ساعية بريد الحكايا
التاريخ: 
17/03/2021
المؤلف: 
ملف خاص: 

لم يكن انتزاعي من بين عائلتي بالأمر الهيّن عليّ، عندما قال ضابط الاستخبارات الإسرائيلية لأبي بعد اقتحام البيت وترويع الأهل "نريد شذى للاعتقال". لا أدري كيف استطعت أن أتمالك نفسي، وكيف استطاعت عيناي النظر مباشرة في عيون أمي وأبي وأخوتي وعانقت نظراتهم التي تودعني. شعرت بأن روحي انتُزعت مني، وبغصة استحوذت على قلبي ما زلت أشعر بمرارتها حتى الآن.

اللحظات الأولى من الاعتقال كانت من أصعب اللحظات التي مرت عليّ، من لحظة وضع الكلبشات وعصبة العينين وإدخالي إلى سيارة الاعتقال العسكري المدرَّعة، ثم لحظات الاستجواب الأولى، والانتظار الطويل القاتل. سيطرت عليّ حالة من الصدمة والقلق والخوف من المجهول. وفي الوقت نفسه كنت أشعر بقوة تعتريني لا أدري من أين أتت، أظنها قوة ربانية، فأنا لا طاقة لي على تحمّل كل ذلك.

بعد الاستجواب تم نقلي إلى معبار الشارون وأمضيت هناك أسوأ أيام حياتي. كانت الزنزانة باردة جداً ومتسخة ورائحة الرطوبة تفوح منها، وكانت إضاءتها متعبة للنظر. بحثت عن غطاء لأضعه على جسدي لأن البرد نال من كل ذرّة فيه، فلم أجد سوى بطانية رمادية اللون لا تقِ من حر الصيف ولا من برد الشتاء، وكان وجودها كعدمه. تكوّمت على نفسي كما يتكوّم الجنين في بطن أمه علّني أحظى بقليل من الدفء، لكن عبثاً. أما المفاجأة فكانت عندما أردت استخدام الحمّام ووجدته من دون باب!! لكنني تراجعت خوفاً من أن يأتي أحد السجانين ليقول شيئاً، أو لإجراء عملية التعداد ودقّ الشبابيك لفحص متانتها، أو للترهيب.

أما الطعام فحدّث ولا حرج، فحين كان يأتي السجان وفي يده صحن الأكل ويناديني لآخذه منه، كنت أشم رائحته الكريهة عن بعد، وأطلب منه أن يرجعه، فلست جائعة، مع أن الجوع أيضاً كان قد نال مني.

في اليوم الخامس أتى ضابط العدد وقال لي إنني حُكمت بالسجن الإداري مدة ثلاثة أشهر، وسيتم نقلي غداة اليوم إلى سجن الدامون عند الأسيرات.

ستة أيام قضيتها في معبار الشارون كانت عن كل أيام اعتقالي، فلا أنيس لي في الزنزانة، ولا راحة في ممارسة أبسط حقوقي في استخدام الحمّام والاستحمام، وكان البرد القارس سيد المكان، وحالة من القلق الدائم والأرق اليومي والشوق الكبير إلى أهلي وحريتي وجامعتي.

جهزت نفسي في اليوم السادس ليتم نقلي إلى سجن الدامون. قبل أن أخرج تأملت الزنزانة جيداً، البُرش، الفرشات المهترئة التي قضيت الليالي عليها، تأملتها كي لا أنسى، وكيف أنسى زنزانة قضيت فيها أصعب أيام حياتي؟ خرجت من بابها ومشيت في الممر متثاقلة، أشعر بأنني تخلصت من عبء ثقيل وذاهبة إلى عبء أثقل. وضعوا السلاسل في يديّ وقدميّ بعد أن ارتحت منها قليلاً في الأيام السابقة لأنني لم أخرج من الزنزانة.. إلّا إن آثارها باقية، وكنت أشعر بأن شيئاً ما يقيدني حتى وأنا نائمة. صعدت إلى البوسطة المشؤومة، فسارت بنا وتجولت في شوارع وطننا الجميل المسلوب. تناسيت أنني الآن في القبر المتنقل "البوسطة"، وأنني ذاهبة إلى السجن، وبدأت أتأمل من شباك البوسطة المليء بالثقوب مدننا الجميلة التي حُرمنا منها. كنت مستمتعة بكل هذا الجمال على الرغم من الألم، لكن شيئاً في داخلي كان يمزقه القهر.

رافقني في البوسطة أشبال لا أعلم من أين أتوا بهم، لكنني سمعت أصواتهم وحديثهم وعرفت أنهم أشبال وسيتم نقلهم إلى قسم الأشبال في سجن الدامون.. فجأة عَلا صوت أحدهم : "محمد محممممد شوووف البحححر".. ليجيب صوت الآخر: "ااااه والله بحررر بحررر".. كان في صوتيهما شيء من البهجة والحماسة اللتين تدلان على الحرمان. بدأت أزيح بنظري أنا الأًخرى لأشاهد البحر، لكنني لم أره، فعلى ما يبدو كان في الجهة المقابلة. تألمت كثيراً من لهفة هذين الشبلين، وتألمت أكثر من وجودهما هنا في هذه المركبة المريرة .

وصلت إلى مكان أعرفه جيداً وكنت قد زرته قبل سنتين من الآن. إنها حيفا وجبال الكرمل. هذا المشهد شاهدته في أثناء رحلة في سنة 2017 حين زرت رأس الناقورة وحيفا لأول مرة، وكنا في حينه قد مررنا بمحاذاة سجن الدامون ورفعنا دعواتنا للأسيرات هناك. ها هو القدر يعيدني إلى المكان نفسه، لكن في ظروف موجعة وقاهرة. ابتسمت لجمال المنظر فلطالما سحرتني صوَره عندما شاهدته أول مرة. فعلاً للقدر عجائبه، مَن كان يتوقع يوماً أن آتي إلى هذا المكان أسيرة؟

وصلت إلى السجن، ثم تم اصطحابي إلى قسم الأسيرات. كانت الساعة تقارب الثانية والنصف ظهراً.. الجو مشمس وجميل، وها هي أول مرة أرى فيها الشمس بعد ستة أيام في معبار معتقل الشارون. فتحت لي السجانة الباب الأول لأعبر منه ودخلت، ثم تلاه باب آخر، وبعدها مشيت في ممر طويل منحدر. كانت خطواتي ثقيلة وما زلت أشعر بالكلبشات في قدمي مع أنني تحررت منها قبل الدخول من بوابة القسم. لكن القيد أصبح الآن أكبر وتجاوز كلبشات اليدين والقدمين. كل ما حولي مقيّد بأبواب ضخمة وأسلاك تلف المكان من كل صوب، حتى السماء التي أعشق النظر إليها كانت مغشاة بالغيوم البيضاء، وأيضاً مقيدة بأسلاكٍ تتعب النظر. حتى النفَس مقيّد بأنفاس الحاقدين من حولنا في هذا المكان. وحدها الروح بقيت حرة ولم يقدروا على أسرها أو تقييدها.

ما زلت أتذكر هذه اللحظات وأنا أمشي خطوة تلو خطوة متأملةً المكان، وفي حالة شرود تام، أحمل بيدي سترة مصلحة السجون –الشاباص، وبحجاب متراخٍ حاولت ترتيبه قدر المستطاع لأنهم أخذوا الدبابيس مني، بالإضافة إلى رباط حذائي، وأمسك في يدي ورقتين، ورقة قرار الحكم الإداري الظالم، وورقة تُثبت أنني الآن أسيرة إدارية في سجن الدامون ومسجّل عليها تاريخ الإفراج الذي بقيت أتأمله بين الحين والآخر، وتعلو وجهي ابتسامة باهتة متعبة. وصلنا إلى آخر الممر وفُتح لي باب آخر دخلت منه. تم تفتيشي بآلة التفتيش اليدوية. ها أنا وصلت إلى القسم. سمعت أصوات الأسيرات، فخفق قلبي وازداد توتري، كانت تُربكني فكرة اللقاء بأسيرات سمعت عنهن وأنا في الخارج ورأيت صورهن في الإعلام، وها أنا اليوم سأشاركهنّ القيد والمعاناة والألم.

أطل وجه الأسيرة بيان فرعون (محررة حالياً)  أول ما فُتح لي الباب، وصرخت: "شذذذذى".. وأحتضنتني.. كان هذا الحضن كفيلاً بتبديد الوحشة والغربة اللتين شعرت بهما طيلة الأيام الماضية في معبار الشارون. وقفت لبضع دقائق أتأمل المكان. إنه ساحة محاطة بحديد كالقفص تماماً، وأسيرات يرتدين زي الصلاة وعيونهن ترمقني وتنظرن إليّ.. تعالت البسمات، ثم الأحضان، فما كان مني إلّا أن أبتسم. رحّبنَ بي وتجمّعنَ حولي. ما زلت أذكر أول سؤال وجهته إليّ الأسيرة أماني الحشيم المحكومة بعشر سنوات: "شو أخبار الصفقة برا؟ احكيلنا، في أمل..؟" ما زلت أذكر وجه إسراء الجعابيص وبسمتها التي تعلوه على الرغم من حكاياته الحزينة؛ ما زلت أذكر زميلتيّ ميس أبو غوش وسماح جرادات (محررات حالياً) ولمعان الشوق في عيونهن عندما قالتا: "احكيلنا عن الجامعة وأخبارها، اشتقنا كتير". شعرت بأنني مثل ساعي البريد، أتيت إلى كل واحدة من عالم تتوق روحها إليه. وكل واحدة منهن تريد أن تنهل من أخبار أحبتها ..

تبددت جَمعة الأسيرات من حولي عندما خرج صوت من السماعة عمَّ القسم كله قائلاً: "سكيراه بنوتسكيراه"، لم أفهم في البداية ماذا تعني هذه الكلمات، لكن بعدها فهمت أنها كانت فورة، أي وقت خروج الأسيرات من الغرف إلى ساحة القسم، و"سكيراه" تعني التسكيرة وحان الوقت للرجوع إلى الغرف، كانت الساعة الثالثة عصراً.

ذهبت إلى الغرفة التي سأمكث بها، كان رقمها ٤. ألقيت السلام على الأسيرات اللواتي كن في الغرفة وسأتقاسم معهن الآن كل شيء. دخلت ووقفت على بابها وتأملت شكل الغرفة والأبراش؛ كانت واسعة نوعاً ما مقارنة بالزنزانة في معبار الشارون الذي أمضيت فيه أيامي الماضية. يوجد في الغرفة ثمانية أبراش وخمس أسيرات. جلسنا على طاولة واحدة للغداء، فشعرت بالحرج الشديد في مكان جديد لم أتوقع يوماً أن أكون فيه، ومع أسيرات لا أعرفهن وها أنا أتناول الغداء معهن خلف باب كبير مُحكم الإغلاق. تمنيت لو أنني أحلم، وفي الحقيقة كنت أشعر بأنني في حلم أو كابوس سيئ وسينتهي. شرد ذهني إلى الخارج، إلى مائدتنا الملأى بالحُب والدفء، وتذكرت مكاني الذي سيكون خالياً، وأنه يجب أن أكون جالسة هناك الآن، أحدث أبي عن تفصيلات يومي، وصوت أمي يتسلل إلى أذني وهي تقول: "يا ريتك بتوكلي قد ما بتحكي.. خليني أحطلك كمان". كادت الدمعة تنهمر من عيني وقلبي يشتعل شوقاً.

فجأة بدّد شرودي صوت عالٍ عمّ القسم مرة أُخرى يقول: "سفيراه بنوتسفيراااه.." ثم الصوت نفسه: "عددددد عدددد".. وصوت آخر من داخل القسم: "يااااا بنااااات عددد وفي زلمة يا بنااات دخل العددد".. بالبداية لم أفهم ماذا يحدث وماذا يجب أن أفعل، فقالت لي أسيرة من اللواتي كن معي في الغرفة: "هسا دخل العدد ولازم نوقف عشان يعدّونا".. وفعلاً ارتدت الأسيرات ملابس الصلاة وقطعن غداءهن، ووقفنا جميعاً ننتظر العدد. فُتح الباب ودخلت سجانة أظن أن عمرها لا يتجاوز الـ ١٩ عاماً، وخلفها سجان يُمسك بيد الباب. دخلت ونظرت إلينا ثم عدّت بإصبعها "1 2 3 4 5 6" وأغلقت الباب خلفها بقوة، فرنّ صوته المزعج في أرجاء الغرفة. عادت الأسيرات لإكمال الغداء، أمّا أنا فبقيت واقفة شريدة الذهن أتأمل هذه الحال التي اعتادتها الأسيرات، مستنكرةً إياها بكل قوتي، وصوت في داخلي يردد قهراً: "لعن الله السجن والسجان.. لعن الله السجن والسجان!!"

خرجت من الأسر بفضل الله وعانقت حريتي منذ عشرة أشهر تقريباً، لكنني خرجت جسداً، أمّا روحي فبقيت هناك عند أخوات لي ما زلن يكابدن ظلم السجن في معاناة يومية صعبة داخل أسوار السجن، وأرواحهن تتوق إلى الحرية كل ثانية وكل لحظة. أسأل الله أن يمنّ عليهن بفرَج قريب.

عن المؤلف: 

شذى حسن (22 عاماً): من مدينة رام الله، طالبة في قسم علم النفس في جامعة بيرزيت، اعتُقلت بتاريخ 12/12/2019، وحكم عليها الاحتلال القاهر بالسجن الإداري مدة خمسة أشهر، وجرى تجديد الاعتقال الإداري مرتين متتاليتن.