حتى التحرير
التاريخ: 
29/07/2020
المؤلف: 

كيف يمكن لي أن أصف التحدي الذي يواجهه القطاع الثقافي في القدس؟ انقطاع تام عن المجتمع الفلسطيني في الضفة وغزة، وانحسار وتقلص لدعم هذا القطاع، واحتلال هدفه الأساسي طمس أي مظهر لهوية مقدسية فلسطينية وطنية حرة، ومحاصرة وترهيب قيادات العمل الثقافي والعاملين فيه. الوضع دقيق وله خصوصيته التي تختلف عن ذاك في الضفة الغربية أو غزة أو الداخل الفلسطيني.

لكن يظل التحدي الأكبر هو بناء أسس متينة تساند إمكانات هذا القطاع بمهنية عالية وإدارة سليمة تضمن استمرارية المشروع الثقافي واستدامة رسالة المؤسسات على أمل بأن تحقق أهدافها المنشودة. ومن شأن وضع أسس متينة المساهمة في أن يستفيد من هذا الاستثمار والجهد والموارد التي سخرت، بصرف النظر عن حجمها، لا فقط دائرة المبادرين والمؤسسين للمشاريع والمؤسسات فحسب، بل أيضاً كل أولئك الذين سيحملون رسالة المشروع أو المؤسسة في المستقبل وهم الأهم. كما سيساهم هذا في تمكين المشروع من خدمة الأجيال القادمة والمجتمع بأسره خارج دوائر المصالح الضيقة والمحسوبيات.

 

حتى التحرير، جاك برسكيان، ٢٠١٦

 

نتحدث هنا عن أساسات يجب أن تصمد أمام الهزات والعوامل الخارجية والتآكل من الداخل. إن وضع هذه الأساسات وتدعيمها بنظم وآليات عمل مهنية يجب، وقبل كل شيء، أن يأخذ في الحسبان العنصر البشري داخل المؤسسة، فهو الوسيط الذي تترجم من خلاله الأهداف والمشاريع، وهو الذي سيحمل الرسالة من بعد المؤسسين في عملية تطور وتجدد طبيعية (هذا عندما يكون الوضع طبيعياً).

لكن السؤال الموجع في ظل كل هذه التحديات التي تحجب بظلالها مستقبل القطاع الثقافي في القدس وتعكس صورة قاتمة لا تبشر بأي تحسن أو أمل بانفراج، هو كيف يمكن إقناع جيل الشباب بالانخراط في المؤسسات الثقافية ومشاريعها ونقل الرسالة إلى الأجيال القادمة، واستثمار الوقت والجهد والموارد الإنسانية والمهارات للحفاظ على الموروث الثقافي وتجديده، ومد جسور مع الثقافات الأُخرى في العالم لتبادل المعرفة والتجارب والخبرات؟ أي كيف يمكن أن نؤمّن وظائف ودخلاً ثابتاً ومستوى حياة مقبول للشباب في القطاع الثقافي في القدس في ظل شح الإمكانات والموارد، والتضييق الذي يُمارس على المؤسسات الثقافية؟

لو نختصر الشرح الطويل عن أهمية الثقافة والفنون في نشأة وتربية الفرد، بالإضافة إلى مساهمتها في إغناء قطاعات أُخرى كالتعليم والبناء والسياحة والصناعة وغيرها، وتأثيرها في نوعية الحياة، وتشكيل الهوية الوطنية، والنسيج الاجتماعي ....، ولو نظرنا للحظة إلى القطاع الثقافي وقارناه بأي قطاع آخر مثل التعليم أو الصحة على سبيل المثال، سنجد أن الثقافة ليس في استطاعتها بناء كوادر ومراكمة خبرة، ولا ضمان وظائف ثابتة ورواتب مقبولة وحياة مستورة واستمرارية بسبب شح التمويل. ونجد في الوقت ذاته أن هناك مواقف سياسية يتخذها البعض على حساب مستقبل الموظفين وعائلاتهم وعدد كبير من المستفيدين والمنتفعين كالفنانين، والمتدربين والموردين والخدمات، إلخ ....، وأن هناك مناكفات ومزايدات سياسية وغيرها من المهاترات وتضييع الوقت والجهد، بدلاً من التركيز على حماية المشروع وصونه، لا من أجل منفعة المشروع والقائمين عليه، بل أيضاً من أجل مستقبل جميع هؤلاء الشباب الموهوبين والواعدين الذين يبحثون عمن يحتضنهم داخل مجتمعهم ويساعدهم في خطواتهم الأولى على درب مشروع حياتهم الطويل والشاق.

من أجل هؤلاء العاملين في القطاع والذين هم بحاجة ماسة أكثر من أي شيء إلى التأكد من أن مجال العمل الذي اختاروه سيعيلهم وسيوفر مستقبلاً لهم وربما لعائلاتهم وأولادهم .... ومن أجل الجمهور، مهما يكن حجمه، فهو جزء من المجتمع وبحاجة إلى منفس ونشاطات تحاكي أفكاره وهمومه وأحلامه وتغذي خياله وتفتح آفاقه وتتحدى قناعاته وتنّمي معرفته وتهذب حواسه وتعزز مكانته .... ومن أجل صوت حر وعالٍ وقوي يخرج من قلب القدس المحتلة والمحاصرة يوماً بعد يوم، وسنة تلو السنة حتى تحريرها من كل غاصب ظاهر أو مستتر.

كما نقول ونكرر في مثل هذه الأوقات: "نحن على مفترق طرق! وللسير قدماً يجب أن نعرف ما هي أهدافنا ورسالتنا في القطاع الثقافي المقدسي، وما هي أولوياتنا؟"

وفي عودة إلى مفترق الطرق، فنحن ندرك أن هذا المفترق خطر وتحكمه حكومة الاحتلال التي تفرض قواعد السير من عدمه. فإن رغبنا في السير إلى الأمام علينا الالتزام بقواعد السير، شئنا أم أبينا. وهنا تأتي الأولويات – على أساس أننا متفقون على الأهداف والرسالة – فإذا رغبنا في تعداد الأولويات وترتيبها ابتداء من الأكثر أهمية، ففي رأيي أن تدعيم الأسس وتعزيز الأداء وتوفير نوع من الاستدامة المؤسساتية، تأتي في صدارة الأولويات من حيث الأهمية.

وعلى مفترق الطرق تكثر التحديات وتزداد المخاطر، وتنشب نزاعات حول الأولوية والأحقية، وحول من هو شرعي ومن له النصيب الأكبر، ومن هنا نفقد الرؤية، ونضل الطريق، وننسى المبادئ والأهداف التي قامت المشاريع أو المؤسسات من أجلها أساساً، والتحديات الوجودية المشتركة، وندخل في نفق معتم من النقاشات والمزايدات والإيميلات والتوبيخات والمحامين والقضايا واللجان والتحكيم .... وفي هذا مضيعة للوقت والجهد والمال. ويشكل هذا الضياع ثغرة تُقدم للاحتلال على طبق من فضة، ومن هذه الثغرة ومن دون أن ندري يأتي الاحتلال فجأة ليهدم استثمار أعوام وجهد وتعب عدد كبير من البشر خلال لحظات. هل من المعقول أن نغرق في صراعاتنا وأن ننجرف في متاهات وتفصيلات العمل السياسي، وأن ننسى الصورة الأكبر "الاحتلال وسلطته وأهدافه في محونا ومحو الثقافة الفلسطينية من المدينة؟" أنا لا أفهم كيف ممكن أن تؤول الأمور إلى هذا النحو!  لكني على يقين أن كل ما نقوم به في القدس هو فعل سياسي من دون شك، لا بل إن حياتنا هنا بحد ذاتها هي فعل سياسي. فمنا من يعمل في مدرسة وآخر في مستشفى وغيره في مؤسسة فنية .... إلخ، ولكل منا من موقعه دور سياسي، بالإضافة طبعاً، إلى دور في مجال التخصص وفي نسيج المجتمع بصورة عامة.

إن دور القائمين على القطاع الثقافي يحتم عليهم أساساً العمل على تعزيز وتطوير هذا القطاع وضمان ديمومته وتحسين أدائه ورفع مستوى الخدمات التي يقدمها للمجتمع. وهذا يشمل الانتباه الدائم لوجودنا تحت الاحتلال وخضوعنا لسلطته، ويحتم علينا تفادي كل الذرائع التي قد يستخدمها الاحتلال لإغلاق المؤسسات واعتقال الموظفين وهدر الأموال على قضايا ومحاكم وغرامات، ناهيك عمّا يسببه ذلك من فقدان للوظائف كنتيجة، وحرمان عدد كبير من المستفيدين في المجتمع من الخدمة والمنفعة التي كانت تقدمها هذه المؤسسات.

أين تكمن المصلحة العامة للمدينة وللمجتمع إذاً؟ هل المصلحة أن تبقى المؤسسات المقدسية مفتوحة وأن يزداد عددها، أم أن تدخل هذه المؤسسات في تحديات وتعنّت أعمى، ومواجهات علنية عبثية قد تؤدي إلى الإغلاق والاعتقالات والقضاء على مستقبل القطاع الثقافي أو في أقل تقدير على عدد من هذه المؤسسات في المدينة ومستقبل الناشطين فيها؟

أعتقد أنه في أي معركة غير متكافئة (وأنا لست عسكرياً) على الطرف الضعيف ادخار كل طاقاته وإحاطة نفسه بأكبر عدد من الحلفاء حتى لو لم يتفق مع بعضهم في أمور قد تكون مبدئية. فالحلفاء والداعمين هم في الأساس شركاء وجزء من استمرارية المشروع.  وكما رأينا في قضية شبكة شفق الأخيرة، فقد زج الاحتلال بالاتحاد الأوروبي وقضية تمويله لمؤسسات القدس في تلفيقة مؤامرتية خلطت الحابل بالنابل، ادعى فيها الاحتلال أن الاتحاد الاوروبي والجبهة الشعبية رفاق درب في مشروع مشترك "للسيطرة والهيمنة على القطاع الثقافي في القدس،" وهي ذريعة وادعاء يُشرعن وقف تمويل المؤسسات الدولية لهذا القطاع.

كلنا نعرف أن الصراع طويل والمعارك المقبلة كثيرة وعديدة، أمّا البقاء فهو للأكثر ذكاء وحنكة.