ليبرمان وسؤال الدين والدولة
نبذة مختصرة: 

لماذا صعد سؤال الدين والدولة في الانتخابات الإسرائيلية بشكل حاد؟ هذا هو الأمر الذي تسعى هذه المقالة للإجابة عنه، عبر فحص مجموعة من العوامل التي يرى الكاتب أنها ساهمت في تظهير عناصر وتغييب أُخرى: ربما أهمها غياب المسألة الفلسطينية، وصعود تأثير الأحزاب الدينية، وتحولات اليمين الإسرائيلي.

النص الكامل: 

إن الإحاطة بالمتغيرات التي حدثت في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة – في الدورتين العادية والمُعادة، يمكن الاستدلال عليها من خلال تحليل السلوك السياسي لرئيس حزب "إسرائيل بيتنا" الروسي، أفيغدور ليبرمان، الذي تُعتبر معارضته العائق الوحيد أمام استمرار حكم كتلة اليمين القومية والدينية، على الرغم من أنه كان جزءاً من هذه الكتلة. فكيف تغير موقف ليبرمان لينحو في اتجاه محاولة بناء اصطفافات جديدة في المشهد السياسي الإسرائيلي، بين ما يسميه تيار علماني ليبرالي يهودي، وآخر ديني مسياني؟

ركزت الدورة الأولى من انتخابات 2019 (نيسان / أبريل) على شخص بنيامين نتنياهو، وشرعية استمرار حكمه بسبب التهم الموجهة إليه بخيانة الأمانة والرشوة؛ غير أن سؤال الدين والدولة لم يكن حاضراً بقوة في تلك الدورة. فقد أدرج حزب "إسرائيل بيتنا" برئاسة أفيغدور ليبرمان، المسألة الأمنية في جدول أعمال حملته الانتخابية، مدعياً أن الحكومة الإسرائيلية برئاسة نتنياهو كانت مترهلة في تعاملها مع "مشكلة" قطاع غزة وحكم "حماس" فيها، كما رأى أن الحكومة فقدت الردع أمام حركات المقاومة الفلسطينية في القطاع، والتي باتت تتحكم في ايقاع المواجهات العينية القصيرة مع إسرائيل. وطالب ليبرمان بحسم هذه المشكلة مرة واحدة وإلى الأبد، وخصوصاً بعد إخفاقه كوزير للأمن (الدفاع) في تحقيق ذلك، زاعماً أنه لم يُعطَ الصلاحيات من طرف نتنياهو للقيام بما هو مطلوب لحسم هذه المشكلة.

في الجولة الثانية من الانتخابات (أيلول / سبتمبر) انتشرت في شوارع إسرائيل لافتات كبيرة تحمل صورة ليبرمان، وقد كُتب على قسم منها: "نعم لدولة يهودية، لا لدولة شريعة"، وعلى قسم ثانٍ: "ليبرمان، أيضاً يمين وأيضاً علماني"، وعلى قسم ثالث: "ليبرمان نحو دولة علمانية ليبرالية". كانت تلك هي الجولة الأولى في تاريخ مشاركة هذا الحزب في الانتخابات، منذ سنة 1999، والتي لا يتطرق فيها ليبرمان إلى الموضوع الفلسطيني بصورة أو بأُخرى، مركزاً جُل خطابه الانتخابي والسياسي على سؤال الدين والدولة.

في الدورات السابقة أسس ليبرمان خطابه على معاداة الفلسطينيين، وفي كل دورة كان يطرح شعاراً مختلفاً في هذا الصدد. فقد صعد ليبرمان إلى الحلبة السياسية رافعاً مشروع التبادل السكاني الذي يشمل تبادل الفلسطينيين الذي يسكنون في منطقة المثلث المحاذي للخط الأخضر، في مقابل ضم الكتل الاستيطانية من الطرف الآخر للخط الأخضر، وكان شعاره "أريئيل لإسرائيل، أم الفحم لفلسطين". ثم رفع في دورات أُخرى شعار "الولاء في مقابل المواطنة"، أي اشتراط مواطنة الفلسطينيين في إسرائيل بولائهم لإسرائيل كدولة يهودية، مروراً بشعار إعدام الأسرى الفلسطينيين، وانتهاء بإسقاط حكم حركة "حماس" في قطاع غزة.

أفشل ليبرمان، الذي يعتبر نفسه يمينياً، تشكيل حكومة يمين في نيسان / أبريل، وأفشلها في أيلول / سبتمبر، عبر رفضه المناصب التي عُرضت عليه في المحاولتين، ومنها اقتراح غير رسمي بتبادل رئاسة الحكومة مع نتنياهو في حالة انضم إلى ائتلاف اليمين، مفضلاً العمل على إنتاج اصطفاف جديد في المشهد الحزبي السياسي، هو عبارة عن تيار صهيوني علماني في مواجهة الأحزاب الدينية، ليحل مكان الاصطفاف القديم: يمين ويسار (والأصح يمين وغير يمين).

حسم الموضوع الفلسطيني

إن السبب الأول والأساسي لتغييب المسألة الفلسطينية، يعود، في رأيي، إلى التصور الإسرائيلي عامة، واليميني خاصة، بأن الموضوع الفلسطيني حُسم، أو في طريقه إلى الحسم قريباً. فالتوافق على الموضوع الفلسطيني بين أحزاب كتلة اليمين هو الدبق الذي كان يربطها بعضها ببعض، عندما كانت موضوعات إقامة دولة فلسطينية، وتفكيك مستعمرات، والانسحاب من الأراضي الفلسطينية التي احتُلت منذ سنة 1967، تشكل هاجساً لليمين.

في العقد الأخير تبلور اتفاق ضمني بين كتل اليمين على عدم شرعية قيام كتلة يمينية بإسقاط حكومة يمين، وذلك بعد تجربة أوسلو التي اعتبرها اليمين إحدى نتائج إضعاف حكومة يتسحاق شمير في سنة 1992، وكامب ديفيد في سنة 2000 الذي أعقب إسقاط حكومة نتنياهو الأولى، وهذا كله كان نتيجة معارضة جاءت من داخل اليمين.

في العقد الأخير تجاوزت الكتل اليمينية التهم الموجهة إلى نتنياهو، واستمرت في دعمه كرئيس لحكومة إسرائيل، لأن خيار نتنياهو، في حالة عدم دعمه، سيكون حكومة غير يمينية. لقد اعتبر اليمين أن السياق الفلسطيني (الانقسام والضعف الداخلي)، والسياق الإقليمي (انشغال العالم العربي بصراعات داخلية)، والسياق الدولي (صعود اليمين في العالم وصعود دونالد ترامب كشخص وكظاهرة)، ولّدت لحظة تاريخية غير مسبوقة لتحقيق تصوراته السياسية والأيديولوجية بشأن الموضوع الفلسطيني (أرض إسرائيل)، فعمل على تكثيف الاستيطان، وضم أجزاء من الضفة الغربية، ومنع إقامة دولة فلسطينية. وكان هذا الأمر يوحّد كتلة اليمين على الرغم من التناقضات الداخلية بينها، ولا سيما فيما يتعلق بسؤال الدين والدولة. فمشروع "أرض إسرائيل"، هو المشروع السياسي الذي وحّدها على الرغم من خلافتها على مكانة الدين في المجتمع ومدى تأثيره.

بناء على وحدة المشروع السياسي الكبير (مع وجود خلافات عينية هنا وهناك)، تشكلت كتلة يمين مسيطرة على المشهد السياسي وتتميز بقدرتها الحصرية على تشكيل الحكومة (تشكل كتلة اليمين مع ليبرمان قرابة 65 مقعداً مضموناً). وعملياً منعت هذه الكتلة إمكان تشكيل حكومة بديلة منها، فضلاً عن إنتاجها حالة من الاستقطاب داخل المشهد السياسي الإسرائيلي، تتمثل في نزع الشرعية السياسية والوطنية أحياناً عن كتل خارج هذه الكتلة، حتى لو كانت صهيونية.

لقد ساهم الالتفاف حول المشروع السياسي وتغييب الاختلافات على سؤال الدين والدولة، في تراجع قوة ليبرمان الذي تتميز قواعده الروسية بكونها تملك توجهات قومية معادية للفلسطينيين، ولحقّهم في تقرير المصير، وللقيم الديمقراطية في النظام السياسي الإسرائيلي، لكنها في الوقت نفسه علمانية في معاداتها للأحزاب الدينية من جهة، ورفضها لتدخّل الدين في الشأن العام والخاص من جهة ثانية. وقد تعزز هذا الأمر في الأعوام الأخيرة عبر المؤسسة الدينية الأرثوذكسية التي لديهم تاريخ سلبي معها، ذلك بأن هذه المؤسسة رفضت الاعتراف بيهودية كثيرين منهم، ولاحقتهم في شؤونهم الخاصة مثل منع الأكل غير الكوشير، وقضايا الأحوال الشخصية.

اعتقد ليبرمان أن التصاقه بالكتلة اليمينية من خلال المشروع السياسي ومعاداته للفلسطينيين داخل إسرائيل وخارجها، سيمنحه قوة سياسية تؤهله لأن يكون البديل المقبل لقيادة معسكر اليمين، غير أنه وجد نفسه يتراجع من دورة انتخابية إلى أُخرى، أمام ازدياد قوة الأحزاب الدينية وتأثيرها في المشهد العام في إسرائيل. وبدا أن نجم ليبرمان يخفت ويختفي مع الوقت أمام هيمنة نتنياهو من جهة، وتأثير الأحزاب الدينية من جهة ثانية.

إن القناعة لدى اليمين بأن الموضوع الفلسطيني حُسم، ساعد ليبرمان على إعلاء شأن موضوع الدين والدولة، الأمر الذي يفسر غياب السجال بشأن الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، على الرغم من استخدام نتنياهو عنصر التخويف من الأصوات العربية من أجل جذب مصوّتين من أحزاب اليمين الديني القومي.

لقد مكّن غياب المسألة الفلسطينية ليبرمان من العودة إلى قواعده التي أصيبت بخيبة الأمل، بعد تراجعه في انتخابات أبريل / نيسان، والخطر الذي أحدق به بعدم عبور نسبة الحسم، فاتخذ قراراً استراتيجياً برفع لواء الدولة العلمانية أمام مشروع دولة الشريعة. وركز جلّ خطابه على مهاجمة الأحزاب الدينية: الأرثوذكسية منها، أو الدينية القومية، لا بل هاجم واحدة من المعاقل "المقدسة" في الصهيونية الدينية، وهي المدارس الدينية العسكرية التي يلتحق طلابها في الأعوام الأخيرة بوحدات النخبة ووحدات الاشتباك الأرضية، وهذا كان مؤشراً إلى النقطة القصوى التي ذهب بها ليبرمان في خطابه ضد مختلف المؤسسات الدينية.

تشير المعطيات إلى أن الروس ينتمون إلى الطبقة الوسطى الدنيا في المجتمع الإسرائيلي، ومع ذلك، فإن أي حكومة يمين لم تعمل على دعمهم، وإنما زادت الأعباء الاقتصادية عليهم. كما أن التحالف مع الليكود أفقد حزب "إسرائيل بيتنا" هويته القطاعية كحزب للمهاجرين الروس الذين يصل عددهم إلى مليون روسي، لهم حاجاتهم الخاصة في المجالات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية.

في انتخابات 2015، صوّت اليهود الروس في أغلبيتهم لليمين الإسرائيلي، ففي 42 صندوق اقتراع في 18 مدينة وبلدة تمثل الانتشار الروسي في إسرائيل، تبيّن أن قرابة 42% من الروس صوّتوا لحزب إسرائيل بيتنا، بينما صوّت 30% لليكود، وحصل المعسكر الصهيوني على أقل من 7% من تلك الأصوات.

إن أصوات الروس بالنسبة إلى حزب "إسرائيل بيتنا" تُعتبر المخزن الانتخابي المركزي، فهي تشكل، بحسب نتائج دورات الانتخابات السابقة، 75% من الأصوات التي يحصل عليها. ففي انتخابات 2015 تراجع الحزب إلى 6 مقاعد، بعد أن حصل في انتخابات 2013 ضمن تحالف مع الليكود على 13 مقعداً، وفي انتخابات 1999 حصل على 15 مقعداً، وهي أعلى نسبة تمثيل برلماني حصل عليها. وفي الدورتين الانتخابيتين 2013 و2015، حدث تحولان في السلوك الانتخابي لدى الناخب الروسي، فمن جهة كان هنالك تراجع في نسبة التصويت، ومن جهة ثانية، انتقلت شريحة من الناخبين من "إسرائيل بيتنا" إلى الليكود الذي مثّل مرشحين روساً في قائمته الانتخابية. وقد ساهمت هذه التحولات في تراجع قوة "إسرائيل بيتنا" في الدورات الأخيرة (بما في ذلك انتخابات نيسان / أبريل 2019).

صعود قوة تأثير الأحزاب الدينية

صدر في إسرائيل في العامين المنصرمَين عشرات الكتب والدراسات، فضلاً عن مئات المقالات التي تناولت سؤال الدين والعلمنة في المجال العام الإسرائيلي. وهذه العودة إلى طرح سؤال العلمنة، وهو نفسه سؤال الدين أو بالأحرى سؤال التدين والتديين، تدل على زيادة تأثير الأحزاب والمؤسسة الدينية، وسعيها لتديين المجال العمومي من خلال وجودها في الحكومة، وتأثيرها في قرارات الحكومة في هذا الشأن بسبب ارتهان بقاء الحكومة لها، وبالتالي تحكّم الأحزاب الدينية، وخصوصاً الأرثوذكسية منها، في تمكين كتلة اليمين من الحكم.

التحول المهم في هذا الصدد هو تحوّل الأحزاب الأرثوذكسية إلى التصهيُن، الأمر الذي يحتاج إلى دراسة معمقة أكثر، تتناول القواعد الاجتماعية لهذه الأحزاب (ولا سيما قواعدها الحريدية المتزمتة دينياً)، والتي أصبحت تحمل توجهات يمينية بالنسبة إلى القضية الفلسطينية. فهل تصهينت الأحزاب جرّاء تحولات في قواعدها الاجتماعية (نصف المستوطنين هم من المتزمتين اليهود- الحريديم)، أم إن تصهين هذه الأحزاب جاء ضمن صيرورة بدأت بعد سنة 1967، وأدت إلى تصهين قواعدها، أم إن هنالك عوامل أُخرى، كالعامل الاقتصادي، ساهمت في ذلك؟

لقد تحولت هذه الأحزاب إلى مركّب مهم في كتلة اليمين الحاكم، وإلى حلفاء طبيعيين لليكود في الحكم، ولذلك استطاعت أن تؤثر كثيراً في مكانة الدين وتأثيره في المجال العام، فنجحت في مكان، وأخفقت في آخر بسبب تصدي المجتمع المدني والحكم المحلي لها.

تحولات لدى اليمين التقليدي

عندما رفع ليبرمان شعاره الانتخابي في الجولة الأخيرة من الانتخابات "يمين علماني"، مثّل ذلك مؤشراً إلى تحولات مرّ بها اليمين الإسرائيلي التقليدي من يمين علماني محافظ وليبرالي إلى يمين قومي ديني. وقد حدث ذلك منذ أواسط التسعينيات نتيجة عوامل كثيرة أهمها: دخول اليمين الديني الاستيطاني إلى حزب الليكود؛ دخول نخب جديدة إلى حزب الليكود قامت بإقصاء النخب القديمة ذات الطابع المحافظ أو الليبرالي؛ تصهين الأحزاب الدينية الأرثوذكسية بعد سنة 1967؛ اعتماد الليكود على قواعد انتخابية محافظة دينياً مثل الشرقيين، في مواجهة ليبرالية اليسار، وتأكيداً للهوية اليهودية ببعدها الديني.

هذه التحولات ساهمت في عزوف كثير من قواعد ليبرمان عن التصويت، أو أنها صوّتت في دورات سابقة لأحزاب المركز التي رفعت راية مواجهة الأجندة الدينية في خطابها. فقد ظهر اليمين الإسرائيلي في العقد الأخير كيمين متطرف قومي ديني معادٍ للقيم الديمقراطية، وليبرمان ليس لديه مشكلة مع قومية اليمين ومعاداته للديمقراطية ومؤسساتها، بل إن مشكلته كانت مع تديين اليمين. وعندما رفع ليبرمان شعار دولة علمانية ليبرالية فإنه لم يقصد الليبرالية بمفهومها الحقوقي على المستوى السياسي والمدني، وإنما كان يقصد التحرر من الدين فقط..

السيرة الشخصية: 

مهند مصطفى: المدير العام لمركز مدى الكرمل: المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية – حيفا، ورئيس قسم التاريخ في المعهد العربي للتربية - بيت بيرل.