ما تعنيه فلسطين
النص الكامل: 

لا شك في أن كلمة "الفلسطيني" تعني اللاجىء الذي يعيش في أحد مخيمات اللجوء، أو في واحد من مهاجر هذا العالم، أو تعني الفلسطينيين الذين يعيشون داخل دولة الاحتلال ويحملون جنسيتها، أو المقيمين في الضفة الغربية وقطاع غزة.

طبعاً لو أخذنا بالأسماء التي تحملها هذه المجموعات الفلسطينية الرئيسية لغرقنا في متاهة مسميات كل منها يشير إلى فهم يخدم طرفاً من الأطراف، بما في ذلك الطرف الاستعماري الأكثر براعة في توليد أسماء تعيد تعريفنا وفق مواصفاته الخاصة، وتقوم في الوقت ذاته بمهمة إخفاء آثار جرائم هذا الطرف الاستعماري.

لكن بما أن كل شيء بدأ من اللجوء، من الخيمة، من المخيم، فإننا سنذهب إلى ما يشكل نقطة بداية فقط، من دون إنكار الأسماء والأحوال والأوضاع الفلسطينية الأُخرى.

في أزمنة أُخرى، تبدو بعيدة الآن، كانت مفردة "الفلسطيني" تحيل على اللاجئين المرميين في الخيام، الذين رفضوا الاستكانة إلى المذلة وأشعلوا ثورة تحرير شاملة.

في تلك الأزمنة، امتلكت مفردة "فلسطيني" زخمها الخاص الذي نعرفه جيداً، وآثار تلك الهوية الثورية لا تزال حاضرة حتى الآن في أجيال فلسطينية لم تعش الذل في أعمق لحظات بؤسه، ولا عاشت عزة النفس وافتخارها في أعلى ذُرى الكفاح المسلح وتقديمها نموذجاً كفاحياً تحتذيه حركات التحرر في العالم، فترى هؤلاء الشباب يصرّون على إظهار فلسطينيتهم من خلال اللباس أو الإكسسوار أو الوشم.

الآن، في هذا الوقت الذي لم تعد فلسطين تشغل المكانة التي شغلتها على مدار عقود، وبعدما وصل العرب إلى مسار كامل من الانهيار لا يُنتج إلّا الهزائم والفشل والضياع، تساوى الفلسطيني مع الجميع، مع السوري والعراقي واللبناني واليمني وغيرهم.

الآن في هذه اللحظة التي يتضح فيها مآل كان واضحاً منذ البداية، ولم تكن فلسطين فيه سوى مقدمة، ها هم كل الذين لم يبالوا باتخاذ الهزيمة شكل السرطان يسمحون لهذا المرض بأن يلتهم الكل، بحيث بات لدينا أمة مخيمات ولاجئين من دون أن تكون الحركة الصهيونية ومخططاتها الإحلالية سبباً مباشراً في ذلك، بمقدار ما كمن الأمر في عدم إنجاز استقلال وطني حقيقي وعميق بعد الحقبة الاستعمارية، وذلك من خلال بناء ذات قوية بحرّياتها وديمقراطيتها وعدالتها الاجتماعية وقانونها، وفي تحويل الجهد إلى صناعة منظومات أمنية فاسدة، لا هدف لها سوى إدامة الاستئثار بالسلطة، وأهم إنجازاتها إخصاء المجتمعات وإعدام أحلامها، والوصول إلى مستوى من التنازل والتبعية غير مسبوق أمام القوى المهيمنة.

بين صعود النظام العربي إلى المشهد العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، متوسلاً فلسطين أساساً لخطابه واستراتيجياته، وبين أفول هذا النظام وعدم مجيء نظام جديد، ها هي فلسطين تقف على حوافٍ حادة لم تعرفها من قبل، إذ تبدو بلا سند ولا رديف، فضلاً عن علوّ نبرة تأثيمها أرضاً وشعباً يوماً وراء يوم، فمن قائل ببيع أهلها لها، إلى مروّج لكونها السبب في صعود الاستبداد العسكري ونشر القمع والفساد، إلى منادٍ في المحافل الدولية باعتبار التضامن معها، حتى لو على مستويات مدنية، يقع في سياق معاداة السامية.

لو افترضنا جدلاً أن فلسطين التي نتحدث عنها هي شخصية في لحظة درامية، فإننا سندرك أن أشد لحظات التراجيديا الشكسبيرية لم تصل إلى مثل هذا النوع من الانسداد. الحكاية في حالة استعصاء، وتقف في مكان يغيب فيه الحل. إلّا إن الصورة غير منطقية، ففي نضال الشعوب، وفي السياسة الواقعية أيضاً، فإن الانسداد الوحيد يأتي دوماً من قوى مضادة لإرادة الناس، أكانت استعماراً خارجياً، أم نظاماً استبدادياً داخلياً، وهذا لا يحتاج إلى الحل بمنطق فني، بمقدار ما يحتاج إلى بناء وعي يفضح الرواية الكاذبة ويفكك أساسها الواهي.

من أجل حل هذه الإشكالية علينا القيام بمراجعة تاريخية لتشكيل فهم يقوم على سرد تاريخي منطقي متماسك، يضع الأشياء في سياقاتها.

صعد النظام العربي الذي نعرفه بالانقلابات العسكرية المتتابعة التي جاءت بعد النكبة، عبر ضباط شاركوا في تلك الحرب. وقد تشكل هذا النظام العربي في مصر، واتخذ صبغة قومية عربية تعمل في سبيل فلسطين وتحقيق الوحدة العربية. وبعيداً عن الجدل الذي يبدو بيزنطياً في زماننا بين أيّهما أولاً: الوحدة أم التحرير، ما دام أي منهما لم يتحقق، فإن النقاش يجب أن يتركز على صعود القوى الفلسطينية الثورية إلى المشهد، بدءاً من سنة 1965 الذي شهد ولادة "فتح" وإطلاق الكفاح الفلسطيني المسلح، في تحدّ صريح للنظام العربي الذي يُعِدّ العدة لمعركة تحرير الأرض التي ستُعيد الحق إلى أصحابه. وبشأن هذه النقطة نقتبس كلاماً للكاتب الفلسطيني بلال الحسن يختصر علينا شرحاً كثيراً: 

كان على "فتح" أن تسارع في العمل قبل أن ينجح أحمد الشقيري ويبلور شخصية منظمة التحرير الفلسطينية، وتصبح المنظمة بذلك عائقاً كبيراً أمام حركة "فتح" بعد أن تحصل على دعم الحكومات العربية واعترافها. وكان هذا كله يعني أن على "فتح" أن تعمل ضد النظام العربي، وقد وجدت "فتح" ضالتها في النظام السوري الجديد، وذلك بعد استيلاء حزب البعث على السلطة سنة 1963، وكان النظام يتميز آنذاك بصفة عامة بنزعة ثورية تتطلع إلى قيادة السلطة بمنطق الثورة لا الدولة. كما كان النظام يتميز بنزعة سياسية معارضة لمصر، ومعارضة لمنطق الاستعداد لمواجهة إسرائيل بقوة عسكرية نظامية، داعياً إلى حرب التحرير الشعبية.[1]

 مع دخول فتح تحت جناح النظام العربي، ثم بقية التنظيمات الفلسطينية، عبر الانخراط في منظمة التحرير الفلسطينية المتأسسة بقرار ودعم عربيين في سنة 1964، يكون المسار العام للقضية الفلسطينية حقق تطابقاً هنا بين التوجهَين العربي والفلسطيني، من دون تأثير لظهور تناقضات صغيرة هنا وهناك، في أوقات متنوعة، فالمسار العام أصبح واحداً.

لم تكد كسور هزيمة 1967 تُجبَر حتى جاءت الضربة التي لا جبر بعدها من خلال اتفاقية كامب ديفيد التي أخرجت مصر من دائرة الصراع مع العدو إلى دائرة التحالف معه، لتأتي بعدها النهاية الرسمية للنظام العربي مع دخول الجيش العراقي إلى الكويت، والذي جعل التبعية السياسية تأخذ شكلاً مباشراً وصريحاً، بين قواعد عسكرية أميركية على الأرض، وامتثال للخط السياسي الأميركي في مختلف النواحي الاستراتيجية، فضلاً عن وقوع الدول العربية تحت تأثيرات اللاعبين الإقليميين.

ومثلما هو معلوم، فإن حرب الخليج الثانية، ونظام القطب الواحد الذي شاءت الأقدار أن يتحول العالم إليه في ذلك الوقت، سيفضيان إلى البدء بعملية السلام من خلال مؤتمر مدريد الذي جاء وقتها ضمن مبادرة الرئيس الأميركي جورج بوش الأب. وكانت همسات وزير خارجيته جميس بيكر للعرب أن النظام العالمي الجديد لن يرحّب بمَن يخالفون دعوة المؤتمر.[2]

سيفضي مؤتمر مدريد إلى مفاوضات ثنائية في واشنطن، وستحدث مفاوضات سرية في أوسلو، يسميها إدوارد سعيد "اتفاقية فرساي فلسطينية"،[3] وهو يعبّر عن الخطورة التي مثلتها الاتفاقية، بما يلي: 

يحمل اعتراف عرفات بحقّ إسرائيل في الوجود في طياته سلسلة طويلة من التراجعات: تراجع عن نصوص الميثاق الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية، نبذ للمقاومة التي اصطُلح على تسميتها بـ "العنف والإرهاب"، إهدار جميع قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالقضية الفلسطينية.[4]

 في مرحلة أولى، ستختفي وجوه النظام العربي القديم بالموت الطبيعي والآمن كما في حالة حافظ الأسد في سنة 2000، أو بالموت إعداماً تحت رعاية الغزاة في حالة صدام حسين في سنة 2003، ثم الموت اغتيالاً بالسم في حالة ياسر عرفات في سنة 2004، وفي مرحلة ثانية تسودها العبثية سينقسم المشهد العربي إلى سياسة المحاور: مقاومة واعتدال، بين الأنظمة نفسها التي شاركت في حرب الخليج وذهبت إلى مدريد.

وستشهد هذه الفترة أعتى فترات الاستقطاب الطائفي، على خلفية الحرب الأهلية في العراق التي سوف تؤسس أرضية الصراعات الطائفية الجديدة التي ستجد طريقها لتمتد بهذا العنف المستطير إلى العديد من الدول العربية.

في تلك الفترة ستتحول فلسطين إلى سلسلة أخبار تتعلق بالتفاوض أو بمساره، في سعي السلطة الفلسطينية البائس لتحقيق حلم الدولة بأي ثمن، إلى جانب بدء الانقسام الفلسطيني الذي سيولّد بدوره مساراً تفاوضياً طويلاً.

ومع مجيء الربيع العربي جاء الوعد بنهاية هذا المسار التعيس، المليء بالتبعية والانكسار، إذ جلبت الميادين الثورية الكبرى أملاً ببدء صفحة عربية جديدة، تسود فيها الديمقراطية والعدالة والشفافية، وتغيب فيها ظاهرة الدولة الأمنية وشبكات الفساد، والارتهان للقوى الخارجية.

ضمن هذا الإطار، وحّدت سنة 2011 آمال أبناء العالم العربي بالتغيير، ومنحتهم شعوراً حقيقياً بالانتماء إلى شوارع وميادين مدن الثورات، وإلى بناتها وأبنائها، من دون أن يداخل ذلك نزوع قومي أيديولوجي أو فئوي. وقد أخذ الانتماء إلى الحقوق والمطالبين بها منحى عالمياً وصل إلى حد التأثير في إشعال احتجاجات حركة "احتلوا وول ستريت" التي بدأت في الولايات المتحدة الأميركية آنذاك، ثم عمّت عدة مدن عالمية.

وثّقت أحداث سنة 2011 أن أعداء الثورات هم ذاتهم في جميع الدول، فهم أولئك اللصوص والكاذبون، والذين يكرسون فساد السياسة والأخلاق والذمم، ويديرون بلادهم كالغزاة نهباً واستباحة.

في تلك الأجواء، تعززت المنظومة البوليسية العربية التي اجتهد كل نظام في تشييدها على طريقة واحدة، وظهرت شبكات ناهبي المال العام واحدة، وتوحدت الأدوات الإعلامية المتنوعة لتشكل من خلال اتفاقها على سردية المؤامرة الخارجية شاشة واحدة. التقى كل شيء تقريبا: التوريث والقمع والقتل والتعذيب والفقر والنهب والتجهيل والتهميش والبطالة والتمييز والعجز وتراكم الديون والمحسوبية.. وفلسطين طبعاً.

ضمن هذا المشهد المليء بأحاسيس مفعمة، تقدمت فلسطين، ورسمت الخريطة التي تعيد التصور إلى بدئها، قضية وقيمة ومعنى، في المكان الذي يجب أن تبدأ منه، من الشوارع، لا من قاعات القصور أو أروقة المؤتمرات، من الناس، لا من الأنظمة؛ فالناس هم الذين خاضوا الحروب كلها، وهم الذين لم يُهزموا فيها، وإنما هُزمت الأنظمة، إذ كانت هذه الطاقات البشرية جاهزة ومستعدة طوال الوقت، لكن أولئك الذين أساؤوا استعمالها إلى درجة التبذير والهدر والاستخفاف هم المهزومون.

ولعل التقاط إنذار الخطر ذلك من طرف القوى العالمية والإقليمية هو ما جعل العمل على الإجهاز على مشروع التغيير يبدأ بشكل متسارع من خلال إطلاق العنان لسُعار الثورات المضادة، فتعود الدول الثائرة إلى مراحل أسوأ ممّا كانت عليه عشية الثورة.

أمّا البصمة الفلسطينية الوحيدة في هذه الثورات فقدّمها فلسطينيو سورية عبر المشاركة الحاسمة في فصول الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد. فمخيم درعا سبق مدناً وقرى سورية في دعم المدينة خلال حصارها، ومخيم اليرموك سجل بداية ثورية جماهيرية سبق فيها مدناً كبرى مثل حلب. وسيجري طمس أثر هذه البصمة من خلال تدمير المخيمات، وخصوصاً مخيم اليرموك، وهنا ستظهر فلسطين، فلسطين السورية، في الصورة التي يصعب أن تغادرها فلسطين الكاملة، صورة النكبة.

وجرّاء ضياع الرؤية الذي سببه المشهد، صار هناك سوريون يتحدثون عن فلسطين وصفقة ترامب بشماتة، على خلفية انتقامية رخيصة من مشاركة فصائل فلسطينية إلى جانب النظام السوري في حرب الإبادة ضد سورية وشعبها، من دون أن يتذكروا أن النظام، تاريخياً، صنع هذه الفصائل، أو قام بدعمها، ومن الطبيعي أن تقف إلى جواره وتؤدي دورها الوظيفي الحقيقي.

هذه هي اللحظة الأشد إظلاماً في التجربة الثورية، إلّا إن الشعوب العربية ستستعيد ثوراتها، وتطلق موجات جديدة، لكن المؤسف أن اللاجئين الفلسطينيين الذين دُفعوا إلى الضياع مرة أُخرى، في دول الجوار أو في منافي العالم، سيواجهون ضياعاً معنوياً من خلال "صفقة القرن" التي ستسبقها ثم ترافقها حملات تشويه منظمة للشعب الفلسطيني وتاريخه ونضاله وكيانه وكرامته، وستنهال الإساءات إلى أساس القضية على اعتبار أن هذا الشعب باع أرضه لعدوه وادعى المظلومية، حتى يكاد المرء يشعر بأن مجرمَين من مستوى مناحم بيغن ويتسحاق شمير لم يكونا يمتلكان الوقاحة التي تتحلى بها منشورات الذباب الإلكتروني الممول والمدرب سعودياً وإماراتياً.

ولعل أكثر ما نحتاج إليه في هذه اللحظة هو تشكيل سردية متكاملة، ونشرها بجميع الطرق الممكنة، والقيام بعملية تثقيف شاملة بشأنها، وعدم الاكتفاء بقصة تبدأ من سنة 1948، بل ربط ذلك بسياقاته التاريخية الكبرى، منذ المسألة اليهودية حتى بدايات الحركة الصهيونية.

ليست قضية فلسطين بالقضية الصعبة، بل إن حكايتها واضحة جداً بحيث يسهل اختصارها في جمل، لكن ذلك لم يعد يكفي، فأكثر ما نحتاج إليه اليوم هو معرفتها معرفة عميقة، وهذه هي العملية الأصعب. صحيح أن الحكاية تشكل الهوية، إلّا إن الهويات التي لا تُبنى على معرفة شاملة، تاريخية وسياسية واجتماعية وحقوقية، لا يمكن التعويل عليها، وسيكون من السهل اختراقها من خلال دفعها دوماً في اتجاه صراعات وانقسامات.

في الماضي، جرت عمليات التثقيف بفلسطين من خلال الفصائل وإعلامها وندواتها ومعسكراتها، أمّا اليوم، ومع انعدام الفعل السياسي وغياب ذلك النوع من التثقيف، فإن القضية باتت أقرب ما تكون إلى حقل أكاديمي للمتخصصين. وكي لا نلغي المعرفة، فإننا نحتاج إلى تحويل ذلك إلى أشكال المعرفة العصرية، القابلة للتداول والتناقل السهل عبر الموبايلات وتطبيقاتها، من دون الرضوخ للفايسبوك والإنستغرام والمواقع المنحازة إلى الرواية الصهيونية، بل خلق تطبيقات خاصة لا سيطرة عليها من أحد لو لزم الأمر.

لعل الوقت مثالي لاستعادة العمل على حق العودة مع تجاوز السلبيات التي رافقت تجربة هيئات العودة التي ظهرت في مرحلة ما بعد أوسلو، والتي عمل المستقل منها من دون استراتيجيات أو برامج واضحة، ومن دون تنسيق فيما بينها،[5] أو تجربة تلك المجموعات التي رعتها الفصائل وكرّست عملها من أجل العودة في إطار رؤية رعاتها،[6] وذلك لاستعادة روح المبادرة، والعمل على تشكيل خطاب عصري يتحدث بلغة علمية، ويستعمل الوثائق، ولا ينظر إلى المخيم من منظور الزعماء، أو الفصائل التي تعتبر المخيم على الدوام خزاناً يورّد العناصر، أو "يُنجب زعتراً ومقاتلين" بلغة محمود درويش، لأن الفصيل يمد عمره من دوام هذا البؤس.

لنسأل: هل تمثل قضية التوطين خطراً هائلاً؟ هل تنتقص من فلسطينية الإنسان؟ لننظر إلى الجاليات الكبرى في العالم، ولنسأل: هل حمْلُ الأتراك جنسيات ألمانية، أو حملُ الجزائريين جنسيات فرنسية، يعني تخلياً عن الهويات القديمة؟ لماذا لا يحدث هذا للفلسطينيين عربياً؟ سيقولون إنها قضايا قانونية تتطلب وضعيات محددة على صعيد الجنسية، لكنهم ينسون أن هؤلاء اللاجئين جميعاً موثقون لدى الدول التي يعيشون فيها، ولدى الأونروا. ثم إن "حق العودة" في إسرائيل يُمنح ليهود يحملون جنسيات دول متعددة. طبعاً هذه مسائل على القانونيين الاجتهاد في سبيلها، فمن غير المعقول أن تبقى حياة البشر ضمن هذه المجموعات الكبيرة في حالة من التوقف الكامل في ظل آفاق الحل السياسي المسدود.

لماذا نمنع أنفسنا من التفكير في هذا السياق وفلسطينيو مخيم تل الزعتر، في أغلبيتهم، صاروا ألماناً الآن، وكثيرون من فلسطينيي مخيمات سورية باتوا يحملون جنسيات سويدية وهولندية؟ ألا يضع منع التملك الفلسطيني اللبناني هذا الإنسان أمام خيارَين: أن يتملك في كندا أو في فلسطين! وبالتالي يصبح خيار كندا أكثر واقعية.

بدا مناخ الثورات العربية مواتياً لظهور تيارات فلسطينية مستقلة في سورية، لكن عنف النظام السوري حال دون ذلك، إذ تمت تصفية كادرات من تلك التيارات في الساحات أو أقبية السجون، بينما بقي الفلسطينيون الذين صنعهم بصورة خاصة من أجل أيام سوداء كهذه، إلى جواره يحملون معه عبء الجريمة. وممّا لا بد من قوله هنا أن "فتح" حاولت، في إطار السلطة، أن تؤدي دور الدعوة إلى تحييد المخيمات، من دون أن تقدم ما هو أبعد من التوصيات والتمنيات، والوساطات الفاشلة في أحسن الأحوال، في حين أدت تنظيمات مثل الشعبية والديمقراطية أدواراً إعلامية مخزية، وتكفلت القيادة العامة ومعها بعض أشباهها بتأدية وظيفة الجزار. وسط هذا المشهد برز دور اجتماعي وأمني وعسكري لحركة "حماس"، يستحق أن يُدرس ويُعطى اعتباره.

ما أود قوله هو أن فلسطينيي أوسلو، مَن كانوا معه ومَن كانوا ضده، اجتمعوا على ضرب المخيم، كل بطريقة وبدرجة مختلفة، وهو الذي أرادوه أن يكون استراتيجيا كبرى للحركة الوطنية الفلسطينية.

لا تضيف صفقة القرن جديداً إلى ميراث آلاف الخطط والحلول والمبادرات التي تجسد الرؤية الاستعمارية منذ لحظات الصهيونية الأولى، مروراً بوعد بلفور، ووصولاً إلى حقبة المفاوضات المتوّجة باتفاق أوسلو: "اتفاق إعلان المبادىء". هذه الصفقة لا تضيف ولا تدّعي الإضافة بمقدار ما تقدّم تكثيفاً صارماً ووقحاً لما يريده القوي، من جانب واحد طبعاً، من دون الاهتمام بالإصغاء إلى الطرف الآخر. الشيء الوحيد والبارز هنا هو عبث القوي بالرموز كما في موضوع نقل السفارة الأميركية إلى القدس، فالغالب يريد أن يقول للمغلوب إن مخالب الهزيمة طالت كل شيء، كل شيء تماماً، حتى الرموز التي تريد تفسير هويتك ومعناك من خلالها؛ الغالب يفهم أن الرمزية هي مساحة لصناعة الوعي لدى الجماعات البشرية، ولهذا ينشغل بها انشغال المغلوب، ويتخذ خطوات من هذا القبيل ليحطم المحطم، بل يصل في إذلاله للآخر وهزيمته إلى تركه بلا رموز، بلا هوية.. أي بلا أي معنى.

ما الذي تعنيه فلسطين اليوم؟ إنها تعني الفلسطينيين أولاً وأخيراً، قبل أن تكون أرض الميعاد أو أرض الجهاد والرباط، ففلسطين هي الفلسطينيون، وهؤلاء تمثيل واقعي لحقّ الإنسان في الوجود والحياة، وهذا ما على خطابنا وعملنا اليوم الانشغال به.

 

المصادر

[1] بلال الحسن، "قراءات في المشهد الفلسطيني: عن عرفات وأوسلو وحق العودة وإلغاء الميثاق" (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2008)، ص 57.

[2] المصدر نفسه، ص 59 – 60.

[3] إدوارد سعيد، "غزة - أريحا.. سلام أمريكي" (القاهرة: دار المستقبل العربي 1994)، ص 39.

[4] المصدر نفسه، ص 41.

[5] شاهين أبو العز، "العودة وتقرير المصير: الاستحالة والإمكان"، "السفير: ملحق فلسطين"، تموز / يوليو 2012، في الرابط الإلكتروني.

[6] أيمن أبو هاشم، "حركة العودة في سورية: زخم البدايات وتعثر المسارات"، "السفير: ملحق فلسطين"، تموز / يوليو 2012، في الرابط الإلكتروني.

السيرة الشخصية: 

رائد وحش: شاعر وكاتب فلسطيني من سورية.