حمامتان في ساحة السجن
التاريخ: 
16/09/2020
ملف خاص: 

أجلس أراقب كل حركة تبدر من حمامتين صغيرتين فقد أخطأت الأم بوضع عشها داخل أسوار محصنة جداً بطبقات من الشّبك الحديدي، وعندما استطاعت الفرار تركت صغيرتيها يلهو بهما أسرى السجن.

في ساعة الغروب أو ما قبلها تنتعش ساحة السجن فدرجة الحرارة تنكسر بعض الشيء ويستطيع الأسرى حينها التحرك والجلوس واللعب براحة أكثر.

 

شدى الصفدي، مقطع من عمل تركيبي بعنوان تحديق، ٢٠١٩

 

 في أثناء جلوسي لكتابة بعض المقالات لفتت الحمامتان انتباهي فقد راقبت حركاتهما لأكثر من ساعتين متواصلتين، فأراهما قد اعتادتا وجود الأسرى حولهما فما بين مطعم للخبز ومحضر للماء تتبدل الوجوه وتبقى الفسحة الإنسانية التي يشترك فيها كل من يرى هاتين الحمامتين. وقد يحدث أن تتحلق مجموعة من الأسرى لوقت طويل ينظرون إليهما ويراقبون حركاتهما ويقومون بخدمتهما.

في حقيقة الأمر فإن الأسير ينظر بعينيه ليرى من خلف الحمامتين حرية بأكملها، وكي يرى حياة أُخرى تركها خلفه. ينظر من خلال عيون الحمامتين ليرى ساحة منزله وعريشة العنب الممتدة بعرض الساحة وأفواج الحمام على سطح المنزل أو في حديقة الجيران. ويحدث أن تطلق هاتين الحمامتين مشاعر أُخرى؛ فما بين أسير يشتاق منذ سنوات إلى حرية يرى فيها الطيور والحيوانات، وأسير علقت في ذاكرته لذة طعام والدته أو زوجته التي تركها منذ سنوات طويلة، أرى ذلك الاهتمام من الأسرى فأتعجب من حياة يحتاج فيها الإنسان إلى مقومات الصمود فيجدها في عيون حمامتين صغيرتين، ويجدها في بَذر وإلقاء بعض ما لديه من الحبوب أو فتات الخبز الجاف الذي ادخره ليوم آخر.

 حمامتان تتغازلان وتداعب إحداهما الأُخرى ولا تفترقان، فالأولى تقوم بنقر رأس الثانية وهكذا تتبادلان الأدوار وكأنهما تبعثان برسائل أُخرى إلى قلوب الأسرى تقولان إن للحياة وجها آخر، فالأسلاك وإن حجبت الحرية فهي لا تحجب عين الشمس، والجدران وإن ارتفعت فهي لا تغتال ذاك الحلم الممتد عبر القلوب المحلقة في فضاءات الحرية وكأنها الحقيقة المتمثلة في وجهي حمامتين داخل أسوار السجون لفترة صغيرة ستعقبها حرية أبدية وحياة بلا جدران.

 من ذاكرة الألم

في حر سجن جلبوع القاتل حيث درجات الحرارة والرطوبة المميتة في أواخر آب/أغسطس، يرافقها شعورنا بحالة من الضجر تصل إلى حدود القرف القصوى، فنجتمع في زاوية من زوايا السجن تلافياً لضربات الشمس ولدرجات الحرارة المرتفعة نتجاذب أطراف الحديث مستذكرين أحداثاً أليمة مرت بنا عبر مسيرة السنوات الطويلة التي تنقلنا فيها في معظم سجون الاحتلال. وعندما تضم الجلسة العديد من الأسرى الذين تراكمت سنوات اعتقالهم بما يفوق المئات من السنوات نستذكر سوياً كثيراً من المواقف التي عايشناها مراراً وتكراراً.

هذا أسير يستذكر قمعة سجن جلبوع في سنة 2004 عندما قام أحد الأسرى بالهجوم على أحد ضباط السجن رداً على اعتداء سابق من هذا الضابط، الأمر الذي دفع إدارة السجن إلى جلب قوة كبيرة من شرطتها لتقوم بالهجوم على الأسرى داخل القسم، فتعمد إلى رش القسم بالغاز الخانق.

وبعدما تأكدت الإدارة من عدم قدرة الأسرى على المقاومة قامت بإخراجهم إلى ساحة السجن وتم تقييد أياديهم من خلف ظهورهم، وإلقاؤهم في الساحة منذ ساعات الصباح الباكر حتى ساعات الليل المتأخرة تحت حرارة الشمس الحارقة وفي درجات حرارة قاتلة.

 ما ميّز نوعية الغازات الخانقة التي رشوا بها الأسرى هو أنها تلتصق بأجسادهم مع العرق، وفي هذه الحالة يبدأ هذا الغاز بحرق الجلد حتى يصبح جسد الأسير كأنه تعرض لحريق كبير، وأحياناً يبدأ جلده بالكلف والتساقط وذلك من دون أي علاج أو رعاية طبية.

 لم ينتهِ الأمر هناك، بل إن الأقسى من ذلك كله هو أن يبقى الأسرى لأكثر من عشرين يوماً داخل حجرات مغلقة من دون أي أدوات أو أجهزة كهربائية أو حتى مراوح في ظل الحرارة المرتفعة، وعندما يحتج أحد الأسرى على هذا الوضع الذي لا يطاق تنفذ إدارة السجن هجوماً جديداً على القسم وتقوم برش الأسرى بالغاز في حدث لا مثيل ولا وصف لبشاعته وقساوته، فيستذكر هذا الأسير الحالة المزرية التي عاشها أكثر من مئة وعشرين أسيراً لأشهر عديدة داخل هذا القسم.

ويستذكر آخر لحظة إعلان الأسرى الإضراب المفتوح عن الطعام في سنة 2017 عندما عمدت إدارة سجون الاحتلال إلى عزل مجموعة من الأسرى المضربين عن الطعام في قسم معزول مغلق منذ عشر سنوات داخل سجن شطة الإسرائيلي، وعندما دخل الأسرى القسم تفاجؤوا بأنه غير صالح للإقامة الآدمية، وعندما أُدخلوا إلى غرف القسم كانت الصدمة المدوية التي لا تُحتمل، إذ كانت ملأى بالحشرات والقوارض والعناكب ولا يوجد فيها أي نوع من أنواع  مواد التنظيف أو أدواته، وبقوا أياماً طويلة يطالبون بإحضارها دون جدوى، وعندما يئسوا من المطالبة وهم في حالة إرهاق شديد نتيجة الإضراب المستمر والنقل المتواصل استسلموا للأمر الواقع فكانت لياليهم أقل ما يقال عنها إنها حالكة السواد حبلى بالمفاجآت، فقد هاجمتهم الحشرات واستيقظوا مئات المرات بعد تعرضهم جميعاً لكل أنواع اللدغ وكانت آثار ذلك واضحة على وجهوهم وأجسادهم وأطرافهم.

وفي ذاكرة أحد الأخوة يحضر مشهد نقل من سجن شطة إلى سجن جلبوع عندما تم إدخال الأسرى إلى قسم غير مسكون تملؤه حشرة "البق" التي تمتص دماء الأسرى، وبعد ليلة طويلة وقاسية استيقظ الأسرى صباحاً وإذ بأجسادهم منتفخة، فهذا يعاني لدغاً في العيون والوجه، وآخر يعاني لدغات عديدة في الأطراف، وذاك يعاني لدغات في البطن والظهر والقدمين، أقل ما يقال إن حالتهم كانت مأساوية ويرثى لها.

هذه الأحداث التي يستذكرها مجموعة من الأسرى القدامى بألم شديد تختزنها ذاكرتهم وتفيض بها كلما تكررت أحداث مشابهة، وكلما دارت الأيام وتعاقبت مآسيها التي لا تتوقف، فالأسر مجموعة متواصلة من الأحداث المأساوية التي يضاعف أحدها الآخر في سباق محموم على نفسية وروح الأسرى الفلسطينيين الذين ما زالوا يرابطون خلف مبادئهم ثابتين على مواقفهم مدافعين عن حقوق شعبهم في الحرية والاستقلال وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.

عن المؤلف: 

أسامة محمد علي الأشقر: أسير فلسطيني من بلدة صيدا شمالي طولكرم. حكم في سنة 2002 بالسجن ثماني مؤبدات وخمسين سنة. أكمل مسيرته التعليمية في السجن فتقدم إلى امتحان الثانوية العامة والتحق بجامعة القدس المفتوحة وتخرج منها بعدما منعته إدارة السجون من إكمال دراسته في الجامعة العبرية. ويعكف حالياً على دراسة اللقب الثاني الماجستير في العلوم السياسية. يُعتبر من قادة الحركة الأسيرة، ويقوم بتقديم الدورات التعليمية والتثقيفية للأسرى ويكتب المقالات السياسية والاجتماعية، وله العديد من المبادرات التي تم نشرها، ويعدّ لإصدار مجموعة من الكتب التي تتحدث عن حياة الأسر.