بعد خمسين عاماً على تأسيس منظمة التحرير وانطلاق العمل الفدائي المعاصر: التوافق البرنامجي على مهمات الأمد القريب هو المدخل
التاريخ: 
05/12/2014
المؤلف: 

لم يكن في تصوّر أيٍّ ممن انطلقوا في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، أو أولئك الذين أطلقوا بدايات العمل الفدائي المعاصر ورافقوه، قبل زهاء خمسين عاماً، أن تطول مسيرة تحرير الوطن واستعادة الحقوق الوطنية إلى هذا المدى.

حتى إن تصريحات صدرت عن بعض هؤلاء المؤسسين والمبادرين، أو أقوالاً نُقلت عنهم، في الأعوام الأولى، كانت تبدي قدراً من التفاؤل بالنسبة إلى المدى الزمني المفترض للعملية التحررية، بما في ذلك بعد الضربة المؤلمة التي وجهتها إسرائيل إلى الجيوش العربية في حرب سنة 1967، واحتلت خلالها مزيداً من الأراضي العربية، علاوة على استكمال احتلال كل فلسطين.

ألم تستغرق حرب التحرير الجزائرية أقل من ثمانية أعوام كي تحقق أهدافها، وهي معركة التحرر الدامية التي وُوجهت بآلة حرب هائلة لدولة كانت تعدّ بين الدول الأقوى في العالم وإحدى الإمبراطوريات الاستعمارية الأكبر في امتدادها الجغرافي العالمي في ذلك الحين؟ وتجربة التحرر الجزائرية هذه كانت لا تزال طريةً وحاضرةً في الأذهان آنذاك. فانتصار ثورة الجزائر الوطنية في أواسط سنة 1962 سبق انطلاقة منظمة التحرير والعمل الفدائي المعاصر بفترة وجيزة، لا تكاد تتجاوز عامين أو ثلاثة. وكانت هذه التجربة ملهمة لقطاعات واسعة من هذا الجيل الذي عايش انطلاقة المقاومة الفلسطينية المعاصرة، وإنْ تكن تجارب أُخرى، أبعد جغرافياً، قد أثارت، بشكل متزايد بعد ذلك، اهتمام المقاومين والمناضلين الفلسطينيين، على أرضية اتساع الوعي بأوضاع عالمية أرحب وتزايد التفاعل المباشر مع تجارب تحرر أُخرى في أنحاء العالم، سبقت انطلاق حركة التحرر الفلسطينية المعاصرة أو واكبتها ولحقتها، وخصوصاً تجارب، مثل تجربتي الصين وفيتنام في آسيا الشرقية، وتجربة كوبا في أميركا اللاتينية. وكل هذه التجارب، حتى تلك التي احتاجت إلى عدة عقود لتحقيق أهدافها، كتجربة فيتنام، لم تستغرق مثل هذه المدة التي باتت تفصلنا الآن عن تاريخ انطلاق الحركة التحررية الفلسطينية المعاصرة في أواسط ستينيات القرن الماضي.

*  *  *

صحيح أن أعواماً قليلة بعد هذه الانطلاقة، وبعد الحرب العدوانية الإسرائيلية، كانت كافية لتجعل القادة والمواكبين للمسيرة التحررية الفلسطينية يدققون في توقعاتهم الأولية، المتفائلة بعض الشيء، للمدى الزمني المطلوب لإنجاز مهمة التحرر هذه، لا بفعل صدمة 1970/1971 في الأردن وخروج المقاومة من هذه الساحة المهمة المجاورة للأرض المحتلة فحسب، بل أيضاً بشكل أكثر حدةً وألماً، نتيجة انخراط الحكم المصري، في ظل الرئيس الأسبق أنور السادات، في صفقة ثنائية منفردة في أواخر السبعينيات ذاتها، أدت عملياً إلى خروج مصر الكبيرة من ساحة الصراع، وترك ساحات الصراع الأُخرى، بما فيها الساحة الفلسطينية، لمصيرها.

وعلى الرغم من مشروعية وملحاحية وأهمية المعالجة السريعة للأوضاع المعيشية الصعبة التي كان يعانيها الشعب المصري في ذلك الحين، وهي أوضاع لم تجد، على أي حال، حلاً جاداً لها في العقود الثلاثة التي تلت الصفقة الثنائية المنفردة، فإن اصطياد "الحوت" المصري، كما قيل في حينه، أدى إلى رفع درجة العدوانية الإسرائيلية في المنطقة، لا الحدّ منها، اعتماداً على الخلل الكبير في موازين القوى الذي تفاقم، بعد الصفقة الثنائية، على جبهات الصراع العربي- الإسرائيلي الأُخرى، وعلى جبهة الحقوق الفلسطينية بصورة خاصة.

وفي حين كان هناك تقديرات واسعة بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 بأن التضحيات الكبيرة التي قدمتها شعوب وجيوش مصر وسورية ودول عربية أُخرى شاركت في الحرب، كان يمكن أن تفتح آفاقاً فعلية لإنجازات كبيرة على صعيد استعادة الأراضي التي احتُلت في الحرب السابقة، كما على صعيد استعادة حد أدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية، وخصوصاً بعد الحضور العالمي الواسع الذي حققته مقاومة الشعب الفلسطيني في العقد الأول من مسارها المعاصر، إذا ما جرت إدارة الصراع على الأرض كما على المستوى السياسي بشكل ملائم لجني ثمار هذا "الزلزال" الذي أحدثته الحرب في دولة الاحتلال، فإن ما جرى في الواقع بعد هذه الحرب شكّل صدمة وخيبة أمل كبيرتين، ولا سيما للشعوب المعنية بالجبهات الشرقية الشمالية للصراع، وللشعب الفلسطيني بصورة خاصة.

فلم تكد إسرائيل توقّع اتفاقيتها الثنائية مع الجانب المصري في سنة 1979، حتى اندفعت في تصعيد محموم لسلوكها العدواني تجاه الجبهات العربية الأُخرى، وفي الإمعان في التنكيل بالشعب الفلسطيني والسعي لإخماد حركته الوطنية التحررية بصورة خاصة. وهو ما تجسد في تكثيف حملات البطش الإسرائيلية تجاه الحراك الوطني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبالتالي إعلان الضم "القانوني" للقدس الشرقية المحتلة إلى الدولة الإسرائيلية (بالإضافة إلى تطبيق القانون الإسرائيلي على الجولان السوري المحتل)، ثم في مضاعفة عمليات العدوان ضد المقاومة الفلسطينية وحلفائها الوطنيين في لبنان، وصولاً إلى الاجتياح الواسع للبنان في أواسط سنة 1982 سعياً لتوجيه ضربة قاصمة إلى منظمة التحرير الفلسطينية ومجمل المشروع الوطني الفلسطيني، إلى جانب محاولة إخضاع لبنان واستتباعه كمحمية إسرائيلية. وهي أهداف لم تتحقق في نهاية المطاف، وذلك، أساسياً، بفعل النهوض السريع والحاسم للمقاومة اللبنانية الفعّالة والمقدامة، وكذلك نتيجة صمود ومقاومة الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة وفي أقطار اللجوء. هذا كله على الرغم من صعوبة الأوضاع التي نشأت بعد حرب 1982 بفعل تشتت وتوزع قوى المقاومة الفلسطينية وهياكلها القيادية والإدارية، ونتيجة المحاولات التي تكالبت عليها لتقسيمها وتهميشها، وإلحاقها بهذا المشروع الإقليمي أو ذاك.

صحيح أن الانتفاضة الشعبية العارمة التي اندلعت في أواخر سنة 1987، والتي فاجأت المحتلين وأربكتهم، واستحوذت على اهتمام شعوب العالم وتعاطفها، شكّلت، في تلك الأوضاع الصعبة، خشبة خلاص مهمة للمشروع الوطني الفلسطيني ولمنظمة التحرير، لكنها لم تكن كافية وحدها لتدارك وتعويض التراجعات التي تتالت آنذاك في المحيط العربي  وعلى الصعيد الدولي.

فحقبة الثمانينيات وأوائل التسعينيات شهدت اشتعال الحرب الدموية المدمرة بين العراق وإيران، والتي استمرت ثمانية أعوام رهيبة وسوداء على كلا البلدين وعلى عموم المنطقة، وساهمت في تأجيج التناقضات والانقسامات العربية، وفتحت الباب لحروب خليجية أُخرى تلتها، أدت كلها، في المحصلة، إلى إخراج العراق من معادلة الصراع المشرقية مع الاحتلال الإسرائيلي، واستنزاف ثروات سائر دول المنطقة وإشغالها لسنوات طويلة بذلك الحريق المتواصل في منطقة الخليج، على حساب التركيز على مواجهة مخاطر العدوانية الإسرائيلية ومشاريع التوسع الاستيطاني في الأراضي المحتلة، وعلى حساب الدعم الفعّال للقوى الوطنية العربية المناهضة للاحتلال الإسرائيلي، بما فيها حركة التحرر الفلسطينية بصورة خاصة.

وفي السياق ذاته، شهدت هذه الحقبة أيضاً تفكك وتحلل جبهة الصمود والتصدي العربية، التي تشكّلت في أواخر السبعينيات رداً على تعطيل الجبهة المصرية في الصراع، إذ لم تلبث أطراف هذه الجبهة أن شهدت احتدام التناقضات فيما بينها وداخل كل ساحة من ساحاتها. وزاد معادلة الصراع اختلالاً في تلك الحقبة انهيار الاتحاد السوفياتي، الحليف الدولي الأقوى لحركتي التحرر الفلسطينية والعربية، وبالتالي انهيار التوازن الدولي القائم منذ نهايات الحرب العالمية الثانية، وتفرد الولايات المتحدة، الحليف الاستراتيجي القوي للدولة الإسرائيلية، بالقوة الدولية الكونية، ولا سيما في منطقتنا.

شكّلت كل هذه المتغيرات عوامل مؤثرة أدت دورها في التطورات التي شهدتها الساحة الفلسطينية بعد ذلك، بما في ذلك تلك العملية التفاوضية التي جرت في هذا المناخ الإقليمي والدولي المختل؛ والتي أنتجت، فيما أنتجت، اتفاق أوسلو في سنة 1993؛ وهو اتفاق عكس، في صيغته المطاطة والملتبسة، وفي تطبيقاته اللاحقة، الى حد كبير، هذا الخلل الواسع في ميزان القوى بين طرفيه، وبين القوى الداعمة لكل منهما على الصعيدين الإقليمي والدولي.

*  *  *

وبعد أكثر من عشرين عاماً على اتفاق أوسلو، وعلى الرغم من تطورات كبيرة ومهمة جرت، على الصعيد الدولي بصورة خاصة، وبعض الإرهاصات في الوضع العربي التي ظهرت في بداياتها واعدة بنهوض جديد، لكن معظمها لم يلبث أن اصطدم بتعقيدات وتدخلات عرقلت تطورها الطبيعي نحو أوضاع أكثر تعبيراً عن مصالح شعوب المنطقة وتطلعاتها، فإن الخلل ما زال قائماً في ميزان القوى، وما فتىء الوضع الفلسطيني يعاني جراء الاستعصاء الناجم عنه. وهو خلل فاقمه الانقسام الداخلي الواسع، الذي ترسّم بصورة مأساوية في أواسط سنة 2007 وفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين، وبين مكونات رئيسية في خريطة القوى الفلسطينية الفعالة في مواجهة الاحتلال. واستغل الطرف الإسرائيلي هذه الاختلالات كلها ليواصل، بصورة محمومة، وبلا انقطاع منذ توقيع اتفاق أوسلو، كما قبله، عملية فرض الوقائع الاستيطانية المتلاحقة في القدس الشرقية والضفة الغربية المحتلتين.

ففي الواقع، وعلى الرغم من بعض التصريحات الإسرائيلية العلنية وبعض المراهنات الفلسطينية والعربية على ديناميكية "سلام"، وعلى "مصالحة تاريخية" مفترضة، واصلت حكومات إسرائيل المتعاقبة منذ توقيع اتفاق أوسلو في سنة 1993، كما كانت تفعل قبله، رفض الإقرار بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وفي إقامة دولته المستقلة في الأراضي التي احتُلت في سنة 1967، فضلاً عن سائر حقوقه الوطنية المعترف بها من الشرعية الدولية، كحق اللاجئين في العودة إلى وطنهم. فكل هذه الحكومات واصلت الاستيطان المحموم في القدس الشرقية المحتلة ومحيطها، كما في أنحاء الضفة الغربية، التي ما زال المناخ الصهيوني السائد والمهيمن، والمتجه يميناً باطراد، يعتبرها أرضاً "موعودةً" و"محررة"، وأرضاً يُفترض، بالتالي، أن تبقى تحت السيطرة الإسرائيلية. وما زالت التيارات الرئيسية المؤثرة في إسرائيل تراهن على توفير لاحق لميزان ديموغرافي في هذه الأرض، ولمعطيات إقليمية ودولية تسمح بتحويل ضم الأمر الواقع الجاري حالياً للضفة الغربية إلى ضم فعلي مرسَّم قانونياً إلى الدولة الصهيونية.

*  *  *

هذا الاستعصاء في الوضع الفلسطيني له، طبعاً، أسباب وقصورات ذاتية. لكنها ليست، في تقديري، الحاسمة والمرجِّحة. وإذا كان هناك، في بدايات انطلاق منظمة التحرير والعمل الفدائي الفلسطيني المعاصر، بعض الرهانات على الدور الذاتي الفلسطيني كصاعق لدور عربي أوسع يتأثر به، فإن التطورات على الأرض أثبتت أن الأمور أكثر تعقيداً وتركيباً، وأن المعطيات الإقليمية المحيطة والمواقف الخارجية هي الأكثر تأثيراً في الوضع الفلسطيني، مهما تكن درجة التعاطف الشعبي، عربياً وإسلامياً ودولياً، مع نضال الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية. وهكذا كان من الصعب أن تتحقق الأهداف الوطنية الفلسطينية في أي مرحلة من المراحل من دون نُضج شروط تحوّل عربي وإقليمي، في المحيط المباشر على الأقل، بحيث تتوفر حماية فعلية للمشروع التحرري الفلسطيني ومستوى ملائم من الإسناد له بما يؤمّن ممارسة الضغوط الضرورية المؤثرة في دولة الاحتلال وفي القوة الدولية التي تدعمه وتغطيه، الولايات المتحدة، عبر إنجاز تغيير في موازين القوى الإجمالية، لا العسكرية بحد ذاتها، يفرض التراجع على المحتلين وحماة مشروعهم التوسعي.

وهنا، يبرز التباين الجوهري بين الوضع الفلسطيني ووضع الجزائر في خمسينيات القرن الماضي ومطلع ستينياته. فلإسرائيل دور إقليمي (وحتى دولي) أكبر من مجرد الاستيطان في منطقة جغرافية محصورة، وهو دور يخدم مشاريع واستراتيجيات القوة الأكبر في العالم، ذات المصلحة في الإمساك بهذه المنطقة المهمة ومواصلة السيطرة عليها. وتحت عنوان حماية إسرائيل وأمنها من تهديدات عربية أو إقليمية مفترضة أو مختلقة، يجري إشعال حروب أهلية وإقليمية في عموم المنطقة، أو صب الزيت على نيرانها، وتجري عمليات تسعير التناقضات الإثنية والطائفية بين مكونات دولها، وخصوصاً دول المحيط العربية. كما تجري التدخلات المباشرة أحياناً، أكان من إسرائيل نفسها، أم من الولايات المتحدة ذاتها، حين يلزم، أو عندما يكون التورط الإسرائيلي المباشر مربكاً للسياسة الأميركية الإقليمية.

وهذا كله، طبعاً، لا يُعفي الأنظمة العربية المعنية من المسؤولية عن مآل الأمور: فهذه الأنظمة، بصورة عامة، كانت تعتبر مسألة الاحتفاظ بالسلطة هي القضية المركزية. وكانت مستعدة لكل المساومات ولجميع التنازلات لحماية هذا الهدف المركزي لديها، ولو على حساب مصلحة شعوب المنطقة العربية برمتها، أو حتى على حساب الشعب في البلد المعني نفسه. وهذا معطى كان مرئياً للتحالف الأميركي- الإسرائيلي، الذي لعب بفعالية على هذه النزعة المتأصلة لدى حكام المنطقة.

وهكذا، واصلت الإدارات الأميركية، منذ اعترافها الفوري بالدولة الإسرائيلية بعد إعلانها بدقائق محدودة في أيار/مايو 1948 حتى أيامنا هذه، الاستهتار بمصالح شعوب المنطقة العربية ومواصلة إعطاء الأولوية لمسألة ضمان استمرارية تفوق إسرائيل على كل المحيط، ومتساهلةً ومتواطئة مع استمرار احتلالها وتوسع استيطانها في الأراضي التي اجتاحتها في سنة 1967، ومع تجاهلها القانون الدولي وانتهاكاتها الواسعة له ولقرارات هيئات منظمة الأمم المتحدة والشرعية الدولية المتعددة. وهي، مع هذا كله، وعلى الرغم من مصالحها الواسعة في المنطقة العربية، لم تكن تخشى كثيراً من ردات فعل أنظمة هي في الغالب ذات طابع استبدادي ويتفشى فيها الفساد، وتنتفي المشروعية الشعبية الحقيقية لها، الأمر الذي جعلها سهلة الإخضاع والتطويع، إمّا بالإرهاب والتهديد والضغط، وإمّا بإغراءات ورشى وباحتواء الشرائح الحاكمة واستتباعها، وضمان حماية الأنظمة التابعة واستمرارية بقائها في السلطة ولو على حساب إرادة شعوبها ومصالحها.

وهكذا، من زاوية مشروع التحرر الفلسطيني، لم ينفك الوضع العربي المحيط عن التراجع، بلا انقطاع تقريباً، منذ سنة 1970، مسدداً عملياً فاتورة الهزيمة في حرب 1967، على الرغم من حدوث بعض التقدم أو الإنجازات أو المواجهات الجزئية الناجحة هنا أو هناك. والمفارقة تكمن في كون البلد الأصغر والأضعف عسكرياً في هذا المحيط المباشر، أي لبنان، هو الذي شكّل الاستثناء، بسبب تركيبته التعددية الخاصة وغياب المركزية الفوقية الصارمة الموازية لمركزيات الأنظمة العربية الأُخرى لديه، بحيث تمكنت قواه المقاومة من التصدي لمشروع الهيمنة والتوسع الإسرائيليين في الساحة اللبنانية، إلى حد فرض الانكفاء والتراجع على قوات المحتلين ومشاريعهم العدوانية في البلد.

*  *  *

ولعل التفاؤل الأولي الذي كان من الممكن أن يشعر به المواطن الفلسطيني عند انطلاق الثورات الشعبية العربية، التي بدأت من تونس ومصر، ناجم عن هذا الشعور بأن انتزاع الشعوب لحريتها ولسيطرتها على قرارها ومصيرها في بلدانها من أيدي الشرائح الحاكمة الفاسدة والمستبدة والتابعة هو الكفيل بجعل الأوضاع العربية تتخلص من سياسات الخنوع والرضوخ للضغوط والحسابات والمصالح الخارجية، وبالتالي من التسليم، في المحصلة، بمشروع التوسع الإسرائيلي. لكن المسار اللاحق لهذه الثورات والتمردات، التي شملت دولاً عربية أُخرى غير تونس ومصر، شهد، كما بات واضحاً بشكل مأساوي الآن، تعقيدات داخلية، وتدخلات خارجية، إقليمية ودولية، أدت إلى انفلات وتسعير تناقضات داخلية ذات طابع إثني أو طائفي أو قبلي، ولّدت، بدورها، في بعض هذه البلاد، إفرازات أكثر تخلفاً ودموية، الأمر الذي أعاق التطور الطبيعي للحراكات الشعبية، وأضعف وأشغل أغلبية البلاد العربية المعنية بإشكالاتها الداخلية المستجدة، وهمش، بالتالي، مهمة تحقيق النقلة التاريخية المرجوة نحو أنظمة أكثر تعبيراً عن مصالح شعوبها وتطلعاتها.

ولا شك في أن هناك تباينات بين أي حالة عربية وأُخرى، ومسارات متعددة لكل حراك شعبي في أي بلد، لكن، في المحصلة، بقيت مهمة انتزاع حرية الشعوب وقرارها الوطني على جدول الأعمال في أغلبية الدول العربية التي شهدت حراكات شعبية منذ أواخر سنة 2010، وفي مجمل المنطقة العربية.  

وهذا ليس مسألة بسيطة بالنسبة إلى المشروع الوطني التحرري الفلسطيني. فالتوازن المطلوب للضغط على الاحتلال الإسرائيلي، وعلى القوة  الدولية الرئيسية التي تحميه من محاسبة الشرعية الدولية، لم يتوفر حتى الآن. وبالتالي فإن آفاق تحقق تقدم جذري في مسيرة التحرر الفلسطينية غير مرئية بعد، على الأقل في الأمد المباشر والقريب.

*  *  *

صحيح أن الوضع الدولي أصبح أكثر استجابة للحقوق الفلسطينية وتفهماً لها، كما اتضح من تصويت 138 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29/11/2012 لمصلحة منح فلسطين مكانة دولة مراقبة غير عضو في الأمم المتحدة، وهو عدد يشكل أكثر من ثلثي الدول الأعضاء في المنظمة الدولية. وصحيح أن بين الدول التي صوتت  لمصلحة هذا القرار 14 دولة من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، حليف الولايات المتحدة، أي نصف أعضاء دول الاتحاد تقريباً، ومعظمها لم يكن قد اعترف صراحة بدولة فلسطين بعد. وصحيح أن السويد، بين هذه الدول التي صوتت لمصلحة القرار آنذاك، أقدمت في 30/10/2014 على هذا الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين، وهي خطوة ذات قيمة معنوية وسياسية لا يستهان بها.

وصحيح أن قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة السنوية التي تدعو إلى الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير تكاد تحصل على شبه إجماع أصوات الدول الأعضاء في السنوات الأخيرة، في ظل التأييد الكاسح للحقوق الفلسطينية في مختلف قارات العالم، لكن استمرار توفير الإدارات الأميركية المتعاقبة الغطاء والحماية للتجاهل الإسرائيلي لمبادئ وقرارات الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة، من خلال استخدام إجراء النقض (الفيتو) عشرات المرات في مجلس الأمن لمنع تحويل الإدانات المتكررة للانتهاكات الإسرائيلية إلى إجراءات رادعة ومؤثرة، يحول، حتى الآن، دون ترجمة هذا المناخ الدولي إلى واقع على الأرض، على غرار ما جرى مع حركات تحرر أُخرى في الماضي القريب، مثل ناميبيا في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وجنوب إفريقيا في مطلع تسعينياته.

*  *  *

هذا كله لا يلغي طبعاً أهمية وضرورة العمل على إصلاح الوضع الداخلي الفلسطيني وتمتينه، بدءاً بتجاوز حالة الانقسام على الأرض بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ولا يلغي أهمية دور الشعب الفلسطيني بكل تجمعاته وقواه الفعالة في مختلف مناطق وجوده، في تدعيم صمود مكوناته على الأرض، ومواصلة أشكال النضال والحراك متعددي الأوجه لإبقاء الضغط قائماً على الاحتلال، وللسعي لردعه عن الإيغال في تنفيذ مشروعه للضم الزاحف للضفة الغربية، والالتهام المحموم لأحياء القدس الشرقية ومنازل مواطنيها العرب الفلسطينيين وأراضيهم، ومواصلة حصار مواطني قطاع غزة واستنزافهم وإفقارهم.

فمواصلة كل أشكال النضال، الملائمة لأي وضع ومرحلة، تؤكد للمحتلين أنهم، مهما تفننوا في صنوف القمع والبطش والإذلال، لن يتمكنوا من تحقيق ما كانوا يسعون له دائماً، أي التأييس النهائي للشعب الفلسطيني، بحيث يسلّم بواقع "هزيمة" تاريخية غير قابلة للنفي، كما راهن المحتلون. وهو سعي لأصحاب المشروع الصهيوني السياسي استمر منذ ولادته قبل قرن وأكثر، ووُوجه في المراحل المتعددة بمقاومة مستمرة من الشعب الفلسطيني، الذي بات الآن، بعد خمسين عاماً على انطلاقة منظمة التحرير والعمل الفدائي المعاصر، أكثر وعياً وتحصيناً وتصميماً على إفشال محاولات نفيه وإعادة تهميش قضيته الوطنية وتحجيم تطلعاته.

*  *  *

وهنا، لا بد من التأكيد أن الإشكالية الداخلية الفلسطينية الناجمة عن الانقسام، الذي ترسّم واقعياً في سنة 2007، علاوة على الخلافات والاختلافات في الرؤية التي تراكمت طوال سنوات، حتى قبل الانقسام، لا تمكن معالجتها من خلال إجراءات تقنية أو إدارية أو عبر اتفاقات فوقية بحتة بين الأطراف المعنية، وهي اتفاقات، كما اتضح حتى الآن، لا تعمّر طويلاً ما دامت في حدود الإجراء الإداري الشكلي. والإشكالية ليست بالدرجة الأولى فيمن يتبوأ سدة المسيرة الفلسطينية في وضعها الصعب الراهن، مع أهمية مسألة القيادة، بل هي في الأساس في تحديد الاتجاه الذي تتحرك نحوه أي قيادة تتولى المسؤولية في هذه المرحلة.

فما يتطلبه الوضع الفلسطيني الراهن، أساساً، هو التوصل إلى توافق برنامجي واضح ومحدد بشأن كيفية التعامل مع المرحلة الراهنة بكل جوانبها، وكيفية الفعل فيها. صحيح أن هناك توافقاً واسعاً لدى أغلبية التيارات الفلسطينية، بما يشمل الجسم الرئيسي للتيار الإسلامي السياسي، على الأهداف الوطنية في المرحلة التاريخية الراهنة، لكن هذا التوافق ليس واضحاً بالنسبة إلى وسائل النضال والتكتيكات والخطوات المطلوبة للتعامل مع الوضع الراهن على مختلف الصعد المتعلقة بالعلاقات الداخلية وأساليب الفعل الميداني، كما على صعيد العلاقات الخارجية. فتحقيق مثل هذا التوافق هو ما يفتح المجال أمام إعادة توحيد الحركة التحررية الفلسطينية، ويسهّل عملية الإصلاح التنظيمية، التي تتجاوز حالة الانقسام وتعيد انخراط جميع مكونات الشعب الفلسطيني، في كل مكان، في العملية الكفاحية.

وعلى صعيد الاستعصاء الراهن في مجال التقدم الفعلي نحو هدف الاستقلال الوطني، لا بد من الإقرار بأن ليس هناك حلول سحرية، ولا يوجد إجراء أو توجه وحيد قادر على تجاوز سريع لحالة الاستعصاء هذه. فالمسألة تتعلق بموازين القوى، بمعناها الأوسع، لا الموازين الفلسطينية – الإسرائيلية فحسب، بل أيضاً، وفي الأساس، على الصعيد العربي المحيط، كما على الصعيد الدولي، حيث الاختلال المستمر الناجم، كما أشرنا، عن تواصل تعطيل الإدارات الأميركية للمناخ الدولي الواسع المؤيد للحقوق والمطالب الوطنية الفلسطينية، وهو تعطيل فعّال كون الولايات المتحدة هي الطرف الدولي الوحيد الذي تعبأ به إسرائيل وتحسب له كل الحساب، والذي يمكن أن تتأثر به.

*  *  *

وفي إطار الحديث عن المخارج المباشرة المتداولة للاستعصاء الداخلي، لا بد من القول إن إجراء انتخابات في الضفة الغربية وقطاع غزة ليس، بحد ذاته، مدخلاً للحل ولتجاوز هذا الاستعصاء على صعيد إصلاح الوضع الداخلي وإنهاء حالة الانقسام. فالأهم من الانتخابات هو التوافق على ما يجب فعله بشكل مشترك بعدها، وحتى قبلها، لمواصلة مسيرة الكفاح الوطني لتحقيق الأهداف المتفق عليها.

وهذا لا يعني تقليل أهمية إجراء هذه الانتخابات وضرورتها، كاستحقاق أساسي لبعث الروح في الهياكل التمثيلية الفلسطينية. فالانتخابات، ولا سيما انتخاب ممثلي الشعب الفلسطيني، في المجلس الوطني بصورة خاصة، في الأراضي المحتلة كما في أقطار اللجوء والشتات، حيثما أمكن إجراء عمليات الاقتراع، أو اعتماد صيغ تمثيل بديلة ملائمة، مهمة لاستعادة مناخات الوحدة والعمل المشترك بين مختلف مكونات الشعب الفلسطيني. لكن انتخابات كهذه يجب ألاّ يتم التعامل معها على قاعدة ما يمكن أن تفرزه من غلبة تيار أو تنظيم على آخر، أو استراتيجيا عمل معينة على أُخرى، على غرار ما يجري عادة في البلاد المستقلة والمستقرة نسبياً. فالوضع الفلسطيني ما زالت تحكمه ضرورات العمل الموحد لعموم الشعب، ومركزية الوحدة الوطنية الأوسع في مرحلة التحرر الوطني المستمرة.

ولا يمكن لفرد واحد، أو لتيار واحد أن يدعي وحده القدرة على تقديم الرؤية الاستراتيجية المطلوبة للفعل في الأمد المباشر والقريب. فتلك مهمة جماعية تتطلب حواراً وطنياً بين مكونات الشعب المتنوعة وتياراته الأساسية وتجمعاته المتعددة. ويمكن أن يتحقق حوار كهذا، في مرحلته الأولى، من خلال اعتماد عدد محدود من الأفراد الذين يمثلون حقيقة تيارات الشعب الفلسطيني وتجمعاته، ومن الأفضل أن يكون عددهم صغيراً نسبياً، بالعشرات لا بالمئات، كي يتوفر المجال لحوار جاد وفي العمق، ينتهي إلى بلورة رؤية وطنية مشتركة، وتفصيلية إلى حد ما، لكل مكونات الشعب وتياراته في المرحلة الراهنة. ويمكن الاستفادة، طبعاً، من حصيلة كل الحوارات التي جرت في السنوات القليلة الماضية، والتي توصلت إلى بعض التوافقات التي لم يُترجم معظمها على الأرض حتى الآن.

ومرة أُخرى، فإن اختيار أي قيادة في وضع كالوضع الفلسطيني ليس إجراء فنياً يتم من خلال عملية إدارية أو حتى انتخابية مباشرة، بقدر ما يجري عبر توفر قناعة الأغلبية الساحقة من الشعب، بدءاً بقناعة وقبول ممثليه المنتخبين، بجدارة الأشخاص المعنيين بقيادة هذه المرحلة والتقدم على طريق تحقيق الأهداف الوطنية المحددة، انطلاقاً من الرؤية الاستراتيجية المتفق عليها لكيفية التعامل مع الوضع القائم بما يساهم في شق الطريق بشكل حثيث نحو ترجمة هذه الأهداف على الأرض، مهما تطلب هذا من جهد ومن مدى زمني.

وتثبت مجريات الأعوام الخمسين الماضية، بل المئة عام وأكثر، أن لدى الشعب الفلسطيني وأجياله المتعاقبة ما يكفي من النفس الطويل لضمان الاستمرار في الصمود والمثابرة والتحدي، إلى أن يتحقق الحد الأدنى من العدل والإنصاف، ويتم وضع حد لهذا الظلم الهائل الذي لحق، وما زال يلحق به.

 

أواسط تشرين الثاني/نوفمبر 2014