هل ارتحت الآن يا صديقي؟
التاريخ: 
17/05/2021
المؤلف: 

رفيق العمر والعمل والذكريات: وضع نقطة قبل آخر السطر ومضى. صار ماضياً بعد أن أمضى أعواماً مقيماً بالحاضر (خبزنا كفاف يومنا). أما المستقبل فقد غادره منذ أن صار يصرّف الحياة يوماً بيوم، وشهراً بشهر، لأن الشهر مرتبط بهذا المبلغ الذي يكاد يلبي الحاجات الأساسية واسمه "راتب آخر الشهر".

عاش أحمد مهموماً ومات مهموماً..

عاش فقيراً ومات فقيراً..

كان صلباً لا يُكسَر في النزاهة ونظافة الكف. كان الهمّ الفلسطيني، أولاً وأخيراً، ليلاً ونهاراً، يشغله باحثاً في النهار ويؤرقه ليلاً مفكراً ومقلّباً أمور القضية، ومديراً حواراً قلقاً مع نفسه. فقد كان محاوراً محترفاً لا يثنيه عن محاورة الآخر والذات سوى الأبواب الموصدة والآفاق المسدودة، يرتطم بها فيرتد إلى البدايات في محاولات جديدة يائسة - غالباً.

منذ انضمامه إلى مؤسسة الدراسات الفلسطينية (1973) وبعد أن "بلونا" – أحدنا الآخر- نقاشاً في كل الاتجاهات ومزاجاً ونوع حياة، ومن خلال العمل المشترك: في النشرة (نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية: 1971-1988)، إذ كان مستشاراً لي ولفريق العمل، ثم في المجلة عند تأسيسها أوائل 1990 (وقبلها في أعداد الصفر) وتولّى مهمة مدير التحرير، إذ صرت مستشاراً له. وعلى الرغم من أن العمل الإداري كان يشغل معظم وقتي، كان أحمد يقتحم مشاغلي ويفرض علي أن أراجع الدراسات والمقالات وأبدي الرأي في صلاحيتها للنشر، فقد كان أحمد يكره، أكثر ما يكره، التفرد في أخذ القرار. وباستثناء الاجتماعات الدورية لهيئة التحرير بكامل أعضائها، كان طبيعياً أن أشكّل وأحمد (هو المقيم بالطابق السابع من مبنى المؤسسة وأنا المقيم بالطابق الثامن. أما رئيس التحرير الآخر أحمد الخالدي فكان مقيماً بلندن). هيئة تحرير يومية نناقش معاً كل شؤون المجلة، شكلاً ومضموناً واستكتاباً ومراجعة للمادة الغزيرة التي كانت ترِد إلى المجلة، بالإضافة إلى الاستكتاب المحدود. ولم يقتصر التشارك بيننا على شؤون المؤسسة ومجالات نشاطها المختلفة، بل امتد إلى الشؤون الخاصة لكل منا، بما في ذلك الشؤون العائلية وهمومها.

كان أحمد عضواً رئيسياً في أعمال المؤسسة، فإضافةً إلى النشرة والمجلة، كان عضواً في لجنة الأبحاث، والمترجم الرئيسي في سلسلة: أمهات المصادر الصهيونية، وكان على رأس نشرة "مختارات من الصحف العبرية" التي أسسناها في حرب إسرائيل على لبنان سنة 2006، فكان يختار موضوعاتها ويراجع المادة التي يترجمها فريق العمل في النشرة من المصادر العبرية غالباً، ومن الإنكليزية أحياناً، وسلسلة كتب "قضايا استراتيجية: وجهات نظر إسرائيلية" التي تترجم وتنشر أهم ما يصدر في الدوريات ومراكز الأبحاث الإسرائيلية في شؤون إسرائيل والصراع العربي الفلسطيني/الإسرائيلي، وسلسلة "دليل إسرائيل العام".

كان أحمد أميناً ودقيقاً في الترجمة والمراجعة، ومسؤولاً حتى أعلى درجات المسؤولية. ولذلك كان مقِلاً في مجالات البحث (باستثناء الكتابة الصحافية)، فلا يرغب في الكتابة/التأليف ولا يقدم عليها، إلا إذا أحاط بمختلف جوانب الموضوع المعالَج وعاد إلى ما يشبع "جشعه البحثي" من مراجع البحث ومصادره.

واشتركنا معاً في سلسلة حوارات نُشرت في المجلة عن "مأزق القضية الفلسطينية"، وأذكر من بين الذين حاورناهم أبو علي مصطفى وشفيق الحوت، وغيرهما.

وهكذا شكّلتُ وأحمد لعقود وجهين لعملة واحدة، ولم نختلف خلافاً فارقاً وبيّناً في الرأي سوى مرة واحدة: كان أحمد لا يشرك في القضية الفلسطينية أية قضية أُخرى وأي أمر آخر، وظل مؤيداً لحزب الله وذراعه العسكرية-المقاومة الإسلامية، لأنها حققت في الصراع مع إسرائيل ما لم يحققه العرب وجيوشهم ومقاومتهم على مر السنين. وكنت، بالمقابل، افترقت في موقفي من حزب الله، عندما شاركت قواته إلى جانب بشار الأسد في الحرب العالمية ضد الشعب السوري وحركته الوطنية، إذ تكشّف لي أن الحزب لم يشكل في حقيقة موقفه – رافعة للقضية العربية في صراعها مع الفاسدين والمستبدين من الحكام العرب، بل كان جزءاً من مشروع إيران الإمبراطوري الفارسي على حساب قضية الشعوب العربية وحقها في نضالها من أجل إصلاح مجتمعاتها وأنظمة الحكم فيها.

واليوم، هل ارتحت يا صديقي، بعد أن تركت هموم الأرض لمن يعيشون فوقها، واحتضنت ترابها إلى الأبد؟

السلام والطمأنينة لروحك ونفسك حيث أنت.

عن المؤلف: 

محمود سويد: المستشار العام لمؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت، عمل في حقلي المحاماة والصحافة، وله العديد من المقالات والدراسات والمحاضرات والكتب في الشأن اللبناني / الفلسطيني / العربي.