الأدب في زمن الوباء
النص الكامل: 

فلو أنها نفسٌ تموت جميعةً    ولكنها نفسٌ تساقطُ أنفسا

وبدّلتُ قرحاً دامياً بعد صحةٍ     فيا لكِ من نُعمى تحوّلن أبؤسا

                                               المتنبي

 I الوباء وأسئلة المعنى

ليلة 16 شباط / فبراير 1918 غادر مارك سايكس قاعة الاجتماعات في قصر فرساي في ضاحية باريس، حيث كان يشارك في مؤتمر عن السلام، وعاد إلى غرفته في الفندق ليموت بالأنفلونزا الإسبانية. فالقرن العشرون الذي افتتح بمقتلة الحرب العالمية الأولى، توجّ بداياته بوباء ضرب العالم، من آسيا إلى أميركا مروراً بالمشرق وأوروبا، وأُطلق عليه اسم الأنفلونزا الإسبانية، لأن الصحف الإسبانية كانت أول مَن أشار إليه.

كانت الحرب العالمية توشك أن تنتهي بانتصار الحلفاء، وتفكك الدولة العثمانية، وانهيار الإمبراطوريات القديمة، أمّا مارك سايكس الدبلوماسي البريطاني فدخل اسمه في ذاكرتنا، بصفته أحد صانعَي اتفاق سايكس بيكو الذي مزّق خرائط المشرق العربي.

مارك سايكس واحد من نحو خمسين مليون ضحية ماتوا في أتون تلك الجارفة المروعة، لكن موته لم يؤثر في القرار البريطاني الذي حجب المعلومات عن الوباء، تحت شعار "لنتابع المسيرة".

 

 عامل نظافة يضع قناعاً خلال جائحة الانفلونزا الإسبانية في 1918.

 

 إعلان يدعو إلى ضرورة وضع الكمامات في صحيفة "فانكوفر" في كندا في سنة 1918.

 

تُجمع التقارير القليلة عن انتشار الأنفلونزا الإسبانية في المشرق العربي، على أن العدوى انتقلت من سفينة بريطانية وصلت إلى ميناء الإسكندرية. وأن الجنرال البريطاني أللنبي، الذي احتل فلسطين ووصلت جيوشه إلى حلب بين أيلول / سبتمبر وكانون الأول / ديسمبر 1918، حمل مع الاحتلال وباء قاتلاً إلى المنطقة. فالموجة الثانية من الأنفلونزا الإسبانية التي ضربت العالم في ثلاث موجات، كانت الأشد فتكاً في المشرق العربي، وهي التي بدأت في أيلول / سبتمبر 1918.

الأنفلونزا الإسبانية التي جاءتنا مع الجيوش الكولونيالية، منسية بشكل شبه كامل من ذاكرتنا التاريخية. كان ذلك في زمن التفكك الذي صاحب الفتح الكولونيالي، فالدولة العثمانية دالت، ولم يبقَ من ذاكرتها سوى كارثة الحامية العثمانية في المدينة المنورة، التي صمدت أشهراً واستسلمت في سنة 1919 بعدما ضربها الوباء.

غياب الأنفلونزا الإسبانية عن المدونة الأدبية، محاها من الذاكرة التاريخية. والرواية الوحيدة التي التفتت إلى وقائعها وربطتها بأهل بلاد الشام المهاجرين هي رواية ربيع جابر "أميركا" التي أشارت إليها بشكل هامشي.

يوجد كثير من علامات التشابه بين الأنفلونزا الإسبانية وكورونا: الكمامات التي تغطي الأنف والفم؛ المقابر الجماعية؛ لون الموت؛ الخوف والهلع؛ إلخ.

للموت ثلاثة ألوان بحسب المعلم بطرس البستاني في "المحيط"، الموت الأحمر: بحد السيف، والموت الأبيض: في السرير أو ما كانوا يطلقون عليه اسم "حتف الأنف"، والموت الأسود: هو الموت اختناقاً.

الموت بالأوبئة هو موت أسود، والاختناق هو سمته الرئيسية، مهما تتعدد أسماؤه، من طاعون أثينا الذي رواه كبير المؤرخين الإغريق ثوكيديدس في كتابه "حرب البيلوبونيز"، إلى موت "كوفيد 19" الذي يحصد المصابين وهم تحت أجهزة التنفس الاصطناعي.

صفة الجارفة التي أطلقها ابن خلدون على الطاعون، تصلح اسماً لوباء كورونا الذي يجرف أرواح الألوف، منتقلاً من ووهان في الصين إلى نيويورك. واذا كانت آثار هذه الجارفة على المشرق العربي، بالنسبة إلى عدد المصابين، تبدو هامشية مقارنة بالكارثة التي تجتاح أوروبا وأميركا، فان أثرها الاجتماعي والنفسي والاقتصادي ربما يكون مدمراً.

جاءت كورونا لتذكّرنا بتاريخ منسيّ، حاملة أسئلة كبرى عن علاقة الأوبئة بالتاريخ: هل كانت الأنفلونزا الإسبانية أحد الأسباب غير المباشرة لصعود النازية والعنصرية في ألمانيا؟ وهل يجب قراءة سقوط الإمبراطورية الرومانية بالنظر إلى الطواعين التي ضربتها؟ وما علاقة الأوبئة بالتطور الفكري والفلسفي في العالم؟

احتلت الأوبئة حيزاً مهماً في المدونة التاريخية، من مؤرخي اليونان إلى المؤرخين العرب، وصولاً إلى وثيقة دانيال ديفو "يوميات سنة الطاعون" (1722)، والذي يروي فيها وقائع توثيقية عن أهوال طاعون لندن الكبير في سنة 1665. ونص ديفو الذي اعتُبر شهادة شخصية سرعان ما يتكشّف أنه عمل متخيّل قد يكون مستنداً إلى يوميات هنزي فو عم المؤلف. فديفو كان في الخامسة من العمر في سنة 1665، ولا يعقل أن تكون هذه الدقة في الإحصاء نتاج ذاكرة طفل. نشر المؤلف كتابه بتوقيع H. F.، وقام بمجهود ثوثيقي هائل جعل من كتابه مرجعاً استند إليه الأطباء في زمنه. ولعل وصفه للمقابر والأشباح التي كانت تتراءى للناس فيها، مؤشر إلى الكارثة التي حلت بالمدينة.

قبل دوفو بأربعة قرون نعثر على نص أدبي مذهل كتبه الشاعر المملوكي ابن الوردي (1292 - 1349) وهو رسالة بعنوان "النبا عن الوبا". وابن الوردي وُلد في معرة النعمان ومات بالطاعون في حلب، ولعله لخّص في هذين البيتين من الشعر حالنا اليوم مع كوفيد 19 ونحن نواجه احتلالاً طاعونياً في فلسطين، وسلطات طاعونية تتحكم في بلاد العرب:

 رأى المعرة عيناً زانها حَوَرٌ      لكنّ حاجبها بالجور مقرونُ

فما الذي يصنع الطاعونُ في بلدٍ     في كلِّ يوم له بالظلم مطعونُ

 

 

غلاف ديوان ابن الوردي.

 

في رسالته هذه، المنشورة في ديوانه، روى ابن الوردي بأسلوب زمنه الموشّى بالبديع والاستعارات والجناس والتورية والسجع وقائع ايام الطاعون التي دامت خمسة عشر عاماً: "طاعون روّع وأمات، وابتدأ خبره من الظلمات، يا له من زائر من خمس عشرة سنة دائر."

تبدأ الرسالة بافتراض واضح، فالطاعون من علامات القيامة، "فعندي أنه الموت الذي أنذر به نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام... فنستغفر الله تعالى من هوى النفوس فهذا بعض عقابه."

لكن بعد هذا المدخل الذي كان من لوازم الكتابة في زمنه، فإنه يقدّم وصفاً تفصيلياً للطاعون، يبدأ بالإشارة إلى الأماكن التي انتشر فيها: الصين والهند وبلاد الأوزبك وقبرص وصولاً إلى القاهرة والإسكندرية ومدن فلسطين والمدن الشامية: دمشق وحمص وحماه وحلب، فيصف طاعون دمشق التي كانت تخسر في كل يوم ألفاً من أبنائها، لينتهي به المطاف في حلب حيث قضى.

ثم ينتقل إلى وصف أعراض المرض: "ومن الأقدار أنه يتبع أهل الدار، فمتى بصق واحد منهم دماً، تحقق كلهم عدماً:

 سألت باري النَّسَمْ   في دفع طاعون صدمْ

فمن أحسّ بلْعَ دمٍ    فقد أحسّ بالعدمْ

 ثم يصف طرق مقاومة الناس للطاعون: "فلو رأيت أعيان حلب وهم يطالعون من كتب الطب الغوامض، ويكثرون في علاجه من أكل النواشف والحوامض... وقد لاطف كل منهم مزاجه وعدلْ، وبخروا بيوتهم بالعنبر والكافور والسعد والصندلْ، وتختموا بالياقوتْ، وجعلوا البصل والخل والصحنا (وهو السمك الفسيخ) من جملة الأدم والقوتْ."

ويصل كاتبنا إلى وصف حال المدينة مع الموت الجارف: 

اسودت الشهباء في عَيْـ      ـنِي من رممٍ وغشِّ

كادت بنو نعش بها      أن يلحقوا ببنات نعشِ

 ملأت النعوش المكان، وصارت المدينة أشبه بمقبرة، وكثر استغلال الجنائزية للموقف: "ولو شاهدت كثرة النعوش وحملة الموتى، وسمعت في كل قطر من حلب نحيباً وصوتا، لولّيت منهم فراراً، ولأبيت فيهم قراراً، فلقد كثرت فيها أرزاق الجنائزية، فلا رُزقوا، وهم يلهون ويلعبون ويتقاعدون على الزبون."

ثم يصف حال الناس بهذه الأبيات:

 فهذا يوصي بأولاده    وهذا يودّع جيرانَه

وهذا يهيىء أشغاله    وهذا يجهز أكفانَه

وهذا يُصالح أعداءه    وهذا يُخالل من خانَه

 لكن ابن الوردي لم يغادر المدينة، "فما منعنا من الفرار منه هو التمسك بالحديث: (اللهم إننا ندعوك بأفضل ما دعاك به الداعون، وأن ترفع عنا الوباء والطاعون)..."

مات ابن الوردي في حلب، فالشاعر الذي وُلد في معرة النعمان، وهي مدينة عفا عنها الطاعون، اختار أن يواجه المرض فكان ضحية نصه، وصار شهيداً مزدوجاً؛ شهيداً للطاعون الذي كان "يصول في العقلاء كالمجنون"، بحسب الاعتقاد الذي كان سائداً في زمنه، وشهيداً للكتابة.

***

وباء كوفيد 19 يعيد ربط عالم ما بعد الحداثة بتاريخ الهشاشة، ويطرح أسئلة كبرى عن النموذج الاقتصادي الذي تقود من خلاله الرأسمالية بصيغتها النيوليبرالية العالم إلى الهاوية، عبر تدمير منهجي للطبيعة، وتحطيم لقيم المساواة.

 كما يطرح سؤالاً كبيراً على المبنى الثقافي والمدونة الأدبية في العالم، فالأدب الحديث من توماس مان إلى ألبير كامو وأندريه شديد وغابرييل غارثيا ماركيز وجوزيه ساراماغو... استخدم الأوبئة كاستعارة، وصنع منها كناية تطرح أسئلة عن الحب والمجتمع والدين والسلطة، بحيث لا نكاد نعثر على أدب يوثق زمن الوباء. فالافتراض أن الإنسان انتصر على الطبيعة بشكل كامل ومطلق سمح للأدب بأن يجعل من الوباء معبراً لأسئلته الوجودية التي جعلت من الوباء رمزاً.

فجاءت كورونا ومعها أتى الوباء، لا كرمز بل كحقيقة، لا كإطار بل كواقع، مفتتحة سؤال العولمة وما بعدها، ورافعة إصبع الاتهام في وجه الرأسمالية المتوحشة، ومذكّرة بأن هشاشتنا هي السمة الرئيسية لإنسانيتنا.

 II - وهران والطاعون في رواية ألبير كامو

لا أجد أي تفسير أدبي مقنع للسبب الذي دفع ألبير كامو إلى جعل مدينة وهران في الجزائر مسرحاً لروايته "الطاعون". فالمدينة ليست سوى إطار للرواية، ولا علاقة لها بمصائر أبطالها.

المدينة غير مهمة في ذاتها، وتاريخ حدوث طاعونها ليس مذكوراً. نحن أمام تجريد للشرط الوجودي في مواجهة الوباء، فلماذا أعطى الكاتب الفرنسي للمدينة اسمها العربي - الأمازيغي؟ هل لأنه أقام فيها فترة من الزمن؟ وهل يشكّل هذا سبباً مقنعاً؟

 

ألبير كامو.

 

لو ذهب كامو في رسم مدينة الطاعون هذه إلى أقصى التجريد، وتجاهل سكانها العرب بشكل كامل، لقلنا إن وهران اسم مستعار لأي مدينة فرنسية أو أوروبية، لكن الكاتب انزلق في ثلاثة أماكن من روايته إلى الإشارة إلى سكانها العرب. نعرف أولاً أن الصحافي ريمون رامبير يقوم بتحقيق لحساب صحيفة فرنسية كبرى عن ظروف حياة العرب، غير أن مشروعه سرعان ما يتلاشى.

ثم نعثر على العرب مرتين أُخريين: الأولى، عبر إشارة إلى رواية "الغريب"، حين تقوم بائعة التبغ في حديثها مع جوزيف غران بذكر عامل تجاري في الجزائر كان قد قتل عربياً في أحد الشواطىء، أمّا الإشارة الثانية فهي تذكير بمهمة الصحافي التي نسيها في فترة انشغاله بتدبير وسيلة للخروج من المدينة، حين يُذكّر رامبير الطبيب برنار ريو بها.

الرواية التي يعود كثيرون إلى قراءتها في أيام كورونا هذه، تدور حول ثلاثة مستويات: مستوى واقعي قائم على وصف دقيق لأعراض الطاعون الذي ضرب وهران، ومعرفة جدية بتاريخ الوباء الذي ينتقل من الجراذين إلى البشر؛ مستوى تجريدي فلسفي يطرح أسئلة عميقة عن علاقة الإنسان بالموت والله، والتوتر بين الفردي والجماعي؛ أخيراً مستوى ثالث سأطلق عليه اسم الغياب من خلال تغييب سكان المدينة الأصليين، كأن موتهم لا يعني شيئاً، فالذي يعيش خارج اللغة الفرنسية الكولونيالية يموت من دون أن يكون لموته صدى.

تخيلوا معي روائياً إسرائيلياً يكتب بعد نهاية كابوس "كوفيد 19" رواية تدور في مستعمرة الناصرة العليا التي صار اسمها نوف هاجليل، والتي يشكل الفلسطينيون ربع سكانها اليوم، أو في مستعمرة كريات أربع في الخليل، ولا يلتفت إلى الفلسطينيين؟ هل سيتابع "الأقدام السود" الإسرائيليون الترسيمة نفسها التي بناها "الأقدام السود" الفرنسيون؟

إلّا إن رواية كامو على الرغم من خللها على هذا المستوى تحمل قيمة أدبية رفيعة، فهي جعلت أكثرية النقاد الساحقة لا تتنبّه إلى هذا التشوّه الكولونيالي الذي يطرح أسئلة عميقة سبق أن أشار إليها إدوارد سعيد في نقده لرواية "الغريب"، وكان من أوائل مَن فعلوا هذا.

وكي أكتنه الأعماق الفكرية والأدبية لرواية "الطاعون"، فإن عليّ أن أتناسى أنني عربي، وأنا على استعداد لفعل ذلك موقتاً، لأن الدروس التي استخلصها كامو بعبقريته ولغته الأدبية المدهشة، تخاطب أسئلتنا الوجودية اليوم.

أقول موقتاً، لأنني أعتقد أننا لا نستطيع تجزئة الشرط الإنساني، ذلك بأن إخراج الوهرانيات والوهرانيين من حكاية مدينتهم المنكوبة هو جزء من الطاعون العنصري الكولونيالي الذي سقط فيه كامو حين أعلن في لقاء مع مجموعة من الطلاب في السويد بعد نيله جائزة نوبل، أنه إذا خُيّر بين أمه والعدالة، فسيختار أمه.

والغريب أن النقاد الذين فسروا الطاعون باعتباره رمزاً للاحتلال الألماني لفرنسا لم ينتبهوا إلى حقيقة أن الرواية تدور في مدينة عربية يحتلها الاستعمار الفرنسي؟

ميزة هذه الرواية الفذة أنها تمزج الأحداث المأسوية التي يعيشها أبطالها بحوارات عميقة تأخذنا إلى الأسئلة الإنسانية الكبرى، من سؤال الكلام إلى سؤال الصمت، ومن الخوف إلى الجنون، ومن شجاعة لا وجود لها إلى شجاعة الدكتور ريو وصحبه، وهم يقاومون وباء يعرفون أنهم ضحاياه.

مجانية الموت الطاعوني تعطي مجانية الحياة معناها بصفتها بحثاً عن خلاص أرضي فقدت السماء القدرة على التدخل فيه. وهذا ما تعبّر عنه عظة الكاهن بانولو التي اعتبرت الطاعون غضباً إلهياً وعقاباً سماوياً، فالعقاب هو "طريقة الله في حبه لكم." غير أن هذا الافتراض سينهار مرتين: الأولى على لسان الدكتور ريو أمام طفل مطعون يموت: "لقد كان هذا على الأقل بريئاً، وأنت تعرف هذا جيداً... سأرفض حتى الموت هذا الخَلق الذي يُعذَّب فيه الأطفال"، والثانية حين يموت الكاهن وحيداً، في صمت بلا رحمة.

إلّا إن هذا الحيز الفلسفي الديني على أهميته، ليس هو متن الرواية العميق الذي يقوم على ثلاثة افتراضات:

الأول، هو المنفى: "إن أول ما حمله الطاعون لمواطنينا هو النفي." فالطاعون الذي يغرب ثم يعود من جديد هو تذكير بالمنفى الذي يعيشه البشر، ذلك بأن المنفى الداخلي وسط أمواج الموت هو أقسى أنواع المنافي.

الثاني، هو الصراع بين سعادة الإنسان وتجريدات الطاعون، أي بين الخلاص الفردي والخلاص الجماعي، بين الهرب وخوض المواجهة مع الوباء الذي يشبه القدر.

الثالث، هو الشــرف، فالإنسان ليس فكرة، والأبطال والقديسون لا وجود لهم، بل إن الحاضر يجب أن يعاش كشكل من أشكال المواجهة، وهو ما سيدفع الصحافي في النهاية إلى البقاء في المدينة، فالطاعون جعل من المدينة المصابة مدينته.

كان الدكتور ريو يعرف أن أحد أشكال مواجهة الوباء هي أن يموت الإنسان بشرف وكرامة. هذه الافتراضات الثلاثة تشكّل المفاتيح الفكرية لقراءة هذا العمل الأدبي الكبير، وتأخذنا إلى السؤال الإنساني. فبعد أن يقول جان تارو الذي كتب مذكراته في تلك الأيام العصيبة وصار "مؤرخاً لما لا تاريخ له"، إن كل إنسان يحمل في جلده الطاعون، يطرح السؤال: "هل في وسع الإنسان أن يكون قديساً من غير الله؟" فيأتيه جواب الطبيب: "أنا لا أحب البطولة ولا القداسة، إن الذي يهمني هو أن يكون المرء إنساناً."

بعد هذا الحوار يسبح الصديقان في البحر الدافىء كأنهما يقومان بمعمودية بديلة. أسئلة هذه الرواية لا تنتهي، غير أن سؤال موت الأطفال الذي لم يقترب منه كامو إلّا بشكل عَرَضي، ستأتي كاتبة لبنانية - مصرية - سورية هي أندريه شديد، لتعالجه في سنة 1960، أي بعد ثلاثة عشر عاماً من صدور رواية "الطاعون"، وذلك في روايتها "اليوم السادس"، والتي تروي فيها حكايات الأسى ومواجهة الموت في الكوليرا التي ضربت مصر في سنة 1947.

 III - الكوليرا والحب في "اليوم السادس"

1

كتبت الشاعرة نازك الملائكة قصيدة الكوليرا في سنة 1947، مؤرّخة بها ولادة الشعر الحديث.

وقد دار نقاش طويل حول لمَن الأسبقية في ولادة قصيدة التفعيلة الخارجة عن نسق عمود الشعر العربي. هل تؤرَّخ البداية بقصيدة نازك: "سكن الليل"، أم بقصيدة السيّاب: "هل كان حباً"، التي كتبها الشاعر في سنة 1946؟

لكن هذا ليس المسألة التي أبحث فيها وعنها الآن.

 

نازك الملائكة.

 

سؤالي يرتبط بعلاقة أدبنا بالأوبئة التي ضربت مجتمعاتنا في القرنين التاسع عشر والعشرين، إذ شهدت بلادنا الطاعون في القرن التاسع عشر، والكوليرا والإيبولا في القرن العشرين.

ففي الرواية العربية لا نكاد نعثر سوى على رواية السوداني أمير تاج السر "إيبولا 76" (بيروت: دار الساقي، 2012)، وفيها يصف الروائي وباء إيبولا الذي ضرب الكونغو وامتد إلى مدينة أنزارا في جنوب السودان.

الرواية تقدم صورة بانورامية لمسار الوباء الذي انتقل من عاهرة في كينشاسا إلى جسد لويس نوا العامل في معمل للنسيج في أنزارا، إلى المدينة التي احتلها الموت.

بنية الرواية التي تشبه ريبورتاجاً تَتَبّع حركة الوباء الذي يحوم حول ضحاياه، لا تسمح لها بأن تبني شخصياتها خارج أطر محددة سلفاً، فالناس هم مجرد ضحايا.

إلى جانب هذه الرواية لا نكاد نعثر على شيء، باستثناء رواية أندريه شديد "اليوم السادس"، وشذرات متفرقة، كما في رواية ربيع جابر: "أميركا" ( بيروت: دار الآداب، والمركز الثقافي العربي، 2009)، التي تؤرشف بعض حكايات الهجرة اللبنانية من خلال شخصية مرتا حداد التي تهاجر من قرية بتاتر في جبل لبنان إلى أميركا، بحثاً عن زوجها. وفي فيلادلفيا، حيث أقامت مرتا، نعثر على مشاهد من الأنفلونزا الإسبانية التي ضربت المدينة الأميركية.

إذا كنا في الرواية قد عثرنا على الأقل على تحفة أندريه شديد "اليوم السادس"، فإننا لا نجد أمامنا في الشعر الحديث والمعاصر سوى أمثولة أحمد شوقي "شريعة الغاب"، الموجهة إلى الأطفال والمقتبسة عن لافونتين، والتي تحفل بالمواقف الوعظية، أو على قصيدة علي الجارم "الوباء" التي تعظ وترثي بنبرة كلاسيكية تفتقر إلى التجربة الإنسانية.

لم يبقَ أمامنا سوى قصيدة نازك الملائكة، "سكن الليل" أو الكوليرا، التي افترضت مؤلفتها أنها أعطتها مكان الريادة في الشعر الحديث.

تنسب نازك الملائكة قصيدتها إلى شعور عفوي استولى عليها صباح يوم الجمعة الموافق فيه 27 تشرين الأول / أكتوبر 1947، حين كانت تستمع إلى مآسي الكوليرا في مصر، كأنها تسمع صوت عجلات العربات التي تنقل الجثث، فانبثقت القصيدة بإيقاعها الجديد الذي تحسس صوت أقدام الخيل.

"سكن الليل/ اِصغِ ، إلى وقع صدى الأنّات/ في عمق الظلمة، تحت الصمت، على الأمواتْ"، وتتابع: "في كل مكان يبكي صوت / هذا ما قد مزّقه الموت / الموت الموت الموت"...

استخدمت نازك بحر المتدارك كي تنقل صوت الموت الذي سمعته عبر الراديو، وكتبت القصيدة دفعة واحدة، وعبّرت عن "ظمأ النطق في كيانها."

لكن اللافت أن الشاعرة بقيت خارج الموضوع، فالكوليرا هنا ليست سوى مجموعة أصوات، وكلمة موت التي تشكل لازمة القصيدة تبدو جداراً يغطي المأساة بالإيقاع.

قصيدة الملائكة هي قراءة انطباعية خارجية، معاناتها انفعال آني احتفى بالتعبير عن صدى الكارثة، ولم يصل إلى القدرة على التعبير فيها ومن داخل معاناة الضحايا.

2

رافقتني عينا داليدا اللتان تشعان حزناً وأسى، وأنا أعيد قراءة رواية "اليوم السادس" لأندريه شديد. كيف تستطيع عينان أن تختزنا هذا الألم الإنساني كله، وهما تشفّان عن أعماق الروح؟ في فيلمه المقتبس عن رواية "اليوم السادس" (1986)، والذي أدت فيه داليدا دور البطولة، عرفت كاميرا يوسف شاهين كيف تلخّص الألم من خلال مرايا عينَي داليدا، كأن الفنانة المصرية - الإيطالية كانت في عودتها إلى وطنها الأول تستعد للرحيل عبر انتحارها بعد عام واحد من إنجاز الفيلم. إلّا إن شاهين أغرق فيلمه بقصة عشق مدرّب القرد الذي يُدعى "أوكازيون" لبطلة القصة "صدّيقة"، وهي قصة تبدو مفتعلة ولا مكان لها في سيرة المرأة. كما أخذنا إلى عوالم الاستعراض، الأمر الذي أضاع عليه وعلينا، اكتناه تجربة مقاومة الموت في أثناء وباء الكوليرا الذي عاشته مصر في سنة 1947. وهذه مسألة تحتاج إلى قراءة خاصة.

 

أندريه شديد.

 

ومع أن "اليوم السادس" كُتبت بالفرنسية وصدرت في سنة 1960، إلّا إنها تُعتبر الرواية الوحيدة التي كتبتها كاتبة عربية، والتي عالجت قضايا العلاقات الإنسانية في زمن الكوليرا (ترجم الرواية إلى العربية حمادة إبراهيم، وصدرت عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر في سنة 2002).

"اليوم السادس" رواية عن الأسى والحب. لقد استطاعت الشاعرة والروائية أندريه شديد أن تتغلغل إلى أعماق المأساة، وأن تطرح سؤال الحب، وهو السؤال الفلسفي والوجودي الكبير الذي لا نعثر عليه في رواية "الطاعون"، لألبير كامو.

المقارنة بين هاتين الروايتين ليست عادلة لكلتيهما، لأن العملين يعبّران عن مقتربَين مختلفين. مقترب كامو رمزي وفلسفي يطرح أسئلة عن معنى الحياة، بينما ينطلق مقترب أندريه شديد من تجربة ملموسة كان فيها الحب هو المعنى الإنساني الذي يسمو على المعاني كلها، ويضمها إليه. تبدأ رواية أندريه شديد بالزيارة التي قامت بها بطلة الرواية "صدّيقة" إلى قريتها "بروات" التي ضربتها الكوليرا، وهناك تتوالى أمام عينيها المشاهد المفجعة. ابن شقيقتها صالح يستقبلها بهذه الكلمات: "لقد وصلت بعد فوات الأوان، لا يوجد هنا أحد لاستقبالك سوى الأموات." وفي "بروات" نكتشف مأساة المصابين الذين يُلقى بهم في معسكرات في الصحراء ويُتركون للموت، كما نعاين عذابات الموتى الذين يحاول أهاليهم دفنهم بعيداً عن أعين رجال الأمن. وبعد عودتها من "بروات"، لم تعد أم حسن كما كانت، فقد كان يلوح لها أن السماء لن تلبث "أن تتصدع فجأة."

تصدّعت السماء حين أصيب حفيدها الصغير حسن بالكوليرا، و"صار قلبها يملأ فمها" مثلما وصفتها شديد، أو صارت ابتسامتها جرحاً، كما جاء على لسان داليدا في فيلم شاهين. "صدّيقة" المرأة الكهلة التي تعمل غسّالة، وتعيش مع زوجها المشلول "سعيد"، تكتشف مرض حفيدها بعد ستة أيام من إصابة سليم، أستاذ حسن، بالوباء. سليم قال لها وهو في طريقه إلى سيارة الإسعاف: "بعد ستة أيام أكون قد شفيت، لا تنسي ما أقوله لك، في اليوم السادس إمّا أن نموت، أو نُبعث من جديد."

فكرة اليوم السادس المنتظر هي التي دفعت "صدّيقة" إلى الهرب بحفيدها بعيداً عن أعين الناس، كي لا يساق إلى الموت الجماعي، وجعلتها تغادر البيت تاركة زوجها المشلول، وهي على اقتناع بأنها تستطيع أن تشفي حفيدها الصغير بالحب.

رحلة "صدّيقة" هي رحلة الصراع بين الحب والموت. لقد استطاعت المرأة أن تجد لحفيدها مأوى موقتاً في غرفة على السطوح في عمارة اليوناني، وفي وحدتها كانت تحنو على المريض والمرض، كأن حب الحياة هو تعبير عن حبها للطفل الذي "كان يقفز في أنحاء الحي كأنه مربوط إلى السماء بخيط خفي، [و]ها هو الآن مقيّد في مكانه."

في العلاقة مع حسن المريض ذي العينين الأبنوسيتين، أعادت "صدّيقة" اكتشاف معنى وجودها، فهي منذورة للحياة، ليس دفاعاً عن بقائها فقط، بل دفاعاً عن حقّ حسن في الشفاء. ومن أعماق وحدتها تكتشف "صدّيقة" أن "الآلام والدموع هي نبضات من قلب الله"، وتصرخ بأن الظل هو مرض الشمس، "تذكّر أن الشمس تنتصر دائماً، وأنك أنت شمسي وحياتي ولا يمكن أن تموت."

في غرفة السطوح الصغيرة، نعيش مع "صدّيقة" الإصرار والرجاء، الخوف والتحدي. امرأة تحاول أن تجعل الطفل المريض الذي يتلاشى بين يديها، قادراً على الصمود. لا تحمل أم حسن سوى وسيلتين للعلاج، الماء كي تطفىء عطش جسد الطفل الذي يتلوى من الألم، والحب كي تعالج عطش روحه إلى الحياة.

لحظات الوحشة في مواجهة موت الطفل المحتوم هي واحدة من أكثر لحظات الرواية إشراقاً. الشعر يحتل السرد، والمبنى التراجيدي يتصاعد كي يصل بنا في النهاية إلى لحظة التماهي بين الحياة والموت:

 وانحنى نصفها العلوي وهي تأخذ الطفل فوق ركبتيها. كان يبدو مركّباً من بعض عصي الصفصاف الرفيعة الهشة، فجعلت المرأة من نفسها مهداً وحقل أعشاب وأرضاً طينية، وسالت ذراعاها أنهاراً حول عنق الطفل.

 "أوكازيون" مدرب القرد، يظهر من جديد حين تلتقي به "صدّيقة" مصادفة عندما خرجت تداري وحدتها في الشارع. لقد اكتشف "أوكازيون" وسيلة جديدة لجني المال، وهي أن يشي بالمصابين بالكوليرا لقاء مكافأة مادية تمنحها السلطة للوشاة بهدف عزل المصابين بالوباء. يقترح "أوكازيون" على "صدّيقة" العمل معه، ويأخذها إلى أحد الأعراس، وفي طريق العودة تطلب منه أن يساعدها في استئجار قارب يعيدها إلى قريتها عارضة عليه نصف المبلغ الذي تمتلكه.

في القارب تصل المأساة إلى ذروتها. ركبت "صدّيقة" النهر مع حسن، ومعها ثلاثة رجال: النوتي أبو نواس، و"أوكازيون"، والنوبي دسوقي. "أوكازيون" يكتشف وجود الطفل حسن في القارب ويصاب بالرعب، لكن المرأة كانت على ثقة بأن الطفل سيشفى في اليوم السادس. اليوم الموعود اقترب وهي في المركب في طريقها إلى قريتها. وعندما أشرقت شمس اليوم السادس، وعاين "أوكازيون" موت "حسن"، نكتشف مع صراخ دسوقي وهو يحاول انتزاع "صدّيقة" من قلب الموت، أن المرأة دفنت الطفل في قلبها. صرخ النوبي بالمرأة: "لقد أنقذت الطفل بآخر أنفاسك." بينما كان النوتي أبو نواس يعلن أن: "الطفل سيرى البحر"، يموت "حسن"، وتستسلم "صدّيقة" لنعاس الموت الذي يحملها إلى حيث ترى الغلام موجوداً في كل مكان، ونستمع إلى الصوت: "الحياة، البحر... وأخيراً البحر."

"اليوم السادس" نشيد صاغته شاعرة وروائية مصرية - لبنانية - فرنسية، جاعلة من الرواية وسيلتها لإعادة اكتشاف مصر بعينَي امرأة تعيش تفصيلات المأساة. امرأة تروي حكاية شغفها بالطفل الذي يصارع الموت، متجاوزة الإحالات الرمزية، لأن الحب يعلو على الرموز كافة؛ امرأة جُبلت كلماتها بالأسى، لتقدّم رواية شعرية - واقعية، عن مقاومة الفقراء للوباء بالحب الذي جعل من الموت اسماً آخر للحياة.

 IV - خرافة الحب ورمزية الوباء

"مئة عام من العزلة"، التي نُشرت للمرة الأولى بالإسبانية في سنة 1967، كانت حيلة غابرييل غارثيا ماركيز التي استولت على خيال جيل كامل. أعاد هذا الروائي الكولومبي كتابة "العجيب والغريب"، كما في "ألف ليلة وليلة"، عبر بنية جديدة استلهمت فولكنر، لكنها كانت ابنة بيئة تتعايش فيها الغرابة مع الواقع، بحيث صار الواقع هو الغرابة التي لا يمكن القبض عليها.

غير أن حيلة الرواية الكبرى تحولت إلى فخ في رواية قصيرة نُشرت في سنة 1981، بعنوان "قصة موت معلن". بطل الرواية وضحيتها هو اللبناني - السوري سانتياغو نصار الذي يُقتل بشكل وحشي على يد الأخوين بابلو وفيدرو بيكاريو. فخ الرواية مزدوج: الجريمة من جهة، والعشق من جهة ثانية. أهل المدينة كلهم عرفوا أن سانتياغو سيموت لأن أنجيلا بيكاريو اعترفت ليلة زفافها، بعد افتضاح أمر عدم عذريتها، بأن سانتياغو هو المذنب. الوحيد الذي لم يعرف هو سانتياغو الذي سيموت حاملاً مصارينه في يديه. سانتياغو مات غريباً ووحيداً، أمّا العشق الذي لا علاقة للضحية به، فهو عشق أنجيلا المتأخر لزوجها الذي هجرها، فبقيت سبعة عشر عاماً تكتب له رسائل الحب. وحين عاد إليها زوجها باياردو سان رومان بعد تلك الأعوام كلها، اكتشفت المرأة أن رسائلها بقيت مقفلة.

 

غابرييل غارثيا ماركيز.

 

رسائل أنجيلا هي مقدمة الرسائل التي سيكتبها فلورنتينو لحبيبته فرمينا في "الحب في زمن الكوليرا". موت سانتياغو نصار الذي أشعرني بأن ماركيز يكتب عن تجربة المهاجرين اللبنانيين - السوريين إلى أميركا الجنوبية، والتي للأسف لم تكتبها الرواية العربية مثلما يليق بتجربة كبرى، بدا لي جزءاً مكملاً لموتنا اللبناني في حروبنا الأهلية التي بدأت في سنة 1840 ولم تنتهِ. أمّا حكاية عشق فلورنتينو أريثا لفيرمينا داثا في رواية "الحب في زمن الكوليرا" (1985)، فأخذتني إلى كتاب "مصارع العشاق" لابن السرّاج، ومقاطع من "طوق الحمامة" لابن حزم. ففي الكتابين لا نقرأ عن الحب فقط، بل عن متخيله أيضاً، أي عن الحب الذي يتخذ أشكالاً عجيبة، من الحب في المنام إلى الموت حباً، إلى آخره... مفردات العشق العربي التي صاغها قيس بن الملوح جنوناً ووضاح اليمن موتاً، تلوح وشماً على مبنى رواية ماركيز، لتأخذنا إلى عالم سحري لا يفضي إلّا إلى مزيد من التوغل في الخرافة.

بنى ماركيز روايته على التوازي بين الكوليرا والحب. فأخذ من الكوليرا رمزيتها القاتلة جاعلاً أعراضها شبيهة بأعراض الحب. فالأعراض التي تصيب فلورنتينو العاشق عندما تتخلى عنه حبيبته فيرمينا وتتزوج من الطبيب أوربينو خوفينال، هي أعراض الكوليرا، مثلما لاحظت أمه.

بدأت الرواية بموتين: موت جرميا سانت آمور، المصوّر الذي قرر الانتحار خوفاً من الكهولة، وموت الدكتور أوربينو عندما سقط أرضاً وهو يحاول التقاط الببغاء.

لقاء فلورنتينو بفرمينا في مأتم الزوج بعد واحد وخمسين عاماً من الفراق، يفتح الرواية على الحب وذاكرته. الرواية تبدأ بالذاكرة وتنتهي في سفينة تحمل العلم الأصفر، حيث يصير العمر بلا نهاية، كأن لانهائية الحب تلتقي بلانهائية الموت.

عشق مصنوع من كلمات ورسائل يستولي على العاشق كأنه قدر لا يُردّ. وعندما التقى الحبيبان أخيراً، بعد موت الزوج، كانت هي في الحادية والسبعين وهو في السادسة والسبعين. مراهقتهما الغرامية الأولى كانت عبر الرسائل، أمّا عشقهما الجسدي فلن يتجسد إلّا على ضفاف الموت.

رواية عجيبة تصنع أفخاخها في سرد يجعل القارىء متفرجاً على حدث خارق. العاشق يأكل الزهور ويشرب الكولونيا، يمارس الجنس بجميع أشكاله مع مئات النساء، من دون أن يفقد عذريته العميقة أمام حبيبته الأولى. كل شيء في قصة الحب غير عادي إلى درجة تدفع القارىء إلى حافة عدم التصديق. لكن سيان؛ فالحكاية لا تطلب منا أن نصدّقها، بل تأخذنا إلى احتمالات العواطف والرغبات.

إنها رواية عن فكرة الحب، أمّا الحروب الأهلية التي تعصف بكولومبيا، والكوليرا التي تجرف الموتى، فليست سوى أطر للرغبة.

قرأت الرواية في ثمانينيات القرن الماضي وأعدت قراءتها اليوم. وفي قراءتي الثانية اكتشفت أنني نسيتها، وأن ذاكرتي لم تحفظ منها سوى مشاهد متفرقة، كمشهد موت الطبيب في البداية، ومشهد المرأة التي كان اسمها سارا نوريغا التي كانت "تمص مصاصة طفل رضيع وهي تمارس الحب وذلك كي تصل إلى ذروة المجد"، ومشهد النهاية، وبعض المشاهد المتفرقة كالدمية التي صارت تكبر، وحكايات الدلافين، وإلى آخره... لكن صورة العاشق تلاشت، فهذا العشق، على الرغم من أحزانه ليس مأسوياً، إنه مجرد ذكرى.

عبقرية ماركيز جعلت من هذا التلاشي مدخلاً إلى كتابة القصة. أميل اليوم إلى قراءة هذه الرواية بصفتها رواية عن الموت والكهولة، أو عن الرغبة في الحب كعلاج من الموت. هل الكوليرا هي رمز الحب؟

الرمز في الرواية يجعل من شخصياتها أشباحاً، والتوغل في الغرابة إلى درجة تحويلها إلى شكل موارب للحقيقة يدمّر الفاصل بين الحب ووهمه. أمّا الكوليرا التي من دونها لم يكن من الممكن للقصة أن تنتهي بحيث لا تنتهي على الطريقة الماركيزية، فمجرد إطار رمزي لا يأخذنا إلى المأساة على الرغم من مأسويتها.

لكنها رواية ممتعة، والإمتاع هو سر هذا الكاتب، وهو إمتاع مجاني يأخذنا إلى المتعة بصفتها إحدى علامات الأدب الكبرى. أتخيله يضحك وهو يكتب، ينتشي في وحدته مع الكلمات، يذهب في اللعبة إلى أقصاها مع قدرة مذهلة على إقامة توازن دقيق يجعل القارىء يصدّق ما لا يصدَّق، ويتمتع بهذا العالم اللامعقول الذي يدجّنه الأدب.

روى ماركيز في حوار قديم مع مجلة "باريس ريفيو" الأميركية، أنه حين قرأ حكاية الرجل الذي استيقظ من نومه ليكتشف أنه صار حشرة، مثلما كتب فرانز كافكا، اكتشف أنه يستطيع أن يكتب. وصار يقرأ الأشياء كأنها نصوص، ويتذوق طعم كل شيء.

في رحلة الحب على متن الباخرة، تنبّه القبطان إلى أن رفع علم الكوليرا على السفينة يعني حكماً بالبقاء في النهر إلى ما لا نهاية. رأى القبطان في "رموش فرمينا صقيعاً شتوياً... وعند سؤاله إلى متى؟ سمع جواب فلورنتينو الجاهز منذ ثلاث وخمسين سنة وستة شهور وأحد عشر يوماً، الذي قال: مدى الحياة."

الفخ الذي نصبه كافكا كي يروي غربة الإنسان، صار مع ماركيز نسقاً جعل المستحيل ممكناً.

تابع ماركيز في "الحب في زمن الكوليرا"، مسار علاقة الوباء بالرغبة والحب الذي سبق أن رسمه الكاتب الألماني توماس مان في رائعته "موت في البندقية" (1911). حين نقرأ هاتين الروايتين معا نكتشف المسافة الأسلوبية والمنهجية التي تفصل بينهما. فتوماس مان بأسلوبه الواقعي الكلاسيكي المستند إلى الحوار الداخلي، ونزعته التشاؤمية العميقة، يضع العشق الجسدي أو عشق الجمال في سياق الموت والوباء. غوستاف آشنباخ، بطل رواية مان، هو كاتب ألماني يمرّ بضيق لا يعرف سببه، فيقرر السفر إلى البندقية، وهناك سيلتقي بمصيره: العشق كمرادف للموت، والموت بالكوليرا التي رفض أن يهرب منها كي يتبع سكرة القلب بالجمال.

دهشة آشنباخ أمام جمال جسد الفتى البولندي تادزيو تعادل الانتحار: "فالشغف كما الجريمة لا يتفق مع الراحة الرتيبة للحياة اليومية."

 

توماس مان.

 

وحين تصير اللغة عاجزة، يحتل الموت المكان: "فأحس آشنباخ مرة أُخرى بألم ناجم عن كون اللغة قادرة على الاحتفال بالجمال، لكنها عاجزة عن التعبير عنه."

الاحتفال اللغوي برّاني ومكرر، أمّا التعبير فهو جوهر الإبداع. كاتب في منتصف العمر، يقترب من الكهولة ويجد نفسه فجأة عاجزاً عن التعبير عن اجتياح فتى غريب لروحه.

ولأن اللغة عاجزة فإن العلاقة بين العاشق والمعشوق تبقى في إطار تغطيه ظلال الأشياء. آشنباخ يتبع معبوده أينما يذهب، ولا يلمسه مرة واحدة، يشم رائحة الوباء لكنه لا يبالي، يذهب إلى الحلاق كي يصبغ شعره ويعطي لنفسه مسحة من جمال مفتعل، لكنه في الواقع كان شبيه نرسيس في انحناءته المميتة أمام مرآة الينبوع.

يموت بطل الرواية تحت شمس الشاطىء، حيث كان يجلس متابعاً معشوقه بعينيه.

هل قتلته الكوليرا أم قتله الحب؟

 V - ساراماغو: الوباء والعمى الأبيض

لم يكن الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو في حاجة إلى تحويل الوباء إلى استعارة مثلما فعل كامو في "الطاعون"، ولم يتكىء على الكوليرا كي يأخذنا إلى قصة حب لا تنتهي، على غرار ماركيز "في الحب في زمن الكوليرا". وهو أيضاً لم يتخذ من واقعية الكوليرا إطاراً لكتابة رواية عن الأسى والحب، كما في رواية أندريه شديد "اليوم السادس". ساراماغو ذهب إلى كافكا، مستوحياً وحشة الإنسان أمام احتمالات المصير الغامض الذي ينتظره.

 

جوزيه ساراماغو.

 

كافكا اخترع كناية الرجل الحشرة، وساراماغو اخترع كناية العمى. في روايته "العمى"، تخيّل الروائي البرتغالي وباء لم يحدث، وأطلق عليه اسم الوباء الأبيض، وبنى حكاية مدهشة في قدرتها على استكشاف المناطق المجهولة في التجربة الإنسانية. ففي مدينة لا نعرف اسمها يُفاجأ الناس بوباء لا اسم له. شخصيات الرواية التي تصيبها العدوى بلا أسماء، كأن العمى لا يغطي المشهد فقط، بل يحجب الأسماء أيضاً.

لا يأتي عمى ساراماغو من لا مكان، فالعمى موضوعة أدبية بدأت منذ الملحمة الإغريقية مع هوميروس الذي قيل إنه أعمى، وهذا نابع من معنى اسمه: الأسير أو الأعمى، وأخذت بُعدها الرؤيوي من شخصية العرّاف الأعمى تيريزياس في مسرحية سوفوكليس: "أوديب ملكاً"، ثم تفرّعت إلى عدة أشكال في الأدب، مع شكسبير وميلتون والمعري، لتمتد إلى الأدب الحديث مع فلوبير وأتش. ج. ويلز، وتتخذ بُعدها الإنساني مع "أيام" طه حسين، ومذكرات رجائي بصيلة.

إن الدخول في عالم قراءة رواية ما يتطلب عادة، قليلاً من الصبر كي يستطيع القارىء أن يفك رموز البداية. أمّا هنا، فبدلاً من أن يدخل القارىء إلى الرواية فإنها هي مَن يدخل إلى وجدانه. وهذه بدايةٌ لا تشبه سوى بدايات الروايات البوليسية، ففي وسط عجقة السير يفقد سائق بصره ويدخل في عالم البياض الحليبي، ثم تتوالى الأحداث بسرعة: الطبيب الذي عالج المريض الأول يفقد بصره في الليلة نفسها، وجميع الذين كانوا في عيادته يصابون بالعمى، كما ينتشر في المدينة وباء جديد لا سابقة تاريخية له.

لا يظهر على مرضى هذا الوباء سوى عارض واحد هو الإصابة بالعمى، وهو يشبه جميع الأوبئة في أنه مُعدٍ.

سلطات المدينة تقرر وضع العميان والذين احتكوا بهم، في الحجر الصحي داخل مستشفى مهجور للأمراض العقلية.

وهنا تبدأ الرواية رحلتها إلى الهلع والخوف والانحدار.

تنقسم الرواية إلى قسمين:

يدور القسم الأول في مستشفى الأمراض العقلية الذي حُوّل إلى محجر صحي، أمّا القسم الثاني فتجري أحداثه في المدينة التي صار جميع سكانها عمياناً.

وكي يستطيع الراوي أن يسرد حكايته، كان لا بد من مُبصر واحد وسط عتمة البياض التي تجتاح العيون. هذا المبصر هو زوجة الطبيب التي لا تفقد بصرها في مدينة سيفقد جميع سكانها أبصارهم.

إلّا إن مصير زوجة الطبيب لن يكون كمصير المُبصر نونيز بطل "مدينة العميان" لويلز، الذي ينتهي بأن يقتلع عينيه كي يتأقلم مع مدينته الجديدة. مُبصر ويلز يجري تهميشه، أمّا زوجة الطبيب فعلى الرغم من ترددها ومشاعرها المتناقضة، فإنها ستكون العين التي تقود العيون المغمضة إلى الخروج من المستشفى.

ما يجري في المستشفى مخيف: بشر ينحدرون بسرعة إلى ما يشبه الطبيعة الحيوانية، وأشخاص فقدوا مع أبصارهم كراماتهم، لكنهم يتمسكون بغريزة البقاء.

غير أن مفاجأة المحجر الصحي تكمن في أمرين:

الأول، وحشية الجنود الذين يحرسون هذا المعزل، والتي تتجسد في عدم اكتراثهم بمصير المرضى، وقيامهم بإطلاق النار على كل مَن يتقدم نحوهم، حتى لو كان يبحث عن صناديق الطعام التي كانوا يرمونها ويهربون خوفاً من الوباء، كأننا أمام معزل للمجذومين الذين يُتركون للموت. والثاني، قيام مجموعة من العميان يملك زعيمهم مسدساً بالاستيلاء على الطعام وتدفيع المرضى كل ما يملكون، ثم إجبار النساء على ممارسة الجنس كي يحصلوا على الطعام. وحشية واغتصاب وسادية تشير إلى أن الهيمنة الطبقية لا تتأسس إلّا بالعنف.

وبعدما تنجح زوجة الطبيب المبصرة في قتل زعيم الوحوش البشرية بمقص كان في حيازتها، تنشب معركة غير متكافئة تنتهي بحريق هائل يلتهم المكان.

لم يعد أمام العميان من وسيلة لاتقاء النار سوى الهروب حتى لو تعرضوا للقتل على يد أفراد الجيش، إلّا إنهم يفاجأون بأن حرس المبنى أصيبوا بالعمى وهربوا، فيخرج العميان من سجنهم إلى مدينة غارقة في العمى الأبيض، لأن جميع سكانها أصيبوا بالوباء.

وهنا تبدأ رحلة توحش جديدة بحثاً عن الطعام. مشاهد مرعبة: بشر يأكلون اللحم النيىء، ويمشون على أربع، ويتقاتلون على البقايا، ويتشكلون في قطعان تائهة تجوب الشوارع. وبدلاً من أن يستيقظ الإنسان وقد صار حشرة بشكل مفاجىء، كما في قصة كافكا، فإنه ينحدر إلى مرتبة الحيوان في سياق تلبية حاجات غريزة البقاء.

وفي النهاية، ينحسر الوباء بلا سبب أو مقدمات، مثلما أتى، ونستمع إلى زوجة الطبيب تقول: "لا أعتقد أننا عمينا، بل أعتقد أننا عميان، عميان يرون، بشر عميان يستطيعون أن يروا لكنهم لا يرون."

رواية تلخّص معسكرات الاعتقال والقمع البوليسي ووحشية الطبقات المسيطرة، لكنها تأخذنا في النهاية إلى بؤس الإنسان وعجزه.

نحن لسنا أمام تراجيديا إغريقية، فأوديب دفع ثمن قدره، أمّا عميان ساراماغو فهم خارج معادلة السبب والنتيجة. إنهم عراة أمام قدر لئيم ومتوحش؛ قدر يحوّل المأساة إلى سخرية، والعواطف الإنسانية إلى لعبة، ويمحو الحب.

لحظات العاطفة بين المرأة ذات النظارة السوداء والطفل الأحول، أو بين الكلب وزوجة الطبيب، سرعان ما تتلاشى أمام مشاعر الخوف والإحساس باقتراب الموت جوعاً.

الأوغاد الذين اغتصبوا النساء في المحجر دمروا فكرة الحب نفسها، فصار اللقاء مجرد بحث عن دفء كاذب في عالم يجتاحه جليد الرعب.

عالم بلا حب، كأن الرواية تقول حقيقة الحب، وهو أنه نتاج ثقافي نشأ كتعبير عن حاجة روحية تؤنسن الإنسان.

الكناية تلتهم تفصيلات الحياة كي تؤسس بنيتها، ففي غمرة العماء لا مكان للذين ولدوا عمياناً وتعلموا أن يروا بحواسهم الأُخرى، فباستثناء مرافق زعيم العصابة الذي كان يعرف أن يكتب بطريقة "بريل"، لا مكان لهذه الفئة من العميان في الرواية.

وعلى الرغم من واقعية السرد وقدرة المؤلف المدهشة على صوغ تفصيلات الحياة البيضاء، فإن الكناية تقذف بالنص إلى الأمثولة وتأسر الحكاية في إطار واحد.

"إذا كان الأمل كالملح فماذا علينا أن نفعل كي يصير الملح كالأمل؟" هذا هو السؤال الجديد الذي طرحه ساراماغو، في روايته "مقالة عن الوضوح"، التي تُرجمت إلى العربية بعنوان "البصيرة"، وإلى الإنجليزية بعنوان Seeing.

ومع أن المسافة الزمنية التي تفصل بين الروايتين هي تسعة أعوام، فقد صدرت "العمى" في سنة 1995، بينما صدرت "مقالة عن الوضوح" في سنة 2004، إلّا إن الرواية الثانية هي استكمال للرواية الأولى. المدينة التي ضربها وباء العمى، سيضربها من جديد وباء سياسي، هو وباء أبيض، يكشف عبث السلطة بالديمقراطية، والتعامل معها بصفتها وباء حين لا تصبّ في مصلحتها.

الوباء هو كناية عن قرار سكان المدينة الاقتراع بورقة بيضاء. يرفض الناس الخيار بين ثلاثة أحزاب مترهلة وفاسدة، وبدلاً من مقاطعة الانتخابات يصوتون بأوراق بيضاء.

البداية الواقعية للرواية سرعان ما تنكفىء لمصلحة سلسلة أحداث غرائبية. تقرر السلطة أن هذا التصويت هو بمثابة ثورة، فتغادر العاصمة وتخليها من الشرطة والجيش، وتفرض عليها الحصار، باعتبارها مدينة موبوءة. سياق الرواية الجديدة يأخذنا إلى أبطال الرواية القديمة، زوجة الطبيب التي لم تصب بالعمى في الرواية السابقة تعود إلى الظهور. السلطة تتهمها بأنها المحرض الأول على الانتفاضة البيضاء، وتحوّل قيادتها لتمرد العميان ضد الأوغاد إلى جريمة.

رواية بارعة السرد، لكن مضمونها الرمزي الصارخ يكسر واقعيتها، ويحولها إلى خطاب سياسي. هنا لا نفتقد سحر الأسلوب، لكننا نفتقد سحر الحكاية. التفصيلات مذهلة، وخصوصاً العلاقة الإنسانية بين عميل وزير الداخلية وبين بطلة الرواية، لكن الكناية تفترس السياق الروائي، وتحوله إلى مجرد وعاء لمضمون مسبق.

"منذ أربع سنوات كنا عمياناً، وأقول إننا ربما بقينا عميانا"، قالت زوجة الطبيب، في مواجهة تهمة لا علاقة لها بها.

وتنتهي الرواية باعتقال الطبيب ومقتل زوجته برصاص قنّاص، واغتيال المخبر الذي انقلب على أسياده.

قدّم ساراماغو في هذا الجزء الثاني من رواية "العمى"، تفسيراً سياسياً لروايته الأولى التي لم تكن في حاجة إلى تفسير.

***

قرأت هذه النصوص في زمن الحجر الكوروني، وتعاملت معها بصفتها نوافذ على الآخرين. القراءة رحلة، والتماهي مع التجربة الإنسانية تعطي القارىء شعوراً بأنه يستطيع أن يعيش في أزمنة مختلفة.

هربت من الوباء إلى الوباء، هذا ما شعرت به في البداية، وخصوصاً مع رسالة ابن الوردي، لكن مع الروايات الحديثة بدأ هذا الشعور يتبدد ليحل في مكانه شعوران متكاملان:

من جهة بدا لي النص الأدبي كأنه يغلّف المآسي بجمالياته المتعددة، بحيث يخلق مسافة معها. فالقصة تحمل في بنيتها عناصر تجعلها تقترب من الخرافة، وفي الخرافة يستولي الخيال على الواقع، بحيث يصير الواقع مجرد خلفية يستند إليها السرد. وبهذا المعنى يصير وباء الكوليرا مشهداً يمكن التعايش معه، كما في رواية ماركيز.

ومن جهة ثانية تحتل الرموز والاستعارات المتن، فيصير القارىء جزءاً من لعبة تأويل النص واكتشاف دلالاته وأبعاده. صحيح أن القارىء يتألم مع أوديب الذي فقأ عينيه، في مسرحية "أوديب ملكاً" لسوفوكل، لكن ما يشغلنا ليس التماهي مع البطل التراجيدي، بل تحليل حكايته عبر ربطها بمجموعة من المستويات: العمى الذي يشكل طريقاً إلى الرؤية، وعلاقات المحارم، ومواجهة القدر...

فالأدب يقوم بقذف الكوارث إلى مستوى الكناية من جهة، كما يقوم من جهة ثانية بإبداع حالات تتفوق على الواقع أو توازيه، من الإنسان الحشرة في قصة "المسخ" لكافكا، إلى الوباء الأبيض الذي اخترعه ساراماغو في رواية "العمى".

ومثلما كشفت الأوبئة هشاشة الإنسان الذي لا يملك في مواجهة المأساة سوى سلاح الحب، كما في رواية "اليوم السادس"، فإن الأشكال الأدبية المتنوعة تكشف ثغرات النص الأدبي، وتسمح لنا بأن نتلمس الصراع بين الأيديولوجيات المسيطرة وبين البعد الروحي للأدب الذي يتجلى في كون كل عمل أدبي إعادة كتابة لأدب سبقه، أو هو شكل من أشكال تقمصه وسط تقلبات الأزمنة. هذا الصراع يحتل رواية "الطاعون" لألبير كامو، إذ يتم تهميش المكان وحذفه، لمصلحة رؤية فلسفية مزروعة في أيديولوجيا التفوق الكولونيالي.

كانت رحلتي في سياقات هذه الأعمال الأدبية دليلي للتعامل مع تجربتي الشخصية وسط مناخات الرهبة التي صنعها الانتشار السريع لوباء كورونا، وسمحت لي بأن أعيد اكتشاف التوتر التكاملي بين الموت والحب والكتابة.

الكتابة مزيج من الحب والجرح، ففي البدء كان الكلمة، بحسب يوحنا الإنجيلي، وهذا تجسيد للمعنى الحرفي لفعل كَلَم في لغة العرب، أي جَرَح. فالكلمات تصير في الأدب جروحاً تفيض سحراً، وبذا تصنع التجربة الإنسانية بُعدها الروحي محولة الحياة إلى حكاية تُروى.

يروي الكاتب كي يرتوي، والحب هو الماء الذي يفيض من جروح الكلمات والتماعة عيون الناس الذين يجتمعون في الكتب على مائدة الأدب كي يروا ما لا يُرى، حتى لو أصيبوا بالعمى.