رسالة وزنزانة وعذابات الفراق
التاريخ: 
31/03/2021
ملف خاص: 

رسالة

أية علاقة هي تلك التي لم أتوقعها لأغدو فيهاعاشقاً للرسالة، وكيف أصبحت أمضي الوقت منتظراً وصول قطعة من الحياة عبر صندوق البريد؟ أية صدفة غريبة هي تلك التي جمعت الحب والشوق على ورق الحرية، ولا أدري كيف حدث ذلك ولماذا. سأعود إلى ذلك الطفل الذي كنته ذات يوم، طفل صغير تغمره السعادة والفرح وهو ينتظر هدية العيد، بينما أصبحت انتظر هدية يحملها البريد وربما يوصلها إليّ السجان، وقد يعبث بها وهو يراقبها ويحدد وجهتها إليّ أنا الأسير أم إلى ضابط الاستخبارات لحجزها. حين تصلني الرسالة أتحسس أطرافها كما يلامس الطفل جناحيْ فراشة ، أفتحها برفق وأقرأ الكلمات بتروٍّ وهدوء كنغمات الموسيقى، وأواصل البحث بين المعاني عن ملامح ذلك الوجه الملائكي الجميل، كلمات عذبة تروي ظمأ الروح المشتاقة. يا لها من حياة حين يصبح متنفسّنا في انتظار وصول الرسالة ليتدفق الشوق ويبدأ الانتظار من جديد حتى قبل أن تنتهي كلماتها  العذبة التي تشبه قطعة سكر بين شفتيْ طفلة. تحولت المراسلة إلى جسور مشيّدة بالانتظار، انتظار الحياة داخل مقابر الأحياء، أصبحت الرسائل نبع حياة نحتاج إلى الارتواء منه دوماً، وننتظر وصولها بلهفة. كما تحولت الرسائل إلى طفل يكبر فيك ومعك و يكبر به الأمل بغدٍ أفضل، وإلّا فلن يكون للحياة معنى وقيمة في ذلك المكان الكئيب. إنها فسحة أمل نعيش فيها الفرحة التي تنسينا، ولو إلى حين، كآبة المكان، ونحن نفكك أبجديات الكلمات والروح التي تسكنها.

 الحرية قرار

الحرية هي الأساس في تشكيل عملية الوعي لأفكارنا وهي أداة إنتاج لقراراتنا الصائبة التي تحدد لنا هوية انتمائنا ونكون فاعلين ومناضلين بتحقيق أهدافها حتى وإن سلبوها منا موقتاً مهما طال السجن.

الحرية هي حجر الأساس للإبداع والتفكير الخلّاق الحافل بالتناقضات في الحياة، الحرية هي فكرة أصيلة لا تقبل الانقسام والتجزئة حتى في الزنزانة الصغيرة والمكتظة، وهي الفعل الخلّاق الذي يحسم التناقضات التي إذا ما أبدعنا تضيّع الحدود ما بين اليأس والأمل. وهي الحلم بأن تناضل وتكافح لتصبح حراً، وقبل ذلك كله أن تخلق عالم صمودك بين جدران الأسر. في السجن تفقد القدرة على اتخاذ القرار في الكثير من المناحي، ويكون الخيار إمّا أن تقبل الخنوع والاستسلام وعندها تفقد روحك، وإمّا تتمسك بامتلاكك القدرة على اتخاذ قرار أن تكون حراً فاعلاً أينما كنت حتى حين يعبث السجان بحريتك وحرية زملائك. الموت وأنت حر أفضل من العيش وأنت عبد. وتدخل الى زنزانتي كلمات الأنشودة "إن عشتَ فعش حراً أو مُتْ كالأشجار وقوفاً."

 رسالة للإبنة رنا التي افتقدناها طفلة واليوم تبلغ العشرين دمعة

 تجري كل هذه الأحداث وأنا في السجن، ومن حماقة القدر إجبار طفلة على الرحيل وهي في عيد ميلادها الخامس، والأكثر ألماً هو ماذا يمكنني أن أفعل في مثل هذا اليوم وأنا مكبّل الجسد والروح وتحيط بي الجدران القاهرة. أحاول أن أبتسم كي نحتفل معاً بعيد ميلادك العشرين غير عابئين بالموت الذي كان، أتعامل مع العيد كأنه حقيقة، وكأنني لستُ في الأسر ولا أنتِ في الغياب. أسعى لذلك، لكن طقوس الحزن انتصرت، رغم حضوركِ الباقي روحاً.

 طفلتي الغالية أقول لكِ إن الحزن ليس مجرد لحظات أعيشها وذكريات تمر علينا مر السحاب، الحزن فلسفة عميقة لها آثارها وتراكماتها على الروح كما الحب والوفاء، ما يزيد ألمي وحزني وخوفي ألّا أكون جديراً بوفائي بمعاناتي التي أصابتني ولم تفارقني إلى آخر سويعات العمر، نعم يا طفلتي ألاّ أكون جديراً بوفائي لكِ ولأختك الحلوة التي تسكن إلى جوارك في السماء، ولكن يا صغيرتي أعلمك بأننا نكون معاً في معظم الأحيان، إلى أن بلغتُ حالة من الهذيان لا يمكن التمييز فيها ما بين الحزن والمرح المتخيّل، وبين الموت والحياة.

 أقول لكِ أنه يكفيني أن نكون معاً وسوياً في مخيّلات أحاديث المساء، نتناول في وجداني أطراف الحديث عن الحياة والدراسة، وأتخيلكِ تكبرين، لتحدثيني عن الفرق الكبير بين التعليم في المدرسة والدراسة في الجامعة. أكاد أصدق نفسي أنني أسمعكِ والسعادة تغمرني بقدرتكِ على سرد أصغر التفصيلات، تفصيلات المحاضرات، وعن الصديقات والاختلاف بينكن بشأن الآراء السياسية، وتقاليد المجتمع، والانفتاح، والقيم، والحفاظ على الإرث الأخلاقي الذي ربّتكِ عليه أمكِ الطيبة، وأعلمكِ يا صغيرتي بأنني ما زلت أحدثكِ كل يوم وأوصيكِ بأن تكوني فتاة جميلة خلوقة تحافظين على قيم أسرتكِ، وعلى حسن أخلاقك وحسن علاقتكِ بصديقات الطفولة. طفلتي الجميلة، لقد دار بيننا حديث طويل وأعجبني حين تحدثتِ بطريقة فلسفية عالية وتحاولين إقناعي بقبول الرحيل والغياب على الرغم من آلامه، وكيف نستطيع أن نعيش الحاضر ونحن مبتسمين ويغمرنا الأمل رغم عثراته، وأصررت أن نشعل دائماً شمعة في ذاك الركن الأكثر ظلمة، ظلمة حالكة أصابتنا جرّاء هول رحيلكِ، أنا حيث أنا وأمكِ من الجانب الآخر للجدار.

 أفتقدتكِ دائماً في فرحي وحزني وشدائدي، وأبحث عنكِ في صور وجوه الأطفال، قد تكونين هناك أو هنا ولذلك لا يهمني الوقت والزمن أو العمر، لا يهمني شروق الشمس وغروبها، فأنا يا طفلتي قد نسيت الزمن والتاريخ ونسيت نفسي ومَن هم حولي ولم أنسَكِ. نسيت الكل وأنا أحدثكِ وأرسم لكِ أجمل الطلات البهية، فأنت أجمل من فرحة العيد، وأصدَق من الحقيقة، وأسمى من الحياة التي فقدت معانيها وبهائها برحيلك يا نجمة سمائي، وأقسم لكِ بأنكِ ستبقين نبض القلب والأمل والفرحة الجميلة في قلوبنا، فقد أتيتِ إلى هذه الدنيا وأنت تبتسمين ورحلتِ وأنت مبتسمة. يا لكِ من طفلة عظيمة جريئة واجهتِ قدركِ لوحدك فيا ليتني كنت إلى جانبكِ، كنت استطعت أن أضمكِ إلى صدري وأتقاسم معكِ عمري، وأقسم لكِ بأنني أعطيكِ كل عمري ونبضات قلبي. لكن حتى وإن رحلتِ فأنت تسكنين القلب والروح وتكبرين هناك كل يوم لأنك تعيشين معنا وفينا فأنتِ مبعث الروح والحياة والأمل. أفتقدكِ كثيراً وسأبقى أحبكِ، وغداً سأحبكِ أكثر ...

 رسالة إلى أبي الحاضر في الرحيل

 أبي، بعد رحيلك أشعر بالوحدة الموجعة القاسية، وفي ظلال الوحدة أنت أجمل نور في قلبي وفي السماء، وإخوتي أجمل النجمات. ألم الرحيل والفراق يرشق القلوب الداعية لك بسهام الوحدة والقهر. منذ رحيلك والألباب تعانقها الكآبة والقروح، والقلب تنزف كُلومه من شدة القنوط ....

لا يمر يوم وليلة إلّا وفاض لك الوجد والحنين، وعلى مدى الأيام والليالي والقلوب تنوح عليك وتبوح لك بأمانيها وأسرارها، سنبكيك ونندبك ونرثيك وتكرمنا أنت بأن نغسل قبرك بدموع قلوبنا، وهكذا تمر الأيام والليالي منذ رحيلك.

ابنك المشتاق رائد

عن المؤلف: 

رائد الشافعي: من طولكرم، اعتُقل في 28/7/2003 وأصدرت محكمة الاحتلال بحقه حكماً بالسجن المؤبد. فقد ابنتيه الطفلتين دينا ورنا في حادثيْ سير منفردين وهو في السجن، وفقد والده الحاج "أبو الرائد"، ولم يُسمح له حتى بإلقاء نظرة الوداع على أيّ منهم.