هل يصمد الاقتصاد الإسرائيلي غداة "الجرف الصامد"
التاريخ: 
14/08/2014

أظهر الاقتصاد الإسرائيلي متانة لا يستهان بها في السنوات الأخيرة في مقابل الأزمات الاقتصادية العالمية. وتشير المؤشرات الاقتصادية الأساسية إلى تحسن ملحوظ منذ سنة 2009 لغاية سنة 2012، وإلى تراجع طفيف منذ بداية سنة 2014. فبعد التباطؤ في النمو في سنة 2009 (-1,5%)، جاء نمو إيجابي بنحو 5% في سنة 2010، و4,6% في سنة 2011، و3,2% في سنة 2012، وقرابة 3% في سنة 2013. وتراجع معدل البطالة من 7,5% في سنة 2009 لغاية 5,8% في سنة 2012، وارتفع معدل المشاركة في أسواق العمل إلى قرابة 64% مقارنة بـ 62,6% في الفترة 2010-2011. وبلغ الناتج المحلي للفرد الواحد قرابة 35,000 دولار. الاقتصاد الإسرائيلي الحالي هو اقتصاد معولم، يعتمد على التجارة العالمية الممتدة إلى القارات كافة، ويرتكز على تصدير منتوجات تكنولوجية حديثة وخدمات، فضلاً عن تجارة الأسلحة. أمّا الثقافة الاقتصادية السائدة فهي ثقافة الاستهلاك والبذخ والرخاء.

    مما لا شك فيه أن الاستقرار الأمني والسياسي ساهم إلى حد بعيد في نمو الاقتصاد الإسرائيلي في الأعوام الأخيرة، على الرغم من بوادر تباطؤ بسيط فيه منذ بداية سنة 2014. لذلك من المتوقع والطبيعي أن تؤثر حالات الحرب، أو الحملات العسكرية، سلباً في أداء هذا الاقتصاد، على الرغم من متانته. وقد يكون تطور الاقتصاد الإسرائيلي وتوسعه وانفتاحه على العالم وارتكاز النمو على الساحة العالمية والصادرات وارتفاع الدخل، من أهم أسباب هشاشته في أوقات الحرب، أو في الأزمات الأمنية. وقد بات واضحاً أن الحرب الحالية على غزة المسماة إسرائيلياً "الجرف الصامد" ستتسبب بأضرار وتكلفة مالية لا يستهان بها للاقتصاد الإسرائيلي، من حيث الخسائر والتكلفة المباشرة للحرب والخسائر غير المباشرة، في المدى القريب والمدى البعيد. والسؤال هو: ما حجم هذه الخسائر وإسقاطاتها على الاقتصاد الإسرائيلي؟ وهذا يتعلق بطبيعة الحال بالمدة الزمنية للحرب والخسائر العسكرية. فإذا كانت حرباً قصيرة، كما تريدها العقيدة العسكرية الإسرائيلية، سيتمكن الاقتصاد الإسرائيلي من احتواء أثمانها الاقتصادية وهضمها. أمّا إذا امتدت الحرب فترة طويلة نسبياً (تتعدى الشهر)، وتوسعت المواجهات في مناطق الضفة الغربية، واستمر الاحتجاج الفلسطيني داخل مناطق الـ 48، سترتفع الخسائر لتفوق قدرة الاقتصاد الإسرائيلي على هضمها، وستكون إسقاطاتها السلبية واضحة على الدورة الاقتصادية والاقتصاد الكلي، وخصوصاً في ضوء بدايات التراجع في هذا الاقتصاد في النصف الأول من سنة 2014، وربما يدخل في حلقة مفرغة من التراجع وردة الفعل وفرض الضرائب وتراجع الاستهلاك والاستثمار، وتباطؤ النمو وارتفاع البطالة وتراجع الدخل، الأمر الذي سيقلل جباية الضرائب ودخل الحكومة وتقليص قدراتها على الاستثمار للخروج من المأزق الاقتصادي. 

سيتابع هذا المقال القصير الإسقاطات الاقتصادية المركبة للحرب على غزة، ولن يكتفي بعرض المعطيات الاسرائيلية الرسمية التي انتشرت بشكل واسع، وتقدر تكلفة الحرب بنحو 15 مليار شيكل. وما يهمنا هنا أن نوضح أن هذه الحرب قد تشكل نقطة تحول سلبية في مجرى الاقتصاد الإسرائيلي الكلي في المدى البعيد، وأن إسقاطاتها أبعد من الأثمان المالية المباشرة.   

الأثمان المباشرة للحرب

انخفاض الاستهلاك

جاءت حرب الجرف الصامد على غزة في وقت تراجعت معدلات نمو الناتج المحلي إلى دون الـ3%، وانخفض الاستهلاك الشخصي للفرد بـ 2% في النصف الأول من سنة 2014، وتواصل الخمول في الاقتصاد العالمي والسياسات الاقتصادية الإسرائيلية المحافظة الهادفة إلى منع أي تدهور في اقتصادها. وفي هذا الواقع، فإن أبرز الأثمان الاقتصادية وأصعبها، وكذلك الخسائر المالية المباشرة، قد تكون في جانب انخفاض الاستهلاك الشخصي في إسرائيل، وتراجع الناتج الصناعي والتصدير، وسيكون لهذه الجوانب تأثير سلبي في الاقتصاد الإسرائيلي الكلي، وتهديد للدورة الاقتصادية ومعدلات النمو ومداخيل الدولة، وتراجع في حجم ميزانية الدولة في السنوات المقبلة.    

يشكل الاستهلاك الشخصي قرابة الـ56% من الناتج المحلي في إسرائيل، وقد بدأت ملامح تراجع في معدلاته منذ أواخر سنة 2013 حتى النصف الأول من سنة 2014. فقد تراجعت نسبة الارتفاع في الاستهلاك من 4,5% في النصف الأـول من سنة 2013 إلى 3,7% في النصف الثاني، وإلى 0% في النصف الأول من سنة 2014. ومن المتوقع أن تتراجع معدلات الاستهلاك في النصف الثاني من السنة الحالية بحدة أكبر بسبب الحرب على غزة. وطبعاً، سيكون لهذا التراجع آثار سلبية عميقة في الاقتصاد الإسرائيلي الكلي، إذ تشير التقارير الإسرائيلية إلى تراجع كبير في المشتريات (وهو قسم مهم من الاستهلاك الشخصي) في فترة الحرب، بلغ 80% في بلدات الجنوب، مثل نتيفوت وسديروت، ووصل إلى 40% في أشكلون وأشدود، و40% في بئر السبع، و25% في تل أبيب، و10%-15% في الشمال، و20% في القدس. فقد طالت صواريخ المقاومة الفلسطينية مناطق واسعة من أراضي الـ48، من جنوبها إلى المركز، وهي المناطق الصناعية والتجارية والاستهلاكية الأكبر في إسرائيل. وعلى الرغم من الأضرار المادية والجسمانية المحدودة لتلك الصواريخ فإنها فرضت جواً من الخوف وأجبرت العديد من السكان على البقاء في المنازل أو قريباً منها. وتنازل كثيرون من سكان تلك المناطق، وفقاً للتقارير الإسرائيلية، عن التنزه والتسوق، بل إن قسماً تنازل عن الذهاب إلى العمل وفضل البقاء في البيت. هذه التحولات معاً، انخفاض الاستهلاك والمشتريات وخسارة أيام عمل، تؤدي إلى تراجع الناتج المحلي في المدى القريب وتضر بسمعة الاقتصاد الإسرائيلي ومتانته في المدى المتوسط والمدى البعيد.        

خسائر فرعي الصناعة والسياحة

بموازاة خسارة الاستهلاك وأيام العمل، هناك تراجع في الإنتاج الصناعي والصادرات الصناعية، والذي يأتي أيضاً في فترة تراجع طفيف للصادرات الصناعية منذ أواخر سنة 2013 والنصف الأول من سنة 2014، وفقاً لتقارير منظمة أرباب الصناعة في إسرائيل ودائرة الإحصاء المركزية. هذا التراجع مقلق جداً للاقتصاد والنمو في إسرائيل كون الصادرات الصناعية تشكل قرابة 40% من الناتج الصناعي الإسرائيلي، ولأن الحرب وصلت هذه المرة، حتى لو بشكل جزئي وطفيف، إلى المركز الاقتصادي الإسرائيلي المسؤول عن 50% من الناتج المحلي الإسرائيلي. 

قدّر تقرير أولي أجراه اتحاد أرباب الصناعة في إسرائيل الخسائر المباشرة للحرب ضد غزة على فرع الصناعة والمصانع في كل إسرائيل بـ 350 مليون شيكل أسبوعياً، وأن منطقة غلاف غزة هي الأكثر تضرراً، ثم منطقة الجنوب التي تشغّل 20% من عمال الصناعة في إسرائيل. وبالإضافة إلى الخسائر المباشرة هناك احتمال أن تؤثر الحرب في سمعة المصانع الإسرائيلية عالمياً، وتضر بالتزاماتها تزويد الأسواق العالمية بالمنتوجات؛ أي أن هناك خسائر لا يمكن تحديدها أو احتسابها في الوقت الراهن، ولا تقل وطأة عن الخسائر المباشرة. كذلك قدّر التقرير أن تؤدي الحرب إلى خسارة تتراوح ما بين %1-2% من الناتج الصناعي الذي يشكل قرابة 16% من الناتج المحلي الإسرائيلي.    

يشكل فرع السياحة الإسرائيلية قرابة 2% من الناتج المحلي، ويشغّل 3,5% من القوى العاملة في إسرائيل. وكان هذا الفرع من أكثر الفروع خسارة بسبب الحرب، إذ تراجع مستوى الحجوزات في الفنادق من 80% إلى 30%. وتقدّر خسائره المباشرة لغاية اليوم العشرين للحرب بقرابة 2,6 مليار شيكل، طالت أغلبية المناطق السياحية الأساسية في البلد، مثل تل أبيب والقدس، ولم تقتصر على منطقة الجنوب. فضلاً عن ذلك، هناك الخسائر الجسيمة الناتجة من إغلاق مطار بن - غوريون الدولي، لا على صعيد حركة تنقل الأشخاص والسياحة وما نتج من إلغاء رحلات فحسب، بل أيضاً بسبب توقف أو تراجع نقل البضائع الإسرائيلية إلى الأسواق العالمية، الأمر الذي ألحق ضرراً، ولو محدوداً في الفترة الراهنة، بصناعة التقنيات الحديثة، وهو ما يشير إلى أن الضرر، وبعكس الحروب السابقة، طال هذه المرة عصب الاقتصاد الاسرائيلي، والصناعات التقنية الحديثة التي كانت بمنأى عن الأضرار الاقتصادية المباشرة للحروب.  

تكلفة الجيش

تشير المعطيات إلى أن تكلفة آلة الحرب الإسرائيلية تتراوح يومياً ما بين 150 - 200 مليون شيكل بعد العملية البرية، أي أن الحرب كلفت وزارة الأمن قرابة 3,5 مليارات شيكل كتكلفة مباشرة لغاية الآن.

تُقدِّر التقارير الإسرائيلية إجمالي تكلفة حرب "الجرف الصامد" بنحو 15 مليار شيكل لغاية الآن (أي 21 يوم حرب). ومن المتوقع ألاّ تجد الحكومة صعوبة بالغة في احتواء هذه التكلفة وهضمها، بسبب وجود احتياط في الميزانية القائمة وميزانية خاصة للطوارىء، وإمكان توزيع التكاليف على الأعوام المقبلة. لكن هذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أن الثمن المالي والاقتصادي غير مؤلم لميزانية إسرائيل واقتصادها، بل أقصد أن هناك خسائر مؤلمة وأشد وقعاً على هذا الاقتصاد من التكلفة المباشرة للحرب. فبالإضافة إلى هذه التكلفة هناك تكلفة غير مباشرة وخسائر يصعب حسابها في المرحلة الحالية، وإسقاطاتها السلبية على الدورة المالية والميزانية والاقتصاد الكلي قد تفوق التقديرات، منها ما يلي:

  1. خسائر ناتجة من تراجع مكانة إسرائيل في الأسواق العالمية في إثر التراجع أو التأخير في تصدير البضائع.
  2. تأثير مستقبلي لحملات المقاطعة التي من المتوقع تصاعدها بعد انتهاء الحرب.
  3. تراجع تصنيف الائتمان الإسرائيلي في أسواق المال العالمية، الأمر الذي يزيد في تكلفة تجديد القروض.
  4. تراجع الاستثمارات الأجنبية.
  5. تراكم الخسائر في فرع السياحة، وخسارة الموسم الصيفي الحالي.
  6. تواصل تراجع معدلات الاستهلاك الشخصي.
  7. تراجع الإنتاج الصناعي والتصدير.
  8. ارتفاع في أسعار صرف الدولار واليورو في مقابل الشيكل، وهو ما يلحق ضرراً بالصادرات والسياحة معاً.
  9. تراجع في حجم جباية الضرائب، ومنه تراجع في مداخيل الدولة، وهو ما يعني إمكان فرض ضرائب جديدة وتقليص في الميزانيات. في هذه الحالة تتباطأ الدورة الاقتصادية الكلية وتزداد احتمالات الركود الاقتصادي وارتفاع البطالة.
  10. قد تقود هذه الأثمان إلى سيناريو اقتصادي مرعب آخر، وعلى الرغم من ضآلة حدوثه، فإن لا مانع من الإشارة إليه، وهو أن يدخل الاقتصاد الإسرائيلي في حلقة مفرغة من الركود والبطالة ستؤثر عاجلاً أم آجلاً في سوق العقارات أيضاً، وستتسبب بهبوط أسعارها وبتراجع في سداد قروض الإسكان، وبالتالي تهديد مناعة البنوك والشبكة المالية في إسرائيل. بكلمات أُخرى: هذا السيناريو قريب من الأزمات المالية العالمية وأزمة الولايات المتحدة الأميركية في سنة 2008. والأهم أنه في هذه الحالة لا يوجد في الساحة العالمية مَنْ يقدم حبل نجاة اقتصادي بشكل سريع للاقتصاد الإسرائيلي، كما حدث في كل الأزمات الاقتصادية السابقة، ولا سيما في سنة 2003 حين قدمت الولايات المتحدة المساعدات والضمانات للحكومة الإسرائيلية وأنقذتها من إفلاس مالي، في إثر الانتفاضة الفلسطينية الثانية. وفي هذه الحالة سيكون الخروج من الأزمة أصعب ويمتد فترة أطول.

ختاماً، يمكن القول إنه على الرغم من متانة الاقتصاد الإسرائيلي وحجم ميزانية الحكومة والفائض الكبير من العملة الأجنبية، فإن هناك احتمالاً في أن تكون الآثار الاقتصادية للحرب على غزة شديدة على الاقتصاد الإسرائيلي، وخصوصاً في فترة بدأت تبرز بوادر تراجع النمو الاقتصادي منذ بداية سنة 2014. إلاّ إن هذا الاحتمال مشروط في طول الحرب وكيفية انتهائها. ففي حال انتهت خلال فترة زمنية ليست طويلة كما تنص على ذلك العقيدتان الإسرائيليتان العسكرية والأمنية، سيتمكن الاقتصاد الإسرائيلي من احتواء أثمانها، بطريقة أو بأُخرى، وبضرر مقبول. أمّا في حال استمرت الحرب إلى أكثر من شهر مع تواصل "الحالة الأمنية الخاصة" في الجنوب، والاستعدادات والترقب في المركز الإسرائيلي، واستدعاء الاحتياط، سترتفع الأثمان الاقتصادية والمالية فوق التوقعات والحسابات الإسرائيلية، ويمكن أن تستدرج الاقتصاد الإسرائيلي إلى ركود عميق يصعب الخروج منه في الأعوام المقبلة. وربما تكون إسرائيل قد أخطأت في حساباتها الاقتصادية بشأن هذه الحرب.                   

عن المؤلف: 

إمطانس شحادة: باحث في مركز برنامج دراسات إسرائيل في مدى الكرمل.