"مبروك الزيارة"
التاريخ: 
03/06/2020
ملف خاص: 

على مدى عقود طويلة قام الاحتلال بتطبيق كل تجاربه اللاإنسانية على الأسرى. وإن لم تكن التجارب جسدية في الأعوام العشرين الأخيرة، إلاّ إن الجانب النفسي كان من أهم العوامل التي عملت عليها  إدارة السجون الإسرائيلية في محاولاتها لكسر إرادة الأسير.

كانت زيارة ذوي الأسرى لأبنائهم محط اهتمام إدارة السجون، ومن خلالها كانت تجري جميع المحاولات لتحويل لحظة الفرح والتواصل مع الحرية إلى جحيم قدر المستطاع. فالسجين من خلال الزيارة يتواصل مع الخارج ويستنشق هواء الحرية من ملامح أهله. في حين يكون مسعى الاحتلال تحويل الزيارات إلى جرعه تحطيم معنويات بدلاً من أن تكون جرعة لرفعها. وهنا سنحاول الدخول في بعض تفصيلات الزيارة مع عرض لجانب شخصي مررت به، وما فيه من دلالة وأثر في نفسية  الأسير داخل السجن، وهو أثر يلاحقه حتى بعد الفرج.

التواصل مع الخارج

تمنع إدارة السجون كل أسير من التواصل مع الخارج، سواء أكان من خلال الهاتف أم أية وسيلة أُخرى من وسائل التواصل الاجتماعي الموجودة اليوم. هذا بالإضافة إلى محطات تلفزيونية تكون موجهة بما يخدم أجندة الاحتلال. وهذا إجراء عقابي للأسير بين جدران السجن لعزله عن العالم الخارجي.. ولا يُسمح للأسير بأن يرسل شهرياً إلاّ رسالتين تمرّان من تحت مجهر ورقابة إدارة السجن، فلا يتبقى أمامه إلاّ التعويل على زيارة ذويه له التي ينتظرها كل أسبوعين ولمدة 45 دقيقة فقط.

الزيارة

خلال العقود الماضية، مرت "الزيارة" بعدة مراحل، من لقاء الأهل من خلال الشبك، ومن بعدها ما وصلنا إليه اليوم خلف الزجاج. ويُعتبر الزجاج الفاصل من أصعب أنواع العقاب والقتل البطيء لمشاعر الأسير الإنسانية. فالزيارة من خلال الزجاج مع مرور السنوات الطويلة تقتل المشاعر لدى الأسير، ويصبح مشهد الأهل بالنسبة إليه أشبه بشاشة تلفاز يراهم من خلالها ولا يستطيع أن يلمس يد أمه أو زوجته لعشرات السنين، فيولّد هذا نوعاً من البرود وكأن الحياة غدت هكذا من دون ملمس نشعر به. وناهيك  عن الحس الإنساني نتاج منع اللمس فهناك العوامل التقنية، إذ إن الزيارة المسموح  بها مخصصة لثلاثة أشخاص من الأقارب من الدرجة الأولى فقط، أي أن الأسير لا يستطيع أن يتعرف على كامل أسرته من أبناء أخوة أو أخوات. ويحق للزوار الثلاثة استخدام سماعتي هاتف فقط، أي أن على الشخص الثالث الانتظار، فيكون مشاهداً لا مشاركاً حتى يحين دوره للحديث.

وحتى ضمن السماعتين، عادةً ما تكون واحدة منهما غير صالحة للاستعمال بشكل جيد. إنها لا تعمل عن عمد، وذلك بهدف زيادة توتر الأسير وهو ينتظر أن يسمع كلمة واضحة من أسرته يكون في أمسّ الحاجة إليها. إضافة إلى الضجيج الذي يطغى على قاعة الزيارات وهو ما يزيد الأمر سوءاً.

مقدمتي عن الزيارة هي جزء من معاناتي التي مررت بها شخصياً خلال اعتقالي. فخلال الاعتقال يتعرض الأسير لأوضاع صعبة خارجة عن قدراتنا كبشر وأصعبها وفاة أقرب الناس، أو في المقابل زفاف أقرب الناس.

خلال اعتقالي الأول في تموز/يوليو 2002 كنت قد أحضرت معي من دمشق، حيث كنت أدرس، بطاقات زفاف شقيقتي. وعند العودة تم اعتقالي على معبر القنيطرة الفاصل بين الجولان المحتل وسورية، وتم سجني لمدة أربعة عشر شهراً. ولحسن حظي فإن بطاقات العرس كنت قد أرسلتها مع قريب لتصل قبلي، وبالفعل لم أكن أعلم أنني سوف أتأخر لأشهر حتى أصل إلى بيتي.

بعد شهرين من اعتقالي وخلال زيارة الأهل، سألني والدي عن الزفاف وهل نقيمه أم لا؟ فأجبتُ: أقيموه دونما تأخير وفق المعتاد. وفي الزيارة التي تلتها بعد أسبوعين أحضروا لي بطاقة دعوة الزفاف وأنا خلف القضبان. غمرني شعور بالقهر والفرح في آن. وفي الأسر نفرح لفرح من نحب ونحزن لأننا لسنا بينهم نشاركهم اللحظات التي حلمنا بها كثيراً، وانتظرناها طويلاً. كانت لحظة انتصار وانكسار، انتصار على سجان، وانكسار لشعور داخلي بعدم القدرة على المشاركة.

محطة الألم في شهر العسل

 كانت هذه المحطة في اعتقالي الثاني. ففي السادس من تموز/يوليو 2007 تزوجت ليجري اعتقالي بعدها في الثلاثين من الشهر ذاته، أي بعد أقل من شهر على زواجي.

هذه المحطة كانت زياراتها هي الأصعب معنوياً، إذ باتت العروس تأتي لزيارتي في السجن، فتحوّلت خاتمة شهر العسل إلى شهر جحيم. دموع العروس التي كانت ترافق الزيارة منذ بدايتها حتى نهايتها كانت كافية لزيادة الألم الذي لا يمكن أن تنساه خلال ساعات أو أيام بعد الزيارة. ألم يلازمك ويتجدد مع كل زيارة. حدث هذا على الرغم من أنها كانت تعمل جاهدة كي تخفي حزنها، لكن ملامح الوجه والعينين لا تستطيع أن تخفي كل شيء. ومع مرور الأيام، وما إن تتأقلم زوجتك على الوضع الجديد وتبدأ زيارات الأهل تسير رويداً بشكل طبيعي حتى تصل إلى محطة أُخرى ونكسة جديدة.

محطة الجد والجدّة

إن كوني الحفيد الأول في العائلة جعلني الطفل المدلل في الأسرة كلها، وخصوصاً لدى جدي وجدتي. وحتى السادسة عشرة من عمري كنت أعيش في بيت جدي ودائماً إلى جانبه، فكبر تعلقي به كثيراً، وكبر حبي للجد الحنون والغالي.

كان جدي يأتي لزيارتي في السجن كل بضعة أسابيع ، ليرفع من معنوياتي ويمدّني بالقوة والعزيمة. كيف لا وهو الشيخ الذي فاق الثمانين عاماً وهو يكافح على مدى حياته. لقد عاصر الاحتلال الفرنسي والدولة الوطنية والاحتلال الإسرائيلي، فعرف معنى الصمود والإرادة القوية، فكان بكلماته منبع قوة، وببسمته مبعث أمل كبير، بنصرٍ آتٍ. لقد كانت جرعات القوة تأتيني من نظراته وبسماته مع كلماته القليلة خلال الزيارة.

وفجأة يأتيك الخبر من خلال زيارة أحد المحامين لأسير جولاني بأن جدتك توفيت  فتشعر حينها بلحظة القهر وأنت بين جدران السجن، وتتحول الدقائق إلى ساعات في انتظار الزيارة التي بقي عليها أسبوع.

في الزيارة كان السواد والدموع يلفان المكان وتتبعهما التعازي، لتأتي الزيارة التي بعدها فيغيب أبي، وأمي وزوجتي وأخي في حيرة من أمرهم، كلماتهم مرتبكة ونظراتهم حائرة. هنالك شيء ما يدور ولا أدري ما هو، وعند السؤال إن كان الأهل لا يزالون يستقبلون التعازي، تنتهي الزيارة بانقطاع الصوت في السماعات، وتشعر بأنك لم تتكلم جملة مفيدة خلالها.

يمرّ أسبوعان لتأتي في الزيارة التي بعدها زوجتي وحدها والارتباك يزداد من دون أية كلمات، وفي الزيارة الثالثة يحضر والدي ووالدتي وزوجتي وفي وجوههم الكثير من الكلام، فأقف أمامهم دون حراك لا أعلم ماذا يجري، يرفع أبي سماعة هاتف الزيارة  وأرفعها على الطرف الآخر. عينا زوجتي ونظرات أمي تراقبنني في كل حركة أقوم بها.

وفي لحظة ومن دون مقدمات يخرج صوت أبي يملؤه الحزن "العمر إلك رحل جدك قبل يومين"، وتأتي بعدها الكلمات في محاولات للتخفيف عني. حينها شعرت بأن رجليّ لم تعودا تحملاني، فأجلس والدموع تنهار والكلمات تخرج مني بالقوة في محاولات للصمود وأنا أتذكر آخر زيارة له قبل شهرين. دقائق معدودة تمرّ واستجمع كامل قواي وأبدأ السؤال عن التفصيلات: ماذا جرى وكيف كان العزاء؟ كنت مهتماً لأعرف كل التفصيلات بكبيرها وصغيرها وذلك في مسعى مني كي أعيشها لاحقاً داخل غرفة سجني. تتواصل الزيارة وأنا أرفع من معنوياتهم لأشعرهم بأنه لا خوف عليّ، وأن الخطب الجلل لا يسقطني حتى وإن كان موت أعز الناس على قلبي، لأن معركتنا في النهاية معركة صمود. شعرت بالرضى بأن ردات الفعل في الزيارة بكل تفصيلاتها من الانكسار إلى الصمود والعودة إلى الوقوف مجدداً تركت ارتياحاً لدى الأهل، وسجلت انتصاراً جديدا ًعلى السجان.

تواصلت بعدها الزيارت بروتينها المعهود والخوف من أي خبر يأتي خلالها، فعند العودة من الزيارة إلى الأقسام فإن أول كلمة تسمعها من الأسرى "مبروك الزيارة"،  وهي نوع من التهنئة والأمنية بأن زيارتك اليوم قد مرّت بسلام من دون سماع أي خبر سيئ.

وكما سائر الأسرى، ما إن أعود إلى الغرفة حتى أنام نوماً عميقاً وكأنني كنت في يوم عمل شاق وأرتاح.

وهنا تبقى الزيارة من أهم المعارك النفسية بين الأسير وسجانه، ومعركة صمود لا تنتهي إلاّ بزوال أحدها. فمبروك الزيارة ...

عن المؤلف: 

عطا نجيب فرحات: أسير محرر من الجولان العربي السوري المحتل.