مئة عام على إعلان بلفور: القدس في المخطط الحضري البريطاني، 1919
نبذة مختصرة: 

لم تولد مخططات تغيير معالم القدس مع الاحتلال الإسرائيلي للجزء الغربي منها في سنة 1948، ولا بعد هزيمة 5 حزيران / يونيو 1967 واستيلاء إسرائيل على كل فلسطين التاريخية، وإنما تعود أساساً إلى زمن الاحتلال البريطاني، ومنها مشروع المخطِّط الحضري باتريك غديز، إلى جانب مخططات حضرية بريطانية أُخرى، وُضعت لتدعيم الدولة اليهودية وفقاً لما تضمنه إعلان بلفور، ولإزالة الطابع الفلسطيني التاريخي للقدس.

النص الكامل: 

 كُتب كثير عن استعمال المخططات الهيكلية للمستقرات البشرية كأدوات تحكّم سياسي وإثني وديني، فضلاً عن استعمالها كأدوات تحكّم طبقي، فلا داعي إلى إضافة المزيد.[1] كما كُتب كثير عن المخططات الهيكلية المتعاقبة على مدينة القدس، سواء خلال فترة الانتداب البريطاني، أو بعد الاحتلال الإسرائيلي، بحيث باتت المخططات الهيكلية لهذه المدينة تشكل عامل طرد وإفقار لفلسطينيي القدس، وأداة راسخة للتحكم في مجريات حياتهم اليومية ترسم لهم المسكن والرزق والتطور أو عدمه، مثلما ترسم لهم تكاثرهم أو الحد منه، وتقرر مستوى الحياة وتسيطر على حركتهم اليومية، بل حتى تتحكم في نوعية الهواء المسموح استنشاقه، علاوة على المشهد المسموح للمقدسي مشاهدته. ومن ناحية ثانية، تفسح هذه المخططات المجال رحباً أمام المستعمرين لبناء مستعمراتهم على أراضي الفلسطينيين، والتمتع بالطبيعة الخلابة لجبال القدس، وتشكل جميع عوامل الجذب لهم لاستعمار الشطر الشرقي من المدينة المضبوط والمتحكَّم فيه بين فكّي كماشة الاستيطان وجدار الفصل العنصري. وتحول هذه المخططات الشطر الغربي من المدينة، المتطور أصلاً قبل سنة 1948، إلى شطر منتعش عصري وجذاب للاستثمار، وإلى مركز حضاري حديث، بينما يبقى الجزء الذي يسكنه فلسطينيو القدس متخلفاً ومضغوطاً سكانياً واجتماعياً وثقافياً، ومقموعاً سياسياً، ولا يمتلك أفقاً مستقبلياً، وهذا كله باسم القانون الذي جرى صوغه بدقة وتعديله عدة مرات عبر الأعوام الطويلة من الاحتلال، كما وُضعت الآليات الملائمة لضمان تنفيذه، وضبط إمكانات الخروج عليه بالمصادرة وهدم المنازل وشق الطرق وتقطيع أوصال الأحياء الفلسطينية، وتجريدها تماماً من أي مقومات اقتصادية واجتماعية، لتبقى تابعاً مطلقاً للشطر الغربي يعتمد عليه بالخدمات وسوق العمل.[2]

وهدفت المخططات الهيكلية المتعاقبة، وخصوصاً بعد سنة 1967، ليس فقط إلى السيطرة على الأرض التي نجح الاحتلال عبر استخدامها في السيطرة على نحو 87% من مساحة الشطر الشرقي الذي احتُل في حزيران / يونيو 1967، بل أيضاً إلى محاولة الوصول إلى أغلبية يهودية فيه، وتحويل فلسطينيي القدس إلى أقلية تعيش في أحياء مغلقة ومحاطة بمستعمرات يهودية قابلة للتمدد والتطور، وفي ظل جدار الفصل العنصري. صحيح أن الأغلبية السكانية في الشطر الشرقي ما زالت فلسطينية، وصحيح أيضاً أن السيطرة على السكان لم تنجح في كل ما يسمى "القدس الموحدة" حيث يشكل الفلسطينيون الآن أكثر من 40%، إلاّ إن جميع هذه التطورات جاء على حساب الفلسطيني الذي أصبح يعيش في عشوائيات ومعازل، وضمن ظروف اقتصادية واجتماعية غاية في التعقيد والتردي، وغير قابلة بشكل مبدئي للتحسن من دون عملية قلب ثورية لمكونات المدينة كلها، والتي حتى بعد عناء طويل، لا يمكن الوصول إليها سوى بعد إنهاء الاحتلال بعقود، وبعد إقرار مخططات هيكلية تلبّي حاجة السكان إلى التنمية بأنواعها كافة. وبالتأكيد لا يمكن فصل التخطيط الهيكلي عن التشريعات والتشريعات الثانوية التي استكملت العمل الذي لم يستطع المخطط الهيكلي الوصول إليه.[3]

تفترض هذه المراجعة المختصرة جداً، أن الأسس الأولى للمخططات الهيكلية الإسرائيلية لم يتم وضعها بعد هزيمة حزيران / يونيو 1967 واحتلال سائر القدس، على الرغم من التعديلات الكثيرة التي أُجريت عليها، وإنما قبل ذلك كثيراً، إذ إن المخطِّط الحضري باتريك غديز (Patrick Geddes) (1854 - 1932) كان قد وضع الأسس التخطيطية للمدينة. وقبل التطرق إلى مخططه، لا بد من الإشارة إلى أن الاحتلال البريطاني لم يتأخر قط في التفكير في تخطيط القدس بناء على رؤيته الخاصة إلى مستقبل المدينة، وبخلفية إقامة كيان يهودي في فلسطين وعاصمته القدس استناداً إلى إعلان بلفور.

المخطِّط الأول الذي أحضره الاحتلال البريطاني إلى القدس من أجل تقديم أفكاره بشأن تخطيطها، هو وليم ماكلين (William McLean) الذي كان يعمل مهندساً في الإسكندرية.[4] قسّم ماكلين في مخططه المقترح القدس إلى أربعة مناطق: الأولى، تشكلت من البلدة القديمة، وفيها اقترح أنه لا يمكن البناء بشكل قاطع للمحافظة على الهوية التاريخية والحضارية لها على اعتبار أنها جزء من التراث العالمي (الغربي!)؛ الثانية، عبارة عن منطقة خالية من المباني تقع في محيط البلدة القديمة أيضاً، وفيها يجب إزالة المباني غير الضرورية لتشكيل حزام أخضر يحمي البلدة القديمة من التمدد الحضري استحضاراً للقدس التوراتية المتخيلة؛ الثالثة، تقع إلى الشمال والشمال الشرقي من البلدة القديمة، وفيها يمكن البناء ضمن شروط خاصة وبإذن محدد (كان في ذهنه على أغلب الظن بعض المشاريع التي لم يفصح عنها)؛[5] الرابعة، تقع إلى الشمال والغرب من البلدة القديمة، وفيها ستتم عملية التنمية والتوسع، وهي مناطق تشكلت أساساً من الأحياء اليهودية القريبة من البلدة القديمة. صحيح أن هناك أحياء فلسطينية في هذه المناطق، لكنها بصورة عامة أكثر بعداً عن البلدة القديمة، الأمر الذي يعني أن عملية التنمية والتطوير المقصودة موجهة بشكل أساسي إلى الأحياء اليهودية.

لقد وضع ماكلين الأسس الفكرية لتشكيل القدس؛ القدس التي أصبح الشطر الشرقي منها ممنوعاً من التطور والتنمية، ويتم الحفاظ عليه بما فيه البلدة القديمة كمتحف للعالم الغربي لاستذكار المشهد (المقدس) المتخيل، كأن المدينة لم تبتعد قط عن الفترة التوراتية. أمّا الحداثة والتطور فيجري تنفيذهما في الشطر الغربي للمدينة، حيث يوجد أغلبية يهودية، أو في طريقها لتصبح كذلك.[6] لقد جاء الفصل بين القدس القديمة، والقدس المتشكلة خارج الأسوار، كأن مصير القدس القديمة يجب أن يختلف جوهرياً عن القدس الحديثة، وكأنها ليست امتداداً لها. وفيما يتعلق بالبلدة القديمة المعزولة بالأسوار العثمانية، فقد عزز ماكلين فصلها وأحاطها أيضاً بحزام أخضر يحميها، ويمتد شرقاً إلى مسافة طويلة تشمل جبل الزيتون والعيزرية، ويصل جنوباً إلى سلوان، حيث النظام المائي القديم والآثار، كما يمتد عدة كيلومترات إلى الشمال الشرقي ليضم جبل المشارف (Mount Scopus) الذي هو في حقيقة الأمر الامتداد الشمالي الغربي لجبل الزيتون.[7] وبالتأكيد، فإن ما قام به ماكلين يُعتبر الأساس الذي بنى عليه خلفه غديز، لكن بوضوح أكبر، وبارتباط أوثق بالحركة الصهيونية.

 

السير باتريك غديز

كُتب كثير عن السير باتريك غديز، وبعدد كبير من اللغات،[8] فهذا الرجل حظي باهتمام بالغ من طرف الباحثين على اعتبار أنه أحد أهم مخطِّطي المدن في بدايات القرن العشرين، إن لم يكن أهمهم، وقد ترك كثيراً من بصماته في مواقع متعددة من العالم، وخصوصاً الهند والمملكة المتحدة وفلسطين.[9] عاش غديز، الإسكتلندي الأصل، في ذروة الاستعمار البريطاني في الهند والشرق الأوسط، وتربّى على مجد الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وبالتالي كان نتاجاً لحركة الاستشراق المحافظة التي ارتبطت بدولها لإحكام السيطرة على المستعمرات. وتعددت مواهب الرجل من عالم أحياء إلى عالم اجتماع وجغرافي، لكن صيته ذاع قبل أي شيء كمخطِّط مدن عرف كيف يستغل التخصصات المذكورة ويسخّرها بشكل إبداعي. لقد اعتبره كثيرون "نبياً" في حقل تخطيط المدن، وارتبط اسمه بحساسيته المفرطة والمبدعة بشكل لم يسبق له مثيل في كل ما هو إنساني وما هو بيئي. وفي الحقيقة، استُعملت مفاهيم غديز في التخطيط الحضري كمبادىء بُني عليها كثير من المخططات في عدة أنحاء من العالم. ولا يدور الحديث هنا عن وعيه البيئي المرهف وتوجهاته الاجتماعية في التخطيط، فهذا الرجل قام بإبداعات لا يمكن إنكارها، وشكّل مدرسة تركت بصماتها في عالم التخطيط لعقود طويلة، وأثّرت في الثقافة العالمية، غير أننا سنقتصر هنا على مراجعة مخططه فيما يتعلق بمدينة القدس، ولن نناقش قيامه بتخطيط مدينة تل أبيب، أول مدن الاستعمار الصهيوني على أرض فلسطين.[10]

وقبل أي شيء، لا بد من التذكير بأن غديز مُدح بشكل احتفالي في المحافل الإسرائيلية، سواء من طرف مخطِّطي المدن أو الجغرافيين والمؤرخين، وأُثني على عمله المبدع في "أرض إسرائيل"، والذي تم برؤية وطنية (صهيونية) خالصة. فهو الأب الروحي لضرورة حماية وترميم التراث المادي اليهودي (ليس بعيداً عن فكرة ترميم اليهودية على أرض إسرائيل التي انتشرت في الأوساط الإنجيلية / المسيانية)،[11] من خلال استعمال أدوات التخطيط الحضري، وبالتالي لا يمكن فهم مخططه في القدس إلاّ من خلال إيمانه بضرورة تحقيق اليهود حلمهم على أرض فلسطين، الأمر الذي يحوّله إلى صهيوني مسيحي من الطراز الأول، وظّفته الحركة الصهيونية لتحقيق أهدافها. لقد نظر غديز إلى القدس من خلال منظور واحد هو أنها "إرث يهودي"، وبالتالي يجب وضع المخططات لحماية هذا الإرث وإبرازه، وما دون ذلك فهو مشكلة يجب التعامل معها بإبداع. فهو إنجيلي غربي صهيوني أُحضر بهذه الخلفية لتخطيط واقع سيكون دولة لليهود على أرض فلسطين.[12]

وطبعاً، يمكن مراجعة أعمال غديز باستخدام نظرية ما بعد الاستعمار، وكذلك عبر مفاهيم الحفاظ على التراث الثقافي المادي، والتي كانت في بداياتها في حينه، وعليه لا يمكن فهم أعماله إلاّ من منظور الاستخدام العنيف لسلطة التخطيط كممثل للسلطة ومعبّر عن إرادتها التخطيطية. ومن المهم الإشارة إلى الإسقاطات الغربية الأوروبية، مثلما كانت عليه في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، على المجتمعات الشرقية ومنها القدس، وهي في هذه الحالة مجتمعات متخلفة لا تعرف مصلحتها، وأن أذرع الاستعمار، بمَن فيها من الخبراء والمثقفين والمخطِّطين الحضريين، أقدر من أهل البلد على فهم واقع الشرق، هذا الفهم الذي لا يأخذ بالتأكيد بعين الاعتبار السياقات التاريخية والحضارية والاجتماعية، كأن المخطِّط يقوم بالتخطيط في لندن. إن المخطِّط المعاصر لا يستطيع اليوم التفكير بطريقة غديز نفسها، فقد تطور التخطيط الحضري عبر مفاهيم التخطيط المشارك، أي إشراك المجتمع المحلي في تخطيط الحيز الذي سيكون فاعلاً فيه، واستجابة المخطِّط للمتطلبات الاجتماعية والاقتصادية للمدينة التي ينوي تخطيطها، وإلاّ فإن النتيجة ستكون الخرق الدائم للمخطط، والانتهاء به ليصبح عامل تقييد حضري، وليس دافعاً له. وطبعاً، في حالة الاحتلال الإسرائيلي، مثلما هو الواقع في القدس، فإن مفاهيم غديز ما زالت سائدة، بل مطبّقة إلى أبعد الحدود، فهذا الاحتلال لا يأخذ بالتأكيد مصالح الفلسطينيين في القدس في أثناء تخطيطه للمدينة، بل على العكس تماماً، يستعمل التخطيط لاستثناء الفلسطيني والسيطرة عليه.

وبالتالي، ما كان لغديز أن يقدم من ناحية موضوعية إلاّ مخططاً ملبياً لحاجات الاستعمار البريطاني في فلسطين، الذي أوكلته عصبة الأمم لإقامة كيان يهودي على أرض فلسطين (وثيقة الانتداب)، أمّا العنصر الفلسطيني الذي يعيش على هذه الأرض، فمشكلة يجب العمل على حلها، أو يمكن اعتباره عائقاً يجب إزالته.

لقد أبدع غديز في التخطيط الاجتماعي (النظرية الاجتماعية) والعضوي ودمج الطبيعة في التخطيط، لكنه في القدس فقد نظرياته التخطيطية كلها، وأصبح منساقاً من الأيديولوجيا، ففقد بصيرته التي تغنّى بها جميع المخطِّطين لعقود من بعده، وتحول إلى أداة استعمارية بريطانية صهيونية.

في سنة 1919، أوكل الاستعمار البريطاني في فلسطين إلى غديز مهمة تقديم أفكار تخطيطية حضرية عامة (town planning scheme)، في ظل تنسيق كامل مع الحركة الصهيونية وقيادتها، وخصوصاً حاييم وايزمن وآخرين في لندن. وهذه الأفكار تشكل قاعدة لمخطط هيكلي للقدس، وتُعتبر تعديلاً على مخطط ماكلين الذي لم يَرُق للحركة الصيهونية، فقدم بذلك تقريراً مختصراً يشمل أهم المبادىء (لم يُنشر التقرير) مرفقاً بخريطة للبلدة القديمة ومحيطها القريب.[13] وقبل ذلك بعام، أي في سنة 1918، كانت الفدرالية الصهيونية (Zionist Federation) قد كلّفته تقديم تخطيط لمبنى الجامعة العبرية في القدس، فقام بذلك مع زوج ابنته فرانك ميرز Frank Mears))،[14] وقد اختار موقعاً مطلاً على المسجد الأقصى، وفي ذهنه حقيقة الأمر "جبل الهيكل"، بحيث تشرف الجامعة على هذا الجبل فتستلهم منه مصادر المعرفة وترتبط به ثقافياً ومعرفياً، كما تستلهم منه مشروعها السياسي، بل تقوم بتجسيد هذه المفاهيم كافة.

 

خريطة مخطط ماكلين، 1918

 

بذل غديز جهوداً مضنية لتأكيد أن مخطط الجامعة يهدف إلى التعبير عن الخصائص المعمارية لمدينة القدس، وللمدن المحلية والقرى العربية، لكنه أقرّ أيضاً بأن قراره قبول التعيين كان مستلهماً من الكتاب المقدس (رؤيا يوحنا، الإصحاح 21، الآية 2) الذي يقول فيه القديس يوحنا: "وأنا يوحنا رأيت المدينة المقدسة، أورشليم الجديدة، نازلة من السماء من عند الله، مهيأة كعروس مزيّنة لرَجُلِها." وقد شارك غديز منظوره البصري مع أرباب العمل الصهيونيين، فقادته مفاهيمهم إلى الترويج لحرم جامعي منفصل عن المدينة وسكانها، الأمر الذي يتناقض تماماً مع أفكاره التطورية والشاملة. كما أن الاختلافات بين المخطط المتوخى والمدينة التاريخية كانت أساسية وجوهرية أصلاً، ففي حين أن القدس القديمة تشكلت من مبانٍ لم يتم التخطيط المسبق لها بصورة عامة، إذ بُنيت ونمت بشكل عضوي ومتراكب على ارتفاعات منسجمة تقريباً، وكتعبير عن الفترات التاريخية التي مرت عليها، وممثلة لروح العصور المتعددة التي مرت عليها، دامجة المدارس المعمارية المتنوعة، مشكّلة بذلك نسيجاً عضوياً في غاية الجمال والتعقيد، جاء مخطط غديز للجامعة العبرية عبارة عن مبانٍ منظمة، تشكلت من مجموعة من القصور الرائعة التي تنتمي في حقيقة الأمر إلى عالم الأساطير "التوراتية". إن ما يمكن أن يقال بشأن مخطط الجامعة العبرية أنه جاء تعبيراً عن الروح الاستشراقية التي سادت في زمن غديز، إذ يمكن مقارنة بعض رسوماته ببعض رسومات رحّالة أوروبا وباحثيها الذين زاروا القدس في القرن التاسع عشر، وصوروا المدينة من منظورهم الغربي، وعلى الأغلب مثلما أرادوا أن تكون هذه المدينة، وليس مثلما هي في حقيقة الأمر.[15]

ومن المثير في المخطط أيضاً البروز الهائل للقبّة الكبرى التي تشكل مرآة لقبّة الصخرة، لتقوم بوظيفة "المعبد / الهيكل" داخل الجامعة، وقد حظيت هذه القبّة باهتمام بالغ، واكتسبت شعبية كبيرة، وأصبحت أهم علامة مميزة معروفة للجامعة، وهي بهذا تشكل جسداً مقدساً بحد ذاتها. ولم يغب عن بال غديز في تصميم القبّة فكرة الكُنُس اليهودية التي بُنيت على الطراز العثماني المتأخر (كلاسيكي عثماني)، ومنها في القدس القديمة كنيسا الخربا وتيفئيرت يسرائيل.[16] ومن باب الإنصاف، يجب القول إن غديز حاول جاهداً إدخال عناصر من الثقافة الدينية للديانات السماوية في تصميم القاعة الكبرى، وربما يكون هذا هو السبب وراء رفض الحركة الصهيونية لتصميمه هذه القاعة، بسبب إصرارهم على الأبعاد اليهودية التوراتية البحتة في المباني.[17]

ومن المفيد القول إن الجامعة العبرية شكلت أولوية صهيونية، وجرى تسويقها على المستوى العالمي لإثبات "القدرة الفذة" لليهود من جهة، وأحقية اليهود في أرض فلسطين من جهة ثانية، فتم استثمارها دعاوياً وبشكل لافت للنظر، واعتُبرت رمزاً دينياً وقومياً من الطراز الأول. وكانت الحركة الصهيونية في مؤتمرها الذي عُقد في فينا في سنة 1913، قد قررت بناء الجامعة العبرية، وذلك لإعادة إحياء "الهوية العبرية" و"التراث القديم" في "أرض إسرائيل"، وطبعاً ارتبطت فكرة الجامعة العبرية، ومن ضمنها تصميم مبانيها، بفكرة إعادة بناء الهيكل الثالث على أنقاض المسجد الأقصى.

"إن ربط الجامعة المقترحة بإعادة بناء الهيكل كان له تأثير هائل في صورة الجامعة، ومنذ ذلك الحين، اندمجت الجامعة مع الهيكل في رؤية خيالية متماثلة، لكن مهيمنة. وأصبح جبل سكوبس المكان المكرس للجامعة العبرية، كما لو أن اختيار الموقع تم بموجب مرسوم إلهي."[18] وربما يكون غديز قد تأثر بتربيته المشيخية (presbyterian) القائمة على احترام الفكرة الصهيونية المتمثلة في إقامة دولة يهودية على أرض فلسطين، والبعض يعيد أصول هذه المشيخية إلى إسكتلندا، بلد غديز الأصلي.

 مخطط (سكتش) غديز لمباني الجامعة العبرية (1)، 1919.

 

مخطط (سكتش) غديز لمباني الجامعة العبرية، وتظهر القبّة الضخمة، 1919.

 

 مخطط (سكتش) غديز لمباني الجامعة العبرية (2)، 1919.

 

مخطط القدس

التقرير المختصر (33 صفحة فقط) الذي قدمه غديز، والذي يحتوي على رؤيته لمخطط مدينة القدس، لم يُنشر وبقي وثيقة مطبوعة على الآلة الكاتبة، ولا يحتوي على كثير من المعلومات، وإنما على مبادىء توجيهية أساسية، وعلى خريطة تعبّر عن رؤيته. وفي مقدمة التقرير يقول غديز إن حاكم القدس العسكري الكولونيل ستورز (Storrs) استدعاه في لندن في تموز / يوليو 1919، وطلب منه تقديم تقرير لتحسين مخطط مدينة القدس. وبناء على هذا التكليف، وبالتنسيق مع الحركة الصهيونية وممثليها في لندن، سافر غديز إلى القدس في أيلول / سبتمبر من السنة نفسها. وبما أن الفترة الوجيزة التي قضاها في القدس لا تُعتبر كافية أبداً للقيام بمثل هذه المهمة، فإنه يعتبر تقريره عبارة عن خطوط للطرق الرئيسية ومفاهيم تخطيطية أولية، ولهذا سيقوم بزيارة لاحقة للقدس لبحث الأمر مع عدد من المختصين في عدة حقول، وسيقدم تقريراً مفصلاً.[19]

إن التحدي الأساسي الذي سيواجه غديز في تخطيط القدس يتمثل في أن المدينة آنذاك، كانت شرقية تقليدية بكل ما في ذلك من معنى، وكانت قد خرجت للتو من الحرب الكونية الأولى. فعلى الرغم من ظهور الأحياء الحديثة بالقرب منها، فإن مظهرها كان عربياً إسلامياً ومسيحياً شرقياً، ولا يمكن تتبع الحداثة إلاّ في الأحياء الجديدة ذات الخلفية الأوروبية، والتي انتشرت فيها أيضاً وبكثافة المؤسسات الغربية بجميع تلاوينها الدينية والدنيوية، وبعمائرها المبالغ في حجمها وجمالها، ومظهرها الوطني والديني بالنسبة إلى مدينة متواضعة نسبياً، وهذا طبعاً علاوة على ما زُرع داخل البلدة القديمة من مبانٍ أوروبية حديثة في النصف الأخير من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. لكن القدس أساساً، في الذهنية الغربية، وبالتالي بالنسبة إلى غديز، هي البلدة القديمة حيث تتركز المباني والمعالم الدينية، ويتراكم بين أسوارها ومحيطها القريب التراث الديني والتاريخي. ومن المثير القول إن رؤية جميع ما هو قديم في القدس ومحيطها، شكّل لغديز مدخلاً لفهم العهد القديم والمشهد المقدس، فمجرد مشاهدته للسلاسل الحجرية التي تحيط بسفوح جبال القدس، جعله يستحضر العهد القديم، مع أن هذه السلاسل المنتشرة في أغلبية جبال فلسطين هي نتاج يعود أساساً إلى الفترة العثمانية، فكيف يمكن من خلالها مشاهدة العهد القديم؟ بالتأكيد هذا نقاش غير مهم بالنسبة إلى غديز، ولا يعنيه بشيء، فالموضع أساساً هو القدس المتخيلة، والحقيقة التاريخية في مثل هذه الحالة لا وزن لها.

قام غديز قبل أي شيء بمسح مكثف للمدينة وتحديد طوبوغرافيتها وفهم معالمها الأساسية ودراسة الخرائط المتوفرة، وجمع معلومات عن السكان والبحث في الإحصاءات وتشكيل قاعدة بيانات، وبالتالي تكوين انطباع عام عن المدينة، وذلك كله من خلال عمل ميداني مضنٍ.

يبدأ غديز تقريره بإعلان اكتشافه أن الخرائط المتوفرة للمدينة غير دقيقة الأبعاد، ويذكر أن هناك إزاحة (انحراف) فيها تصل إلى نحو 100م، لذلك يجب قبل أي شيء تحضير خريطة دقيقة للقدس. ويقول إن من دواعي سروره أنه علم أن مهندس بلدية القدس يقوم بهذا العمل الآن، وأن خرائط استكشاف فلسطين (1872 - 1877) ستشكل قاعدة للمسح الحالي. أمّا بالنسبة إلى العلاقة بين القديم والجديد، فيؤكد أن أي تخطيط يجب أن يبدأ بالبلدة القديمة، وبعد ذلك يمكن التفكير في المدينة الجديدة التي يجب أن ترتبط بالقديمة، وهو بهذا ابتعد بعض الشيء عن سابقه (ماكلين). ومن أجل البدء بالتفكير في البلدة القديمة والمنطقة التي تقع إلى الشرق منها بشكل مباشر، والتي يمكن تشييد المباني عليها بالحد الأدنى، إذ يمكن اعتبارها المنتزه الأهم والأكثر قدسية في العالم (هكذا!!)، يجب التركيز في التخطيط من أجل التوسع العمراني على امتداد المنطقة التي تقع إلى الشمال من باب العمود وشارع يافا، أي على المناطق الشمالية والشمالية الغربية والغربية والجنوبية الغربية للبلدة القديمة. وبالتأكيد يمكن البدء بالبوابة الحديثة للقدس، أي محطة القطارات العثمانية، والتي يجب تنظيمها بطريقة تجعل الواصل إلى القدس (طبعاً من الغرب الأوروبي) يشعر فوراً بأنه في المدينة المقدسة التي يحلم بها، وبالتالي سيشعر بأن عقيدته تتجلى مباشرة أمامه.

أمّا فيما يتعلق بالبلدة القديمة، فذَكَر ما هو متوقع منه، أي حماية التراث الثقافي وهوية المدينة بمنع البناء فيها وتحسين ملامحها وتطوير الخدمات المقدمة لسكانها وزوارها، وهو بالتأكيد أمر لا مناص منه، ولا غبار عليه. شيء واحد قضّ مضجعه في البلدة القديمة، وهو وضع حائط البراق (حائط المبكى مثلما ورد في التقرير). ففي سبيل تحسين مظهر حائط المبكى ومساحته، اقترح غديز التخلص من مجموعة من مباني "القرية المغربية" (يقصد حارة المغاربة) القريبة من الحائط، وأن تقوم بلدية القدس بنقل سائر السكان والتخلص من بقية المباني، الأمر الذي يمكن بواسطته توسيع مساحة حائط البراق، وكشف مساحة تصل إلى ضعف المساحة المكشوفة حالياً وبسهولة (هكذا!)، أي مضاعفة ما هو مكشوف من حائط البراق. واقترح غديز أيضاً هدم مبنى يقع بالقرب من المدرسة التنكزية (يقع إلى غربيها)، وبناء أدراج تقود مباشرة من طريق باب السلسلة إلى حائط البراق من دون المرور بحارة المغاربة، وذلك لتأكيد مركزية حائط البراق، وتحسين طرق الوصول إليه.

 

مخطط غديز، 1919.

 

استند غديز في مخططه لمستقبل القدس[20] إلى مركزية البلدة القديمة من حيث أهميتها الدينية، توراتياً أولاً، ومن منطلق أن هذه المدينة ستكون عاصمة يهودية (إعلان بلفور) ثانياً، وأن الدولة العبرية التاريخية هي أساس الحضارة الغربية المسيحية ثالثاً. ولهذا يقترح جعل شرقي البلدة القديمة وجنوبيها، بما فيها حي سلوان، "منتزهاً وطنياً" يُمنع البناء فيه، مانعاً بذلك أي إمكان لتنمية الشطر الشرقي من المدينة، وتاركاً للبلدة فراغاً في اتجاه الشمال فقط، كان مبنياً قبل هذا التاريخ بعدة عقود، علاوة على وجود مجموعة من المؤسسات الغربية فيه (مثل باولوس هاوس المسمى مدرسة شميدت الألمانية في مقابل باب العمود؛ مدرسة الآثار الفرنسية؛ كلية المطران البريطانية؛ كاتدرائية سان جورج)، والتي لا يمكن له أن يمسها، وإلاّ لقدم اقتراحات للمنطقة الشمالية، لكنه اقترح إنشاء حزام أخضر أمام سور المدينة الشمالي، الأمر الذي سيتطلب إزالة العديد من المباني التي كانت قد شُيدت أمام باب العمود.

ويُلحظ في المخطط امتداده على جبل المشارف (Mount Scopus)، وذلك على شكل لسان طويل، تاركاً مساحة واسعة منه لتشييد الجامعة العبرية. لقد اعتبر غديز مشروع الجامعة حيوياً جداً لإنعاش دعم الفكرة اليهودية والتوراتية، ومن أجله لم يتردد في التنازل عن مبدأ المنطقة الخضراء من المخطط، وذلك بالتساوق مع الفكرة الصهيونية، نظراً إلى أهمية دور الجامعة في إعادة التراث التوراتي وترسيخه في القدس عبر التخصصات المتنوعة والمتعلقة بالآثار والتاريخ والجغرافيا واللاهوت اليهودي، والتي ستدرّس في الجامعة، علاوة على أن هناك إمكاناً لتحويل هذه الجامعة إلى جامعة للإقليم كله، فإذا كان الوضع كذلك فلا بأس من خرق بعض المبادئ التي اعتبرها مقدسة.

أمّا سائر التقرير فيحتوي على مبادىء مفيدة بشأن القدس الحديثة في شطرها الغربي، في حين أن الشطر الشرقي قُيّد إلى أبعد الحدود، وبهذا يكون غديز كأنه قسّم المدينة إلى شطرين، شطر شرقي مقيد ولا يملك إمكان التطور والمعاصرة، وشطر غربي يحمل سمات التطور العصري كافة.

ولم يتطرق غديز أيضاً إلى العلاقة بين ريف المدينة المحيط بها، لأن نظرته مدينية بحتة، فلم يخطر على باله سوى منع القرى القريبة من البلدة القديمة من التوسع، والتي تُعتبر في حقيقة الأمر من أحياء القدس (سلوان والطور مثلاً). ولضمان تنفيذ ذلك شمل أراضيها ومبانيها في المنطقة الخضراء "المقدسة"، والتي تضم آثار العهد القديم وآثار "إسرائيل العظيمة" بجميع تجلياتها مثلما وصفها العهد القديم. أمّا العلاقة التكاملية بين ريف القدس والمدينة، مثلما كانت عليه منذ الأزل، فلم يعالجها، وإنما ظلت خارج إطار تفكيره في المدينة المقدسة، فكل ما كان يدور بخلده هو إحياء المشهد المقدس مثلما يصوره العهد القديم، ومثلما يؤمن هو به.

وبالتأكيد، لا يمكن فهم مخطط غديز من دون العودة إلى مخطط ماكلين وتوجيهات آشبي، إذ ضمهما إلى رؤيته إلى المدينة التوراتية بعد أن هذبهما بطريقة تتوافق مع فكره التخطيطي. فحتى شكل المباني يجب أن يحافظ على الشكل التقليدي، أي البناء فقط بأسطح مستوية أو بقباب صغيرة، ونصح بعدم استعمال الأسقف القرميدية الجملونية [المثلثة] الشكل، والتي بدأت تنتشر في سماء المدينة، مع أنها تعبّر عن الحداثة ودخول مواد بناء جديدة، إلاّ إنها تشوه المشهد المقدس، مثلما تصوره غديز.[21] ويمكن فهم مخططه على أنه بُني أساساً على الماضي المتخيل، هذا الماضي الذي ذاع صيته في بريطانيا القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، إذ حفلت مؤلفات تلك الفترة بتفصيلات ماضي "دولة اليهود" المتخيلة والتي سيتم إعادة بناء مجدها من جديد. لقد كان تخطيط القدس بالنسبة إلى غديز تحقيقاً لحلم مبني على رؤية دينية، علاوة طبعاً على وضع بصماته المهنية على واحدة من أهم مدن العالم، الأمر الذي سيساهم في تعزيز مجده الشخصي والمهني. ولم يُخفِ غديز هذه الأبعاد في أثناء عمله في فلسطين، وإنما شكلت هذه الأعمال معرضاً دولياً مهماً نُظّم أولاً في لندن، ثم نُقل إلى مدن الهند كلها، مستعرضاً عبره كيفية التعامل مع المدن العظيمة التي ساهمت في كتابة تاريخ البشرية. ونظّم غديز المعرض نفسه في القدس في سنة 1920، وقد افتتحه رئيس بلدية المدينة في حينه، ومن المثير اقتباس ملخص كلمات هذا الأخير مثلما أوردتها روبن عبر تقرير صحفي: "شدد السيد النشاشيبي،[22] رئيس بلدية القدس، على أهمية الجمع بين الثقافتين الشرقية والغربية، وعبّر عن أمله بأن ينجح المندوب السامي في تحقيق برنامجه الطموح لتحسين أوضاع المدن الفلسطينية. أمّا السيد أوسيشكين (Ussishkin)،[23] الذي حيّا الجمع باسم الحركة الصهيونية، فقال بدوره إن الحركة الصهيونية هي المسؤولة عن حضور غديز إلى فلسطين."[24]

وإنصافاً للحقيقة، اقترح غديز تشييد سلسلة من المتاحف، منها متحف للآثار بالقرب من موقع متحف الآثار الفلسطيني الحالي (متحف روكفلر)، وآخر هو متحف للتاريخ الحربي في القلعة[25] يوثق مختلف المعارك التي خاضتها المدينة عبر تاريخها العتيد. ومتحف التاريخ هذا الذي اقترحه غديز ليس متحفاً عادياً، بل هو متحف يقدم عظمة داود وسليمان وتاريخ إسرائيل المديد، كما يقدم تطور المدينة عبر التاريخ، ذلك بأن استعراض التاريخ هنا له مهمة أساسية، وهي أن التاريخ سيقود إلى قيام دولة إسرائيل وتحويل القدس إلى عاصمة يهودية، وأن المدينة بحاجة إلى تجديد وتحديث لإعادة بناء الماضي التليد.[26] هكذا تخيل غديز متحف القدس الذي لم يعطه اسماً.

 

من غديز إلى الاحتلال الإسرائيلي

من المثير أنه بسبب عدم قدرة الانتداب البريطاني على تنفيذ مقترحات غديز كلها لعوامل لها علاقة بعدم السيطرة المطلقة على الأرض، وتوسع المدينة في شطرها الشرقي الذي خلا تقريباً من اليهود، ما عدا حارة اليهود في البلدة القديمة، إذ زاد الفرز والعزل بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود منذ ثورة البراق في سنة 1929، وما تلاها من الثورة الكبرى 1936 - 1939، فإن الاستيطان اليهودي تركّز في الشطر الغربي من المدينة، بحيث تحولت المدينة في واقع الأمر إلى مدينتين، حتى إن حارة اليهود في البلدة القديمة جرى عزلها عن سائر المدينة بسدود أسمنتية وسواتر شيدها الانتداب البريطاني، وذلك بغضّ النظر عن بعض الأحياء المختلطة في الشطر الغربي. وطوت حرب 1948 المخططات الحضرية للقدس، على الرغم من اكتمال المخطط الهيكلي المتكامل على يد كندل.[27] واستأنفت إسرائيل أعمال التخطيط بناء على ما سبق، وبخلفية لها علاقة بالسيطرة على الأرض من جهة، وعلى النمو السكاني الفلسطيني من جهة ثانية.

ومن المهم التذكير بأن القوات الإسرائيلية لم تنتظر طويلاً لتنفيذ مخطط غديز بإزالة حارة المغاربة، فقد قامت الجرافات بهذه المهمة في حزيران / يونيو 1967، ولم تكن الحرب قد وضعت أوزارها بعد، بل إنها تجاوزت كثيراً مقترحات غديز، فحولت ساحة البراق إلى مركز يهودي ضخم، وأنشأت عليها مزيداً من المشاريع، وربطتها بعدة طرق، علاوة طبعاً على سلسلة من الأنفاق.[28]

أمّا فيما يتعلق بالمناطق الخضراء التي حافظت الأردن على أغلبيتها العظمى في أثناء إدارتها للقدس (1948 - 1967)، وذلك بناء على مخطط كندل[29] المستند إلى المبادىء التي وضعها غديز في سنة 1919، فقد بدأت إسرائيل، وبالتدريج، بتنفيذ المخططات الهادفة إلى تغيير معالم القدس، وذلك عبر المخططات الهيكلية المتعاقبة، وبمسميات متنوعة بعد سنة 1967، وشرّعت لها عبر قوانين التخطيط الحضري والتشريعات الثانوية، وسمّت هذه المنطقة "منتزهات وطنية" (national parks). ويمكن الملاحظة من خلال خريطة المنتزهات المرفقة أن هذه المنتزهات تتركز بصورة أساسية في الشطر الشرقي للمدينة، وأنها تقوم بعزل البلدة القديمة عن الأحياء الفلسطينية القريبة، وخصوصاً الشرقية والجنوبية، كأنها جدار فصل عنصري، لكن بصيغة حضارية، أي أنها "منتزهات خضراء" حول البلدة القديمة، وهي تضم أغلبية الأماكن التاريخية والدينية التي تقع في محيط البلدة القديمة، طبعاً في الشطر الشرقي منها. وجرت المبالغة جداً في الجهة الجنوبية (سلوان) بحيث امتدت أبعد كثيراً عمّا اقترحه غديز، وهو أمر مرتبط بشكل واضح بالأطماع الاستيطانية في هذه المنطقة، فترابطت المخططات البيئية بالاستيطانية والبحث عن الآثارات والحفريات وعمليات طرد العرب، وكلها مشاريع لا تتوقف، وحيث تنشط الجمعيات الاستيطانية، وخصوصاً "إلعاد"، في هذه المنطقة بشكل مكثف.

إن ما يسمى اليوم "منتزهاً وطنياً" في الشطر الشرقي من القدس، ما هو في حقيقة الأمر إلاّ حي سكني فلسطيني يضم عشرات الآلاف من السكان، وبهذا تتحول المنطقة "الخضراء" إلى سلاح مسلط على رقبة السكان يقيد حركتهم ونموهم، وبالتالي عدم قدرتهم على التعامل مع سلسلة طويلة من الممنوعات والتقييدات التي جرى صوغها باللغة العبرية. كما تضم هذه المنطقة مقابر المسلمين التي تمتد على امتداد السور الشرقي للبلدة القديمة، والتي بدأ الأموات فيها يدفعون ثمن "المنتزهات الوطنية".[30]

ويمكن ملاحظة التغييرات الإسرائيلية التي أُدخلت على مخطط غديز، والمتمثلة في إخراج المقابر اليهودية الواقعة على السفح الغربي لجبل الزيتون من المنتزهات الوطنية الخضراء، إذ لا يجوز وصف قبور اليهود المقدسة بـ "منتزهات"، في حين لا بأس في تصنيف مقابر المسلمين الواقعة على امتداد السور الشرقي للبلدة القديمة كمنتزهات، فهي لا تحمل أي صفة مقدسة، بل يمكن إزالتها تحقيقاً لـ "التنمية"، مثلما هي الحال في مقبرة ماميلا.[31]

 

المنتزهات الوطنية في القدس الشرقية.

المصدر: عيمق شفيه https://alt-arch.org/en/national-parks-in-jerusalem/

 Henry Kendall, Jerusalem: scheme of zoning plan, 1944.

 

 

[1] انظر على سبيل المثال: راسم خمايسي، "إعادة تشكيل المحيط الحضري المقدسي قلب الدولة الفلسطينية"، "حوليات القدس"، العدد 16 (خريف - شتاء 2013)، ص 37 - 50.

[2] انظر الدراسة التفصيلية: معهد الأبحاث التطبيقية – القدس (أريج)، "التخطيط الجيوسياسي للقدس 1948 - 2010"، في الرابط الإلكتروني التالي: https://www.arij.org/files/admin/Policy_brief.pdf

[3] يمكن العودة إلى:

Francesco Chiodelli, “The Jerusalem Master Plan: Planning into the Conflict”, Jerusalem Quarterly, issue 51 (2012), pp. 5-20; Bimkom, “Trapped by Planning: Israeli Policies Planning and Development in the Palestinian Neighborhoods of East Jerusalem”, Jerusalem 2014,

http://bimkom.org/eng/wp-content/uploads/TrappedbyPlanning.pdf

[4] لم يُنشر تقريره الذي يحمل عنوان:

“PALESTINE 18. City of Jerusalem Town Planning Scheme, by Sir William McLean, 1918. Report, Plans and Photographs”.

[5] من الواضح أن المخطِّطين الذين جاؤوا بعده في إبان الاحتلال البريطاني، ثم في حقبة الانتداب، كانوا حريصين على ألاّ ينفضح أمرهم، فاستعملوا أحياناً لغة مبهمة، أو أبقوا المعلومات في الإطار العام، كي لا يكون هناك ردة فعل فلسطينية، وهو ما يمكن قراءته في مخطط ماكلين، لكن غديز كان أكثر جرأة في طرح آرائه التوراتية في تخطيط القدس.

[6] إن فكرة تقسيم المدينة إلى شطرين، اعتماداً على التخطيط الحضري للاحتلال، ثم الانتداب البريطاني، تعود إلى الباحث نيكولاس روبرتس. انظر مقالته المهمة:

Nicolas E. Roberts, “Dividing Jerusalem: British Urban Planning in the Holy City”, Journal of Palestine Studies, vol. XLII, no. 4 (Summer 2013), pp. 26-70.

[7] يمكن العودة إلى مقالة رنا بركات:

Rana Barakat, “Urban Planning, Colonialism, and the Pro-Jerusalem Society”, Jerusalem Quarterly, issue 65 (Spring 2016), pp. 22-34, especially pp. 25-27.

[8] يمكن سرد قائمة طويلة من المؤلفات عن غديز، نذكر منها:

Toshihiko Ando, “Quest for an Alternative Outlook: Geddes and Japan, 1900–2004”, in Patrick Geddes: “By Leaves We Live”, edited by Kiyoshi Okutsu, Alan Johnston, Murdo Macdonald, and Noboru Sadakata (Yamaguchi, Japan: Yamaguchi Institute of Contemporary Arts/YICA, 2005), pp. 46–71; Philip Boardman, The Worlds of Patrick Geddes: Biologist, Town Planner, Re-educator, Peace Warrior (London, Boston: Routledge and Kegan Paul, 1978); Casa, “Patrick Geddes and the Digital Age”, News Item, May 2007, http://www.casa.ucl.ac.uk/news/newsStory.asp?ID=153; Helen Meller, Patrick Geddes: Social Evolutionist and City Planner (London: Routledge, 1990); Gavin Morrison, “Geddes and Philosophy: The Roots, the Aftermath”, in Patrick Geddes: “By Leaves We Live”, edited by Kiyoshi Okutsu, Alan Johnston, Murdo Macdonald, and Noboru Sadakata (Yamaguchi, Japan: Yamaguchi Institute of Contemporary Arts/YICA, 2005), pp. 89–103; David Shillan, Biotechnics: The Practice of Synthesis in the Work of Patrick Geddes (Richmond, Surrey, New Atlantic Foundation: Sixteenth Foundation Lecture, 1972); J. McDonald, “Patrick Geddes: A Most Unsettling Person” (review), 2006, http://sprg.ssl.berkeley.edu/?jmcd/book/revs3/amup.html; H. G. Simmons, “Patrick Geddes: Prophet without Politics”, in Studies in Modern European History and Culture, vol. 2 (1976), pp. 159–191; S. Star, “From Patrick Geddes to Lewis Mumford and Beyond”, 2006, http://www.academia.edu/1161406/From Patrick Geddes to Lewis Mumford and Beyond; University of Dundee, “Town and Regional Planning: Patrick Geddes”, 2007, www.trp.dundee.ac.uk/general/geddes.html; Volker M. Welter, Biopolis: Patrick Geddes and the City of Life (Cambridge, Massachusetts: MIT Press, 2002); Noah Hysler-Rubin, Patrick Geddes and Town Planning: A Critical View (London: Routledge, 2011); Philip Mairet, Pioneer of Sociology: The Life and Letters of Patrick Geddes (London: Lund Humphries, 1957); Israel Zangwill, “Without Prejudice: A Northern Seasonal and Its Significance…”, Pall Mall Magazine, vol. 8, issue 34 (February 1896), pp. 327-329.

[9] قدم غديز مخططات هيكلية لكل من طبرية وحيفا والقدس، وهو ما يجعلنا نلاحظ التركيز على المدن التي كان فيها أعداد كبيرة من اليهود في مطلع فترة الانتداب البريطاني، علاوة طبعاً على تل أبيب، وبالتالي يمكن الكشف عن الأهداف الواضحة لتخطيط هذه المدن في ظل المشروع الصهيوني.

[10] قدم غديز مخططه لتل أبيب في سنة 1925، وكان قد تقابل عدة مرات مع الحركة الصهيونية وجرت بينهما عدة مراسلات، قبل أن يتم تكليفه بهذه المهمة. وبشأن تخطيط مدينة تل أبيب على يد غديز، انظر:

Volker M. Welter, “The 1925 Master Plan for Tel-Aviv by Patrick Geddes”, Israel Studies, vol. 14, no. 3 (2009), pp. 94-119, especially p. 98; Neal I. Payton, “The Machine in the Garden City: Patrick Geddes' Plan for Tel Aviv”, Planning Perspectives, vol. 10, issue 4 (1995), Taylor & Francis Online; Noah Hysler-Rubin, “The Celebration, Condemnation and Reinterpretation of the Geddes Plan, 1925: The Dynamic Planning History of Tel Aviv”, Urban History, vol. 40, issue 1 (February 2013), pp. 114-135, Cambridge University Press.

[11] بشأن المسيحية الصهيونية، انظر الدراسة التفصيلية:

Stephen Sizer, Christian Zionism: Its History, Theology and Politics, AAARGH Internet Editions 2005, http://aaargh.vho.org/fran/livres2/SIZERchriszion.pdf

[12] من الأمور التي احتفى بها الإسرائيليون بغديز هو وعيه المهم والتام بالتراث اليهودي على أرض فلسطين، واستخدام هذا الوعي بالتخطيط في سبيل إنشاء دولة اليهود، بل اعتُبر شريكاً في تحقيق حلم إقامة دولة إسرائيل، إذ إن مخططاته وأفكاره التخطيطية ما زالت عنصراً مهماً في تخطيط المدن في إسرائيل. وتمثلت قدرته الخلاقة في الجمع ما بين سياسة الانتداب البريطاني الاستعمارية من جهة، وبين تبنّيه التطلعات الصهيونية في التخطيط من جهة ثانية، كما تمثلت أيضا في رؤيته إلى كيفية استعمال العمارة والآثار والمشهد المقدس في القدس لإثبات التاريخ اليهودي فيها، وبالتالي تحويل القدس الحديثة إلى مدينة يهودية تخدم هذا التراث. انظر على سبيل المثال المداولات النقدية التي تقدمها:

Noah Hysler Rubin, “Geography, Colonialism and Town Planning: Patrick Geddes’ Plan for Mandatory Jerusalem”, Cultural Geographies, vol. 18, issue 2 (April 2011), pp. 231–248.

[13] انظر التقرير الكامل وغير المنشور والذي يمكن الوصول إليه في مكتبات كثير من العامة (أشكر جاك برسكيان على تزويدي بنسخة منه):

Patrick Geddes, “Jerusalem Actual and Possible: A Report to the Chief Administrator of Palestine and the Military Governor of Jerusalem on Town Planning and City Improvements”, November 1919.

[14] فرانك ميرز (1880 - 1953) معماري ومخطِّط مدن إسكتلندي، كان أشهر مخطِّطي إسكتلندا خلال الفترة 1930 – 1950. وفضلاً عن عمله مع غديز، عمل في الفترة 1925 - 1929 مع المعماري اليهودي بنجامين خايكين (Benjamin Chaikin) على تصميم عدد من مباني الجامعة العبرية.

[15] انظر على سبيل المثال الرسومات التي تغطي كتاب:

William Henry Bartlett, Jerusalem Revisited (London: Arthur, Hall, Virtue & Co., 1855).

[16] لم تتبنّ الحركة الصهيونية مخططات غديز كلها للجامعة العبرية، فقد اختلفت المواقف بشأنها، وفي الختام نُفّذ جزء منها تضمّن مبنى المكتبة ومبنى الرياضيات والفيزياء. وفي الحقيقة فإن صهره هو الذي أكمل العمل عليها.

[17] يمكن قراءة مزيد بشأن تخطيط وبناء الجامعة العبرية في:

Diana Dolev, The Planning and Building of the Hebrew University, 1919–1948: Facing the Temple Mount (Maryland: Lexington Books, 2016); Patrick Geddes, “The Proposed Hebrew University of Jerusalem: A Preliminary Report”, December 1919.

[18] هذا ما كتبه Graeme Purves في مراجعته لكتاب:Dolev, op.cit.,

في الرابط الإلكتروني التالي: http://www.ahss.org.uk/news/facing-the-temple-mount

[19] لم يقم غديز بالخطوة الثانية مثلما وعد، ولا تتوفر معلومات لماذا لم يستكمل مخططه الذي أكمله من بعده تشارلز آشبي. بشأن آشبي ومخططاته في القدس، انظر:

Wendy Pullan and Lefkos Kyriacou, “The work of Charles Ashbee: Ideological Urban Visions with Everyday City Spaces”, Jerusalem Quarterly, issue 39 (Fall 2009), pp. 51-61. The Other city plans of Jerusalem are reviewed by: Henry Kendall, Jerusalem, The City Plan: Preservation and Development during the British Mandate, 1918-1948 (London: His Majesty's Stationery Office, 1948).

[20] يبدو أن غديز حلم منذ فترة بتخطيط مدينة القدس تحقيقاً لرؤيا دينية، ولإعادة المدينة إلى مجدها التوراتي، وقد عبّر عن ذلك في سنة 1913 برسالة إلى إميليا دوفريز (Emelia Defries) أرسلها بتاريخ 9 أيلول / ديسمبر 1913. انظر: Rubin, “Geography…”, op. cit., p. 235.

[21] انظر: Geddes, “Jerusalem Actual and Possible…”, op. cit., p. 9.

[22] راغب النشاشيبي (1880 - 1951)، عُين رئيساً لبلدية القدس من طرف الانتداب البريطاني بعد عزل موسى كاظم الحسيني في سنة 1920، واستمر في هذا المنصب حتى سنة 1934، ليخلفه عبر الانتخابات حسين الخالدي قبل أن يقوم الانتداب البريطاني بعزله وتعيين يهودي (دانيال أستر) في هذا المنصب في سنة 1937.

[23] مناحم أوسيشكين (1863 - 1941)، زعيم صهيوني أصله من روسيا البيضاء، استوطن في القدس في سنة 1919، وأصبح رئيساً للصندوق القومي اليهودي حتى وفاته.

[24] نقلاً عن: Rubin, “Geography…”, op. cit., p. 238.

[25] كانت فكرة المتاحف الحربية قد انتشرت في بريطانيا وإسكتلندا في تلك الفترة، وقد ضمت الأسلحة القديمة والحديثة، مع شرح للمعارك المجيدة التي خاضتها الأمة في تاريخها. وبالتالي كان من الطبيعي أن يقترح غديز إنشاء متحف حربي في القدس التي شهدت كثيراً من المعارك التي يتحدث عنها العهد القديم بالتفصيل.

[26] انظر: Geddes, “Jerusalem Actual and Possible…”, op.cit, p. 27.

ومن الجدير ذكره أن إسرائيل حولت حلم غديز إلى حقيقة، إذ أنشأت متحفاً لتاريخ القدس في القلعة بعد سنة 1967 يحقق الأهداف المنصوص عليها في تقريره. بشأن المتحف، انظر صفحته الإلكترونية في الرابط التالي: https://www.tod.org.il/en/

أمّا المتحف الوطني فشيّده الانتداب البريطاني على بعد أمتار من الزاوية الشمالية الشرقية للبلدة القديمة، وسمّاه متحف الآثار الفلسطينية، والذي أصبح لاحقاً يحمل اسم متحف روكفلر. بشأن هذا المتحف، انظر صفحته الإلكترونية في الرابط التالي:

https://www.imj.org.il/en/wings/archaeology/rockefeller-archaeological-museum

وفي هذا الاطار لا بد من التذكير بأن الدولة العثمانية كانت قد أنشأت متحفاً داخل البلدة القديمة قبل ذلك بثلاثين عاماً. بشأن هذا الأمر، انظر:

Beatrice St. Laurent and Himmet Taşkömür, “The Imperial Museum of Antiquities in Jerusalem, 1890-1930: An Alternate Narrative”, Jerusalem Quarterly, issue 55 (Fall 2013), pp. 6-45.

[27] انظر:Kendall, op.cit.

[28] انظر: نظمي الجعبة، "حارة اليهود وحارة المغاربة في القدس القديمة: التاريخ والمصير بين التدمير والتهويد" (بيروت، رام الله: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2019)، ص 257 - 271.

[29] قدم كندل مخططين هيكليين للقدس: الأول في سنة 1944، قبل أن تُقسّم المدينة إلى شطرين جرّاء نكبة 1948، والثاني للشطر الشرقي للمدينة بناء على تكليف من الإدارة الأردنية. وقد اعتمد كندل في كلا المخططين، على ما أسس له غديز.

[30] انظر: نظمي الجعبة، "مقبرة باب الرحمة"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 117 (شتاء 2019)، ص 94 - 113.

[31] بشأن المنتزهات المحيطة بالقدس، انظر تقرير جمعية عيمق شفيه في الرابط الإلكتروني التالي:

https://alt-arch.org/en/national-parks-in-east-jerusalem-update-2014/

السيرة الشخصية: 

نظمي الجعبة: أستاذ التاريخ في جامعة بير زيت.