ضم الضفة الغربية بين السياسي والديني
التاريخ: 
11/05/2020

لم يجرِ في تاريخ الحكومات الإسرائيلية نزاعٌ مكشوف على اغتصاب الضفة الغربية بين أكبر حزبين مُنتخبين، ولم يتم التوافق بينهما على تنفيذ الاغتصاب، في بداية تموز/يوليو 2020 إلاّ في هذا التوقيت الملائم جداً لإسرائيل. وأرجعَ كثيرون خطة اغتصاب الضفة الغربية، ومعظم المنطقة المسماة سي، وهي تشكل 61% من مساحة الضفة الغربية، إلى خطة الجنرال، يغآل ألون، عقب حرب 1967. هذه الخطة الأمنية كانت تنص على ضرورة اغتصاب، غور الأردن وهو 30% من مساحة الضفة الغربية، للحفاظ على أمن إسرائيل، كما أن كثيرين اعتبروا أن خطة اغتصاب ما بقي من الضفة الغربية، هي خطة حديثة، إذ ظهرت في صفقة القرن لغرض استقطاب أصوات يهود أميركا لمصلحة الحزب الجمهوري!

غير أن هذا الاغتصاب (المُعلَّب) يعود إلى تاريخٍ أبعد بكثير من ذلك، فهو جوهر العقيدة الدينية اليهودية، باعتبار أن استيطان أرض الميعاد فريضة دينية رئيسية في الدين اليهودي؛ هذه الفريضة بذرها مؤسسُها الأول، الحاخام موشيه بن نحمان المتوفى سنة 1270، ثم تبنَّاها حزب المفدال الديني الصهيوني. وقد سوَّغ بن نحمان لكل يهودي طلاق الزوجة إذا رفضت الهجرة إلى إسرائيل.

هذه النظرية الدينية العقيدية اليهودية جرى ترسيخُها كذلك في العقيدة البروتستانتية المسيحية، وأصبحت أهم مبدأ في تيار المسيحيانية الأنجليكانية، أو تيار الصهيونية غير اليهودية، إذ قال عضو هذه الجماعة، جيري فالويل سنة 1980:  "إن الله بارك أميركا، لأن أميركا دعمت إسرائيل".

وتشكل طائفة المسيحيانيين الأنجيليكان 13% من مسيحيي العالم، ويبلغ عدد أفرادها في أميركا أكثر من أربعين مليوناً، هم الأكثر دعماً لإسرائيل، وهم جمهور الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ولهم سفارة في القدس، وأكبر منظمة داعمة لإسرائيل في العالم، CUFI. ومن أبرز مبادئ المسيحيانيين الصهاينة أن عودة المسيح لا يمكن أن تتم من دون استيطان (كل أرض الميعاد)!

هؤلاء هم أكبر المتبرعين للاستيطان، وهم من أكبر المعارضين لحل الدولتين، وهم داعمون للجمعيات الدينية الحريدية اليهودية المتخصصة بالاستعداد لبناء الهيكل الثالث، مثل جماعة عطيرت كوهانيم، وأمناء جبل الهيكل، وجمعية حي قيوم وغيرها!

هذه المقدمة ضرورية لفهم مشروع اغتصاب الضفة الغربية، لأنه مشروع ديني، يغطي على الأطماع الكولونيالية الإسرائيلية وعلى الدور الوظيفي لها في تكريس الهيمنة المعولمة على مقدرات شعوب المنطقة الأميركية، وهو جوهر صفقة القرن. نائب الرئيس الأميركي، مايك بينس، وسفير أميركا في إسرائيل، ديفيد فردمان، وجيسن غرنبلات،  هؤلاء كانوا بمثابة عرّابي صفقة القرن؛ فالأول، مايك بينس، يتمتع بنفوذٍ قوي في الكنيسة الأنجيلكانية في أميركا؛ أمّا الثاني والثالث فهما ينفذان مشروع  اغتصاب الضفة الغربية، لأن هذا الاغتصاب هو أحد أبرز الأعمال الدينية الجليلة وجوهره تحقيق الأطماع الاستعمارية، بالإضافة إلى أن له تأثيراً سياسياً آخر، يهدف إلى جذب الناخبين إلى الحزب الجمهوري!

أمّا المسيحياني الصهيوني، ديفيد فردمان، فهو ليس مستوطناً يمتلك بيتاً في مستوطنة بيت إيل بالقرب من رام الله فقط، بل هو أيضاً المحرض على تنفيذ صفقة القرن؛ فقد اعترف بذلك في مقابلة خاصة لصحيفة "إسرائيل هايوم" بتاريخ 16-2-2020، قال فيها: "كان إخلاء مستوطنات غزة، عملاً غير أخلاقي". وقد استمد فريدمان معلوماته من مستشار نتنياهو  الشخصي، دوري غولد، لأنه  ربط بين التيار الديني اليهودي المسيحياني والتيار الديني الصهيوني المسيحياني، إذ قال: "أشكر الباحث، دوري غولد لأنه جعلني أُعدِّل صيغَتَه في صفقة القرن، بعد أن وجَّه انتباهي إلى أن جبل الزيتون في القدس، ليس ضرورياً لليهود فقط، بل هو ضروري لأنه مركز للمسيحانيين الأنجيليكانيين".

وقد شكل مشروع الاغتصاب الديني غطاءً وتمويهاً لمشروع استعماري، يُنفذه أفراد من طائفة المسيحيانيين الصهيونيين الذين يتغلغلون في الحزب الجمهوري ويستخدمونه، ويتناغم ترامب معهم لأنهم يشكلون قاعدته الانتخابية، أمّا طاقم التنفيذ الفعلي فيمثله: مايك بنس، وجيسن غرنبلات، وديفيد فردمان وكوشنير.

ولا بُدَّ من طرح هذا الأساس الديني في دول العالم  لبيان خطورة تنامي هذا التيار الديني الذي يستخدم قوى التوحش الاقتصادي والسياسي المعولم وأطماعه في الهيمنة والنهب. إن التصدي لمشروع تغلغل هذا النوع من الأصولية في العالم المسمى حراً والذي يُنادي بشعارات الحرية والديمقراطية، هو الضمانة للحيلولة دون تغلغل التزمت الديني الذي أنتج داعش والمسيحيانية الصهيونية وبعض الإسلامويين الصهيونيين، لأن تنفيذ المشروع سوف يقود في النهاية إلى حربٍ دينية تطال كل دول العالم.

من هنا فإن إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، والاعتراف بفلسطين كدولة هو النقيض لذلك المشروع الرجعي الذي يشكل راهناً رأس حربة لقوى الهيمنة، وعقبة كبيرة أمام تحرر شعوب المنطقة من علاقات التبعية السياسية والاقتصادية والأمنية. 

كذلك، فإن خطر هذا المشروع يهدد الدولة الأردنية ونظامها السياسي بعد شطب قضية اللاجئين وضم غور الأردن وفرض نظام أبارتهايد قد يلجأ إلى عمليات ترانسفير وما يعنيه ذلك من المس بالاستقرار الإقليمي من خلال حل المسألة الفلسطينية في الأردن. وهذا يستدعي تضافر الجهود الأردنية الفلسطينية في مواجهة الضم.

ولا شك في أن الاتحاد الأوروبي يملك أوراقاً ومصالح ترشحه لتأدية دور إيجابي؛ فهو  يرفض خطة الضم  كما رفض ضم القدس وشطب الأونروا، والضم يشكل نقيضاً لبنود أساسية في اتفاقية التعاون الاقتصادي مع إسرائيل. لذا، فإن أهم ورقة يمكن أن يستخدمها هي الاعتراف بالدولة الفلسطينية كرد على الضم. وقد تلتقي معارضته  مع مواقف جو بايدن واتجاه قوي في  الحزب الديمقراطي الأميركي، ومنظمة  JStreet اليهودية التي ترفض هي الأُخرى سياسة الضم، لأنها تقوِّض فرص السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وتلغي حل الدولتين، وهو الحل الذي يحظى بإجماعٍ عربي ودولي. ويلتقي مع مواقف بعض الدول الكبرى كروسيا والصين والهند، والمنظومات الإقليمية كمنظمة المؤتمر الإسلامي ودول عدم الانحياز. ويشكل الموقف الرسمي العربي  نقطة الضعف حتى الآن، ومن الصعب وجود صدى للمواقف اللفظية الصادرة عن الجامعة العربية إلاّ بحراك شعبي عربي، والأهم فلسطيني قد يستطيع تفعيل الموقف الرسمي اللفظي ويحوله إلى موقف ضاغط. أمّا الموقف الفلسطيني، الرسمي والشعبي، فهو يشكل حجر الرحى. وفي إمكان الموقف الرسمي التأثير في المواقف الرسمية، كما في إمكان الموقف الشعبي التأثير في المواقف العربية الشعبية وعلى صعيد عالمي. وإذا كان من الصعب على القيادة الفلسطينية ومؤسساتها الانتقال إلى الحراك الشعبي، وخوض المعركة إلى جانب شعبها، فالسبب يعود إلى بنيتها الشائخة، واستراتيجيا الاعتماد على الوساطة الأميركية، والتفاوض مع دولة الاحتلال. وحركة "حماس" من ناحيتها، يهمها استمرار السيطرة على قطاع غزة وتشريع ذلك من خلال اتفاق تهدئة طويل الأمد. وهكذا فإن القطبين الرئيسيين: منظمة التحرير وحركة "حماس" ومعها الإسلام السياسي، ليسا في موقع الفعل المبادر والجدي، الأمر الذي يطرح قضية البحث عن طرف ثالث مستقل يستطيع الدفع نحو حراك شعبي رافض للضم والاحتلال والحصار.