رحلة العودة إلى البدايات...
التاريخ: 
24/02/2020
المؤلف: 

لا حاجة للخوض في استعراض ما تضمنته صفقة القرن، التي أعلن عنها الحليفان دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو في حديقة البيت الأبيض يوم الثاني عشر من كانون الثاني/يناير المنصرم، إذ سيبدو ذلك على أنه تفسير لما لا ينقصه الوضوح. ولا حاجة أيضاً لأن يسترسل الفلسطينيون في إقناع أحد عرباً كانوا أم عجماً، بأن ما يعتبره ترامب صفقة القرن، لا تحقق سلاماً، ولا تكتسب صفة الصفقة بغياب الطرف الفلسطيني، وبأنها تعصف بقرارات الأمم المتحدة، وتخالف كل الشرائع الدولية، وأنها تفتح الباب أمام الحركة الصهيونية لاستكمال مخططاتها الأولى ذات الأبعاد العنصرية التوسعية، الإقصائية والإحلالية. الصفقة إذاً هي انحياز كامل سياسي وعملي من قبل الدولة الأعظم حتى الآن، لصالح القوة الأشد ظلامية، والأكثر عدوانية ووحشية وهي إسرائيل. منذ اليوم الذي أعلنت فيه القمة العربية في بيروت سنة 2002 "مبادرة السلام" العربية، أعلن شارون الحرب عليها، ليس بالتصريحات وعبر وسائل الإعلام، وإنما باجتياح الضفة الغربية، وإعادة احتلالها، وكان المنطق الإسرائيلي يقوم على تغيير الأولويات، إذ على العرب أن يبدأوا بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، ثم ينظر الإسرائيليون فيما يمكن أن يقدموه للفلسطينيين والعرب.

لم يكن نتنياهو على وفاق مع شارون الذي انسحب من الليكود، وأسس ما يعرف بحزب كاديما، الذي لم يعد له أي أثر في الساحة السياسية والحزبية الإسرائيلية، لكنه كان على خطاه، في تنفيذ المخططات الاستراتيجية للحركة الصهيونية. كان المخطط الصهيوني الاستعماري يقوم على أفكار من نوع أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، وأرضك يا إسرائيل من النيل إلى الفرات، وفكرة شعب الله المختار، الذي سيعود إلى أرض الميعاد، أرض اللبن والعسل استناداً إلى مرجعيات توراتية. إذا كانت ظروف الصراع على أرض فلسطين منذ وعد بلفور 1917، وظروف الحربين العالميتين الأولى والثانية، قد أملت على الحركة الصهيونية أن تتوقف عند احتلال 78% من أرض فلسطين التاريخية لإعلان قيام الدولة عليها، فإن ذلك لم يكن سوى المرحلة الأولى من المخطط، الذي سيترتب على إسرائيل استكماله فيما بعد.

شكلت حرب حزيران/يونيو 1967، بداية المرحلة الثانية، لكن الحركة الصهيونية، لم تتمكن من إعلان السيادة على الأراضي التي احتلتها خلالها، ولم تعجب إسرائيل أيضاً لا كثيراً ولا قليلاً، بتبني منظمة التحرير الفلسطينية البرنامج المرحلي، برنامج النقاط العشر سنة 1974، واكتفت خلال تلك الفترة بتحقيق اختراق استراتيجي من خلال توقيع اتفاقية كامب ديفيد، إثر الحرب التحريكية التي وقعت سنة 1973. كان توقيع اتفاقية كامب ديفيد إنجازاً عظيماً للحركة الصهيونية، جعلها أقرب إلى إمكانية البدء بتنفيذ المرحلة الثانية من المخطط التوسعي الصهيوني. أظهر العرب عجزهم وتواطؤهم إزاء الغزو الإسرائيلي للبنان واحتلال عاصمته سنة 1982، وطرد منظمة التحرير ومقاتليها من ساحة المواجهة الوحيدة المفتوحة أمامها ليشكل ذلك بداية مرحلة من الضغط الشديد على المنظمة، التي اضطرت في غياب الكتلة الاشتراكية وانهيار الاتحاد السوفياتي لأن تستجيب للشروط الأميركية الإسرائيلية، والدخول في مفاوضات، انتهت بتوقيع اتفاقية أوسلو سنة 1993، والتي مهدت الطريق أمام توقيع اتفاقية وادي عربة بين إسرائيل والأردن سنة 1994، فكان ذلك إنجازاً آخر يوسع الطريق أمام تنفيذ المخطط الصهيوني الأساسي. 

مرحلة غياب الوعي

كان على منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل الفلسطينية أن تدرك مبكراً، بأن طريق أوسلو لا يمكن أن ينتهي بتحقيق مشروعهم الوطني في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس على الأرضي المحتلة سنة 1967، والعزف على أوتار القرارات الدولية.

جاءت الإشارة الأولى والقوية من اليمين الإسرائيلي المتطرف، الذي يقف وراء عملية اغتيال اسحق رابين، مع أنه كان من الصعب المراهنة على التزام رابين بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه في أوسلو، والتوقيع عليه في حديقة البيت الأبيض بحضور دولي كبير.  ثم تتابعت الأحداث، من الاعتداء على لبنان وارتكاب مجزرة قانا، إلى سقوط حزب العمل في الانتخابات العامة وصعود بنيامين نتنياهو في حزيران/يونيو 1996، إلى أحداث النفق، ثم تجاوز سنة 1999، التي كان مقدراً لها بحسب أجندة أوسلو، أن تكون سنة التوصل عبر المفاوضات إلى اتفاق يفضي إلى قيام الدولة الفلسطينية.

وتتابعت المحطات الدالة على طبيعة المشروع والأهداف التي تشتغل عليها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة؛ من الانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة إلى تهويد القدس، إلى إقامة جدار الفصل العنصري، إلى توسيع وتسمين المستوطنات، حتى وصل عدد المستوطنين في الضفة والقدس الشرقية إلى أكثر من سبعمائة ألف.

تنصلت إسرائيل تماماً من جميع التزاماتها تجاه ما نصت عليه اتفاقية أوسلو، حتى لم يبق منها، إلا ما يساعدها على إدارة احتلال فاخر قليل التكلفة، بوجود سلطة يقول رئيسها إنها سلطة بلا سلطة، لكنها ظلت ملتزمة بما رتبته عليها اتفاقية أوسلو.

من على المنصة نفسها

لم تمر الحركة الصهيونية بأفضل من الظروف التي تمر بها، منذ اندلاع ما يعرف بموجات الربيع العربي، الذي لم يكن بعيداً عن السياسة الأميركية الإسرائيلية، التي أعلنت مبكراً عن فوضى خلاقة، وتفكيك وإعادة تركيب الشرق الأوسط، الذي كان شمعون بيريز قد أصدر كتاباً حول رؤيته للشرق الأوسط الجديد، الذي سيتحول إلى جنة حين تتم المزاوجة بين العقل الصهيوني والمال العربي.

الفلسطينيون منقسمون على أنفسهم، وأوضاعهم ليست في أحسن حال، والعرب مشغولون في حروبهم البينية، وصراعاتهم الدموية، وقد اختلفت أولوياتهم، بحيث لم تعد القضية الفلسطينية هي قضيتهم الأولى، واتجه كل طرف إلى أولويات لحماية النظام القطري، حتى لو كان على حساب الآخرين، وحتى لو كان ذلك من خلال التحالف مع الشيطان.

المجتمع الدولي ما يزال يئن تحت وطأة الاستفراد الأميركي، الذي يظهر أنانية متزايدة إزاء مصالح الولايات المتحدة، حتى لو أدى ذلك إلى المساس بحلفائها التاريخيين من الدول الرأسمالية، فيما تغيب الإرادة والقدرة الدولية على وقف تغول الإدارة الأميركية على الأمم المتحدة وقراراتها.

من على المنصة ذاتها التي وقف خلفها الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون ومن حوله الشهيد ياسر عرفات والرئيس محمود عباس، بالإضافة إلى اسحق رابين وشمعون بيريز، ومن المكان ذاته، يتم الإعلان عن إنهاء مرحلة أوسلو التي استغرقت أكثر من ربع قرن لتبدأ مرحلة جديدة من الصراع.

تتخلى إسرائيل بوقاحة عن أوسلو، ولا يزال الفلسطينيون يتمسكون بذيولها، مع أن إعلان الصفقة في يناير الماضي لم يكن اليوم الذي يشهد على التحول الجذري في سياق وطبيعة الصراع.

ثمة من يتجاهل أن المخطط الأميركي الإسرائيلي، إنما يشكل تتويجاً لسياق طويل من الأحداث والتداعيات، التي تعود إلى محطات كثيرة سابقة، لكن الظروف الراهنة هي التي فرضت هذا التوقيت.

ومن دون العودة إلى وثائق وإعلانات سابقة، والاستغراق في سرد الكثير من التفاصيل، فإن إعلان ما يسمى بالصفقة، ينبغي أن لا يكون أحدث الصدمة، وأثار ردود الفعل.

كان الفلسطينيون وغير الفلسطينيين يعرفون تماماً، أن الحلف الأميركي الإسرائيلي قد بدأ بتنفيذ ذلك المخطط منذ أن أعلن ترامب قراره، باعتبار القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل، خصوصاً وأن ذلك القرار لم يكن معزولاً عن ما جاء بعد ذلك، من قرار إعلان السيادة الإسرائيلية على الجولان، والحرب على الأونروا، ومنظمة التحرير، وتجفيف موارد السلطة. يحق لإسرائيل أن تحتفل بمثل هذا الإنجاز غير المسبوق، ويحق لنتنياهو أن يقرن اسم ترامب باسم الرئيس الأميركي السابق روزفلت، الذي تسلم الراية من بريطانيا، وتعهد بدعم وحماية إسرائيل منذ قيامها سنة 1948. يتفاخر نتنياهو ربما لأسباب انتخابية، ولكنها ليست بعيدة عن الواقع، من أن ثلاث دول عربية فقط من بين اثنتين وعشرين دولة، هي فقط التي لا تقيم علاقات أو صلات مع إسرائيل. وكان آخر ما جاء في هذا السياق لقاء رئيس مجلس السيادة السوداني البرهان مع نتنياهو، ودخول نتائجه إلى حيز التنفيذ الفوري بتحليق الطيران المدني الإسرائيلي فوق الأجواء السيادية السودانية، و بالتالي هل كان للبرهان أن يقدم على ما أقدم عليه، لو أنه ركب مجازفة خطيرة من هذا النوع غير مسبوقة؟

مرحلة جديدة

منذ إعلان تنفيذ أولى بنودها قبل أكثر من عامين، ونقصد موضوع القدس، يكون الصراع الفلسطيني الإسرائيلي قد دخل مرحلة جديدة كلياً، ونوعية، عنوانها العودة إلى نقطة الصفر، أي إلى الصراع المفتوح على كل الأرض وكل الحقوق، صراع وجود وليس صراع حدود. لقد قبل الفلسطينيون ومن خلفهم العرب بحصر حقوقهم بما نصت عليه قرارات الأمم المتحدة، التي تعطيهم 22% من أرضهم التاريخية، لكن الحركة الصهيونية، ترفض ذلك، وترى أن الفرصة سانحة، لتحقيق جميع أهدافها. لم يكن هذا التحول والانتقال خياراً فلسطينياً، لكنه خيار أميركي صهيوني. يتحصن خلاله الحلف الأميركي الصهيوني بجميع عوامل القوة لفرض مخططاته، ويعاني الطرف الفلسطيني والعرب، من محدودية الخيارات، وضعف القوة.

لا يدعو ذلك إلى الحزن أو اليأس والإحباط، فإن هذا الذي يجري ليس إلا واحدة من تعرجات حركة التاريخ الصاعدة، فلا الأوضاع الدولية ستبقى على حالها، ولا الوضع العربي والفلسطيني سيبقى على حاله. المحزن حقاً هو ما يتعلق بتأخر الفلسطينيين وترددهم، عن القيام بما يتوجب عليهم القيام به في الوقت المناسب. بالعموم، يحتاج الفلسطينيون إلى تعزيز الثقة بالذات وبحتمية الانتصار، من خلال تعزيز صمود الفلسطيني على أرضه.

يتطلب ذلك الإقدام على حوار استراتيجي عميق، إذ لا يمكن ممارسة الكفاح وإدارة الصراع، بالأدوات ذاتها والأساليب ذاتها، التي تنتمي إلى مرحلة سابقة انتهت بالفشل الذريع. وبعيداً عن أسئلة وأوجاع الماضي، والأداء الفلسطيني الرديء، الذي ساد مرحلة أوسلو، وكان من أبرز مخلفاته تجاهل دور نصف الشعب الفلسطيني في الشتات والمهاجر، وضعف منظمة التحرير لحساب السلطة ووقوع الانقسام الفلسطيني الخطير، فإن على القيادات الفلسطينية أن تقطع مع الماضي، وأن تبدأ رحلة إعادة البناء من جديد. الفلسطينيون متفقون جميعاً على رفض الصفقة، وقطع الطريق على كل من يحاول التعامل معها، لكن لمواجهة هذه الصفقة لا يكفي الإعلان النظري، فاستمرار الانقسام يشكل عاملاً مسهلاً لتمرير المخطط المعادي، كما أن  المراهنة على قرارات الجامعة العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، وقرارات الاتحاد الأفريقي، وأيضاً المراهنة على تحرك دولي في مواجهة الصفقة، أمر يفتقر إلى الحكمة ما لم تكن البداية من الوضع الفلسطيني.

لقد تعود الفلسطينيون على تناقض أفعال العرب مع أقوالهم، وفي هذه المرحلة بالذات لا يمكن الاستناد إلى جدار الرفض اللفظي العربي، بينما يهرول العرب الواحد تلو الآخر، نحو التعامل مع الصفقة، وإقامة العلاقات مع إسرائيل.

أما على المستوى الدولي، فتغيب الإرادة عن إقامة تحالف دولي أقلها لحماية الأمم المتحدة وقراراتها وهيئاتها، ما يعني أن المراهنة على الجهد الدولي لتقديم مبادرات اعتراضية ذات فعالية، لا يعني سوى الوهم.  إن من يشكك في هذا الاستنتاج عليه أن ينظر إلى ما تقوم به إسرائيل من حشد دول أوروبية وغير أوروبية ومئات الفاعلين الحقوقيين، لإبطال مفعول قرار المدعية العامة للجنائية الدولية، إزاء إمكانية انطباق صلاحيات المحكمة على فلسطين، فيما يكاد يغيب الجهد الفلسطيني والعربي المقابل.

في الخلاصة، قد يخسر الفلسطينيون معركة سياسية، أو أكثر من معركة، لكن الوقت قد حان لنهوض المثقفين الفلسطينيين والعرب لإعادة صياغة الوعي على أساس حقائق الصراع في مرحلته الجديدة، والتوقف عن الركض وراء السياسيين لتبرير سياساتهم ومواقفهم المترددة، والمتخلفة عن مجاراة متطلبات خوض الكفاح.

عن المؤلف: 

كاتب ومحلل فلسطيني.