الانتفاضة اللبنانية: موت اللغة القديمة
نبذة مختصرة: 

اعتباراً من 17 تشرين الأول / أكتوبر 2019، فاجأ لبنان سياسييه والذين يتابعون من الخارج التطوارت فيه، بتدفق بشري في الشوارع رفضاً لتفشّي الفساد والمحسوبيات في أوساط المسؤولين، وللسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى إفقار الشعب اللبناني. وعلى الرغم من جميع محاولات القمع الجسدي والمعنوي، فإن انتفاضة تشرين الأول / أكتوبر تواصلت، وحتى كتابة هذا المقال تكون قد تجاوزت شهراً ونصف شهر، بينما الأوليغارشية الحاكمة تتخبط في الفوضى وهي تحاول لملمة صفوفها ووأد الانتفاضة.

النص الكامل: 

 بين لبنان والعراق يتخذ الربيع العربي مسارات جديدة.

فبعد التغيير الذي أحدثته الانتفاضة الشعبية في السودان، انتقلت الشرارة إلى حيث لم يتوقع أحد: انفجر لبنان في انتفاضة شعبية لا سابق لها، وسال الدم في بغداد والناصرية والنجف، وبدا كأن التاريخ يمكر ويخبىء مفاجآته. اعتقد الجميع أن العسكريتاريا وأنظمة الفساد استطاعت أن تنتصر على الشعوب العربية وعلى توقها إلى الحرية والعدالة الاجتماعية، فإذا بنا نُفاجأ بلبنان والعراق، وإذا بصيحة "الشعب يريد إسقاط النظام"، التي انطلقت في تونس، تستعيد زخمها وحيويتها في شوارع لبنان وساحاته، وإذا بالعراق ينفض عنه اللغة الطائفية المذهبية ليعلن أن العراقيين كاللبنانيين يريدون وطناً.

 

في 17 تشرين الأول / أكتوبر، الكل توحد خلف العلم اللبناني لافظاً الطائفية.

نريد وطناً

سأقتصر في هذا المقال على تقديم قراءة أولية للانتفاضة اللبنانية، إذ كان لي شرف مرافقة الشابات والشبان الذين احتلوا الشوارع والساحات، كي أكتشف معهم موت اللغة القديمة وبدايات ولادة لغة جديدة.

أستطيع أن أقول، وأنا أكتب هذه المقالة في 2 كانون الأول / ديسمبر 2019 - أي قبل أن تتضح وجهة الأحداث العاصفة التي يمر بها لبنان - إن الانتفاضة انتصرت، حتى لو نجح النظام الأوليغارشي الطائفي في منعها من تحقيق أهدافها السياسية.

أقول انتصرت لأنه يجب أن نقرأ مفهوم العملية الثورية بلغة جديدة. فالثورات لا تغيّر أنظمة الحكم إلّا إذا نجحت أولاً في تغيير القيم، وفي تأسيس أنماط جديدة من الوحدة المجتمعية.

بهذا المعنى تكون الانتفاضة قد انتصرت، وذلك للأسباب التالية:

أولاً: نجحت الانتفاضة في تأسيس مفهوم جديد للوطن. فقد اكتشفت اللبنانيات واللبنانيون أنهم لا يملكون وطناً، ذلك بأن وطنهم الصغير ممزق على قياس الطوائف التي حولت واقع التعددية الدينية في لبنان إلى مطيّة تسلّقتها طبقة المافيويين الذين لا همّ لهم سوى نهب خيرات البلد ورهنها للخارج.

قالت اللبنانيات واللبنانيون نريد وطناً، وشرط الوطن هو وجود المواطن الحر، والمواطن لا يكون إلّا إذا تحرر من الانتماء الطائفي والمناطقي والعشائري. الانتفاضة كانت اللحظة التي تحوّل فيها شعار مدنية الدولة وعلمانيتها إلى شعار جماهيري. لقد رأينا التحاماً بين المناطق اللبنانية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، وشهدنا كيف توحدت شعارات مختلف ساحات الانتفاضة، كأن هناك تنسيقاً خفياً ضبط إيقاع الأهداف ووحّدها. الانتفاضة عفوية ولا قيادة لها، ووحدتها نابعة من شعور أبناء الطبقات العاملة بأن مصيرهم مهدد، وبأن هاوية الأزمة الاقتصادية التي تسببت بها الطبقة الحاكمة تهدد بابتلاع الجميع.

ثانياً، نريد وطناً تعني أن النظام الزبائني الطائفي وصل إلى نهايته المحتومة. فالأزمة الاقتصادية لها سببان:

أ - النظام الرأسمالي الريعي الذي عاش على امتصاص الموارد الاقتصادية بسبب دين عام لا قعر له، ونظام مصرفي يعيش على هندسات مالية توفر له أرباحاً طائلة.

ب - منظومة النهب التي أتقنها زعماء الطوائف المتسلطون على الحكم، بحيث صارت الدولة مرتعاً للفساد والصفقات المشبوهة التي كلفت الخزينة اللبنانية مليارات الدولارات.

أمام هاوية الأزمة لم تعد تستطيع الزبائنية الطائفية تقديم فتات نهبها إلى أنصارها، فاكتشف الناس أن الطائفية السياسية ليست أكثر من خدعة، وأن مَن يضطهد الناس هم زعماؤهم الذين كثيراً ما ادّعوا حمايتهم من الآخرين.

في شوارع الانتفاضة وساحاتها تهاوت الطائفية، ولم يعد الخطاب الطائفي الذي تفوح منه الرائحة العنصرية يستقطب أحداً. انكشفت الخدعة الطائفية التي تقود إلى الهاوية، والتي كانت أسمنت النظام اللبناني الذي نشأ بعد اتفاق الطائف.

ثالثاً: سقوط نظام الحرب الأهلية الدائمة.

مر النظام اللبناني الذي تأسس بعد نهاية الحرب الأهلية واتفاق الطائف، بمرحلتين:

المرحلة الأولى هي مرحلة هيمنة النظام السوري على لبنان، وفي هذه المرحلة تأسس النظام الاقتصادي النيوليبرالي، وتحطمت الحركة النقابية، وانهارت الجامعة اللبنانية والتعليم العام لمصلحة دكاكين التعليم الطائفية. كما نشأت فيها ما يسمى حالة الإحباط المسيحي: ميشال عون في المنفى وسمير جعجع في السجن. في هذه المرحلة تأسس نظام الحرب الأهلية الدائمة على قاعدتين: النيوليبرالية الرأسمالية المتوحشة، والنهب العلني، كما جرى ضبط المجتمع بالقمع المخابراتي، بينما بقيت جمرة الحرب الأهلية متقدة تحت رماد "الإحباط المسيحي". وفي هذه المرحلة أيضاً جرت حرب المخيمات من أجل إخراج المقاومة الفلسطينية من المعادلة اللبنانية، وتمت تصفية جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ذات الطابع اليساري العلماني، كي ينفرد حزب الله بالمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي.

المرحلة الثانية هي مرحلة ما بعد الخروج السوري من لبنان، وقد تخللتها توترات سياسية ارتبطت بالمحورَين الإقليميين الإيراني والسعودي، وانقسم لبنان بين معسكرَي 8 و14 آذار، بما يحمله هذا الانقسام من توتر مذهبي سنّي - شيعي.

تسويات المرحلة الثانية في مختلف تحولاتها أسست لما يمكن أن نطلق عليه اسم فيدرالية الطوائف، والتي وصلت إلى ذروتها مع انتخاب الجنرال ميشال عون رئيساً للجمهورية.

شهدت هذه المرحلة انفلاتاً في نهب موارد الدولة، وتحولت المصارف بقيادة مصرف لبنان إلى الطرف الاقتصادي المهيمن بشكل مطلق، وتابع التعليم العام انهياره، وبرزت الاحتكارات التي تمتلكها الزعامات الطائفية إلى الواجهة، وبدأت علامات الانهيار الاقتصادي والمالي بالبروز.

تظاهرة أمام مصرف لبنان احتجاجاً على السياسة المالية.

نظام الحرب الأهلية كان غطاء النهب المنظم للشواطىء والكهرباء والهاتف الخلوي والكسارات، وقد تراكمت المشكلات حتى وصلت إلى مسلسلات لا نهاية لها من الفضائح المالية والبيئية، وتفاقم تمركز الثروة في أيدي الأقلية الحاكمة وزبائنها، وبدا لبنان كأنه ينحدر إلى نهايته.

كان نظام التهديد بالحرب الأهلية هو عنصر الضبط الاجتماعي الوحيد الذي تملكه الطبقة الحاكمة التي لوّثت كل شيء من الأنهار إلى الهواء. غير أن إنجازها الأكبر تمثل في اعتقادها أنها تستطيع تلويث الوعي بالخوف من الحرب الأهلية.

في 17 تشرين الأول / أكتوبر 2019، حطّمت الانتفاضة نظام الحرب الأهلية الدائمة. سقطت الفزّاعة وتناثرت، وعندما حاولت ميليشيات السلطة وشبيحتها الاعتداء على المعتصمين وإحراق خيامهم، فوجئت بأنها لم تجد في مواجهتها مَن تحاربه. فالانتفاضة نشأت سلمية وستبقى سلمية، وما على دونكيشوت الحرب سوى مقاتلة ظله.

لم يسقط نظام الحرب الأهلية الدائمة إلّا لأن الطائفية السياسية سقطت، وأثبتت أنها سبب هذا الانحطاط السياسي والأخلاقي الذي ترجم نفسه بانهيار اقتصادي لم تعد الطبقة الحاكمة قادرة على مواجهته إلّا بإجراءات قمعية، وبالسلبطة على مدخرات اللبنانيين في البنوك.

اللغة الجديدة

صنعت الانتفاضة اللبنانية مناخاً اجتماعياً وثقافياً جديداً حمل طابعاً ثورياً جذرياً، كأن الشعب الذي خرج إلى الشوارع من أجل تأسيس وطن، كان يعي أن الوطن يحتاج إلى ثقافة جديدة. ويمكن تلخيص هذا المناخ بثلاثة عناصر:

أولاً، دور المرأة

لم تشارك المرأة فقط في الانتفاضة، بل أدت دوراً أساسياً في قيادتها، إلى درجة أننا نستطيع القول إن الانتفاضة اللبنانية هي ثورة نسوية أولاً.

نساء لبنان قياديات في الثورة.

لم تخرج الصبايا إلى الشوارع من أجل المطالبة بالحقوق فقط، بل خرجن ليعلن أنهن يصنعن التغيير بأصواتهن وهتافاتهن وأقدامهن.

هذه هي المرة الأولى التي لا تكون فيها الشعارات النسوية ملحقة بالشعارات السياسية، فالشعارات النسوية هي أهم عناصر المشروع السياسي الذي يسعى للتغيير. حق المرأة ليس منّة من أحد، والمساواة ليست مطلباً، بل حقيقة تتجسد في الانتفاضة. وأمام الصوت النسائي المدهش في صلابته بدا تعنّت الطبقة السياسية في عدم منح المرأة الحق في إعطاء الجنسية لأولادها، أو في قوانين الأحوال الشخصية التي تحرم المرأة الحق في حضانة أطفالها، تافهاً وفاقداً للصلة بالواقع.

من السودان تحية للنساء اللبنانيات.

خرجت المراة اللبنانية إلى العمل العام باعتبارها صاحبة حق القيادة، معلنة أن التغيير الحقيقي يبدأ هنا. فالمرأة المكبلة مؤشر إلى مجتمع خاضع للاستبداد والذكورية، وحرية المرأة هي علامة حرية المجتمع.

ثانياً، دور الشباب

الشابات والشبان قادوا الانتفاضة وأعطوها نبض التجدد والانعتاق. كان أبناء جيلي والجيل الذي أتى من بعدنا يلهثون خلف حيوية لا تعرف التعب، وحول قدرات خلّاقة انفجرت في الشوارع والساحات، وأعطت نكهة الجديد.

جيل تحرر من الحنين إلى ماضي الحرب والخوف من أشباحها، ولم تعد اللغة السياسية القديمة تعني له شيئاً سوى أنها مجموعة من الهياكل العظمية التي يجب دفنها.

هذا الجيل لم يفهم معنى الخوف من نظام الحرب الأهلية الدائمة، فالحرب مجرد ماضٍ يجب أن يمضي ويتحول إلى مادة للدراسة. نحن لسنا عبيد الماضي إلّا لأن نظامنا السياسي الطائفي رفض أن يحاكمه ويدرسه. أراد هذا النظام للحرب أن تبقى شبحاً مهيمناً لأن رموز الحرب وأُمراءها وسفّاحيها استولوا على السلطة وسنّوا لأنفسهم قانوناً لعفو عام ترك آلاف المخطوفين في عتمة المقابر الجماعية التي لا يريدون لذويهم معرفة مكانها.

لم يدفنوا الموتى كي يحكمنا الموت.

وعى جيل 17 تشرين الأول / أكتوبر أن عليه أن يبني أفق الحاضر بلغة هذا الحاضر، وهذا لا يتم إلّا بالتمرد على الماضي بكل محموله الرمزي. لبنان ليس الأسطورة وأوهام التعايش وعُظامية الانتفاخ الأجوف، ولبنان ليس لغة بلا مضامين. لبنان وطن يجتاحه الفقر وتسود فيه البطالة وتُمتهن فيه كرامة الناس. لبنان ملوّث ويحتاج إلى إنقاذ، وشرط الإنقاذ هو بناء سياسي واجتماعي جديد.

تحرر جيل 17 تشرين الأول / أكتوبر من ماضٍ لا يزال مهيمناً على السلطة، لكن سلطته تحولت إلى آلة وحشية وكاريكاتورية في آن معاً.

وهذه الآلة لا يمكن مواجهتها بلغتها، بل يجب إحداث تغيير لغوي شامل عبر الخروج نهائياً من الإطار الطائفي، وتأسيس مفهوم المجتمع الديمقراطي الذي تكون حرية الفرد فيه هي العلامة الأولى لحرية المجتمع.

 ثورة شبابية.

ثالثا: خروج الطبقات العاملة إلى الحيز العام

نجحت انتفاضة تشرين الأول / أكتوبر في ردم الهوة بين الخطاب الثقافي العلماني المعادي للطائفية وبين الأكثرية الشعبية.

شهدت ساحات الانتفاضة انتقالاً كبيراً من خطاب ثقافوي حملته نخب الحراكات التي دعت إلى إسقاط النظام الطائفي منذ سنة 2011، إلى خطاب طبقي بدأت ملامحه تتضح مع تصاعد الانتفاضة وسط الانزلاق الكبير إلى الكارثة الاقتصادية.

الالتحام بين رؤية جديدة للبنان وبين مصلحة الطبقات المتوسطة والفقيرة هو العامل الجديد الذي سمح للانتفاضة بصوغ خطابها المدني العابر للطوائف والمناطق.

نحن أمام صراع طبقي، فالمافيا الحاكمة لم تعد تستطيع الادعاء أنها تمثل مصالح الطوائف، هذا كلام صار مجرد رطانة لغوية لا صلة لها بالواقع. المافيا الحاكمة تمثل مصالح الطبقة الأوليغارشية الحاكمة التي وصلت إلى أزمتها. فهذه الطبقة المؤلفة من كبار الرأسماليين وأصحاب البنوك والمؤسسات الاحتكارية، نهبت موارد الدولة وأوصلتها إلى الإفلاس، وهي تناور اليوم بشتى الوسائل من أجل المحافظة على مصالحها على حساب إفقار الناس وسرقة مدخراتهم البسيطة وفرض إجراءات تقشفية لا تصيب إلّا الفقراء. كما أن مشروعها يهدف إلى بيع القطاع العام وتحويل ما تبقّى من الملكية العامة إلى وسيلة لزيادة ثروتها.

الصراع الطبقي يغير قواعد اللعبة السياسية بشكل جذري، ويؤسس لولادة بنى اجتماعية جديدة تأخذ على عاتقها مهمة تهديم المزرعة الطائفية من أجل بناء الدولة.

موت اللغة القديمة

كان عماد اللغة السياسية المسيطرة في لبنان هو رهن لبنان للخارج عبر علاقة التبعية الزبائنية التي تقيمها البنى الطائفية مع القوى الإقليمية المتصارعة.

وكانت هذه اللغة هي أساس الحياة السياسية اللبنانية، بعدما حوّلها اتفاق الطائف برعاية سورية - سعودية - أميركية إلى نِصاب سياسي كان لا بد من أن ينفجر من الداخل مع تفاقم الصراعات الإقليمية بعد احتلال العراق.

لقد حاولت اللغة القديمة شنّ هجوم شامل على الانتفاضة عبر اتهامها بالعمالة للسفارات الأجنبية، وبأنها جزء من مشروع ضرب "محور المقاومة" الذي تقوده إيران في مواجهة الإمبريالية الأميركية وإسرائيل.

لكن هذه اللغة عجزت عن قراءة الانتفاضة، فالانتفاضة تشكلت أساساً كرفض لسياسات الارتهان للخارج. السياسة الخارجية هي انعكاس للسياسة الداخلية وليس العكس. هذا العكس الذي ساد لبنان طويلاً أحدث شللاً سياسياً بنيوياً سمح لمافيات الطوائف بالإمساك بالسلطة والثروة، وإخراج المصلحة الوطنية من المعادلة.

اللغة القديمة، أي لغة الانقسام الاجتماعي اللبناني الأفقي، أثبتت أنها طريق ذو اتجاه واحد لا يوصل إلّا إلى الانهيار. ومن هنا جاءت مفاجأة الانتفاضة من حيث لم يتوقع أحد، فقد انتفضت صور والنبطية وبعلبك وكفرمان مثلما انتفضت بيروت وطرابلس وعكار والبقاع وجل الديب وجبيل وجونية. إنها المرة الأولى في تاريخ لبنان التي يتبلور فيها خطاب وطني موحد.

اللغة القديمة ماتت في ثلاثة مستويات:

أولاً: الارتهان للخارج.

كانت ساحات الانتفاضة تصدح بالهتافات المؤيدة لثورات العراق والسودان، والمعادية في الوقت عينه للمحور الخليجي. مشهدية 14 و8 آذار سقطت في الشارع.

 آلاء صالح كنداكة السودان.

العراق انتفاضة متواصلة على الرغم من القمع.

الوطنية اللبنانية الجديدة ليست أسيرة أي محور إقليمي. وكان لافتاً رفض مجموعات الانتفاضة الالتقاء بالموفد الفرنسي، لأنها ترفض أي تدخّل خارجي في الشأن اللبناني. وكانت أناشيد الثورة السورية تتجدد في اعتصامات الشباب، واتخذ الهتاف لفلسطين وشعبها نكهة جديدة.

القوى التي تصر على قراءة الانتفاضة بصفتها جزءاً من مشروع خارجي هي القوى التي تهدد بالعودة إلى الحرب الأهلية، أي أنها قوى النظام المسيطر الذي ارتهنت أطرافه للخارج، ولا يزال بعضها يجهر بهذا الارتهان.

أمّا الانتفاضة فموجودة في مكان آخر، فهي لم تعد معنية بلغة الحرب الأهلية القديمة، وهي تعتبر إسرائيل عدواً لا بد من مقاومته، لكنها تقرأ هذه المقاومة كمحصلة لإجماع وطني لبناني، وليس كجزء من الحرب الأهلية أو كشكل طائفي أو ديني مرتبط بمحور خارجي.

ثانياً: العلاقة بالشعوب العربية.

التضامن مع صيحة الحرية التي أطلقها الربيع العربي هو المضمون الجديد للفكرة العربية. عروبة الأنظمة الاستبدادية والخطاب القومجي والتذرع بالمعركة المؤجلة مع العدو الإسرائيلي، سقطت واستُبدلت بخطاب جديد قائم على وحدة ساحات النضال من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية في المشرق العربي.

هذه العروبة الجديدة تستعيد خطاب النهضة العربية التي انطلقت كمقترب لبناء مجتمعات حرة ومتحررة، والتي قام الاستبدادان العسكري والديني بمحاولة وأدها، من أجل إغراق المنطقة في الظلام. لقد وعت الانتفاضة أن عليها رفض الخطاب العنصري ضد اللاجئين السوريين والفلسطينيين، والذي لم تتوقف أجهزة السلطة عن الترويج له، ولذا نظمت في قلب الساحات وقفات تضامنية مع اللاجئين.

كانت لحظات استعادة هتافات ثورات العراق وسورية تعبيراً عن أن الانتفاضة الشعبية اللبنانية هي امتداد للربيع العربي، وأن لبنان الجديد يجب أن يستعيد دوره في نهضة العرب.

ثالثاً: التخلي عن رطانة الوحدة الوطنية والتسامح.

أخفى الخطاب اللبناني السائد طائفيته وعنصريته خلف شعارين فارغين من المضمون: الوحدة الوطنية والتسامح. وفي كل مرة كان هذان الشعاران يرتفعان فيها خلال العقود الأربعة الماضية، كان ذلك دليلاً على توترات طائفية مصطنعة بهدف المحافظة على فيدرالية زعماء الطوائف الحاكمة.

فبدلاً من شعار الوحدة الوطنية ارتفع شعار الوحدة الشعبية. فقد اكتشفت اللبنانيات واللبنانيون أن انقساماتهم الطائفية يمكن أن تذوب في حمّى نضالهم من أجل العدالة، وأن حقيقة وحدة ساحات الانتفاضة تُفقد الشعارات القديمة معناها، وتحوّلها إلى لغو. أمّا شعار التسامح وتوأمه شعار العيش المشترك فتحولا إلى لزوم ما لا يلزم. فاللبنانيون يختبرون اليوم الموت المشترك، وهم يعلمون أنهم يُقتلون بيد نظام سياسي - اقتصادي يتوحد ضدهم ولا ينقسم إلّا حول التحاصص والتناهب.

شعرية الانتفاضة

أكتب هذا النص وسط المخاض اللبناني، وهو مخاض طويل وصعب وليس مضمون النتائج.

فالاحتمالات والوعود التي قدمتها الانتفاضة كبيرة، وتبدو بالنسبة إلى كثيرين أشبه بحلم أو بقصيدة جماعية يكتبها عشرات ألوف المعتصمات والمعتصمين.

لكن هذه القصيدة تصطدم بواقع سياسي متكلّس وغير قادر على فهم عمق التغييرات التي يحبل بها المجتمع اللبناني اليوم.

السلطة التي تشكلت في التسوية الرئاسية التي أوصلت الجنرال عون إلى الرئاسة، دخلت منعطف التفكك الأول مع استقالة الحكومة تحت ضغط الشارع.

غير أن القوتين الرئيسيتين في التحالف السلطوي، أي التيار العوني والثنائية الشيعية (تحالف حزب الله وحركة أمل)، رفضا بشكل واضح وصريح اقتراح التسوية الذي قدمته الانتفاضة، وهو تشكيل حكومة انتقالية من الاختصاصيين الذين لا ينتمون إلى منظومة أحزاب السلطة، وتكون مهمتها انتشال لبنان من الأزمة الاقتصادية ووقف النهب والهدر، تمهيداً لإقرار قانون انتخابي جديد يسمح بإجراء انتخابات تعيد تشكيل السلطة.

صوت عالٍ في مواجهة القمع.

اقتراح الانتفاضة، وهو اقتراح أجمعت عليه الساحات والميادين كلها، ليس اقتراحاً ثورياً، بل هو اقتراح تسوية يمد حبل النجاة كي لا تتفكك الدولة.

لماذا رفضت السلطة التسوية وماذا تريد؟

هذا هو السؤال المحيّر. هل تراهن على القمع أم تراهن على تعب الناس وخوفهم من الإفقار الزاحف؟

خيار القمع سقط لأن الجيش رفض ممارسته وشكل حاجزاً بين درّاجات الترهيب التي أطلقها الثنائي الشيعي وبين شباب الانتفاضة. أي أن التوازن بين جيشين: الجيش اللبناني وحزب الله، يجعل من القمع خياراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً.

 أنصار أمل وحزب الله على دراجاتهم النارية.

أمّا الرهان على التعب والإفقار فسلاح ذو حدين، فالخوف من الفقر قد يقود إلى الاستكانة، لكنه قد يقود أيضاً إلى التمرد، وقد يُخرج شياطين العنف الأعمى من أوكارها.

لماذا إذاً؟

أغلب الظن أننا أمام معادلة مزدوجة:

من جهة أولى، فإن حزب رئيس الجمهورية الذي يرأسه صهره السيد جبران باسيل يعلم أن خروجه من الحكومة قد يكون بداية تفككه واندثاره، فقد انهارت شعبية الحزب الحاكم بشكل دراماتيكي أمام مد الانتفاضة الشعبية، وبات في سياساته أسير لعبة السلطة. وهنا يجب أن نعود بالذاكرة إلى التاريخ السياسي لزعيم التيار الذي تميز بالعناد، وقاد سياسات متهورة في نهاية الثمانينيات أوصلت إلى نهاية المارونية السياسية.

شعار التيار القائم على استعادة الدور السياسي للمسيحيين في السلطة، مع ما رافقه من تأجيج للخطاب العنصري والطائفي، وجد نفسه أمام مأزق الأزمة الاقتصادية الاجتماعية فاقداً للمعنى. ما معنى الحقوق الطائفية في زمن الانهيار؟

لقد انهار خطاب تحالف الأقليات الذي اجتهد باسيل في صوغه، وبدا رأس السلطة عاجزاً عن تقديم أي حلول، وكان اقتراحه الوحيد هو العناد، والتصرف أمام الأزمة الحكومية كأن شيئا لم يكن.

ومن جهة ثانية، قرر حزب الله أن مهمة المقاومة الإسلامية هي حماية نظام فيدرالية الطوائف من السقوط. فالحزب يقود الدولة بشكل عملي، ويرتضي بأن تكون الطبقة الحاكمة مظلته السياسية، كي يتابع سياسته الإقليمية المرتبطة بالسياسة الإيرانية، والتي بلغت ذروتها في القتال في سورية من أجل حماية النظام من السقوط.

هذا التحالف القائم على تبادل المنافع - التيار العوني يقدم مظلة السلطة وحزب الله يقدم فائض القوة العسكرية - لم يعد قادراً على ضبط الوضع. فالأزمة الاقتصادية لا تعالَج بخطاب أيديولوجي، والانهيار لا يُحلّ بخطاب الحقوق الطائفية، والنهب والهدر والفساد لا تخشى فائض القوة المسلحة.

إن التعنت والعجز اللذين يتحكمان في مسار القوى المسيطرة سيتلاشيان في نهاية المطاف، لكنهما سيحاولان تأخير استحقاق دفع الثمن حتى الرمق الأخير.

خلاصة

مهما تكن المحصلة السياسية التي ستخرج بها الانتفاضة، فإن هناك شيئاً مؤكداً هو أن لبنان لن يعود مثلما كان قبل 17 تشرين الأول / أكتوبر 2019.

الانتفاضة رسمت خطاً فاصلاً يسمح بتأسيس حياة ثقافية - سياسية جديدة في لبنان، فالشعب اللبناني دخل عبر هذه الانتفاضة إلى دائرة القدرة على إمساك مصيره بيديه، ذلك بأن بناء وطن تسوده الحرية والعدالة الاجتماعية، منوط بنخبة ثقافية سياسية عليها أن تنتقل إلى مهمة بناء مؤسسات المجتمع النقابية والسياسية والثقافية.

وهذا البناء هو حصاد الانتفاضة.

نجاح انتفاضة تشرين الأول / أكتوبر في بناء قيم جديدة هو مقياس مكانتها في تاريخ لبنان الحديث.