عن العلمانية الفرنسية
النص الكامل: 

من المعروف أن فرنسا، خلافاً للدول الأوروبية الأُخرى، وخصوصاً الدول ذات التراث البروتستانتي، تفصل الدين عن الدولة فصلاً تاماً - مع بعض الاستثناءات الطفيفة كالعطل الرسمية في الأعياد الدينية المسيحية - وتتميز منها كلها بأن دستورها المعمول به (دستور 1958)، مثله مثل دستور 1946، ينصّ على أنها جمهورية علمانية. والسبب في هذا الإصرار على مبدأ العلمانية هو موقف الكنيسة الكاثوليكية المعادي للنظام الجمهوري وللديمقراطية على السواء، طوال القرن التاسع عشر، واستغلالها الظروف المواتية لتجاوز تعاقدها مع نابليون بونابارت في سنة 1801، والذي اعترف فيه بالكاثوليكية "ديناً لأغلبية الفرنسيين" (وليس ديناً للدولة الفرنسية).

أعاد نابليون إلى الكنيسة، وفقاً لهذا التعاقد، بعض امتيازاتها القديمة التي فقدتها في الأعوام الأولى للثورة، إلّا إنه سرعان ما أصدر في سنة 1804 قانوناً مدنياً سعى محرّروه لتنظيم الأحوال الشخصية والعقود والالتزامات على أسس دنيوية محضة، وانتزعوا سجل الأحوال الشخصية من الكنيسة، ووضعوه بعهدة البلديات، وأجازوا الطلاق - وإن بشروط قاسية. وأدت التحولات اللاحقة في أنظمة الحكم إلى ترسيخ الاعتقاد، حتى في بعض الأوساط المنحازة إلى الملكية الدستورية المحافظة، بأن التداخل بين الدين والسياسة يسيء إليهما معاً.

كان آباء الجمهورية الثالثة (1870 - 1940) المؤسسون، وعلى رأسهم جول فيري، رائد الإصلاح التربوي العلماني، من أنصار فلسفة أوغست كونت الوضعية بشعارَيها "النظام والتقدم"، وكانوا يؤمنون بتأسيس الأخلاق على قواعد مستقلة عن الإيمان الديني، فعملوا بحكمة وتروّ على تقليص هيمنة الكنيسة الكاثوليكية بتدابير جزئية، منها مثلاً السماح بالعمل في أيام الآحاد (1880)، والعدول عن القَسَم الديني في المحاكم (1881)، وتحليل الطلاق، وإلغاء الصلوات في بداية الجلسات النيابية (1884). وكان أهم هذه التدابير على الإطلاق وأعمقها أثراً ما تعلق منها بالتعليم الابتدائي، إذ جعلوه إلزامياً ومجانياً، وفرضوا في المدارس الحكومية تدريس مادة التربية المدنية بدلاً من التربية الدينية (1882).

توالت بعد ذلك مشاريع القوانين الساعية لتحجيم المؤسسات الكاثوليكية ومصادرة الأوقاف الدينية ومنع الكهنة من التعليم، واحتدم الصراع مع البابا حتى إن المجلس النيابي أقرّ في سنة 1904 قطع العلاقات الدبلوماسية مع الفاتيكان. وفي غضون ذلك انقسم العلمانيون أنفسهم بين تيارَين أحدهما أقل تزمتاً في علمانيته من الثاني، حرصاً منه على السلم الأهلي في البلد، وهو الذي انتصر في آخر المطاف بإقرار قانون الفصل بين الكنائس والدولة في 9 كانون الأول / ديسمبر 1905.

نظّم هذا القانون العلاقة بين الطرفين على أسس واضحة وحصيفة إلى حد بعيد، ولا علاقة لها بالأوهام السائدة في كثير من الأوساط الفرنسية وغير الفرنسية، العلمانية وغير العلمانية، وما زال هو المرجع الأول في المناقشات عمّا يحقّ ولا يحقّ للدولة من جهة، وللمؤسسات الدينية من جهة ثانية، وذلك انطلاقاً ممّا ورد في مادتَيه الأولى والثانية. فقد جاء في الأولى: "تكفل الجمهورية حرية الضمير، وتضمن حرية ممارسة الشعائر الدينية"، بينما تؤكد الثانية مبدأ حياد الدولة إزاء جميع الأديان، فهي "لا تعترف بأي دين"، ولا تموّل أي دين، ولا تسدد أجوراً لرجال الدين. ويحدد القانون في المواد التالية مآل الأملاك والمباني الدينية، ثم قواعد تنظيم الجمعيات الأهلية المخولة إقامة الشعائر الدينية، وأبرزها استقلال هذه الجمعيات، أي منع الدولة من التدخل في شؤونها الداخلية (المادة الرابعة). وثمة مواد واضحة في شأن حقوق المتدينين وواجباتهم، إذ يعاقب القانون الذين يعرقلون إقامة الشعائر الدينية (المادة 32)، لكن تُمنع الاجتماعات السياسية في المباني الدينية (المادة 26)، كما تُمنع الرموز الدينية في المباني الرسمية وفي جميع المؤسسات العامة باستثناء الأماكن المخصصة للعبادة والمدافن والأضرحة والمتاحف والمعارض (المادة 28). ويعاقب القانون المسؤولين عن إقامة الشعائر الدينية إذا أساؤوا في خطبهم أو قراءاتهم أو ملصقاتهم أو المنشورات التي يوزعونها في الأماكن المخصصة للعبادة إلى أي مواطن يمارس وظيفة رسمية (المادة 34)، كما يعاقب أي مسؤول عن إقامة الشعائر الدينية إذا دعا في أماكن العبادة إلى التمرد على القوانين، أو ألّب بعض المواطنين على مواطنين آخرين (المادة 35).

وعلى الرغم من التوتر الذي ساد العلاقات بين الكنيسة الكاثوليكية والدولة جرّاء هذا القانون، على الأقل حتى الحرب العالمية الأولى، فإن الأمر انتهى بانصياعها إلى أحكامه، وعادت العلاقات الدبلوماسية بين فرنسا والفاتيكان إلى سابق عهدها (1926). ولم يطرأ أي تعديل مهم على نص القانون، ولم يتوقف العمل به حتى في أيام حكومة فيشي الموالية للاحتلال النازي، باستثناء قرارها دعم المدارس الكاثوليكية، وتأكيد مبدأ علمانية الجمهورية الفرنسية، مثلما ذكرنا آنفاً، في المادة الأولى من دستور 1946 الذي صدر بعد التحرير. ولعل قضية دعم المدارس الخاصة مالياً، ما دامت تدرّس المناهج الرسمية بحذافيرها، كان موضوع الخلاف الوحيد فيما بعد بين الدولة والكنيسة، وبين المتمسكين باحتكار الدولة للتعليم وأنصار التعليم الخاص، وقد احتدم هذا الخلاف في سنة 1959، ثم بين سنتَي 1982 و1984، وانتهى بإقرار مبدأ دعم هذه المدارس لكن من دون تقديم الدعم إلى تدريس مواد التربية الدينية.

إلّا إن التحولات الاجتماعية العميقة منذ منتصف السبعينيات أعادت طرح المسألة العلمانية بحدة، وخصوصاً من حيث تحقيق التوازن بين المادتين الأولى والثانية من قانون 1905، أي بين الحرية الدينية وحياد الدولة إزاء جميع الديانات. وكانت قد تغيرت آنذاك، شيئاً فشيئاً، طبيعة الهجرة العمالية الآتية من أفريقيا الشمالية وأفريقيا السوداء من هجرة موقتة إلى هجرة دائمة، ونال أبناء الجيل الأول من العمال المهاجرين الجنسية الفرنسية في ظروف صعبة اقتصادياً (ارتفاع معدلات البطالة)، وسياسياً (انهيار الحزب الشيوعي الذي كان يوفر حداً أدنى من التأطير البلدي والنقابي والمدني والثقافي في الأحياء الشعبية، و"الصحوة" الإسلامية التي رافقته بمختلف أشكالها)، وعمرانياً (تشكُّل غيتويات إثنية ودينية في ضواحي المدن الكبرى). وازداد بطبيعة الحال عدد المسلمين إذ تراوحت نسبتهم المئوية إلى مجموع السكان بين 6% و9%، بحسب المعيار المعتمد في تعريف مَن هو المسلم (للمقارنة، لا تتجاوز نسبة البروتستانت، بجميع كنائسهم، 3%، ونسبة اليهود 06%)، الأمر الذي ساهم في تعميق نفوذ اليمين المتطرف تحت شعار الدفاع عن الهوية الفرنسية، وسعّر العنصرية المعادية للمسلمين (الإسلاموفوبيا)، كبديلة أو رديفة للعداء المتأصل للعرب، وشارك في تأجيجها على الصعيد "الثقافي"، طوال الثمانينيات، بعض "النخب الجمهورية" المتنفذة في وسائل الإعلام. وفي هذا السياق المحموم، ضُخمت في سنة 1989 حادثة الطالبات المحجبات الثلاث في مدرسة رسمية إعدادية، فتحولت من مسألة إدارية كان يمكن حلّها بشيء من المرونة إلى قضية وطنية شغلت الرأي العام واعتُبرت دليلاً قاطعاً على أن الإسلام يشكل تهديداً للإجماع العلماني الجمهوري. وقد أدى طرحها على هذا النحو، على الرغم من اعتراض مجلس الدولة المخول الحكمَ في مثل هذه القضايا، إلى سنّ قانون في سنة 2004 يمنع كل ما يشير إلى هوية دينية ما في المدارس الحكومية.

وافتعل ساركوزي في حملته الانتخابية في سنة 2007 معركة "الهوية الوطنية"، وأصرّ بعناد بعد انتخابه على خوضها مستفزاً حتى المسلمين الأكثر اندماجاً في المجتمع الفرنسي. وأُثيرت معركة طاحنة بشأن البرقع، لا يبررها انتشاره المحدود جداً بين المسلمات المتدينات، فصدر في سنة 2010 قانون يتعلق به على الرغم من إمكان منعه بتدابير بسيطة استناداً إلى ترسانة القوانين الجزائية والمراسيم الإدارية. وتبع ذلك سجال مسموم عن وجبات اللحم الحلال في المدارس، ولباس البحر "البوركيني"، مع نزعة عامة إلى استغلال العمليات الجهادية الإرهابية من جهة، وانحراف قطاع من الشبيبة المتحدرة من أصول إسلامية من جهة ثانية، من أجل ازدراء الدين الإسلامي وتحقير المسلمين باسم العلمانية والقيم الجمهورية.

ليس في قانون 1905، بنصّه ومرتكزاته الفكرية، عبارة واحدة يمكن أن تبرر هذه النزعة، وليس فيه أيضاً ما يدعو إلى اعتبار العلمانية الفرنسية، على صرامتها مقارنة بغيرها، معادية بطبيعتها للأديان عامة، وللإسلام خاصة. فالقانون لا يحرم المسلمين الفرنسيين من حقهم في ممارسة شعائر دينهم بحرية، لكنه يمنعهم، عن حقّ، كما يمنع المؤمنين بالديانات الأُخرى، من خلط الدين بالسياسة، ومن انتهاك قوانين الجمهورية باسم دينهم. وهذا الأمر، في حد ذاته، ليس سبب العلاقة الملتبسة منذ أربعين عاماً بين الدولة الفرنسية والمسلمين المتدينين، إذا استثنينا المتعصبين في إسلامهم، إذ لم يعرب أحد منهم عن رفضه التقيد به في ممارسته شعائر دينه، وإن كان بعضهم يرى أن حل "المسألة الإسلامية" في فرنسا حلاً سليماً يقتضي أن تتخلى الدولة إزاءهم عن حيادها الديني الصارم، وأن تلتزم بعض "الحياد الإيجابي"، أي أن تساعدهم فعلاً لا قولاً على الاستقلال عن الدول التي تستتبعهم مالياً وسياسياً، مثل الجزائر والمغرب والسعودية وإيران (وليبيا في أيام القذافي)، وكذلك عن جماعات الإسلام السياسي، فهم غير قادرين على ذلك إذا لم تتوفر لهم مؤسسات محلية تُعنى بالدراسات الشرعية وتأهيل الأئمة وبناء المساجد. لكن كيف تتوفر لهم مثل هذه المؤسسات في أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية العسيرة؟

مضت أعوام طويلة على طرح هذا السؤال، ولم تسعَ الحكومات المتعاقبة للإجابة عنه بجدية، مع أن المادة الثانية من قانون 1905، القاضية بحياد الدولة، تسمح بتسديد أجور الوعاظ في المدارس والمعاهد والمشافي والسجون من ميزانية الدولة أو المحافظات، الأمر الذي يتيح لها، إذا شاءت السلطات التشريعية، المساهمة في تمويل المؤسسات الدينية الإسلامية المستقلة. هذا، مع الإلحاح على ضرورة توفير الميزانيات اللازمة وتعبئة أجهزة الدولة المعنية لمعالجة فضيحة غيتويات الضواحي التي باتت الأوضاع المعيشية فيها تتردى يوماً بعد يوم، وحيث صار الإسلام ديناً احتجاجياً يسهل على الدعوات الجهادية اختراقه.

لذلك كله، وعلى الرغم من الريح المجنونة التي تعصف بفرنسا في هذه الأيام، ولا تنجو منها الجمعية الوطنية التي تناقش مشروع قانون "تمتين المبادىء الجمهورية"، فإنه يجب تنزيه العلمانية الفرنسية - وهي لا تعني إلّا فصل الدين عن الدولة، وفيه مصلحة للطرفين - عمّا يُرتكب باسمها من أقوال وأفعال عنصرية، وما يشرّع من قوانين مجحفة لا تجدي نفعاً. ليست العلمانية في عُرف العلمانيين الأصلاء منظومة أخلاقية متكاملة أو ديناً دنيوياً يحقّ لكهنته عزل مَن لا يدينون به في بيوتهم، أو منعهم من إبراز هويتهم الدينية في الفضاء العام إذا لم يعتدوا على أحد أو يخالفوا القوانين المرعية، كما أنها لا تعني فرض السفور بالقوة على النساء المحجبات بإرادتهن، ولا حرمانهن من مرافقة أطفالهن في النزهات المدرسية، ولا إجبار التلاميذ المسلمين أو اليهود على أكل ما لا يستسيغونه في المطاعم المدرسية. وهي أيضاً ليست واجب الإعجاب برسوم "شارلي إيبدو" الكاريكاتورية واعتبارها الأنموذج الأرقى لحرية التعبير، وليست بأي حال ما تردد من تصريحات سفيهة على لسانَي درمانان، وزير الداخلية، وبلانكيه، وزير التعليم، وغيرهما من وزراء ماكرون ونواب حزبه، ومن قادة اليمين المتطرف والحزب الجمهوري، ولا ما يبشّر به بعدوانية وغباء بعض وسائل الإعلام.

السيرة الشخصية: 

فاروق مردم بيك: كاتب ومؤرخ سوري.