منار حسن تستحضر تاريخاً منسياً بجرأة
التاريخ: 
21/06/2023

كل الثقافات الكبيرة هي وليدة مدن، وقد أدت المدينة تاريخياً دوراً أساسياً في توليد الحداثة. ينطبق هذا التقدير على فلسطين التي شهدت وجود مسار تحضّر مكثف منذ نهاية الحكم العثماني وطوال فترة الانتداب البريطاني، كما تقول منار حسن مؤلفة كتاب "المغيبات: النساء والمدن الفلسطينية حتى سنة 1948".

بحثت منار عن معالم مسارات التحضر، مستخدمة تقنية التقاط الصور، وشذرات الشهادات عن العلاقات الاجتماعية، ومعاينة عشرات الصحف الفلسطينية، والاستعانة بالقطع الأثرية واللوحات والسير الذاتية واللقاءات، وهي بذلك تعتمد مصادر بديلة في ظل اندثار الأرشيفات المنظّمة الذي ساهم في محو تاريخ المجتمع، كما تقول. أمّا هدف الباحثة فهو إعادة بناء فسيفساء المدن المنسية، و"تصحيح التشوه الذي لحق بالمدن وبالنساء" الناجم عن إقصاء الذاكرة الحضرية، وإعادة تقديمها كحلبة نشاط اقتصادي واجتماعي وثقافي نشطت فيها نساء ومنظمات نسوية غُيّبن من الوعي (ص 11).

لقد أفقد المشروع الصهيوني عشر مدن فلسطينية من أصل 11 مدينة صبغتها الفلسطينية، وأخضعها لعملية تفكيك وتهويد. وكان شطب المدن جزءاً لا يتجزأ من عملية تفكيك المجتمع الحضري الفلسطيني، ومحوه من الذاكرة الصهيونية، وتقديمه كمجتمع ريفي بدائي متخلف لم يشهد مسارات تحضر وتمدن. ومضى مشروع الإقصاء الصهيوني في تغييب المجتمع الفلسطيني من المكان -أرض بلا شعب - وإسكات تاريخه لتسهيل عملية الإقصاء والاستحواذ على المكان. وإذا كان المحو الصهيوني لفلسطين وشعبها هو جوهر المشروع الكولونيالي الصهيوني، فإن الباحثة تثير قضية إشكالية من الوزن الثقيل عنوانها تغييب المدينة الفلسطينية من الذاكرة الجمعية الفلسطينية في الفكر والخطاب الرسمي الفلسطيني، متهمة م. ت. ف بتغييب المدن من الذاكرة الفلسطينية الجمعية لمصلحة وعي ريفي يعزز مكانة القرية الرمزية كمركز للوجود الفلسطيني ما بعد النكبة. وتتشارك نخب ثقافية وفنية وأكاديمية في عملية التغييب، كما تقول الباحثة، بادئة بلوحة الربيع لإسماعيل شموط التي "خلدت فلسطين قبل النكبة كقرية فلسطينية"، وقد واصل شموط تذكر فلسطين كقرية، مروراً بالمشروع البحثي الذي أنجزته جامعة بيرزيت عن التاريخ الاجتماعي للقرى المدمرة، كذلك كتاب وليد الخالدي "كي لا ننسى" عن القرى التي كانت موجودة ثم غابت. وتخلص منار إلى أن معظم المدونة التاريخية الفلسطينية تركز على الأرض والالتصاق بها، وعلى القرية الأصلانية، في الوقت الذي جرى تجاهل التطورات الحضرية المدينية.

تطرح الباحثة سؤالاً: ماذا يعني وجود الحضرية الفلسطينية، وماذا يعني غيابها؟  لتعرض في ردها عناصر تشكل تلك الحضرية فتقول: كانت نسبة سكان المدن سنة 1922 نحو 27.4% وارتفعت سنة 1946 لتبلغ 36.1%. وتقول في مكان آخر: بلغت نسبة سكان المدن بين 35% إلى 40%، في إشارة إلى عملية تحول المجتمع الفلسطيني الذي كان عشية النكبة في ذروة مسار التحضر، وشهد اتساعاً ملحوظاً في حيزه الحضري العام. حينذاك تحولت المدينة إلى مركز اقتصادي وثقافي وسياسي وإعلامي للقرى المحيطة، فشكلت مدن الساحل مركزاً لجذب الفلاحين الباحثين عن عمل والآتين من 300 قرية (ص 13). وتمضي منار في تقديم الأدلة فتقول إنه نشأت في المدن أحزاب سياسية، ومؤسسات، وصحف، ومحطات إذاعية، ومسارح، ودور سينما، ومكتبات عامة، ونقابات مهنية، ونواد، ومقاه، كما نشأت طبقة وسطى، ونخبة فكرية اجتماعية وطنية في موقع المعارض للقيادة التقليدية. واشتد ساعد الحركة الوطنية، ونشطت النقابات العمالية، والحركات النسوية، وبفعل انتشار التعليم وسط النساء، وتطور المدن والأحياز العامة، تأسست مئات الجمعيات والنوادي والمنظمات الحضرية والاجتماعية، وهي مؤسسات كان بعضها مختلطاً، وبعضها الآخر مقتصراً على النساء (ص 107). وكان للنساء حضور في حيّزَي الترفيه والثقافة، ودور مميز في ازدهار مهنتي الخياطة والتصميم، وفي الغناء والعزف والرقص فيما يسمى "الجناكي".

وفي مسار التحضر الذي شهدته فلسطين، وتم عرضه بإسهاب تفصيلي، تولي منار حسن اهتماماً ملحوظاً بظاهرتين: الأولى، ظاهرة التحول الذي طرأ على واقع المرأة؛ فترى أن المدينة أدت دوراً مركزياً في تطور النسوية كظاهرة معاصرة، وفي التغييرات التي طرأت على العلاقات الجندرية القديمة في أرجاء العالم، حيث انتصرت المدينة على القرية في حقبة الحداثة، ورفعت النساء راية التغيير في كثير من المدن حول العالم. وفي فلسطين شرعت أسمى طوبى وماري شحادة وفكرية صدقي وأخريات من مختلف المدن في المطالبة بحق المشاركة في الحياة السياسية، وفي حقهن في التعليم (ص 26). وكان للنساء حضور في الحيز السياسي الوطني المناهض للكولونيالية والمشروع الصهيوني عبر المشاركة في الاحتجاجات والعمل السياسي، وفي المقاومة العسكرية – جمعية زهرة الاقحوان العسكرية النسوية - وعبر منظمات نسائية عمالية، ونقابات مهنية. وأدى الحضور النسوي عبر الحركات النسوية إلى تحولات جندرية رفعت من شأن النساء في الحيز العام، وفي سوق العمل، وسُجّل حضور النساء في فضاءات ترفيه حضرية - جمعيات، ونواد رياضية وثقافية، وحدائق عامة، ومقاه، ومطاعم، وشواطئ سباحة، وكازينو، ومسرح، وسينما، ومهرجانات شعبية مثل "موسم النبي روبين". وأدى حضور النساء في حقلي الثقافة والاقتصاد، وحضورهن في المؤسسات التربوية كمعلمات وطالبات، وحضورهن في الحركات الكشفية، إلى "تفكك" العائلة الموسعة. قد نكون أمام مبالغة هنا، ويمكن القول إنه حدث تراجع في العائلة الموسعة لدى الأنتليجنسيا المدينية، في الوقت الذي بقي مركز العائلة الموسعة في القرية على حاله، وربما اقتصر التراجع على أوساط البورجوازية، وبمستوى أقل لدى الطبقة الوسطى. وتتحدث الكاتبة أيضاً عن ترهل في تأثير البطريركية التقليدية، وربما حدث ذلك في إطار بعض النخب المنفتحة على الحداثة. يجدر القول إن تلك الفترة شهدت صعود نساء تركن بصمات في الحياة الاجتماعية، أمثال القائدة العمالية سلطانة حبيب، والفنانة زلفى السعدي، والصحافية ساذج نصار، والفنانة صوفي حلبي، وألكسندرا جنحو – أول فلسطينية تتخرج من كلية الطب في الجامعة الأميركية في بيروت.

والظاهرة الثانية هي دور الصحافة التي شكلت ظاهرة حضرية في جوهرها، إذ ساهمت في تطور المجتمع المدني، والفكر الاجتماعي. فقد جرى اعتبار سنة 1908 سنة ولادة الصحافة الفلسطينية، إذ تأسست في هذه السنة 15 جريدة، وصدر حتى نهاية الفترة العثمانية 39 جريدة (ص 47). وبلغ عدد الجرائد منذ بداية الانتداب حتى سنة 1929 نحو 52 جريدة، أهمها: "فلسطين"، و"الكرمل"، و"الدفاع"، و"الصراط المستقيم"، و"مرآة الشرق"، وعربياً: "المقطم" المصرية، و"صوت المرأة"، و"المعرض" اللبنانية التي استضافت نسويات فلسطينيات عرضن قضايا المرأة، ونقلن النقاش إلى صحيفة "فلسطين". وكانت الصحافة أداةً مهمة ومركزية في مسارات الوعي الجماهيري والتسييس التي طرأت على المسألة الجندرية ومكانة المرأة؛ فقد حلت ساذج نصار مكان نجيب نصار في تحرير جريدة "الكرمل" في الفترة 1941 -1944. ونشرت الصحافة تقارير متسلسلة عن وضع النساء، وعن التغييرات التي طرأت على مكانتهن، وشرعت نساء في الكتابة عن المسألة الجندرية، مثل فكرية صدقي التي كتبت في جريدة "المقطم" المصرية عن تحرر النساء والمساواة وقوانين الأسرة، ودعت فدوى ففيادس إلى تعليم النساء مستندة إلى مفكرين مثل جان جاك روسو وشيللر. يذكر أن هيئة تحرير جريدة "فلسطين" عارضت هيمنة المؤسسة الدينية، ودعت إلى فصل الدين عن الدولة.  

بعد النكبة تعرضت عشر مدن فلسطينية من أصل 11 مدينة لتطهير عرقي صهيوني، وفقدت صبغتها الفلسطينية، وغُيبت وظائفها في توليد حياة حضرية، وجرى تخريب الكينونة الحضرية من خلال عملية التفكيك والإقصاء والمحو من الواقع والذاكرة الصهيونيين، في الوقت الذي جرى تدمير مئات القرى. وأثرت عملية التطهير العرقي في عدد كبير من السكان ممن دخلوا في مسارات تحضر، وقطعت الطريق على التحولات الاجتماعية، وتحديداً على وضع النساء والعلاقات الجندرية.

مع القضاء على المدن، في الواقع، ومع اختفاء المدينة من الذاكرة الجمعية، اختفت كل مظاهر الحضرية، كالحركة النسوية، والمنظمات السياسية، والنوادي الثقافية، والجمعيات، وحضور النساء. فقد قضى الدمار المادي على الحياة الحضرية، وخرجت الذاكرة إلى المنفى واختفت، مخلفة وراءها مجتمعاً بلا مدينة، مصاباً بفقدان الذاكرة. وبدأ المجتمع الفلسطيني، في نطاق دولة إسرائيل، يعيش مسارات مناهضة للتحرر، ويمر بتغيرات اجتماعية كبيرة، وكان التراجع الأهم هو الذي طرأ على مكانة النساء، وعلى العلاقات الجندرية، أمّا التطور الديموغرافي اللاحق في المجتمع الفلسطيني داخل إسرائيل فكان بمعزل عن تحولات حضرية وحيزية حقيقية، إذ تحولت بعض البلدات إلى مدن بسبب ازدياد عدد سكانها مع أنها ليست مدناً. غير أن الباحثة تتحدث عن نمو طبقات وشرائح حضرية ضمن مسار مركب على هامش المدن اليهودية، إلى جانب تطور موتيفات حضرية في النسيج الفلسطيني الريفي، وترى أن ذلك يعبر عن نشوء مفترق ثالث على محور التحضر (ص 245)، وهذا يفسر ظهور النسوية الفلسطينية المتجددة – الفنار سنة 1991 في حيفا - بعد عقود من الغياب. في المحصلة تحضّر حضريون من دون مدينة، ونمت مركبات جديدة تفسر ظهور النسوية المتجددة الفلسطينية في إسرائيل بعد عقود من الغياب. ومع اختفاء المجتمع الفلسطيني الباقي في إسرائيل من الحيز المادي الملموس، ومن النسيج المجتمعي، اختفت المدينة من الذاكرة الجمعية، مخلفة وراءها مجتمعاً بلا مدينة. وتتوقف الباحثة عند التحولات الجديدة في المجتمع الفلسطيني، وخصوصاً في مكانة النساء والعلاقات الجندرية في أوساط الحضريين الذين يعيشون على هامش المدن المختلطة، وتعترض على عزو هذه التحولات إلى تأثير المجتمع الإسرائيلي، وإلى زخم التحديث الذي انتجهن، واعتبار أن هذا التطور أكبر وأهم من التطورات في البلدان العربية، كما ترى أن الأخذ بهذا التفسير "الخرافة" ما هو إلاّ إعادة صوغ الذاكرة الفلسطينية تحت شروط الهيمنة الإسرائيلية. وتقول إن تحطيم هذه الخرافة وغيرها لا يتأتى من دون فهم معمق للتاريخ الحضري في فلسطين الانتدابية ومكانة المرأة فيه، وهذا ما سعت لفعله في هذا الكتاب (ص 248).

وتخلص الكاتبة إلى أن حفظ الذاكرة الجمعية وصيانتها منوط، أولاً وأخيراً، بمواصلة وجود المدينة المادي الملموس، وبعلاقة متواصلة بينها وبين مواطنيها، وتتحدث عن إمكان عودة "المقصي الحضري" إلى التاريخ والذاكرة عبر نشر مواد نصية وبصرية وأعمال فنية عن المدن التي كانت في فلسطين (ص 247).

يبقى الإشارة إلى مسألة مغيبة في بحث منار، وهي أن الباحثة لا توضح أن مسار التحضر اقترن ببداية التطور الرأسمالي في فلسطين، وتغلغل علاقات اجتماعية وثقافية رأسمالية على حساب علاقات النظام شبه الإقطاعي – كبار ملاّك – وعلاقات ما قبل رأسمالية. لقد كانت الكفة بميزان القوى الداخلية راجحة لمصلحة تشكيلة اقتصادية اجتماعية مركزها كبار الملاّك، وسادت فيها علاقات ما قبل رأسمالية - العائلية والدينية والأبوية الذكورية. ويعود ضعف التطور الرأسمالي الفلسطيني إلى أن وعد بلفور وقرار الانتداب الصادر عن عصبة الأمم المتحدة يتحدثان عن إقامة مشروع وطن قومي لليهود في فلسطين، ويتجاهلان حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. هذا الموقف كان ناظماً لسياسة سلطات الانتداب التي قمعت الحركة الوطنية الفلسطينية طوال الوقت، وفتحت كل الأبواب أمام الهجرة اليهودية، وسلب الأرض الفلسطينية، وبناء المؤسسات، وخصوصاً المؤسسة الأمنية، وبناء رأسمالي يستند إلى العمل العبري. إن الكبح المنهجي الاستعماري البريطاني الصهيوني لتطور المجتمع الفلسطيني، ولنمو رأسمالية وطنية، يفسر الخلل المتمثل في الضعف الشديد للأساس المادي - البنية التحتية - لمسارات التحضر، وهذا كان جذر الانهيار اللاحق من وجهة نظري. ولاحقاً كان لاندماج شظايا البورجوازية الفلسطينية، الضعيفة أصلاً، في المحيط العربي والخارج، وانفصالها عن هويتها الوطنية ومشروعها، دور في اختفاء المدينة من الذاكرة الجمعية، في الوقت الذي حافظ مثقفون وفنانون وأكاديميون على التحضر الذي بدأ ولم يكتمل، أمثال غسان كنفاني، وسميرة عزام، وإدوارد سعيد، وسليم سحاب، وإبراهيم أبو اللغد، وجبرا إبراهيم جبرا، وتمام الأكحل، وغيرهم. وحضرت المدن الفلسطينية ضمن "سلسلة المدن الفلسطينية" الصادرة عن دائرة الثقافة في منظمة التحرير، و"موسوعة المدن"، و"الموسوعة الفلسطينية"، و"بلادنا فلسطين"، وفي سلسلة من إصدار مؤسسة الدراسات الفلسطينية، لكن هذه الموسوعات لم تتوقف عند مسارات التحضر كما فعلت منار حسن، وهذا يفسر أهمية الإضافة التي قدمتها الباحثة في كتابها القيّم "المغيبات: النساء والمدن الفلسطينية حتى سنة 1948".

عن المؤلف: 

مهند عبد الحميد: كاتب وصحافي فلسطيني، رام الله.