في مديح التعليم عن قرب
التاريخ: 
30/03/2020

منذ بداية التحاقي بالتعليم، تعرض التعليم في فلسطين لثلاث عمليات توقف جماعية وطويلة نسبياً، مع عشرات المرات من التوقف المتقطع لفترات. نعيش الآن واحدة منها بسبب انتشار فايروس كوفيد-19 (كورونا المستجد). كانت الأولى  خلال الانتفاضة الثانية، وكانت الثانية سنة 2006 عقب فوز حركة "حماس" بالانتخابات التشريعية، وتوقف الدعم المالي ما أدى إلى أزمة مالية حالت دون صرف رواتب العاملين في الحكومة، وتوقف جزء كبير منهم عن العمل بما فيهم المعلمون، لننعم بعطلة طويلة في حينه. بينما المرة الثالثة الآن، منذ 7 آذار/ مارس، وبعد إعلان السلطة الفلسطينية قانون الطوارئ، توقف التعليم في الجامعات والمدارس، ولاحقاً توقفت الحياة بإعلان الحجر المنزلي الإجباري.

أخذت معظم الجامعات والمدارس خطوةً سريعةً لتدارك توقف التعليم الذي قد يطول غالباً، فانتقلت إلى منصات التعليم الإلكتروني. 

أحاول أن أتذكر مشاعري تجاه تلك التعطيلات عن التعليم، غالباً كنت أشعر بالسعادة وأتمنى أنَّ تستمر لوقت أطول، حتى نهاية الفصل أو نهاية المدرسة كلها؛ لم تكن الظروف أفضل، والأخطار كانت حاضرة أيضاً، لكننا لم نكن نحب المدرسة. الآن الحال مُختلف، الخطر المدرك كفايروس، وغير المدرك من ناحية التفشي، يجعل الظرف أصعب، وهذا جزء من عدم شعورنا بالسعادة في هذا التعطيل، إلى جانب ذلك، أحببنا الجامعة فعلًا، اشتقنا للمحاضرات، للنقاشات فيها، النقاشات الحقيقية وجهاً لوجه، للتسكع فيها وفي الطريق منها وإليها، وسنغفر لها أزمة المواصلات والبلل في الشتاء.

منذ بداية الأزمة في فلسطين، وبعد تعرفنا على منصة الجامعة للتعليم الإلكتروني، ومنصة zoom والعودة لاستخدام skype، وبدء أخذنا المحاضرات عليها في محاولةِ استجابةٍ سريعةٍ للظرف الراهن، وكي لا نجبر على تعويض المحاضرات بعد عودتنا للدوام -كنا مازلنا متفائلين بمحدودية انتشار الجائحة في فلسطين-، الآن بعد ما يقارب 20 يوماً من توقف التعليم يبدو أننا سنتخرج "أونلاين".

بعد محاولة أخذ عدة مساقات إلكترونياً سابقاً، فشلت فيها كلها ولم أستطع أنَّ ألتزم بها حتى النهاية، تصبح هذه هي  التجربة الأولى الفعلية لي. لم أحبها قبل أنَّ تبدأ، حاولت التهرب من الرد على رسائل تحديد المحاضرات ومواعيد تعويض ما فات منها، ومحاولة عدم الدخول إلى بوابة الجامعة الإلكترونية، وأيضاً تجارب اختبار هذه المنصات، وحاولت إيجاد الأعذار، إما بسوء الاتصال عبر الأنترنت، أو بتعذر عمل إحدى المنصات، ولكنها فشلت كلها. وبما أنَّ الحياة في الخارج انتهت، فقد بدأت أتعلم على الأنترنت، ولم يعد يوجد إمكانية كبيرة للتهرب اللانهائي. فالأنترنت أصبح يحاصرنا إلى جانب كورونا في هذا الوضع، ولأن الحياة أصبحت تعاش على شاشة اللاب توب، فقد أصبحت أكثر سيولة، تتسرب لنا المحاضرات والقراءات من الإيميل وفيسبوك وواتساب.

تضيع أول عشر دقائق على الأقل من كل محاضرة على محاولة حل المشاكل التقنية؛ التأكد من أن الصورة تصلنا، والصوت واضح، وأنَّ يختبر كل طالب منا الصوت عنده لكي يكون قادراً على المشاركة في النقاش، وأنَّ نتأكد من حضور جميع الطلبة. ولعل ذلك يشير إلى أنَّ واحدة من أبرز الأمور التي يجب الالتفات إليها في تجربة التعليم الإلكتروني هي البنية التحتية للأنترنت في فلسطين، وأيضاً انتشاره ، فهناك منازل لا يتوفر فيها الأنترنت أو أقله لا يتوفر بشكلٍ مناسب لإتمام الحد الأدنى من العملية التعليمية، لذلك فإن أي تفكير جدي سيتجه في يومٍ ما نحو التعليم الإلكتروني أو تقننة التعليم، يتطلب منه أنَّ يراعي هذه الجوانب التقنية في البداية. لكن، لكي لا نكون قساةً إلى هذا الحد على هذه التجربة، فإن العشر دقائق تلك تضيع عادة ونحن نشتري القهوة ونصل المحاضرة مُتأخرين.

في مساق الاقتصاد السياسي في إسرائيل، تهربت من أول محاضرة إلكترونية، وأنا أوهم نفسي أنَّ المحاضرة القادمة في الجامعة ولا مشكلة من غياب واحد، كنت أقنع نفسي بذلك، لكن الأمر بدا انه سيطول، لذلك عدت إلى القراءة وكتابة التلخيصات من أجل المحاضرة القادمة، انتصر التعليم الإلكتروني هذه المرة.

أما مساق الثقافة والأدب في إسرائيل، فالمحاضرة الأولى كانت سماعية فقط، ولم أستطع تقبلها وكنت مستاءً طوال الوقت، لم أستطع التركيز كثيراً، رغم أني أنهيت القراءات قبل وقت طويل من المحاضرة، وقمت بإنجاز كتابة التقرير الخاص بالقراءات، لكن النقاش كان بارداً وقدرة التفاعل لم تكن كبيرةً بين الطلبة، ولم نستطع أنَّ نخلق جو المحاضرة الحقيقي، وأنَّ نناقش الأفكار بشكلٍ متسلسل مع إعطاء المجال للأخذ والرد -ليس بسبب دكتاتورية الأستاذة، بل بسبب طبيعة التواصل الإلكتروني-، وإلقاء بعض النكات والمناكفات. المحاضرات التالية كانت أفضل من تلك التي سبقتها، استخدامنا الفيديو هذه المرة، للتواصل البصري، كان له دور أكبر في جذبنا للمحاضرة، حاولنا أنَّ نعتاد أكثر وأنَّ نناقش ونمازح بعضنا، لكننا لم نصل إلى فاعليةِ المحاضرة الواقعية. التعليم كما أفهمه أو أفضله، هو عملية تحاورية وتشاركية بين الأستاذ والطالب، ولتحقيق أفضل نتيجة منه يجب أن يحصل التفاعل في فضاء واحد.

اليوم تحدثت مع أستاذي، سألته عن رأيه في التعليم الإلكتروني، "ما بحب المحاضرات اونلاين، بحب اشوف تفاعل الطلاب وانفعالاتهم من صدمة ودهشة واستغراب على ما يطرح في المحاضرة وعلى النقاش" قال لي. وأنا أيضاً كذلك لا أحب المحاضرات الإلكترونية، أحب أنَّ أرى الأستاذ وأنَّ اتفاعل معه قدر المستطاع.

في بلد مثل فلسطين، مع تفكك/ انهيار الحقل السياسي، وخسارة معظم الأماكن الممكنة لممارسة السياسة بكافة أشكالها، ظلت الجامعة الفضاء العام الوحيد الممكن للنقاش السياسي الحقيقي، والآن هناك خسارة له لصالح التفاعل الإلكتروني، وهذا يستدعي القلق على خسارة آخر فضاء عام كهذا، ليس من مصلحتنا ذلك. هذا بالإضافة إلى غياب التفاعل والحياة الاجتماعية بين الطلبة قبل المحاضرات وبعدها، وفي ساحات الجامعة وتحويل كل هذا التفاعل إلى عملية تقنية دون اتصال مباشر.

الكل الآن يتحدث عن أنَّ العالم بعد كورونا ليس كما قبلها. هذا ما أتمناه، أنَّ تستغل الشعوب الظروف التي أنتجتها هذه الجائحة، بعد أن تنجو منها، وتقلبها لصالحها، وأن تواجه الأوليغارشية، ودولها التي لم تبنِ أنظمة صحية ملائمة لهكذا ظروف بأموال ضرائبها، والمنظومة الاقتصادية التي حاولت أنَّ تحمي مصلحتها وتأخرت في الكثير من إجراءات إيقاف الحياة كي لا تتعطل مصالحها. أنا معكم، وسأتفاعل معكم عن بعد، وسأشارك لو حصل هذا في بلادنا، لكن اتركوا لنا التعليم الواقعي عن قرب.

لكن في النهاية دعونا نعترف: فائدة التعليم الإلكتروني هو قدرتنا على التدخين في أي وقت أثناء المحاضرة.

عن المؤلف: 

باسل رزق الله: طالب ماجستير في جامعة بيرزيت.