّر عن ذلك ديفيد ليون David Lyon، في معرض تعليقه على ما كتبه توماس ماتيسين، بأن "القهر لا يحل محل الإغواء، وإنما يتعايش معه."[12] ويضيف باومان بأن "أبرز سمة للمراقبة المعاصرة هي أنها تمكنت، إلى حد ما، من إجبار المتعارضات على العمل في تناغم وانسجام، في خدمة الواقع نفسه."[13]
أمّا المتغير الثاني، فمهّد لإمكانية تطبيق نظام السينوبتيكون على علاقة بالتغلب على الخوف من الانكشاف أمام الناس بفعل المراقبة البانوبتيكونية، وابتهاج المرء بملاحظة الناس له، واستعداده التخلي عن حريته، وقد ظهر هذان التطوران وتوافقهما وتعاونهما معاً بفضل إحلال الإقصاء محل الحبس، حيث أصبح الإقصاء أفظع تهديد للأمن الوجودي. ووفقاً لذلك، تم تحويل المراقبة وتصنيفها من كونها إنذاراً بالخطر إلى بشارة بالإغراء والإغواء، الأمر الذي يتوافق مع الرغبة في الحصول على دليل بالاعتراف الاجتماعي.
في السجون الإسرائيلية والمعازل الفلسطينية في الأراضي المحتلة، يأخذ الإقصاء أشكالاً متعددة ودرجات شدةٍ مختلفة. فهناك سَحب الثقة من الناطق باسم الأسرى الـ "دوبير"،[14] وحرمانه من الروافع التي منحته إياها إدارة السجون والامتيازات الخاصة للقيام بالرقابة الذاتية إلى حد محاصرته وعزله من موقعه في حال لم يقم بالمهام التي كُلّف بها. وعدد من الأسرى الذين شغلوا هذا الموقع، وتم إقصاؤهم، يفوق عشرات المرات عدد الأسرى الذين ما زالوا يشغلونه. ومن هذه المهام ممارسة الإقصاء الذاتي على الأسرى وحرمانهم من التواجد في بعض السجون، كسجن "رامون" أو النقب، حيث تم إقصاء ما يقارب الـ 500 أسير من "فتح" وحدها، وحُرموا من دخول "رامون"، منهم 180 كادراً شكلوا القيادة الصلبة لكتائب شهداء الأقصى.[15] أمّا آليات الإقصاء، فتشمل إعلان "النزاع" - (سِخسوخ)[16] مع الأسير الـمُقصى من قبل ممثل السجن، ويتم توثيق هذا النزاع في ملف الأسير.
وعلى كل حال، فإن دخول سجنَي "رامون" أو النقب، تحديداً، أو الانتقال منهما إلى سجون أُخرى، هي "وكالة" حصرية منحتها استخبارات السجون لشخصين من الأسرى - الـ "دوبريم". ويستهدف الإقصاء حرمان الأسرى من شروط الحياة الجيدة نسبياً والمتوفرة في هذين السجنين كالاستقرار "الأمني"،[17] والتواصل الجيد مع الأهل هاتفياً،[18] لا سيما في ظل منع الكثيرين من الأهالي من زيارة أبنائهم، بالإضافة إلى حرمانهم من الباحة الشمسية الواسعة والغرف الصحية نسبياً.
أمّا أماكن الإقصاء، أو "الأماكن المحظورة" بلغة ديدييه بيغو Didier Bigo (بان - أوبتيكون Ban-opticon)، التي يُنقل إليها الأسرى المقصَون، فهي إمّا قسم معزول، كعسقلان،[19] أو "إيشل" (السبع)، أو شطة و"هداريم"، والتي يُدعى بعضها أقسام الـ "شَمُوْرْ"،[20] وهي أقسام مشددة الحراسة، والرقابة والضبط، وإمّا أقسام الزنازين، أو العزل الانفرادي، والموزعة على جميع السجون.
في ملهى الإغراء والإغواء لا يمكنك أن تكسب الاستقرار (الأمن) والحرية معاً، عليك أن تتنازل ولو عن جزء من أحدهما. فمَن يرغب بالاستقرار يتعرّى في هذا الملهى، ويقبل بقواعد لعبة نظام "راقب نفسك بنفسك"، فيقدِّم أكثر أسراره خصوصية، كما تفعل الغالبية الساحقة من الناس على شبكات التواصل الاجتماعي، كي يبقى حاضراً ويسجّل وجوده "الاجتماعي". والأسرار، كما يصفها باومان، كباقي الممتلكات الشخصية، ترسم حدود الخصوصية وتميزها.[21] وعند التنازل عنها، فإن الشخص يتنازل عن السيادة الأرضية والمعنوية، وكلما توغل الفرد في التنازل الذي يتحوّل إلى إدمان، بفعل الحاجة والميل الإنساني للاستقرار (الأمن)، وسعيه للاعتراف الاجتماعي (السياسي) الذي لا يتحقق ويتحول إلى سراب، فإنه يلجأ لاستراتيجية تضخيم الأسرار بهدف تضخيم الأنا، إلى حد تسليعها لإعادة إنتاجها كقيمة في نظر مديري ملهى الإغراء [والإغواء] حتى لا يفقد العَقد، فالعقود شخصية محددة بزمن وبإنتاجية معينة، وهناك منافسة كبيرة للحصول عليها.
على هذه الخلفة تنشأ "الفرجوية" كثقافة، والفرجوية هي سيكولوجيا الفاشل في تحقيق أهدافه. وحتى يبقى [الفاشل] "ذا صلة"، فإنه يقدِّم لمجتمعه خطاباً متورماً بالإنشاء اللغوي، وفي المقابل، يعرض خدماته ويتنازل عن حريته لمديري ملهى الإغراء والإغواء.
إن تضخيم الأنا وتسليع الفرد لذاته يكسبه حضوراً في شبكة وليس عضوية في "جماعة".[22] وفي السجون والأراضي المحتلة، فإن الأفراد لا يكسبون حضوراً تنظيمياً، كما يحاول وكلاء الإغراء والإغواء تصوير الأمر لهم، وإنما، وفي أحسن الأحوال "يكسبون" عضوية مؤقتة في ملهى الإغراء والإغواء. فوجه الشبه بين عضوية الشبكة الافتراضية والعضوية في جماعة، أو الشبه بين الفصائل الفلسطينية في ظل خطاب حركة التحرر، والفصائل اليوم في السجون والسلطتين الفلسطينيتين، مع غياب حركة التحرر الوطني الجامعة، هو كالشبه بين الجبن والطباشير. إن ما يُصطلح عليه اليوم حركة وطنية أسيرة، وتحديداً الأطر الفصائلية والاعتقالية الرسمية، والتي تشكّل امتداداً للحالة السياسية والتنظيمية الرثة في الفصائل المحتلة، باتت تشبه الفصائل، وفقدت، كما فقدت السلطتان في رام الله وغزة محتواهما التحرري، وقدَّمت "أسرارها"، وفقدت خصوصيتها ومعها حرّيتها وسيادتها الوطنية في ملهى الإغراء والإغواء. وعلى هذه الخلفية، قد يفسَّر ازدياد الإضرابات الفردية عن الطعام، والعمليات الفردية في الأراضي المحتلة.[23]
إن سلاح المقاومة في ظل نظام السينوبتيكون الذي يعتمد المساومة العقلانية، انتقل تدريجياً من كونه سلاح مقاومة لتحرير فلسطين، إلى سلاح للدفاع عن غزة، أو ربما لفكّ حصارها، إلى سلاح مطلبي على علاقة بتحقيق قضايا معيشية تخصّ المواطن، كتصاريح العمل وإدخال الوقود والغاز والمواد الغذائية والطبية.
هناك درجات من الإدراك لهذا التنازل، فهناك مَن لا يدركه، ويعتقد بأنه يجري مساومات مشروعة، ولا يعلم بأنه لم يعد حراً بخياراته التي قد حددها النظام مسبقاً، وسقفها بسقفه، وأنه قد أصبح حتى في معارضته أو قبوله ومساومته جزءاً من لعبة النظام، وأن لا أمل له في تحقيق شعاراته وأهدافه الوطنية دون كسر النظام أو العمل خارج منظومته. في المقابل، هناك مَن يعمل إلى جانب ذلك، وبالتعاون مع مدراء الملهى، مع سبق الإصرار وبقناعة وإدراك تامَّين للعواقب اللا - أخلاقية واللا - وطنية، وذلك انطلاقاً من أن هذا هو السبيل الممكن في ظل موازين قوى يقرأها بنوع من الواقعية السياسية التي لا تسعى لتغيير الواقع، وإنما لتأبيده.
إن وكلاء ملهى الإغراء والإغواء لا يمكن تجاهل تاريخهم وكفاحيتهم ونضالهم من أجل التحرر من الاحتلال، ولا أقصد أولئك المتواجدين في السجون والمعازل الفلسطينية، فجميعهم انتموا إلى خطاب اعتبر التحرر، وليس الحرية، هو القيمة، وثقَّفوا وتثقفوا على هذا الخطاب الذي اشتُقَّت منه استراتيجيات تأخذ في الحسبان موازين القوى المادية، وتقود إلى مساومات تراها مشروعة، فأبعدت التحرر وخسرت الحرية في ملهى الإغراء والإغواء.
إن التحرر هو السبيل إلى الحرية، وهو فعل خارجي (هدم)، بينما الحرية هي القيمة التي تسعى الشعوب إلى تحقيقها، وهي فعل داخلي (بناء)، أو إن شئتم فهي الجهاد الأكبر. فإذا كان التحرر من الاحتلال شرطاً ضرورياً لتحقيق الحرية، فـ[إن] الحرية هي الشرط الكافي للحفاظ على إنجازاته، فكم من بلد تحرر لكن شعوبه لم تحظَ بالحرية!! فالحرية، بصفتها قيمة، غير خاضعة لحسابات موازين القوى، ومن طبيعتها أنها غير قابلة للمساومة، فإمّا حرية، وإمّا عبودية. لا يوجد نصف حرية أو ربع حرية، بينما تحرير الوطن خاضع لحسابات موازين القوى وللمساومات في ملهى الإغراء والإغواء، فكانت النتيجة أقل من ربع وطن افتراضي على الورق. كما أن الحرية كقيمة، عندما تتمثّلها الأجيال، هي شرط لحماية التحرير حتى يتطابق مع روايتنا التاريخية. وإن عقدنا بعض المساومات المشروعة، تبقى الحرية هي المعيار لمشروعية هذه المساومات، فالحرية هي الثابت الوطني بألـ التعريف.
إن مَن تمثَّلوا قيم الحرية، كأساس للتحرر، ورفضوا إفشاء الأسرار والتنازل عن الخصوصية، فرضوا على أنفسهم، في السجون والمعازل الفلسطينية، أن يبقوا حبيسي هذه الخصوصية أحراراً، كما حكموا على أنفسهم بالاغتراب والعذاب في فضائهم الخاص. ورغم أنهم ليسوا قلة، وإنما كثرة مبعثرة، فإنهم، حتى الآن، لم يتحولوا إلى حالة تنظيمية. إن أحد أهداف نظام الإغراء والإغواء، وعبر وكلائه الحصريين داخل السجون وخارجها، هو الحيلولة دون أن تنظِّم هذه الكثرة نفسها. وقد بقيت تعاني تنكيلاً مزدوجاً من وكلاء النظام والاحتلال، على حد سواء، دون أن يتلقوا مساعدة من أحد، فقد حكموا على أنفسهم، جرّاء مواقفهم، بحياة تتسم بغياب المنصتين لما يبشِّرون به.
إن هؤلاء المبشرين بالحرية، والرافضين الانصياع لنظام الإغراء والإغواء، يشبهون أولئك الشباب الذين انطلقوا من الجامعات في خمسينيات وستينيات القرن الماضي نحو تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية على أسس كفاحية جديدة، واتُّهموا بأنهم يغردون خارج سرب النظام العربي الرسمي، مع فارق جوهري ومهم، وهو أن قادة منظمة التحرير الفلسطينية، في حينه، لم يعتبروا الحرية قيمة، وإن كانت قد زُيِّنت بها مؤتمراتهم وبياناتهم، ولم يواجهوا ما تواجهه الأجيال اليوم من إغراءات ومساومات في ظل ثقافة تسلِّع كل شيء بما فيه الحرية.
بيروقراطية لينة
عمل الدكتور يوڤال بيطون Yuval Bitton كطبيب أسنان في السجون الإسرائيلية، وتحديداً سجنَي نفحة والسبع، وقد كتب مقالاً قال فيه إنه، وبحكم تجربته كطبيب مع الأسرى الفلسطينيين، أصبح قادراً أن يميِّز الانتماء السياسي للأسير من خلال صحة أسنانه، على اعتبار أن أعضاء حركة [المقاومة الإسلامية] "حماس"، في غالبيتهم الساحقة، غير مدخنين، بينما أعضاء فصائل منظمة التحرير الفلسطينية مدخنون شرهون. لكن هذا الطبيب تبوَّأ منصباً استخباراتياً عالياً في إدارة السجون، حيث ترك بصمة غيّرت في نظام المراقبة والسيطرة على نحو استراتيجي، وأثّر على حياة الأسرى، [الأمر الذي] لم يكن مرتبطاً بهذا المقال ولا بنجاحاته كطبيب أسنان، وإنما كان مرتبطاً بقدراته التنظيمية والاستخباراتية. وقد مثّل نجاحه تحوُّلاً في قدرة النظام البيروقراطي في احتجاز الأسرى الفلسطينيين، على ملاءمة نفسه لمتطلبات العمل الاستخباراتي والتحديات الأمنية التي فرضتها الانتفاضة الثانية، متجاوزاً مواصفات النظام البيروقراطي الفيبري.
كشفت تحقيقات حركة "حماس" بأن "سامي عنان" الذي عمل ممثلاً لأسرى الحركة في سجن نفحة، كان قد جنّده لصالح المخابرات الإسرائيلية الدكتور يوڤال بيطون أثناء عمله كطبيب أسنان. وإذا كانت هذه الحالة، وهي ليست حالة نادرة تم إسقاطها، إلّا إنها مثّلت الحالة القيادية الأبرز التي أُسقطت عبر الأطقم الطبية، الأمر الذي سنناقشه لاحقاً بما يتعلق بعدم حيادية النظام الطبي، لكنها جاءت لتؤكد على ليونة بيروقراطية احتجاز الأسرى الفلسطينيين منذ السنوات الأولى للانتفاضة الثانية. وقد تم استدعاء هذه الليونة البيروقراطية استجابة للتحديات الأمنية والاستخبارية التي واجهت إسرائيل، وفي محاولة منها فكّ مجموعة من الشيفرات، أهمها شيفرة الاستشهاديين للوصول إلى إجابة شافية بشأن السؤال: "لماذا يفجّرون أنفسهم فينا؟"
وقد فُتِحت السجون على مصراعيها، خدمةً لهذا الغرض، لدخول باحثين وأكاديميين من عدة جامعات ومراكز أبحاث، منها "مركز يافا للدراسات الاستراتيجية"، ومن تخصصات مختلفة كعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الجريمة. وقد ترأس بشكل مباشر "الاجتياح الأكاديمي" للسجون الدكتور يوڤال بيطون. وهذه المرة، لا بصفته طبيب أسنان، وإنما بصفته ناطقاً إعلامياً لإدارة السجون في المنطقة الجنوبية. ويؤكد هذا "الاجتياح الأكاديمي" تورُّط الأكاديميا الإسرائيلية في احتجاز الأسرى الفلسطينيين، وتقديم المعرفة اللازمة لجعله احتجازاً ناجزاً، كما يؤكد تورُّطها في إجراء الأبحاث والدراسات والتجارب على الأسرى بما يتعارض و"اتفاقية جنيف" التي تحظر إجراء التجارب على الأسرى.[24]
وعلى كل حال، فإن القناع الجديد، "الناطق الإعلامي"، الذي تقنَّع به يوڤال بيطون في طريقه إلى قمة الهرم الاستخباري في السجون، كان هدفه تليين موقف قادة الفصائل ونشطاء الانتفاضة الثانية حتى لا يعارضوا الالتقاء بالباحثين الإسرائيليين والحديث معهم دون حرج، وتقديم المعلومات اللازمة له، أي يوڤال بيطون، لا بصفته رجل استخبارات وإنما بصفته أكاديمياً "موضوعياً" تهمُّه هو والباحثين المتخصصين الحقيقة العلمية. وقد استطاع بيطون، قبل أن يترأس قسم الاستخبارات (رحاط مودعين רח"ט מודיעין - وهي اختصار بالعبرية لـ "روش ها حطيڤه") والمقصود قسم الاستخبارات [حطيڤات مودعين חטיבת מודיעין]، أن يهيىء كل الشروط اللازمة حتى يراقب الأسرى أنفسهم بأنفسهم، وأن تعمل منظومة الرقابة والسيطرة وفقاً لنظام السينوبتيكون، حيث تبيَّن بأن بيروقراطية النظام البانوبتيكوني غير مُنْتِجة من جهة، ومكلفة من جهة أُخرى.
واجهت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية إشكالات كلفتها دماء، نتيجة عدم ملاءمة البيروقراطية الأمنية للتحديات التي فرضتها المقاومة الفلسطينية أثناء الانتفاضة الثانية، إن كان داخل السجون أو في الأراضي المحتلة. ففي السجون، ظهر الخلل البيروقراطي في عمل الجهاز الاستخباري، والذي كانت قد أبرزته حادثة تقديم أحد العملاء، المنتمي لأحد الفصائل الإسلامية، لضابط الاستخبارات في سجنه، (سجن السبع)، [معلومة] أفادت بأن هناك عملية استشهادية سيتم تنفيذها قريباً. وبفعل صرامة النظام البيروقراطي الذي فرض على هذا الضابط التسلسل الهرمي في نقل المعلومات إلى رؤسائه في الجهاز، فقد وصلت المعلومات إلى قسم الاستخبارات في السجون متأخرة. وإلى أن تعامل مسؤولو هذا القسم مع المعلومة، كانت العملية قد نُفِّذت، ونَشرت، في حينه، صحيفة "هآرتس" تقريراً بيَّن الخلل الأمني، والأسباب التي أدت لإقالة مسؤولة قسم الاستخبارات، والتي تُدعى "بَيْتِي".
أمّا الخلل الذي واجهه جهاز المخابرات العامة "الشاباك" في الأراضي المحتلة، فقد عبّر عن نفسه، أيضاً، بتبليغ أحد العملاء ضابط منطقته من المخابرات الإسرائيلية عن تحرُّك استشهادي من مخيم بلاطة، مثلاً، متجهاً نحو إحدى المدن الإسرائيلية. وإلى أن يبلّغ هذا الضابط مسؤوليه متّبعاً التراتبية بهدف التواصل مع الجيش لتوفير قوة وتغطية أمنية كافية لإقامة الحواجز، أو لاعتقال الاستشهادي، فإن غالباً [ما] كانت العملية تنفذ قبل إنهاء هذه الإجراءات البيروقراطية.
إن ما يهمنا في هذه الدراسة من إيراد مثل هذه الأمثلة، ليس البعد الأمني، وإنما تبيان ما كانت تواجهه الأجهزة الأمنية الإسرائيلية داخل السجون وخارجها في لغة النظم البيروقراطية، ألا وهو طول عصا السيطرة. ولتقصير هذه العصا، وحلّ عدد آخر من الإشكالات الأمنية، كان لا بد من اتخاذ بعض التغييرات ذات الطابع الاستراتيجي في نظام المراقبة الإسرائيلية، [حيث]:
1 - تم استبدال العقلانية البيروقراطية كثقافة مؤسسة وكمبدأ ناظم لها باللا - عقلانية بصفتها عقلانية جديدة. وقد تُرجم ذلك بفتح المؤسسة الأمنية لأفكار ومبادرات جريئة، أو غريبة من خارج، ممّا كان متوفراً في التجارب السابقة لهذه المؤسسة.
2 - أُهملت العلاقات اللا - شخصانية في تسيير العمل البيروقراطي، وإنجاز المهام وجمع المعلومات. وبعكس النظام الفيبري، تم إحياء العلاقات والانتماءات الشخصية بين موظفي المؤسسة، وبينهم وبين موضوعات المراقبة.
3 - حين أُتيحت المبادرة دون المعيقات والضوابط البيروقراطية السابقة، وصولاً إلى حالة من الفوضى المنظمة، أصبح المبدأ الوحيد الناظم للمؤسسة هو الإنتاجية، وغدت [مقولة] "الغاية تبرر الوسيلة" هي البوصلة.
4 - أتاح تجاوز التراتبية في خدمة الهدف، توسيعاً للتنسيق الأمني على نحو غير مسبوق، ويتجاوز كثيراً ما نصّت عليه اتفاقية أوسلو، فلم يعد قادة الأجهزة وضباطها الكبار يكتفون بتقارير ضباط الاستخبارات في السجون، وإنما يجتمعون بشكل دائم مع الأسرى للوقوف على الوضع الأمني مباشرة. وقد توسّع هذا النظام المباشر والتنسيق اللامركزي من مقر الشؤون المدنية في رام الله إلى جميع المحافظات والمدن.[25]
لم يعمل يوڤال بيطون بمفرده على تطبيق هذه الخطوات لتغيير نظام المراقبة في السجون، وإنما كانت معه وبجانبه مؤسسة أمنية كاملة إلى جانب الخبرات الأكاديمية التي وفرتها مراكز الأبحاث والجامعات في خدمة تحقيق هذا الهدف. لكنه، مع ذلك، شكّل رأس الحربة في تمرير السياسات الجديدة لإدارة السجون، بأقل معارضة أو مقاومة ممكنة من قبل الأسرى. فقد تسلل إلى حياة وعقول البعض بشكل ناعم، حيث امتاز بسرعة الاستيعاب، وأظهر براعة في شدّ انتباه محدِّثيه، وأشعرهم جميعاً بأن آراءهم مهمة، وأنه يتفق مع غالبيتها، وأقنع البعض بأنه يقف على نفس المسافة بينهم وبين المؤسسة الأمنية، وكأنه شخص مراقب محايد من خارج المؤسسة. وقد حرص، في البدايات، أن يلتقي الأسرى وهو مرتدياً الزي المدني وليس الزي الرسمي للسّجانين. واستطاع أن يعزز هذه الثقة من خلال دعمه بعض المطالب التي قدمها الأسرى، معتمداً على الصلاحيات التي مُنحت له، دون إعلان رسمي بأنه يملك مثل هذه الصلاحيات. أو لنقل، وهذا ما تبيَّن لاحقاً، بالاعتماد على "الشيك المفتوح" الذي منحته إياه المؤسسة الأمنية استناداً إلى الخطة الجديدة في تجاوزها الهرمية البيروقراطية والتخصصات والعلاقات اللا - شخصانية. واستطاع فعلاً أن يطوِّع العقبات، وأن يحل إشكالات عديدة ذات طابع شخصي إنساني للأسرى، منها: منح تصاريح زيارات لأهاليهم، ورفع المنع الأمني عن البعض، خصوصاً ممّن كانوا أسرى سابقين، وذلك عبر مخاطبته المسؤولين عن هذه القضايا في الجيش بشكل مباشر، وأحياناً عبر اتصال تليفوني كان يجريه أمام الأسرى وعلى نحو استعراضي. كما استطاع أن يحل مشكلة بعض المعتقلين الإداريين بالحصول على تمديد آخر، وإخراج بعض الأسرى المعزولين وتجميع الأسرى الإخوة في سجن واحد، وغيرها من الإشكالات التي يخلقها الاحتلال للمواطنين الفلسطينيين. وقد حرص يوڤال بيطون في حله مثل هذه الإشكاليات على ثلاث نقاط:
1 - ألّا تُقَدَّم الحلول للأسرى، مهما كانت بسيطة، إلّا عبره حتى يبقى عنق الزجاجة بالنسبة لهم، أو كما لقّبه الأسرى بسخرية "بابا نويل". فأصبح اسمه دارجاً على لسان الجميع، فهو الذي يقدِّم "الهدايا" على شكل تسهيلات وتصاريح زيارة وغيرها.
2 - حرص على استخدام الإنجازات (التصريح، أو ما شابه) كرافعة لبعض الأسرى الذين يرغب في ارتقائهم في السلَّم القيادي وأن يكونوا أكثر تأثيراً، وذلك بمنحهم "كريديت" الإنجاز من خلال هذا الأسير أو ذاك، لتبدأ حروب "الكريديت" بين الـ "دوبريم" على غرار حروب "الكريديت" بين المسؤولين الفلسطينيين عندما يحصلون على بعض الإنجازات البائسة، ويبدأ التعرّي في ملهى الإغراء والإغواء على أمل تحقيق المزيد من "الإنجازات" بهدف تجديد عقود تشغيلهم في الملهى.
3 - حرص، دوماً، على التأكيد على أنه لا يملك صلاحيات، وأن أكثر ما يملكه هو محاولة إقناع المسؤولين، وفي حال فشل، فإن كل ما يمكنه فعله هو دعوة المسؤولين في "الشاباك" والجيش إلى الاجتماع مع الأسرى والمسؤولين ليقوموا هم بتقديم شكواهم ومطالبهم مباشرة، وأن دوره في مثل هذه الاجتماعات فيتلخّص في تقديم موقف داعم لمطالب الأسرى. وقد تحوّلت هذه اللقاءات تدريجياً، مع "الشاباك" وضباط "الإدارة المدنية" في الجيش إلى لقاءات شبه دورية. وأقيم من خلالها الإطار غير الرسمي لتنسيق الشؤون المدنية - فرع السجون، بين مَن يمثّلون الأسرى، ومن كافة الفصائل، مع هذه الجهات الأمنية الإسرائيلية، باستثناء فصيل الجبهة الشعبية الذين رفض مسؤولوهم اللقاء مع "الشاباك" تحديداً، واكتفوا بحلّ قضاياهم عبر بيطون وضباط الاستخبارات في السجون. لقد أنجزت هذه اللقاءات، في حقيقة الأمر، بعض القضايا الهامة في حياة الأسرى، إلّا إنها بقيت قضايا ذات طابع مطلبي محدود لا تستحق لقاءات مع هؤلاء المسؤولين من خارج مؤسسة إدارة السجون. ولكن هدف المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين ليس تقديم الخدمات، وإنما فحص الوضع الاستراتيجي وتقديره للإجابة على أسئلة مثل: "كيف يرى أسرى 'فتح' الوضع بعد أبو مازن؟" وأن تُمرر بعض الرسائل، عبر "أسرى حماس"، لها طابع أمني.[26] وقد تحوّل هذا "التنسيق المدني" إلى وكالة حصرية تجاوزت إشكالات الأسرى، وأصبحت وكالة خاصة بأحد ممثلي الأسرى الذي بدأ بحل إشكالات عديدة كتصاريح التجار في الأراضي المحتلة، وتصاريح العمل داخل "إسرائيل"، والتي يتلقّى مقابلها أجراً، بل وتحوّل إلى تنسيق أمني كامل، الأمر الذي سنبيِّنه بالوقائع.
لم تكتفِ الأجهزة الأمنية الإسرائيلية باللقاءات الدورية مع ممثلي الأسرى في إطار "تنسيق الشؤون المدنية - فرع السجون"، فقد بقيت دون التنسيق الأمني باستثناء حالة واحدة تحوّلت إلى مشروع، كما ذكرنا. ولهذا، كان لا بد من صلة مباشرة مع الأسرى كأفراد لضمان تدفق المعلومات من أكثر من جهة. وقد أسس بيطون لهذا الغرض قسماً في استخبارات السجون مسؤولاً عن هذه الصلة مع "الشاباك"، مدعَّماً بنظام برمجة معلوماتية يستطيع من خلالها كل ضابط "شاباك" مسؤول عن منطقة أو مدينة في الضفة الغربية، أن يتابع أسرى منطقته من خلال كبسة زر على الحاسوب، فيصل إلى أدق تفاصيل حياتهم الاعتقالية، بما فيها علاقاتهم وأصدقاؤهم في السجن ومَن هم أقرب الأسرى لديهم في القسم الذي يُحتجزون فيه، وأن يشاهدهم عبر الكاميرات المنتشرة في الأقسام والممرات والساحات في بثّ حي ومباشر. وقد رافق هذه المراقبة الجديدة استدعاء الأسرى لمقابلة ضابط "الشاباك" المسؤول عن منطقته في الأراضي المحتلة، وتُجرى هذه المقابلات القسرية عادة عندما يُعيَّن ضابط جديد في المنطقة ليأخذ انطباعاته عن الأسير مباشرة، أو في حالة اقترب موعد إطلاق سراح الأسير لإشعاره بالمراقبة وتهديده وردعه. وأحياناً، يُستدعى [الأسير] لمجرد التنكيل به من خلال السفريات في بوسطة نقل الأسرى، ولا سيما أسرى بارزين ولهم تأثيرهم في محيطهم الاجتماعي، وفي بلداتهم ومدنهم. وفي بعض الحالات، يكون هدف الاستدعاء لمحاولة الإسقاط، ومساومة الأسير على ظروف حياته داخل الأسر، أو تصاريح لزيارات الأهل.
إن تقصير عصا السيطرة، وتداخل مساحات المسؤولية والتخصصات بين الأقسام في نفس الجهاز الأمني، أو بين الأجهزة الأمنية المختلفة، والليونة البيروقراطية التي أظهرها نظام المراقبة الجديد، لم يوفر تدفقاً للمعلومات للحيلولة دون أي فعل نضالي يمكن أن يُقْدِم عليه الأسير فحسب، وإنما وفَّر الصورة الواضحة لجهاز المخابرات العامة، الأمر الذي لم يكن متوفراً بهذه الوتيرة والتفاصيل، [و]مكَّنه من التدخل في الوضع الاستراتيجي التنظيمي - القيادي، والاجتماعي - السياسي للحركة الأسيرة، وهندسته بما يتفق مع المصالح الأمنية والسياسية الإسرائيلية، تاركاً الأمور التكتيكية في إدارة حياة الأسرى، مثل ساعات الباحة الشمسية أو كمية الطعام، لإدارة السجون.
إن كل ما من شأنه أن يكون له تداعيات على الأراضي المحتلة فهو من تخصص المخابرات العامة، فهي الجهة التي تقرر مَن هو ممثل الأسرى في سجن كبير، كسجن "رامون" مثلاً، ومَن هو الأسير لذي سيُمنَح روافع على شكل إنجازات لتعزيز موقعه في السلم التنظيمي القيادي. هذا لا يعني أنها كانت تنجح دوماً في هندسة الواقع كما ترغب تماماً. لهذا، كانت تلجأ إلى عزل بعض القيادات في عزل انفرادي، فهي التي تقرر مَن يبقى في العزل ومَن يبقى في سجن أو قسم "شَمُور" بعدد قليل من الأسرى بعيداً عن القاعدة الوطنية أو التنظيمية الخاصة، أو بعيداً عن التواصل الهاتفي، وإن توفّر هذا الأخير له، يتم اشتراطه بالتواصل مع أسرته فقط، وإلّا سيتم إعادته للعزل الانفرادي أمثال المناضلَين إبراهيم حامد ومروان البرغوثي وغيرهما من الأسرى القادة.
إن أهمية هذه التفاصيل في هندسة الواقع التنظيمي للحركة الأسيرة، ظهرت وربما أتت أُكْلها في إضراب العام 2017،[27] الذي تم إجهاض مطالبه، وإن كان لفشل هذا الإضراب أسباب أُخرى، إلّا إن أهمها هو أن بعض القيادات المهندَسَة عملت على إفشال الإضراب قبل بدئه وأثناء المعركة، وواصلوا قمع المناضلين بعد انتهاء الإضراب مطبِّقين نظام المراقبة الجديدة "راقب نفسك بنفسك" على نحو فاق ما خطط له الإسرائيليون.
في الماضي، استخدمت إسرائيل، داخل السجون وخارجها، إجراء النفي خارج الوطن وعزل قيادات الحركة الوطنية، ومن خلال الإقامة الجبرية، والاعتقال الإداري، وعزل قادة الحركة الوطنية الأسيرة أو تنقيلهم الدائم بين السجون لخلق حالة عدم استقرار تنظيمي وفراغ قيادي، وربما إبعاد قيادة منظمة التحرير الفلسطينية عن دول الطوق ومحاولة إيجاد قيادة بديلة، [والذي] يندرج أيضاً في إطار هذه السياسة. وقد بقيت هذه الإجراءات متّبعة حتى بداية الانتفاضة الثانية، وإن أخذت أشكالاً أُخرى كالإبعاد إلى غزة أو أريحا، أو نقل القيادات الأسيرة، ليس إلى عزل انفرادي، وإنما إلى قسم عادي برقابة مشددة "شَمُور".
بعد نجاح الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في هندسة الوضع التنظيمي والاجتماعي داخل السجون، ليتّسق مع نظام ملهى الإغراء والإغواء، بتنا أمام صورة مختلفة. فالقيادات المهَندَسة التي تم تمكينها لم تعد تُنقَّل بين السجون أو تُعزل كما في الماضي ما دامت ملتزمة بأصول لعبة الملهى. بينما الأسرى الذين يتم تنقيلهم والتنكيل بهم وعزلهم، هم أولئك الذين رفضوا مبادىء ملهى الإغراء والإغواء، وتمردوا عليه، ويسمَّون في لغة الأسرى "المطاردين". وفئة أُخرى يتم نقلها، وهي فئة الأسرى حديثي التجربة والاعتقال، ويتم ذلك في إطار هندسة الواقع، وعلى ضوء طلب هذه القيادات المهندَسَة من إدارة السجون، لملء الفراغ وتمرير العملية "الديمقراطية"، لإعادة تزكية هذه "القيادة". وتطلق هذه القيادات على هذه الفئة من الأسرى "الطَّمَم"، وتُستخدَم نقليات "الطَّمَم" لأغراض أُخرى على علاقة بعمليات الاختلاس المالي [....].
لا يتم نقل القيادات المهندَسَة إلى العيادات داخل السجون وخارجها، كما هي الحال مع سائر الأسرى، وإنما بعربة خاصة ومريحة لاعتبارات تتعلق بأمنها، خشية من اعتداءات الأسرى عليهم، لا سيما أولئك الذين كانوا ضحاياهم، وهذه الحقائق بات يعرفها الجميع في السجون. كما يتم نقلهم مع مرافقين من حاشيتهم إلى بعض السجون التي أظهرت ململة تجاه الوضع القائم لإعادة ضبطها. وتستمر هذه الزيارات لأسبوع أو عشرة أيام، ويتم من خلالها إعادة إنتاج منظومة "راقب نفسك بنفسك"، ويجري ذلك بالتنسيق والتسهيل الذي توفره الاستخبارات في السجون. [و]هذا في حال فشل الضبط عن بعد، عبر التواصل الهاتفي إن كإدارة السجون أو الهاتف المهرَّب الذي يتم التغاضي عنه أصلاً لتوسيع دائرة تأثير القيادات المهندَسَة باتجاه تعميم نظام ملهى الإغراء والإغواء.
وعلى كل حال، وكما تحمل بعض الشخصيات الفلسطينية بطاقات الـ VIP في الخارج، فالسجون أصبح لها " VIPيها"!! ففي الأراضي المحتلة، تتنقّل الشخصيات المهمة، وتتلقى العلاج، ليس كما يتنقّل ويُعالَج المواطن العادي، كما يُسمح لهذه القيادات نقل قوات خاصة مع سلاحها لإعادة ضبط "التمرد" في المدن أو في الضواحي، بهدف إعادة إنتاج سيطرة السلطة، أو إعادة تثبيت "السيادة"، فيُقمَع الناس ويُنَكَّل بالأسرى باسم "فرض السيادة" التي يضاف لها دوماً "الوطنية". فمَن يجرؤ على الاستئناف على تثبيت السيادة داخل وخارج السجون؟!
اتخذت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية المزيد من الإجراءات لتقصير عصا السيطرة في الأراضي المحتلة، وتجاوزت هذه الإجراءات، كما سبق وذكرنا، الاتفاقات الموقّعة مع السلطة الفلسطينية، فلم يعد التنسيق الأمني محصوراً في مقرات الشؤون المدنية ويجري مركزياً من رام الله، فقد منحت إسرائيل قادتها العسكريين وضباط مخابراتها الميدانيين في كل منطقة [صلاحية] أن يقيموا علاقات تنسيق بالاعتماد على ما ينجزونه من علاقات شخصية في الجانب الفلسطيني، إن كانوا ضباطاً أو محافظين أو رؤساء بلديات أو مجالس قروية. وقد زُود ضباط الاحتلال بصلاحيات اشتُقت من نظام الإغراء والإغواء، فالمناطق التي حافظت على "الهدوء" و"الأمن" الإسرائيلي، مُنحت مزيداً من الإنجازات على شكل تسهيلات، وتصاريح عمل مباشرة من ضباط المناطق الإسرائيليين. وتبيَّن أن هذا التنسيق اللا - مركزي يمكن الاعتماد عليه، ليس في تحقيق الأمن الجاري "بطحون شوتيف" وضبطه فحسب، وإنما في تحقيق الأمن الاستراتيجي، حيث قُسِّم النظام الأمني الفلسطيني ومناطق سيطرته إلى وحدات ضبط أصغر. وبذلك، قُسِّمت معها مناطق السيادة إلى سياقات أمنية وزمانية وجغرافية تمهيداً لترسيمها كمعازل فلسطينية سياسية بما يتناسب والرؤية الإسرائيلية للحل النهائي.
يُعتبر الدكتور يوڤال بيطون من أبرز المدافعين عن الإبقاء على الحالة التنظيمية للفصائل في السجون، واعتقَدَ أن أي جهد أمني أو استخباري يُبذل بهدف تفكيكها هو مضيعة للوقت وتبديد للجهد والمال العام، وغير منتج استخباراتياً وأمنياً.[28] وقد انقسمت مواقف ضباط إدارة السجون حول هذه القضية تماماً كما انقسمت المواقف في إسرائيل بين السياسيين والأجهزة الأمنية حول الموقف من إبقاء أو إنهاء السلطتين في غزة ورام الله. وللأسف، فقد قُرأت هذه المواقف التي جاءت في السياق الأمني الإسرائيلي من قبل بعض الأسرى في السجون، واحتسبوا بيطون يسارياً داعماً للموقف الفلسطيني، تماماً كما تُقرأ مواقف بعض قادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية الشبيهة من قبل المسؤولين الفلسطينيين على أنها مواقف يسارية!!
لقد اعتقد بيطون بأن الفصائل، ببُنيتها البيروقراطية الهرمية العقلانية، راكمت من الخبرات والمهارات والمعلومات والعلاقات الشخصية ما لا يمكن تمليكه، ولا في أي دورة تدريبية لضباط الاستخبارات في السجون. وبالتالي، نُظر إلى الفصائل بصفتها كنزاً من الخبرة لا يجب إهداره وتبديد إمكاناته الكامنة. فحيث وُجدت العقلانية، وُجدت المساومة التي يمكن من خلالها تغيير شيفرة السلوك الناظمة. فكما حوّلت مساومة أوسلو حركة التحرر الوطني الفلسطيني إلى سلطة، أو سلطتين ربما، وغيرت معها عقيدة الأجهزة الأمنية الفلسطينية وعقيدة النظام السياسي الفلسطيني بمجمله، [أكان] مؤيداً أم معارضاً لهذه الاتفاقية على حدِّ سواء، فإن بيطون عمل، بالاستناد إلى نفس المبدأ وذات العقلانية، على تغيير شيفرة السلوك للأطر الوطنية والاعتقالية في السجون، وبدل محاولة مساومة كل فرد من الأسرى وكل مواطن وتغيير سلوكه، كان يكفي تغيير شيفرة النظام العقلاني الذي ينتمي إليه. أو بكلمات أُخرى، بدل تدريب كل نحلة على حدة لجمع نوع معين من الرحيق، يكفي استبدال حقل الزهور، أو ربما أيضاً ترويض الملكة بصفتها مايسترو السرب.
إن محاولات تفكيك البُنية التنظيمية للحركة الأسيرة، وقد كانت هناك محاولات عديدة في تاريخ السجون، أنتجت عكسها، وخلقت ردة فعل أفشلت هذه المحاولات، واكتشفت إدارة السجون بأن تفكيك عقلانية الفصائل، يعني بالنسبة لها فقدان مفتاح التغيير وأداة السيطرة التي أصبحت أداة سيطرتها الأساسية.
إن الانضباط التنظيمي الداخلي للفصائل، وفقاً للقوانين واللوائح، بقدر ما هو مهم، إلّا إنه يصبح خطيراً عندما يكون الواقع الذي يتم العمل على خدمته هو واقع يسيطر بالكامل على مدخلاته ومخرجاته السجّان. فعندما تجتمع المساومة العقلانية مع القانون الذي أصبح السجّان شريكاً في صياغته، يصبح الفاصل بين الانضباط التنظيمي والخنوع شعرة، لا سيما في ظل غياب ثقافة الحرية التي تغيِّب أيضاً ثقافة النقد. عندها، تكون مخرجات المساومة العقلانية مهما بدت مساومة مشروعة، مسقوفة بسقف مصالح السجان. لقد استطاع نظام السيطرة والمراقبة الجديد، داخل السجون [و]خارجها، أن يجعل السجين والسجّان، المحتل والواقع تحت الاحتلال، يتعاونان معاً في خدمة الواقع نفسه. أو كما عبَّر عن ذلك راؤول هيلبيرغ Raul Hilberg بقوله إن "التفاعل بين الضحية والجلاد هو الكارثة المحتومة"[29] التي تقودنا إليها المساومة العقلانية.
لقد أدركت إسرائيل بأن نظام البانوبتيكون لم يستطع أن يصهر وعي الفلسطينيين وأن ينهي مقاومتهم بالقبول والتسليم بوجود الاحتلال. وما وصفناه أعلاه، هو استخلاص استراتيجي الإدراك، الذي على ضوئه تم تقديم نظام السينوبتيكون - الإغراء والإغواء، ليصبح نظام المراقبة السائد كاستراتيجية في فلسطين دون تغييب البانوبتيكون، أي مع بقاء وجود السجانين وحراسات السجن البشرية والإلكترونية قائمة، ووجود الجيش الإسرائيلي على مداخل المعازل الفلسطينية للقيام بمهامه لضمان استمرار الرقابة الذاتية، حتى إن فشلت يبقى جاهزاً للتدخل.
لقد كان الأسرى، بوعي وبغير وعي، جزءاً من الهندسة الاجتماعية التي استهدفت تفريغ أطرهم الاعتقالية والفصائلية الخاصة من محتواها، وأفعالهم واختياراتهم فرادى وجماعة كانت شرطاً أساسياً للوصول إلى النتائج المرجوة من هذه الهندسة.
إن الاضطهاد يرفع من قيمة عقلانية حماية الذات، ويبخس كل الاعتبارات والقيم الأخلاقية، كما يصف ذلك زيجمونت باومان في كتابه "الحداثة والهولوكوست".[30] ويكتب أيضاً بأنه "كلما غَلَت قيمة الحياة، رخصت الخيانة. فالرغبة العارمة في البقاء على قيد الحياة طغت على كل القيم الأخلاقية بما في ذلك الكرامة، وتربّعت على العرش قيمة حماية الذات."[31]
لكن يبقى السؤال: هل القيادات المهندَسَة في السجون واجهت غلاء في قيمة الحياة فرَخُصَت عندها الخيانة؟! علماً بأن ما نواجهه في السجون هو ظرف غير آدمي، لكنها لم تصل حدّ غلاء قيمة الحياة. ومع ذلك، فإن أصعب صراع هو الحفاظ على آدمية الإنسان في ظروف غير آدمية.[32]
في السجون العادية، أو حالات الاستعمار العادي، هناك سجّان وسجين، وهناك مستعمِر ومستعمَر، ورد الفعل العقلاني الطبيعي هو المقاومة، لكن في السجون الإسرائيلية، وفي ظل السينوبتيكون لم يعد هذا التقسيم بهذه البساطة، ولم يعد واضحاً لا للأسرى، ولا للمواطن الفلسطيني. وأقحم الأسير والمواطن في هذه العملية وهما يهتديان ببوصلة المرحلة التي أصبح عنوانها الرئيسي، هو المساومة. والفصائل، إن كانت معارضة أو موالاة، شكّلت عصبة شوشت رؤية الجماهير للواقع، من خلال اشتراكها الفاعل أو السلبي في ملهى الإغراء والإغواء من أجل الحفاظ على [ما] تبقّى من إنجازات واستقرار، أو الحفاظ على وجودها، أو ربما الحفاظ على لقمة العيش داخل السجون، وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة.
* نُشر هذا النص بإذن خاص من عائلة الأسير وليد دقة، وجميع الحقوق بما فيها الترجمة محفوظة ومحصورة بالعائلة. وقد حرره وطابق نسخ مخطوطاته وتسجيلاته الصوتية عبد الرحيم الشيخ.
المصادر:
[1] وليد دقة، "صهر الوعي أو إعادة تعريف التعذيب" (الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، 2010).
[2] زيجمونت باومان، "الخوف السائل"، ترجمة حجاج أبو جبر (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2017)، ص 25.
[3] في ظل ضيق المكان، فإن المعارك عليه في السجن على علاقة مباشرة بمعارك المكانة. فكلما كانت المكانة في السلم الاجتماعي أو التنظيمي أعلى، اتسعت السيادة الأرضية التي يشغلها الأسير. وإذا كانت الحيوانات تُعَلِّم ببولها سيادتها الأرضية، فإن ممتلكات المكانة، والمكانة ذاتها، هي أشبه بسياج يضربه الأسير حول ذاته نفسياً وأرضياً معلناً حدود سيادته.
[4] زيجمونت باومان، "المراقبة السائلة"، ترجمة حجاج أبو جبر (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر،2019)، ص 84.
[5] المصدر نفسه، ص 83.
[6] المصدر نفسه، ص 72.
[7] المصدر نفسه، ص 83.
[8] المصدر نفسه، ص 70.
[9] المصدر نفسه، ص 72.
[10] المصدر نفسه.
[11] المصدر نفسه، ص 73.
[12] المصدر نفس، ص 83.
[13] المصدر نفسه، ص 45.
[14] "دوبير": وجمعها "دوبريم". وهي كلمة عبرية تعني الناطق باسم، أو ممثل، والمقصود ممثل الأسرى. وقد مر التمثيل الاعتقالي للأسرى الفلسطينيين بصيغ مختلفة. ففي فترة المدّ الوطني أثناء الانتفاضة الأولى، مُثِّل الأسرى بلجنة حوار عن كافة الفصائل التي ترأسها ممثل كان الأول بين متساوين، فهو الذي يدير الحوارات، وينظم اللقاءات مع إدارة السجن، إلّا إن صوته مساوٍ لأي صوت من أصوات أعضاء لجنة الحوار. وقد اعترفت إسرائيل بـ "مؤسسة التمثيل الاعتقالي" للأسرى الفلسطينيين على أثر إضراب الأسرى عن الطعام في العام 1992، وتم إقرارها في لوائح إدارة السجون. وقد خضعت لجنة الحوار وممثل المعتقل داخلياً لقرارات اللجنة الوطنية داخل كل سجن، حيث مثَّلت الأخيرة المراقب والمرجعية لعمل لجنة الحوار وممثل المعتقل. وعملت هذه اللجان وفقاً للوائح ونظام داخلي توافقت عليها الفصائل التي أقرتها داخلياً. هذه الصيغة الوطنية والجماعية للتمثيل الاعتقالي لم تعد قائمة، وما تبقّى من التمثيل هو التسمية، [و]ربما ليس صدفة أن يتناولوه بصيغته العبرية "دوبير". فالـ "دوبير" تقرُّه وتوافق على إشغاله هذا الموقع إدارة السجن، وفي أحسن الأحوال، يتم التوافق عليه بين إدارة السجن، وتحديداً الاستخبارات، وفصيله.
[15] هناك قائمة [....] من الأسرى "المطاردين" الممنوعين من دخول "رامون".
[16] "سِخسوخ": كلمة عبرية تعني النزاع، والمقصود النزاع بين الأسرى أنفسهم. وعندما يُعلن أن ثمة نزاعاً بين أسير وآخر، وغالباً بين الأسير والـ "دوبير"، فإن ضابط الاستخبارات يبلّغ إدارة السجن به، فتوثّقه في حاسوبها. ويُستخدم النزاع لاستبعاد الأسرى عن السجن المعني، فهو واحد من الأدوات - الروافع التي يستبعد بها الـ "دوبير" معارضي النظام والرقابة الذاتية، ويهندس بواسطتها الواقع التنظيمي والاجتماعي بما يتلاءم والنتائج التي يرغب في تحقيقها.
[17] في إطار الرقابة الذاتية يتوصل الـ "دوبير" إلى تفاهمات على علاقة بالتفتيشات التي تجريها إدارة السجون داخل عنابر السجن. فمقابل الاستقرار الأمني الذي يوفره داخل الأقسام، لا تجري ملاحقة أجهزة الاتصال "المهربة".
[18] كلما كانت المراقبة الذاتية ناجزة وفاعلة، يُتاح للسجن (عبر "دوبيره" دوماً) عدد أكبر من أجهزة التواصل "المهربة". والتواصل الجيد في السجون يعني توفير وعدم ملاحقة الأجهزة الذكية (آيفون) التي يمكن للأسير [من خلالها] أن يتواصل مع أهله عبر مكالمة فردية.
[19] تحوَّل سجن عسقلان منذ العام 2011 إلى مركز توقيف للسجناء الجنائيين، باستثناء القسم 3 الذي ما زال مخصصاً للأسرى الفلسطينيين، ويتراوح عدد الأسرى ما بين 30 - 36 أسيراً، منهم أسرى مرضى بأمراض مزمنة، ويُحتجزون في هذا القسم لقربه من المستشفيات، كما يحتوي على أسرى "مطاردين" مبعدين من السجون المركزية، ولهذا يُعتبر قسماً شديد الحراسة.
[20] الـ "شَمُوْر": [كلمة بالعبرية] تعني المحروس. وهو قسم شديد الحراسة والمراقبة، وليس المقصود المراقبة الأمنية الخارجية لمنع الهرب، وإنما المراقبة والمتابعة الأمنية الاستخبارية داخل القسم. ويشكل درجة أخف من درجات العزل الانفرادي، حيث يتواجد الأسير بصحبة أسرى آخرين، ويعيش حياة اجتماعية كاملة.
[21] باومان، "المراقبة السائلة"، مصدر سبق ذكره، ص 49.
[22] المصدر نفسه، ص 58.
[23] أعتقد وفي ظل غياب حركة التحرر الوطني الجامعة، بأنه لا يوجد حركة وطنية أسيرة، ولا يوجد مقاومة فلسطينية، وإنما فصائل مقاومة. والحرب على غزة في العام 2022، التي واجهها الجهاد الإسلامي وحده، دليل على آخر غياب المقاومة بالمعنى الوطني الجامع.
[24] وللموضوعية، لم نفهم معنى وخطورة اللقاءات مع الأكاديميين الإسرائيليين كما نفهمها الآن ونحللها بأثر رجعي، بمَن فيهم كاتب هذه الدراسة، إذ قمت بدور المترجم لبعض القيادات ممّن لا يعرفون اللغة العبرية.
[25] يذكر الأسرى الجدد في تقاريرهم أن ضباط المناطق من المخابرات العامة "الشاباك" لهم صفحة على شبكة التواصل الاجتماعي يكتبون [فيها مثلاً]: "شباب أنا في حاجز حوارة من الساعة كذا إلى الساعة كذا... مستعد لأي خدمة، ولحل أي مشكلة كونوا على تواصل." وهناك العديد من الشباب الذين يتفاعلون معهم، بل يضيفونهم على صفحاتهم.
[26] والمقصود رسائل تتعلق بمصير الجنود الإسرائيليين المحتجزين لدى "حماس"، في محاولة لتخفيض سقف التوقعات لديها.
[27] مطلب الأسرى الرئيسي كان السماح لهم بالتواصل هاتفياً مع أُسَرهم، كي يصبح التواصل حقاً قانونياً لكل أسير، ولا يبقى مرتبطاً بالأجهزة "المهربة" التي تحولت إلى رافعة لبعض الـ "دوبريم" [ممثلي الأسرى]، وأداة ضبط يستخدمونها في إطار المراقبة الذاتية. وتعنُّت إسرائيل وعدم استجابتها للمضربين بشأن هذا المطلب نابع من اعتبارات ليست أمنية موضوعية، بدليل أنها أذعنت بعد الإضراب، ومنحت أسرى "حماس" في قسمين كتجربة، وما زالت التجربة متواصلة. والاعتبارات الحقيقية لعدم منح المضربين عن الطعام هذا المطلب، هي: (1) عدم الخضوع لخطوة جماعية، الأمر الذي قد يعيد إلى الواجهة النضال والخطوات الجماعية. (2) اعتبر الأسرى المضربون [عن الطعام] أن المعركة دائرة بين قيادات الحركة الأسيرة وبين القيادات المهندَسة، أو كما سموها "دكاكين بيطون". (3) اعتبار مروان البرغوثي قائد هذه الخطوة، نبَّه إسرائيل إلى خطورة نجاح الإضراب في تحقيق مطالبه، وولادة نيلسون مانديلا في فلسطين.
[28] حل التنظيم: المقصود حل الهيئات التنظيمية، كخطوة نضالية ضد إدارة السجون. وقد ابتكرت حركة "حماس" هذه الخطوة في السنوات الأخيرة، وذلك كنوع من إعلان حالة الفوضى التي تريد من خلالها أن تقول لإدارة السجون "جُنّ التنظيم"، وتحملوا أنتم نتائج هذه اللاعقلانية. وتنبع قوة هذه الخطوة من أنها أتت بنتائج إيجابية، إذ أعادت إدارة السجون التفاوض مع الأسرى، لأنها تستند إلى العقلانية ذاتها التي تعتمد عليها مديرية السجون في مساوماتها. فهي لا تريد خسارتها كمنظومة أو خبرات قادرة على أن تضبط الأسرى في إطار المراقبة الذاتية. وهذه الخطوة تعيد إنتاج منظومة المساومات العقلانية التي تحكم الطرفين. فالواقع المنظم كان إنجازاً حققته الحركة الأسيرة، بينما حاولت إدارة السجون في الماضي تفكيكه. والآن في حال الإعلان عن خطوة حل التنظيم أصبح شرط إدارة السجون، للعودة إلى طاولة المفاوضات، وقف هذه الخطوة. وهذا دليل على أنها ليست أقل استفادة من الواقع التنظيمي قياساً [بسائر] الفصائل، بل هي المستفيد الأكبر بحكم سيطرتها الكاملة على مدخلات ومخرجات هده المنظومة عبر هندسة الواقع. وتشبه خطوة "حل التنظيم"، بمنطقها الداخلي، التلويح الفلسطيني بحل السلطة، أو وقف التنسيق الأمني. والفارق بينهما أن الأولى أدت إلى عودة السجان إلى طاولة المفاوضات، أمّا الثانية فلم تؤدِّ إلى عودة إسرائيل للمفاوضات السياسية مع السلطة.
[29] زيجمونت باومان، "الحداثة والهولوكوست"، ترجمة حجاج أبو جبر ودينا رمضان (القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر. 2014)، ص 205.
[30] المصدر نفسه، ص 239.
[31] المصدر نفسه، ص 238.
[32] المصدر نفسه، ص 315.