يغلقون السجون ويفتحون الشجون: لروح الشهيد كمال أبو وعر
التاريخ: 
12/11/2020
المؤلف: 

إنها ظاهرة فلسطينية بامتياز، وهي قيام آلاف الأسرى في معتقلات الاحتلال والتواقين إلى الحرية بإغلاق السجون على أنفسهم. في الإغلاق سيادة مطلقة على الذات وعلى الحزن والغضب.

حين لا يغلق السجان البوابات بيديه مُطلقاً صوت اصطدام الحديد بالحديد والأقفال والسلاسل بالبوابة، فإنه يفقد صوابه إذ يدرك فجأة أنه فقد سيادته المتشابكة بالسلاسل، كما يدرك أنّ مَن أَبطل مفعولها هم الأسرى داخل بواباته وداخل حدود سيطرته. إنّ لعبة القوة ليست محسومة، أمّا لعبة الإرادات فهي محسومة تماماً.

زنزانة الكمال حزينة. إنها ليست زنزانته بل زنزانتهم، لكن اللسان الفلسطيني بعد أن يعيش الأسير عقوداً في زنزانة سجون الاحتلال يعتاد بشكل عفوي أن يقول زنزانتي، حتى وإن كان هو وحريته منها براء. وكم من الأسرى أقاموا  بالزنزانة أكثر مما عاشوا في بيوت نشأتهم!.

وكم من الطقوس الحياتية والاعتقالية الفلسطينية والعربية تبلورت في سجون الاحتلال. فلا يبكي الأسير أمام السجان بل تتحوّل الحاجة إلى البكاء الصامت إلى علامة غضب وتحدٍّ، فالدمعة تحتاج في مسارها إلى السكون لا إلى ضوضاء القهر، كما أنّ الأسير عصيّ الدمع، ودمعته عصيّة على الانهمار أمام السجان. وليس الحزن ما يبديه بل الصلابة، وإن احتاج فلتكن ابتسامة الانتصار عليه أو الاستهزاء به وبتظاهرة جبروته.

  حين يستشهد أسير، يغلق زملاؤه السجون ثلاثة أيام، وفي ساعات المساء من اليوم ذاته يَطرُقون بوابات الزنازين بكل قوة ويكبرّون ويهتفون، ويعلنون الحداد ثلاثة أيام، ممتنعين من أي نشاط ورافضين تلقي المؤن والمواد الغذائية من إدارة السجن. وكلما تعاظم حزنهم امتنعوا من فتح بيوت عزاء جماعية. وفي بعض السجون لا تجري طقوس "الأخذ بالخاطر" وذلك تأكيداً على الجرح المفتوح النازف والحزن المتداخل بالغضب وعلى عدم التسليم بفقدان أسير، كما أنها للتأكيد على تمسكهم بالحياة الحرة الكريمة ورفض الاستسلام.

 كمال أبو وعر الأسير ابن قباطيا في السادسة والأربعين من عمره والصادر بحقه حكم عسكري بالسجن ستة مؤبدات وخمسين عاماً، صاحب الجسد النحيل وقوة الإرادة لتساعده على تحمّل أوجاع الجسد.

تعرّفت عليه في السجن، ولا يوجد غير السجن مكان للتعرف عليه وعلى أمثاله بعد أن أمضى سبعة عشر عاماً بين جدرانه. وللحقيقة فإن قصص أسرى الانتفاضة الثانية، تؤكد مكاناً آخر لمن لم تصل بهم الأيام إلى السجن، إنها مقابر الشهداء. معظمهم محكوم بالسجن مدى الحياة في حين إن "المحظوظين" محكومون ما بين ثلاثة عقود وأربعة، وهذه تعتبر في معادلات المظالم أحكاماً خفيفة، وذلك ليس بسنينها وإنما لسبب واحد وهو لأنّ مداها محدد حتى ولو كان العمر كله. هناك أحكام لا يتخيلها العقل، فمثلاً هناك المحكوم عليه بالسجن خمسة عشر مؤبداً وأربعين عاماً، أو تسعة مؤبدات وعشرين عاماً وسحب رخصة قيادة. يضاف إلى كل ذلك هدم بيوت العائلة، وهو الحكم الجماعي لا لردع الأسير المؤبد وإنما لردع عائلته وبيئته وجماهير شعبه، ولكي يزرعوا فيه بذور الشعور بالندم وعدم التصالح مع الذات.

 قضية الأسير كمال أبو وعر هي قضية أسير كان من الممكن إنقاذ حياته، صحيح أن طبيب السجن هو سجان، لكن المشكلة ليست بالضرورة في الطبيب شخصياً وإنما في السياسة العلاجية والإهمال البنيوي المعروف والمكشوف. فالسياسة عقابية في جوهرها وانتقامية وبالذات من الجهاز القضائي، وقهرية من جانب مصلحة السجون، فهذا الجهاز لا يريد لأسير أن يستشهد داخل السجون، فهذا مصدر توتر وقلق للجهاز، إنهم يخافون موت الأسير وفي الوقت ذاته  فإن سياسة الإهمال الطبي هي بنيوية. في المقابل، لا يهاب الأسرى أكثر من مشفى مصلحة السجون والمعروف باسم "ماراش". فكل السجون العادية تبدو أرحم من هذا المركز الطبي. بينما في حال تجنّبه الأسير أو تنازل عن العلاج فيه كي لا يسير في درب الآلام والعذاب ولا ينتقل في حافلة نقل الأسرى (البوسطة) وهي حافلة أقفاص لابشرية لا يشعر فيها بالحرية إلاّ أفواج الصراصير التي تطال الأسير وهو مقيّد اليدين والرجلين بالسلاسل، ولا مجلس له سوى الحديد القائظ صيفاً والبارد حد التجمد شتاء، في فضاء من روائح التعفّن المنبعثة نتاج بقايا الخبز والطعام المتراكم منذ أسابيع تضاف إليها روائح زجاجات الماء البلاستيكية التي تحولت إلى زجاجات للبول في حال لم يسمح السجانون للأسرى بالاستراحة في رحلة قهر تستغرق ساعات طويلة، حينذاك ومع تنازل الأسير عن العلاج الصحي تفادياً للبوسطة فإنه يوقع وثيقة يُعتبر على أساسها رافضاً لتلقي العلاج الطبي، ويجري تحميله مسؤولية مرضه وإعفاء مصلحة السجون منها. وكم من جولة كهذه عاني جراءها الأسير المريض أكثر من المرض ذاته.

 كان ذلك في المراحل الأولى من اعتقالي، اعتقد في سنة 2011، تعرّفت على الأسير كمال أبو وعر. لم نُقِم إلاّ فترات قصيرة في القسم ذاته، ولذلك كانت لقاءاتنا متقطعة لكن ليس علاقتنا. لفت نظري كم كان جسده نحيلاً، وقد فاجأني ذلك في أول لقاء لنا، لكن ما جرى أنه في كل مرة كنا نلتقي بمرور بضعة أشهر وأحياناً سنة، كان جسده يبدو نحيلاً أكثر، جسده وليس روحه وتمسكه بالحياة. كان منفتحاً في الحديث عن معاناته الصحية المزمنة، ولم يكن على يقين بشأن مصدر معاناته. كنا نفكر معاً ونتشاور بحضور زملاء كثر في إمكان تقديم الشكاوى وإثارة الموضوع داخل السجن وخارجه، ورفع الدعاوى القضائية كأداة ضغط كي يضمن العلاج ويتجاوز مشفى السجون إلى المشفى العادي الطبي. في السنوات الأخيرة ونتيجة تراجع وضعه الصحي وبعد ضغوط الأسرى وتهديدهم بالإضراب واتخاذ إجراءات احتجاجية، قاموا بتحويله إلى أحد المشافي الإسرائيلية وإخضاعه لسلسلة فحوص، وفيها اكتشفوا أنه يعاني سرطان الرئة في مرحلة متأخرة. وحتى في مثل هذه الحالات لم يبقَ في المشفى للمراقبة والوقاية بل كان يُعاد إلى السجن بعد كل علاج.

شكّل اكتشاف المرض الخطير صدمة رهيبة له وللأسرى. والأصعب كان تبليغ العائلة بذلك، وليس أكثر قسوة على الأسير من أن يأتي إلى أهله وعائلته ويخبرهم في زيارة الدقائق الخمس والأربعين مرة بالشهر وأحياناً مرة كل بضعة أشهر، ويقول لهم إنه مصاب بمرض أياً يكن فكم بالحري بما حصل مع كمال. لم يكن ينشغل بقلقه على حاله بقدر قلقه على مشاعر العائلة، وتخيله لما يمكن أن يمر عليها من قلق وحزن وشعور بالإخفاق وعدم القدرة على الاعتناء به، وحتى في هذه الوضعية الجسدية والنفسية لم تنل معاناة الجسد من إرادته ولم تتراجع الابتسامة.

لقد اعتُبرت حالة كمال أبو وعر من أكثر الحالات خطورة في السجون، وهذا ما كانت تدركه جيداً مصلحة السجون، وعلى الرغم من ذلك لم تكن هناك وقاية خاصة في العام الأخير لتحول دون إصابته بفيروس الكورونا من خلال إدخاله في حجر أو توفير ظروف اعتقالية خاصة تتلاءم ووضعيته ضمن مجموعات الخطر التي تحتاج إلى وقاية خاصة من الوباء، مع العلم بأن اجتماع خلفيته الصحية مع الكورونا هو أمر قاتل.

الأسير كمال أبو وعر هو ضحية الاحتلال بأجهزته القضائية والتنفيذية وضحية مصلحة السجون وجهازها الطبي. إنه ضحية السياسة العلاجية وضحية سياسة الموت البطيء التي تهدد حياة عشرات الأسرى المرضى. لن يدقّ هؤلاء بوابات الزنازين لأن أجسادهم لا تتيح لهم ذلك، لكن بإمكاننا جميعاً أن ندق الجدران نيابة عنهم.

عن المؤلف: 

أمير مخول: كاتب من حيفا.