لا مفر
التاريخ: 
23/06/2020
المؤلف: 

تشكل الرقابة معضلة أخلاقية للفنانين والمختصين والمؤسسات الثقافية، فمن ناحية على هؤلاء الفنانين والمؤسسات طرح الموضوعات الشائكة، ومن ناحية أُخرى وجب الاستمرار في المحافظة على بعض الداعمين والاستفادة من الاقتصاد الفني العالمي (الذي عظم شأنه في العقود الأخيرة)، وتجنب الإساءة للجمهور، وتجنب حفيظة الحكومات... لكن بالموازنة ما بين جميع هذه النواحي وإرضاء جميع الجهات، فإن المؤسسة الثقافية قد تخاطر بنفور الفنانين التي هي في أمس الحاجة إلى أن تعمل معهم لتحدي الحدود والأفكار البالية، وبالتالي تصبح المؤسسة جهة تهديد بدلاً من مصدر للدعم والمساندة. ونتيجة هذه المعضلة، يُخضع الفنانون والمؤسسات الفنية باستمرار أعمالهم لمراجعة وتقييم - أي رقابة ذاتية. في الحقيقة، تحدي الحدود الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يسعى الفن لتفكيكها ونقدها يتطلب من الفنانين والناشطين العمل خارج دوائرهم المريحة، مسلحين بتجاربهم وإنجازاتهم لإعادة النظر في علاقتهم مع محيطهم والعالم المتغير باستمرار، بدلاً من التفاوض على شروط حياة أفضل وأسهل.

 

.لا مفر، ٢٠١٩، تصوير جاك برسكيان

 

 يعمل بعض المؤسسات الفنية كمساحات لعرض القطع الفنية، وفي أغلب الأحيان تعمل هذه المؤسسات لعرض أعمال فنانين راحلين، إذ يُعتبر الاستقرار في هذه المؤسسات أكثر أهمية من محاولات تحدي المحرمات البالية والمعتقدات الخطرة، وهم بالعادة يعملون وفقاً لأذواق المتبرعين الأثرياء أو سوق الفن. أمّا المؤسسات الفنية التي تتحدى المعتقدات البالية والجهل، فتميل إلى الاعتماد على جميع المواهب والأفكار المحيطة بها وتشجع النقاش والتعاون والمشاركة، وهو ما يجعلها مراكز للمعرفة والإنتاج والتغيير. لكن حتى عندما يكون لدى هذه المؤسسات الموارد والقدرة على تنفيذ المشاريع التي قد تكون مثيرة للجدل، يجب عليها إدارة المخاطر بعناية وتحديد ما إذا كان من المفترض أن تقوم برقابة على الأعمال الفنية وتطويعها قبل عرضها على الجمهور. كما يجب أن تكون هذه المؤسسات واعية أيضاً للحفاظ على توازن دقيق بين الأخلاق والعقل والمبادئ عند وضع نفسها في مواجهة توقعات الجمهور والسلطة السياسية ومصالح رأس المال وسوق الفن، كلها في آن واحد.

 الرقابة الذاتية، إلى حد ما، أمر لا مفر منه، وفي بعض الحالات قد يكون مستحسناً، إذ من الضروري بمكان أن يختار المرء معاركه بشكل استراتيجي. فمن أهم المساهمات التي يمكن أن تقدمها المؤسسات الثقافية للمجتمع هي دفع الحدود التي تحددها المحرمات والعادات والمخاوف، في محاولة لإيجاد مساحات جديدة تمكّن الفنانين والجمهور من الخوض في تجارب لسبر أغوارها، ومحاورة واقتراح أفكار ونماذج حياتية جديدة تعزز التحول والتجدد والتقدم.

 الرقابة وفلسطين

بالنسبة إلى الفنانين والمؤسسات الفلسطينية، فإن مواجهة الرقابة ليست فقط مسألة مواجهة إملاءات عالم الفن أو حماية حرية التعبير، بل هي طريقة للنضال ضد "الإبادة الثقافية" المستمرة التي يتم شنها على الشعب الفلسطيني. وبهذا المعنى، فإن الرقابة لا تتعلق فقط بكبت قول أو أسر فعل ما، لكنها تتعلق أيضاً بتغيير الماضي وتحريف التاريخ وحرمان الناس من تراثهم وثقافتهم.

 وعلى مدى أجيال، ناور الفنانون الفلسطينيون والمؤسسات الفنية عبر مستويات متعددة لتخطي الرقابة الظاهرة (من القوى الخارجية) والرقابة المضمرة (التي تمارسها هياكل سلطة المؤسسات الداخلية بالإضافة إلى الرقابة الذاتية). فعملهم، وبشكل كبير، عرضة للضغوط السياسية والاجتماعية والاقتصادية وفي أحيان أُخرى لتدخل القوة الأمنية. فالمؤسسات الفنية الفلسطينية تسير على خط رفيع يفصل بين قدرتها على تحدي الحدود المفروضة على المجتمع (وهو ما قد يؤدي إلى تعرضها للمساءلة) وبين فقدان مكانتها كوسيلة للتعبير ولخدمة المجتمع ومساندته. ويأتي الضغط من عدة قوى متنافسة لها مصالح في دعم - لكن أيضاً توجيه - ما يتم إنتاجه وتقديمه.

 ومع انتقال أفكار الفنانين وأعمالهم بسهولة أكبر عبر الفضاء الرقمي اليوم، تزداد فرص وصولها إلى الجمهور وكذلك إخضاعها للرقابة، الأمر الذي يفرض مخاطر على الفنانين الذين يختارون مواجهة الحدود والمحددات السياسية والاجتماعية والثقافية السائدة. إن الدور القوي والمتزايد الذي تؤديه شركات الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي كضابطين سياسيين واجتماعيين وأخلاقيين وفنيين – ولا سيما عندما تتعاون هذه الشركات وبشكل وثيق مع الحكومات القمعية – يؤثر وبشدة في حرية التعبير. وفي السنوات الأخيرة، تزايد عدد الحسابات والمحتويات على وسائل التواصل الاجتماعي التي تعود إلى صحافيين فلسطينيين ومدافعين عن حقوق الإنسان، ومؤسسات تم حذفها بواسطة فيسبوك من دون إخطار (Greenwald 2017). وهناك أيضاً عدد لا يحصى من الحالات غير الموثقة من مشاريع لفنانين عملوا أو يعملون على القضية الفلسطينية تعرضت لرقابة فيسبوك بالتعاون الوثيق مع الحكومة الإسرائيلية، والتي بدورها تباهت علناً بأن نسبة الاستجابة لطلباتهم لإزالة المحتوى من فيسبوك تبلغ 95٪ (Gostoli 2016).

 خارج فلسطين، يخضع الفنانون الفلسطينيون وأعمالهم للتدقيق والتمييز بشكل غير متكافئ، وهو ما يجعل من الصعب الوصول إلى الجمهور على صعيد دولي. فعلى سبيل المثال، في سنة 2011، ألغت Musée de l'Elysée  جائزة Elysée الفنية بعد أن سحب راعي الجائزة Lacoste دعمه المالي عند اختيار عمل Nation Estate للفنانة الفلسطينية لاريسا صنصور (Swash 2011).

 وبالنسبة إلى الفنانين ورعاة الفن الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية وغزة وفي الداخل الفلسطيني، فإن صعوبة وتعقيدات الحركة والتنقل هي أيضاً عامل محدد، وهو يؤثر في الجماهير التي يمكن للفنانين الوصول إليها والتأثير الذي يمكنهم إحداثه. كما يوجد ترحيل مستمر للموظفين، ورفض منح تأشيرات إقامة للأكاديميين الأجانب الراغبين في العمل في فلسطين (RT 2016). وتحد هذه القيود بشكل كبير من إمكان مشاركة العمل الفكري والفني مع الجماهير الذين تربطهم بمؤسسات الفنون والثقافة الفلسطينية روابط طبيعية من خلال اللغة والثقافة المشتركة، بالإضافة إلى صعوبة التعاون إقليمياً ودولياً.

 هناك محاولات لـ "الإبادة الثقافية"، وهي واضحة في القدس بصورة خاصة. ومنذ القرن السابع، كانت الملامح الثقافية للقدس إسلامية وعربية إلى حد كبير (باستثناء قرابة 100 عام خلال الفترة الصليبية). وحتى مع الاحتلالين العثماني والبريطاني، ظلت الثقافة العربية للمدينة هي السائدة. وبعد الاحتلال الإسرائيلي للقدس الشرقية في سنة 1967، بذلت إسرائيل جهداً واضحاً لتحويل التركيبة الثقافية وشخصية المدينة الثقافية إلى شخصية يغلب عليها الطابع الإسرائيلي واليهودي (Hassoun 2012). وفي حين أن السياسات الإسرائيلية غالباً ما تتضمن إبعاد الشعب الفلسطيني بالقوة عن القدس من خلال اتباعها بيروقراطية معقدة، يتم كذلك وضع سياسات وفرض رقابة على العديد من جوانب الثقافة الفلسطينية والعربية وتقليص ممارستها ومحوها. ويشمل ذلك عرض الأعمال الفنية المعاصرة والمهرجانات الثقافية (B.B.C. 2012)، وكذلك المواقع الأثرية والثقافية والتاريخية القديمة (هواري 2010)، Boullata 2004) )،  وهذا ما يجعل فلسطين واحدة من أكثر السياقات صعوبة في العالم للفنانين والمؤسسات الثقافية.

 تحاول المؤسسات الثقافية الفلسطينية بصورة عامة، العمل ضد الواقع المستقطب والمتحيز ووقف المد السياسي العنصري الذي يخنق حرية التعبير والإبداع. ورداً على هذه "الإبادة الثقافية"، ركزت معظم البرامج خلال العقود الماضية على الحفاظ على الثقافة والهوية الوطنية والتاريخية. وأدى الاعتداء على الإبداع الوجودي للروح الإنسانية إلى الحاجة إلى التركيز على توثيق الهوية الفلسطينية وتأكيدها باستمرار، وهو ما أدى بدوره إلى عجز في مساهمة الفلسطينيين في موضوعات أكثر عالمية تهم الفنانين، وهو أيضاً نوع من الرقابة المبطنة.

 في هذا السياق، تكتسب محاولات المؤسسات لمعالجة قضايا مثل التنوع والتعددية والتسامح والاختلاف، من خلال العمل مع الفنانين الذين تتحدى خطاباتهم العنصرية والتعصب المتفشي، أهمية خاصة ولذلك تتطلب تخطيطاً استراتيجياً. وتتمثل إحدى الاستراتيجيات العمل على ضمان استقلالية الفنانين والمؤسسات مالياً، قدر الإمكان، ويمكن تحقيق ذلك من خلال تنويع مصادر التمويل، وفي الوقت نفسه، تشكيل شراكات واتحادات وأشكال تعاونية أُخرى لتنظيم العمل بنجاعة، وإدارة الموارد بحكمة.

 قد تتمكن المؤسسات الثقافية - إذا نجحت في إعادة تصور مهمتها ودورها - من ترسيخ مكانتها في المجتمع وإيجاد مساحات آمنة لتبادل الأفكار والتصدي للتحديات. لذلك تحتاج إلى الاستفادة من نفوذها لا للضغط من أجل قضاياها فقط، بل أيضاً لتوفير بعض الحماية في مواجهة العدوان على الثقافة والحرية، بما في ذلك الرقابة التي تفرضها السلطات السياسية وقوى السوق ووسائل الإعلام وغيرها. وللقيام بذلك، يجب أن تعمل المؤسسات الثقافية بفاعلية مع المؤسسات الأُخرى، وخصوصاً مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الشعبية والمراكز المجتمعية التي تسعى لتحقيق تغيير مجتمعي.

 يُعتبر الفنانون المستقلون والمؤسسات الثقافية المستقلة في الفكر والعمل، عاملاً أساسياً في حماية حرية التعبير وتطوير الفن وتعزيز الإبداع في مجتمعاتنا. ولتحقيق ذلك، يجب عليهم أن يسعوا لتحقيق توازن بين الغاية المراد تحقيقها والاستجابة لضغوط الأنظمة (سياسية، اجتماعية، دينية …) ومتطلبات السوق، بالإضافة إلى تقوية الموارد الذاتية والتي من الممكن أن تدعم المقاومة الثقافية والتفكير الحر النقدي المتزن. وعندما يبتكر الفنانون، والأهم من ذلك، عندما تقرر المؤسسات ما الناتج الإبداعي الذي يريدون الترويج له أو عرضه، يجب أن يكونوا على استعداد للتعامل مع التوتر والضغوط الخارجية التي قد تنجم عن ذلك، والتي تعد جزءاً من عملية صناعة الفن. من خلال العمل معاً، وبناء تحالفات واسعة ودعم إنتاج الفن الذي يحاول التعامل مع بعض أصعب التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية التي نواجهها اليوم، يمكن إيجاد مساحة صحية حرة وموائمة للأجيال القادمة.

* شكر خاص لأليسون ريمر لمساهمتها في البحث.

 

 

قائمة المراجع:

 Boullata, Kamal. “Art under the Siege.” Journal of Palestine Studies, vol. 33, no. 4 (Summer 2004), pp. 70-84.

httpp: //www.jstor.org/stable/10.1525/jps.2004.33.4.070.

 Hasson, Nir. “A Surprising Process of 'Israelization' is Taking Place among Palestinians in East Jerusalem.” Haaretz (29/12/2012).

https://www.haaretz.com/.premium-israelization-in-east-jerusalem-1.5282949

 Gostoli, Ylenia. “Is Facebook Neutral on Palestine-Israeli Conflict?” Aljazeera (26 Sept. 2016).

https://www.aljazeera.com/news/2016/09/facebook-neutral-palestine-israel...

 Greenwald, Gleen “ .(2017)Facebook Says it is Deleting Accounts at the Direction of the U.S. and Israeli Government.” The Intercept (Dec. 30, 2017).

https://theintercept.com/2017/12/30/facebook-says-it-is-deleting-account...

 “Jerusalem Artists Go Underground.” B.B.C. News (3 Nov. 2009).

http://news.bbc.co.uk/2/hi/middle_east/8338316.stm

 Swash, Rosie. “Lacoste Denies Censoring Palestinian Artist in Art Prize Row.” The Guardian (22 Dec. 2011).

https://www.theguardian.com/artanddesign/2011/dec/22/lacoste-palestinian-elysee-art-prize

  “University Lecturer Denied Entry to Israel, Banned for 10 Years.” RT (18 Oct. 2016).

https://www.rt.com/uk/363194-israel-bans-soas-lecturer/

 

 

عن المؤلف: 

جاك برسكيان: مؤسس ومدير عام مؤسسة المعمل للفن المعاصر وغاليري أناديل في القدس.