حالة الاستثناء السلبية المستدامة: عن الجذام وسحره ورُهابه
النص الكامل: 

 I

 تصعب معاملة مرض الجذام عبر التاريخ معاملة سواه من الأوبئة، فالجذام بمعنى من المعاني هو "وباء مستدام" ضارب في أعماق ما قبل التاريخ. ولئن كانت أغلبية الأوبئة المتأتية من عدوى فيروسية أو بكتيرية هي نتيجة الثورة الإيكولوجية العظمى التي أحدثها النوع البشري عندما تمكن من ترويض وتدجين ما تيسّر من أنواع حيوانية ونباتية داخلة في مُلْكه، فقد تميز الجذام بمرافقته مسيرة الانتقال من حال الترحال إلى حال التجمع الحضري من بداياتها، ولو نجم عن ذلك تاريخ طويل من إقصاء المصابين به عن مراكز التجمع الحضري هذه إلى هوامشه، الأمر الذي أعطى الجذام شحنة عاطفة دينية ميّزته من أي مرض آخر، فيها التطير منه، وفيها الرعب والبلاء والاختبار. مرض جسّد إلى أبعد حد ازدواجية تعامل البشر مع أجسادهم كسجون يشتاقون إلى إقصائها جانباً ولا يأمنون في أقل تقدير جانبها، وكمتون لا يتركون مناسبة لدفع تماهي ذواتهم بها إلى أقصاه إلّا استغلوها. جَسَدُ المجذوم سجن يتشقق، وبلاؤه بهذا المعنى هو عطيّة وشاهد على الاختبار الإلهي، وفي الوقت نفسه مختبر لعلاقة مرعبة بين الذات والجسد.

كثيراً ما جرى التعامل مع محاجر المجذومين كفضاءات معلقة بين الحي وبين الميت؛ فضاءات لا تقارَن إلّا بالمقابر، وتشهد، في الوقت نفسه، مسبقاً على استمرار الحياة بعد الموت.

 II

 الجذام مرض معدٍ تتسبب به عصية هانسن، أو بكتيريا المتفطرة الجذامية، ويمكن اعتباره "وباء مستداماً" ما دام رافق البشرية منذ ما قبل التاريخ إلى يومنا هذا، كشبح لها، وأثرى مخيالها الديني والعلمي والأدبي والفني، لكنه ليس كسواه من الأوبئة، فهو لم يحصد الأرواح بالشكل الواسع الذي عرفناه مع الطاعون أو الجدري. إنه وباء يحتاج إلى الاتصال المتكرر مع الشخص المصاب، وتتأخر ظهور عوارضه لأعوام. ومن هنا، جرى التعامل مطولاً معه على قاعدة المقابلة بين نموذجه وبين نموذج الطاعون، ولهذا احتاج الوعي العلمي إلى فترة طويلة من إعمال هذه المقابلة بمختلف الأشكال قبل أن تترسخ لديه فكرة العدوى.

لو قلّبنا في "لسان العرب" لابن منظور لوجدنا أن الجذم هو القطع، والأجذم مقطوع اليد، ومن الحديث: "مَن تعلّم القرآن ثم نسيه لقي الله يوم القيامة وهو أجذم"، أي مقطوع اليد. أمّا الجذام فهو الداء، من تجذّم الأصابع وتقطّعها، وتهافت أطراف المصاب بالداء. وابن منظور ينقل أن "الجذام من الأمراض المعدية، وكانت العرب تتطير منه وتتجنبه"، لكنه لا يفسر الحديث النبوي: "لا تديموا النظر إلى المجذومين" بالخوف من العدوى، وانما بالنهي عن إطالة النظر إليهم كي لا يشعروا بالتحقير. والأمر كذلك في حديث إسقاط النبي فرض البيعة على مجذوم من ثقيف، يفسره على أنه كي لا ينظر أصحاب هذا المجذوم إليه فيزدروه ويروا لأنفسهم فضلاً عليه، أو لئلا يحزن المجذوم برؤية النبي، فيقلّ شكره على بلاء الله. ويورد ابن منظور أيضاً حديثاً عن ابن عباس: "أربع لا يَجُزْنَ في البيع ولا النكاح، المجنونة والمجذومة والبرصاء والعفلاء."

اللافت أنه لو بحثنا في "القانون في الطب" لابن سينا، لوجدنا الجذام يخرج من دائرة المرض المعدي، إذ يكتب الشيخ الرئيس أن "الجذام علة رديئة، يحدث من انتشار المرة السوداء في البدن كله، فيفسد مزاج الأعضاء وهيئتها وشكلها، وربما أفسد في آخره اتصالها حتى تتأكّل الأعضاء، وتسقط سقوطاً عن تقرّح، وهو كسرطان عام للبدن كله."[1] فالجذام عند ابن سينا هو السرطان العام، لأن السرطانات الأُخرى سرطانات خاصة تتصل أساساً بعضو واحد من الجسد. وقد استقى ابن سينا فكرة رد الجذام إلى انتشار المرة السوداء في الجسم من جالينوس.

في تاريخ الطب ما قبل الحديث بقي الجذام عالقاً بين هذين المحورين الكبيرين: محور الوباء، ومحور السرطان، فعدواه كانت أقل تفشياً في المجتمعات من الأوبئة "الاجتياحية"، وحتى لو قيل إنه "ليس كل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعون"، فإن الفكرة الراكزة عن الوباء بقيت مرتبطة بالطاعون[2] الناتج من تفشي البكتيريا اليرسينية انطلاقاً من القوارض، ولو أن عدداً كبيراً من الطواعين الأشد فتكاً لم تكن طاعونية بالمقصد البيولوجي هذا. فالطاعون "الأنطوني" الذي أهلك قسماً واسعاً من شعوب الإمبراطورية الرومانية وأباد جيشها بأكمله في نهاية القرن الثاني الميلادي لم يكن طاعوناً، وإنما جائحة فيروس الجدري. وفي المقابل، فإن ما كان يعوق الأخذ تماماً بفكرة أن الجذام "سرطان عام"، هو ملاحظة انتقال المرض بالمخالطة عن كثب، الأمر الذي فُسر مطولاً على أنه نتيجة الرائحة المنبعثة من المجذوم التي تتسبب بارتفاع المرة السوداء وانتشارها عند مَن يخالطه. ولم يكن سهلاً على الوعيَين الطبي والديني للبشرية تكريس فكرة "العدوى" وانتقالها من فلان إلى فلان، في عصور سابقة على البيولوجيا الدقيقة أو الجرثومية الحديثة، وهو ما أبقى الجذام عالقاً في منطقة الما بين: ما بين نموذج الوباء الاجتياحي أو الإبادي لتجمعات سكانية بنسب مرتفعة جداً، وما بين السرطان من حيث فكرته كوباء داخلي، ضمن جسم واحد، لا يقفز من جسم إلى آخر. حركة الذهاب والإياب هذه بين صورة الوباء وصورة السرطان، طبعت التصورات بشأن الجذام في طب العصر القديم والوسيطي. وفي الوقت نفسه، كان الاختلاف بين الجذام وبين ثنائية "وباء – سرطان"، أنه مرض يُنتج أقلية اجتماعية، مستبعدة من الرابطة الاجتماعية، ومجسدة للرابطة حيث هي، في محاجر المجذومين. وقد شكّل "المجذومون" أقلية كثيراً ما تشابهت النظرة إليها عبر الحضارات والأزمنة، فهي تخترق القسمة بين "الأحياء" و"الموتى"،؛ وهي أحياء في أبدان ميتة، أو موتى في مقابر لم تفقد قدرتها على التنقل تماماً بعد.

 III

 لم يكن سهلاً على العقل الطبي ما قبل الحديث، ولا على العقل الديني، تكريس فكرة "العدوى"، أي انتقال الداء من بدن إلى آخر، كما لم يكن سهلاً التنصل من فكرة العدوى، فقد صعّب الجذام المسائل. ونحن نجد ثبتاً لذلك في الأحاديث النبوية: فمن جهة، هناك حديث المجذوم الذي أخذ النبي بيده وأكل معه في القصعة، والذي يفيد بتطبيق قاعدة التوكل، ومن جهة ثانية يبرز حديث "فِرّ من المجذوم فرارك من الأسد"، مع اجتهاد المفسرين للإيضاح أن الفرار منه هو "على سبيل الاحتياط". وهكذا اجتمع في قالب واحد حديث "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، وفِرّ من المجذوم كما تفرّ من الأسد."

وقد وُجد في التاريخ الإسلامي مَن ينحّي فكرة العدوى المباشرة عن الجذام كابن سينا، كما وُجد على نحو آخر مَن يتبنّى فكرة العدوى للجذام أو للجرب ليبرّىء الطاعون منها، باعتبار نزلات الطاعون أمراً إلهياً مباشراً لا يُفسح في المجال لأي تعليل طبيعي له، وكان هذا حال الباقلاني. وفي المقابل حضر التنبيه إلى أن الإصابة بالجذام تتطلب كثرة المخالطة، كالجماع مثلاً الذي يتوقف عنده الإمام الشافعي مشدداً على أن الجذام "داء مانع للجماع"، لأنه ينتقل بالجنس أكثر من أي سبب آخر.

وهنا نجد أن حسين بو جرّة في أطروحته "الطاعون وبدع الطاعون"،[3] يميز بين الموافقَتين الضمنية والجهرية على مفهوم العدوى في التراث الفقهي، وتحديداً في حالتَي ابن قتيبة وابن حجر العسقلاني. يقول عن الأول: "لئن رفض ابن قتيبة الإقرار بأن الأمر بالفرار من المجذوم يندرج في إطار العدوى، فإنه عبّر عن الأمر ذاته من دون استعمال مصطلح العدوى، فهو لأمر طبيعي، أي انتقال الداء من شخص إلى آخر بواسطة الملامسة والمخالطة وشمّ الرائحة." ويقول عن الثاني: "بالرغم ممّا قام به ابن حجر من تعديل، بل من تحجيم، فإن القرف والدعوة إلى تجنّب ملامسة المرض والمرضى في حديث نبوي، والربط السببي القطعي بين المخالطة والهلاك، لا يمكن، وبأي وجه من الوجوه، إخراجها عن دائرة الإقرار بالعدوى وضرورة تجنّب مضاعفاتها، وإن كان ذلك دون استعمال لفظ العدوى في حد ذاته."

يبقى أن هذا الإقرار الضمني بالعدوى هو أيضاً إنكار فعلي للعلاقة السببية المباشرة، وليس قولاً موارباً بهذه الأخيرة. من هنا، تأويل حديث: "إن من القرف التلف" على أنه ينطق بنوع من "العدوى السببية" قد لا يكون في محله، ما دام التلف يُنظر إليه أساساً كخصلة أساسية في البدن لن تلبث أن تفعل فيه فعلها، ويمكن تبطئة هذا أو تعجيله، لكن لا يمكن ردّه. فعندما يورد ابن حنبل في "المسند" حديث: "لا تديموا النظر إلى المجذومين، وإذا كلمتموهم فليكن بينكم وبينهم قيد رمح" (ما يذكّر بفكرة التباعد الاجتماعي الحاضرة راهناً مع الكورونا)، فليس هذا للظن بأن ثمة عدوى سببية تنتقل من شخص إلى آخر، بل لأن هناك قابلية للتلف في كل واحد منا لا داعي لتبطئتها فوق اللزوم، ولا للتعجيل بها فوق اللزوم. ومن هنا، كثرة حضور تفسير الإصابة بالجذام بالرائحة، على اعتبار أن "الرائحة الخسيسة تسقم مَن واظبها"، لأنها تطلق العنان في داخله لعملية الإتلاف التي لا تردنا من خارج جسدنا، وإنما هي مصاحبة لنا من المهد إلى اللحد.

 IV

 الجذام قادم من الشرق، وهذه فكرة رسخت منذ هيرودوت[4] الذي سمّى الجذام "البلاء الفينيقي"، محمّلاً التجار الفينيقيين وزر تفشي الجذام عبر مدائن الحوض المتوسط وأمصاره، وإن كان محمول "الجذام" في مصنفات الطب في العصر القديم ملتبساً إلى حد كبير، وينحو إلى دمج جميع الأمراض التقرحية الجلدية الحادة، من جذام وبرص وبهاق، في إطار واحد.

يمكن إلى حد كبير إعمال مقارنة بين "ثلاث لحظات" جرى فيها التعامل مع الجذام كـ "داء شرقي": أولاً، في التناول الإغريقي له منذ هيرودوت، أي النظرة إليه كبلاء نقله الفينيقيون، وأصله إمّا في مصر وإمّا في بلاد فارس (ويظهر من العمل البحثي الحفري اليوم أن مصر الفرعونية لم تعرف الجذام، وإنما عُرف فقط في مصر الهيلنيستية، في عصر البطالمة)؛ ثانياً، حين أدت الحملات الصليبية دوراً في انتقال كثيف للجذام إلى أوروبا العصر الوسيط، أو ما يُعرف بـ "العصر الذهبي للجذام" بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر، ويرجح أن يكون لتفشي كل من الطاعون والسل دور في اندثار الجذام في أوروبا، نظراً إلى العلاقة "الأنتينومية" بين الطاعون والسل من جهة، والجذام من جهة أُخرى؛ ثالثاً، "إعادة الاكتشاف الكولونيالية" للجذام في الهند، مع الاستعمار البريطاني.

وبالتوازي مع "شرقية الجذام" في ضوء تشابك هذه اللحظات الثلاث في مخيالات العصر القديم اليوناني الروماني، والعصر الوسيط اللاتيني الجرماني، والغرب الحديث الاستعماري، فقد اكتسب دلالة "يهو – مسيحية" بامتياز، وهي دلالة قائمة أساساً على وجود تقليد "تخليطي" بين الجذام والبرص وسواه من الأمراض التقرحية الجلدية الحادة. وقد ارتبطت إلى حد كبير هذه الدلالة اليهو - مسيحية للجذام، بثنائية النجاسة والطهارة، وبالإقصاء على أساسها، مثلما هو مذكور في "سفر الأحبار" في الكتاب المقدس: "والأبرص الذي به إصابة تكون ثيابه ممزقة وشعره مهدولاً ويتلثّم على شفتيه وينادي: نَجِس، نَجِس، ما دامت فيه الإصابة يكون نجساً، إنه نجس. فليقم منفرداً، وفي خارج المخيم يكون مقامه" (سفر "الأحبار"، الفصل 13: 45 – 46).

نحن هنا أمام تاريخ كامل من النظرة الازدواجية إلى الجذام، وهي نظرة نجدها في الأحاديث النبوية الإسلامية الآنفة الذكر؛ غير أن التقليد البيبلي (نسبة إلى الكتاب المقدس) أكثر تصعيداً لها، فالجذام فيه هو لعنة الآخر الذي يمكن أن يصيبني بآخريته. المجذوم فيه هو المريض الذي يحاول التستر بخبث على مرضه، قدر ما يستطيع، مع أن طبيعة مرضه، بالتقرحات المستشرية والجفون المشلولة العضلات، يعسر إخفاؤها، وهو متهم بالتصميم على نقل هذه العدوى وإشاعتها.

إلّا إن المحمول الرمزي الديني للجذام لم ينحصر فقط في كونه لعنة، وفي خبث المجذوم الذي يريد إخفاء ما لا يُخفى، بل ارتبط أيضاً بتصويره على أنه منحة اختبارية للإنسان، ومنحة خلاصية بامتياز، وهو ما يُستدل من سفر أيوب بشكل أساسي.

وقد ساعدت هذه الازدواجية التي طُبع فيها الجذام في المخيال اليهو – مسيحي، وخصوصاً في أوروبا العصر الوسيط، ميشال فوكو على التمييز بين نموذجين لمواجهة تفشي الأمراض: نموذج إقصاء المجذومين الذي يقابله نموذج عزل الأحياء التي يفتك بها الطاعون.

فنموذج إقصاء المجذومين يقوم على جعل إقامتهم على تخوم المدينة، مع أنه كان في وسعهم التسكع في شوارعها للتسول، على أنه يتوجب عليهم ارتداء رداء طويل ذي لون واحد، واستخدام أدوات من خشب للقرقعة إنباء بوصولهم. واقتضى هذا النموذج كذلك الحؤول دون التناسل بين المجذومين، مع بقاء محاجرهم في الوقت نفسه "أخويات" مختلطة جنسياً. ويلزم أيضاً الحد من الاتصال المباشر بين المرضى وبين مَن يؤازرهم من الأصحاء في "الأخويات".[5]

وكما ينبه ميشال فوكو، فإن معازل الجذام لم تُنشأ أصلاً لوأد المرض، وإنما لإقصائه وحفظه على مسافة معينة، من أجل تثبيته في لعبة تمجيد. فالمجذوم يُطرد كما لو كان ميتاً، بل إن طقوس إقصائه من المدينة إلى "مدينة البرص" المجاورة لها تقتضي إعلان موته المجازي، وبالتالي فإنه يحضر طقوس إماتته وطرده متخفياً. هذا الاستبعاد، المكاني والاجتماعي، من الجماعة البشرية، يعود فيضمن له "رد الاعتبار" إليه، كصاحب منحة خلاصية. ويشدد فوكو على أن مكان "محجر المجذومين" كثيراً ما كان يُنتقى على مداخل المدينة، وليس داخلها ولا خارجها تماماً، بحيث يؤدي دور المرئي – الهامشي الذي يذكّر دوماً بالفصل الحاصل بين الأحياء وأنصاص الأحياء من المجذومين الذين هم نصف موتى، لكنه فصل يجب ألّا يكون تاماً، ما دام المجذومون في "البين بين"، ويجسدون جدلية اللعنة والخلاص في آن واحد. ويقابل فوكو بين هذا النموذج، وبين خطط مواجهة الطاعون في أواخر العصر الوسيط وبدايات الأزمنة الحديثة، حين على كل شخص أن يلازم مكانه، وكل عائلة دارتها، وتُقتل جميع الحيوانات الشريدة، وتُقسم المدينة إلى أحياء، ويُحجر على الأحياء التي دخلها الداء، لتحدث بعد ذلك الجردة الكبرى للأحياء والموتى انطلاقاً من تجميد كل شيء في موضعه من لحظة تفشي الوباء. وحدها "الغربان" يمكن أن تبقى في الشوارع: أي البؤساء الذين يتوجب عليهم حمل المرضى، ودفن الموتى، وتنظيف الأماكن التي تعرضت للعدوى، وهؤلاء "الغربان" من البؤساء لا يقام لموتهم حساب.

بنى فوكو على هذه المقابلة بين إقصاء المجذومين، وبين عزل الأحياء في مواجهة الطاعون، نموذجين مختلفين للتنظيم الطبي في التاريخ الغربي،[6] ونظر إلى المكان الخالي بعد اندثار الجذام على أنه المكان الذي سيؤهَّل لاحقاً للمصابين بالأمراض الزهرية ولجميع الحرافيش. لكن مع ظهور المستشفى الحديث والسجن الحديث، لا يبقى هذا النموذج الإقصائي للمجذومين صالحاً إلّا لمَن سيجري توصيفهم بـ "المجانين".[7]

نجد إذاً أن المقارنة والمقابلة بين "نموذج الجذام" و"نموذج الطاعون" حضرتا بأشكال وشروط مختلفة، من الباقلاني وابن سينا حين نظرا إليها من موقع تعيين أي المرضين متأتٍّ من عدوى، من دون المرض الآخر، فكان الجذام متأتياً من عدوى في حال الأول، وكناية عن "سرطان عام" في الجسم، يستثار من خارج البدن لكنه لا ينتقل إليه بالخمج، في حال الثاني، إلى فوكو الذي لم تعد إشكالية "العدوى" هي المحورية في نموذجه، بل المقارنة بين نموذج للإقصاء في حال المجذومين، يقابله نموذج للعزل في حال تفشي الطاعون. وما نقص فوكو في المقابل، هو النظر إلى المجذومين على أنهم أخذوا المبادرة إلى تشكيل الأخويات في العصر الوسيط، وهو ما تُظهره على نحو مدهش المؤرخة فرنسواز برياك في عملها عن المجذومين في العصر الوسيط، إذ تُظهر أن ابتعادهم عن المراكز الحضرية لم يكن في عدة حالات نتيجة قرار استبعادي قانوني واضح، وإنما بسبب نشاطهم "الاستقلالي" هم أيضاً لبناء أنفسهم كمجموعة. وعلى المقلب الآخر، يقول المؤرخ الإيطالي كارلو غينزبورغ في كتابه المدهش "سبت السحرة"، أنه في سنة 1321،[8] ستوجَّه عبر أوروبا، مضبطة الاتهام إلى المجذومين، على أنهم قاموا بتسميم الآبار، بالتواطؤ مع الساحرات، واليهود، والمشعوذين، وبإيعاز من مسلمي غرناطة! وسواء اتفقنا مع نظرة فرنسواز برياك إلى محاجر المجذومين كأخويات مشاعية، أو عدنا إلى فكرة "مؤامرة المجذومين" التي يتقفى غينزبورغ أثرها، فإننا سنجد أنفسنا أمام مرض ذي ذاتية سياسية لا مثيل لها في حال سواه، ومقرونة بـ "رهاب الجذام"، أو بالأحرى "رهاب المجذومين"، الذي هو في أصل كل رهاب تجاه أي جماعة أياً يكن النمط الذي يعرّفها كجماعة، وأياً تكن النسبة التي تعيّنها لذاتها من عملية تحديدها من الخارج.

 

المصادر:

[1] ابن سينا، "القانون في الطب"، تحقيق محمد أمين الضنّاوي (بيروت: دار الكتب العلمية، 1999)، ج 3، ص 188.

[2] جاء في "لسان العرب" لابن منظور، في مادة "وبأ"، أن الوباء = الطاعون.

[3] حسين بو جرّة، "الطاعون وبدع الطاعون: الحراك الاجتماعي في بلاد المغرب بين الفقيه والطبيب والأمير" (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2011)، ص 390 – 394.

[4] Jean Vitaux, Histoire de la Lèpre (Paris: Que Sais-Je ?, 2020).

[5]Françoise Beriac, “Histoire des Lépreux aux Moyen-Âge: une société d’exclus”, Médiévales (Paris), no. 15, 1988, pp.120-122.

[6] Michel Foucault, “Sorcellerie et folie”, in: Dits et Ecrits, Tome I (Paris: Quarto, Gallimard, 2001), p. 89.

[7]Michel Foucault, Histoire de la folie à l’âge classique (Paris: Tel Gallimard, 1972), pp. 15-18.

[8]Carlo Ginzburg, Le sabbat des sorcières (Paris: Gallimard, 1992).

السيرة الشخصية: 

وسام سعادة: كاتب وأكاديمي لبناني.