ماذا بعد صفقة القرن؟
النص الكامل: 

قيل الكثير في تفسير صفقة القرن: إنها صُممت كي تُرفض مثلما عنونت صحيفة "هآرتس" بعد المؤتمر الصحافي في البيت الأبيض الذي أُعلنت فيه؛ إنها مسعى لدعم نتنياهو انتخابياً أولاً، ثم في محنته المرتبطة بتهم الفساد التي وجهت إليه؛ إنها تهدف إلى إسعاف ترامب نفسه في حملته الانتخابية مع بعض الأوساط النافذة من ناخبين وممولين كان بينهم شِلدون إدلسون أحد ممولي حملتَي ترامب ونتنياهو الانتخابيتين، والذي كان حاضراً مبتسماً في المؤتمر الصحافي في البيت الأبيض؛ إنها تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية.

هذه كلها أهداف ممكنة، ليس بالضرورة من جهة النيات، وإنما من جهة التبعات الموضوعية المحتملة للخطة. لكن هذا كله لا يستثني بُعداً آخر للخطة من منظور صهيوني يميني "عقلاني" إذا جاز التعبير، فمن المعروف أن النقاش الداخلي الإسرائيلي خلال الأعوام الماضية، مع استمرار الاستيطان وسرقة الأرض الفلسطينية وتهويد القدس واستقواء اليمين الإسرائيلي المطرد في غياب رادع فلسطيني أو عربي أو دولي، أثار عدة "تحذيرات" من طرف عدد من الكتّاب والشخصيات الإسرائيلية، من أن هذه الهجمة اليمينية ستنتهي بدولة واحدة "تهدد" يهودية الدولة و"ديمقراطيتها". ومن غير المستبعد أن يكون أحد أهداف خطة ترامب هو تفادي هذه النتيجة، من خلال إنشاء "دولة" فلسطينية في ظل السيادة الإسرائيلية، تلبّي "التطلعات الفلسطينية" كما يسمونها، أو بعضاً منها على الأقل، من أجل درء هذا "الخطر". إنه مسعى لـ "إنقاذ إسرائيل من نفسها"، وإن كان من منظور صهيوني يرى أن الحقوق كلها هي لإسرائيل، مثلما جاء في نص الخطة، من دون إشارة إلى أي حقوق فلسطينية.

وخلال الأعوام الخمسة الماضية بدأ نقاش محدود بين عدد من الكتّاب والقيادات اليمينية بينها قيادات استيطانية، تناول ملامح المستقبل، وتحديداً ماذا سيفعلون بالفلسطينيين بعد اكتمال المشروع الصهيوني من ناحية الأرض في الضفة الغربية. وكان هذا نقاشاً أولياً غير مكتمل، لكن البعض قال إن الفلسطينيين سيُمنحون حقوقاً مدنية لا سياسية، بينما رأى البعض الآخر أنه ممكن منح بعض الفلسطينيين حقوقاً سياسية إذا أثبتوا ولاءهم للدولة. وفي جميع الأحوال، لم يتبنّ أي حزب سياسي إسرائيلي يميني أي موقف معلن تجاه الموضوع، فقد انشغل الكل منذ عامين تقريباً بخطة ترامب، والآن انشغلوا بحمّى الضم الذي أججها نتنياهو.

ولا بد من أن نفترض أن كوشنير وفريقه، بتوجههما الصهيوني اليميني الواضح في نص الخطة، توصلا إلى أن "العقلانية" تتطلب "إنقاذ اليمين من نفسه" ومن حمّى سرقة الأرض من دون حساب للمستقبل، إذ لا توجد ضمانة من احتمال نشوء ظرف مستقبلي، بعد اكتمال المشروع الصهيوني في الضفة الغربية، يتيح إيقاع نكبة أُخرى بالفلسطينيين وتهجير معظمهم خارج فلسطين. إن هؤلاء قطعاً يتمنون الأمر ويرغبون فيه، غير أن أبعاد تهجير واسع النطاق "يفي" بالغرض قد تؤدي إلى تثوير الوضع في الأردن، وربما في المنطقة المحيطة أيضاً، بوجود تواصل جغرافي مع ثلاث دول عربية هي أصلاً في حالة تحول طويل الأمد.

لكن، ماذا عن الرفض الفلسطيني لصفقة القرن الذي كان متوقعاً بعد اعتراف ترامب بالقدس "الموحدة" عاصمة لإسرائيل؟ ألّا يقوض هذا الرفض هذه القراءة للخطة إذا لم يتم إنشاء "الدولة" المقترحة المأمول منها تلبية بعض "تطلعات" الفلسطينيين السياسية، والتي ستفصل الدولتين إحداهما عن الثانية، حتى لو كانت واحدة داخل الأُخرى، وتُبقي إسرائيل دولة يهودية؟

هنا لا بد من أن نستذكر أن العناصر الأساسية للخطة جرى الاتفاق عليها مع زيارة الرئيس ترامب للرياض في أيار / مايو 2017، وقد سُميت في حينه "التحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط"، وتضمنت صفقة القرن، علاوة على التطبيع مع عدد من الدول العربية. وجرى التعويل في حينه على أن يضغط عدد من الدول العربية على الجانب الفلسطيني لقبولها. ومن المرجح أنه جرى تعديل جزئي على الخطة إزاء هذا الرفض، من بينه استخدام عبارة "دولة فلسطينية" التي لم تكن في الخطة أصلاً على ما يبدو، إذ إن كوشنير، وفي مقابلة مع جريدة "القدس" في حزيران / يونيو 2018، لم يشر قط إلى دولة فلسطينية كجزء من الخطة، وإنما أشار فقط إلى حكم ذاتي فلسطيني، بينما ترد في نص الخطة الذي وُزّع في كانون الثاني / يناير 2020، عبارة الدولة الفلسطينية في أكثر من مكان، في بما في ذلك في قائمة المحتويات في البداية وبشكل بارز.

من جهة أُخرى، تتضمن الخطة أربعة أعوام للتنفيذ يُطلب من الجانب الفلسطيني خلالها تلبية مجموعة من الشروط، كما تتضمن تجميد الاستيطان في هذه الفترة. وهذا التجميد بالمناسبة، لا يتعارض مع ضم أجزاء من الضفة قبل انتهاء هذه المدة نظراً إلى أن الخطة تتضمن هذا الضم أصلاً لما يقارب 30% من الضفة الغربية. وتحتاج الخطة إلى هذه الأعوام أيضاً لعدة أسباب بينها التفاوض المطلوب بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني بشأن عدد من الأمور التنفيذية، وهي أيضاً فترة الرئاسة الثانية لترامب في حال فاز في الانتخابات.

وربما يكون من باب التكهن الاعتقاد أن هذه الفترة ضرورية أيضاً لعل مرحلة أبو مازن تكون قد انتهت. وليس المقصود هنا أنه يمكن لهذه المرحلة أن تنتهي بالطريقة نفسها لانتهاء مرحلة عرفات. لكن، من دون عرض سيناريوهات مختلفة غير مستبعدة، فإن من المعروف أن الولايات المتحدة أدت عدة أدوار عبر الأعوام وبآليات مختلفة لتغيير أنظمة حكم في دول متعددة في الشرق والغرب، وخصوصاً إذا ما أُخذ بعين الاعتبار عمر أبو مازن، ووجود قاعدة داخل السلطة الفلسطينية وخارجها لها مصلحة في استمرار وجود السلطة. وفي الحوارات الداخلية، ظهر بعض الأصوات التي تقترح "التعامل" مع خطة ترامب إيجابياً، غير أنها هوجمت في وسائل إعلام السلطة. ولعل ما قاله ممثل إسرائيل في الأمم المتحدة في خطابه الذي تلا خطاب أبو مازن في مجلس الأمن في 11 شباط / فبراير الماضي، يُعتبر مؤشراً في هذا الاتجاه، إذ قال إن "السلام" لن يحل إلّا بعد مرحلة أبو مازن. وقد فسرت وسائل الإعلام الفلسطينية هذا الكلام، وبشكل مستبعد في رأيي، على أنه تهديد واضح لحياته.

ولعل من "إيجابيات" خطة صفقة القرن إن جاز التعبير، أنها قد تؤدي إلى استفاقة متأخرة بانتهاء حل الدولتين بالفهم الفلسطيني له، في مقابل الخطاب الدولاني الذي أدمنت عليه السلطة الفلسطينية إلى درجة الإسفاف. فبعد حل المجلس التشريعي في كانون الأول / ديسمبر 2018، ظهرت أصوات لبعض ممثلي السلطة الفلسطينية تبرر الحل، وفي نوع من الهذيان السياسي، على أنه خطوة في الانتقال نحو الدولة. وإذا كان "المشروع الوطني" الفلسطيني هو حل الدولتين، فإن سؤالاً كبيراً سيُطرح عن ماهية المشروع الوطني الجديد في المستقبل. هذا هو السؤال الغائب من النقاش العام الفلسطيني منذ عدة أعوام قامت فيها إسرائيل بإلغاء هذا الحل كأمر واقع، وهذا معنى العبارة التي ترد في نص الخطة: "حل دولتين واقعي"، وهو حل يكرس يهودية دولة إسرائيل.

السيرة الشخصية: 

جورج جقمان: أستاذ في برنامج الماجستير في الديمقراطية وحقوق الإنسان والدراسات العربية المعاصرة، وفي دائرة الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بير زيت.