30 اّيار
2011
Type of event: 
الانتفاضات الشعبية والثورات في تاريخ العرب الحديث والمعاصر
المكتب المنظم: 
مؤسسة الدراسات الفلسطينية - رام الله
التاريخ: 
الأثنين, 30 اّيار 2011 - 3:00مساءً
اللغة: 
عربي
الموقع: 
رام الله
موضوع الفعالية: 

 

عقدت مؤسسة الدراسات الفلسطينية يوم الاثنين 30/05/2011 ندوة في مقرها في رام الله تحت عنوان: "الانتفاضات الشعبية والثورات في تاريخ العرب الحديث والمعاصر"، تحدث فيها الدكتور عادل مناع، وعقّب عليها الدكتور منير فخر الدين، إضافة إلى عدد من الباحثين والمفكرين، الذين شاركوا فيها وأثروا نقاشها.

أدار النقاش الدكتور مجدي المالكي، الذي أوضح أن هذه الندوة ستسلط الضوء على الثورات الحالية (2011) في العالم العربي من منظور تاريخي، لإجراء مقاربات بين الثورات الحالية وتلك التي نشبت في القرون الأخيرة، بهدف إضافة بُعد جديد في تحديد الجديد والمميز في ثورات 2011، ومحاولة استشراف مستقبل هذه الثورات وأثرها على المنطقة العربية عموماً والقضية الفلسطينية خصوصاً.

"الانتفاضات الشعبية والثورات في تاريخ العرب الحديث والمعاصر":

الثورات بين الماضي والحاضر: تمرّد ضد الظلم والقمع والفساد

قدّم الدكتور عادل مناع مداخلته تحت عنوان: "الانتفاضات الشعبية والثورات في تاريخ العرب الحديث والمعاصر". استهلّها بالحديث عن العلاقة بين الماضي في كونه تاريخاً، والحاضر في كونه واقعاً معاشاً، والمستقبل في كونه أحلاماً ورغبات. حيث رأى مناع أن "التاريخ يعيش معنا بأشكال وسرديات مختلفة، ويضيع الحاضر عندما يكون أسيراً للفكر السلفي أو الخلاصي، أما المستقبل فهناك استشراف له على أساس تجارب الماضي، فلا يوجد هناك تكهن ولا فكر رغبوي".

تطرق بعد ذلك إلى آراء بعض المفكرين أمثال بندِكت أندرسون، وإيريك هوبسباوم، والمستشرق برنارد لويس، وفرانسيس  فوكوياما )أحد منظري المحافظين الجدد في أميركا)، من أجل تأطير حديثه. فعرض لما يقوله أندرسون في كتابه عن الجماعات المتخيلة عن نشأة القومية والوعي القومي، وهو أن القومية الحديثة ليست جماعة صغيرة يعرف الفرد أفرادها شخصياً، إنما هي جماعة متخيلة، يتصورها المرء فينتمي إلى الآلاف والملايين من الناس المنتمين إليها. وتكون مهمة هذه الجماعة إقامة جماعة سياسية، تسعى نحو الوحدة والسيادة بتأسيس كيان سياسي. وبصورة أعمّ، فإن الجماعات القومية، كما يرى بندِكت أندرسون، هي على الدوام نتاج تخيّل جمعيّ. وقارن مناع ذلك برأي المؤرخ الماركسي إيريك هوبسباوم الذي يرى أنَّ هذا "الابتداع" للأمم يمكن ردّه إلى نخب تسعى إلى تأمين سلطتها من خلال تعبئة الأتباع. أشار مناع بعدها إلى أفكار المستشرق برنارد لويس وتوظيفه لنظرية هانتنغتون حول صراع الحضارات، القائلة بأن هناك صراعاً وحرباً بين الحضارات، وقسّمها إلى حضارة غربية تخص الغرب، وحضارة إسلامية مخالفة تمثلت في الدولة العثمانية قديماً، وفي الإرهاب في وقتنا الحاضر. وكذلك أشار إلى فكرة فوكوياما حول نظرية الانتماء والقومية، مبيناً أن فوكوياما- صاحب نظرية نهاية التاريخ وزوال القومية- يرى أن العالم يسير نحو العولمة وذوبان الهويّات والقوميّات، ونحو ما أسماه "العالم الواحد".

السياق العثماني:

بدأ منّاع حديثه عن السياق العثماني بثورة نقيب الأشراف في القدس (1703 – 1705)، التي تعتبر أول انتفاضة شعبية شارك فيها سكان البلد بجميع فئاته. إذ اندلعت تلك الثورة بسبب الظلم الذي وقع على أهالي القدس من السلطة العثمانية الحاكمة آنذاك، وقيامها بمحاولة إلغاء دور الزعامات المحلية (التي كانت قد بدأت تقوم بدور هام نتيجة ضعف الدولة العثمانية)، وفرْض سياسة الحكم المركزي على السكان، وكانت نتيجتها سيطرة الثوار على بيت المقدس، وتعيين محمد بن مصطفى الحسيني نقيب الأشراف شيخاً ورئيساً للمدينة، فحكم الشعب لمدة سنتين. وقد انتهى حكمه إثر خلاف نشب بينه وبين مساعديه، تطور إلى نزاع مسلح ذهب ضحيته عدد من القتلى، واستدعى ذلك استنجاد الناس بالسلطان العثماني، الذي لبّى النداء. وهكذا عادت القدس إلى السيطرة العثمانية.

واستعرض مناع أحداث منطقة الجليل، التي قوي فيها نفوذ الزيادنة بقيادة ظاهر العمر الزيداني، حتى وصلوا إلى مرحلة تمثيل الحكومة العثمانية في المنطقة. لكن ظاهر العمر لم يكتف بإمارة الجليل، بل تطلع إلى ما هو أبعد، فحاول إقامة إمارة مستقلة. في البداية وسّع نفوذه في الجليل، ثم وطّد حكمه في عكا والجليل، وحاول التوسع أكثر، ثم تحالف مع علي بك، حاكم مصر، وكانت نهايته على يد أبي الذهب، الذي قاد حملة عثمانية ضده. عيّنت الدولة العثمانية بعد ذلك أحمد باشا الجزار والياً جديداً على المنطقة، وتولّى بدوره مهمة القضاء على من تبقى من الزيادنة وحلفائهم، وإعادة القبضة العثمانية إلى المنطقة حتى توفي عام 1804.

وأشار مناع إلى أنّ المنطقة شهدت أحداثاً كثيرة كحملة نابليون على مصر، وحملة محمد علي باشا على الحجاز، وحملة إبراهيم باشا على بلاد الشام، التي وصلت حتى منطقة الأناضول. وتوقف عند الأخيرة والثورات الشعبية التي نشبت ضدها؛ إذ حاول الحكم المصري تطبيق إصلاحات إدارية واقتصادية مختلفة، لكن الثورات كانت تنشب بين الحين والآخر في أنحاء بلاد الشام، الأمر الذي أدّى إلى إعاقة نجاح تلك السياسة. ثم تجدّدت الحرب مرة ثانية بين محمد علي والدولة العثمانية، حيث تلقت الأخيرة مساعدة من الدول الأوروبية فربحت الحرب، وقامت بحملة من الإصلاحات لإرضاء الدول التي ساندتها، أدت إلى تحولات تاريخية مهمة انعكست بدورها على فلسطين في أواسط القرن التاسع عشر، وكان من نتائجها ازدياد النفوذ الاقتصادي والسياسي الأوروبي فيها.

لم تمنع سيطرة الحكم المصري وقبضته القوية على المنطقة، حدوثَ تمردات وثورات. ففي العام 1934 وبعده، شهدت المنطقة ثورات عدة، مثل ثورة جبل لبنان، وثورة النصيرية، وثورة دروز حوران، تجلّت خلالها سياسة القمع المصرية بأقسى صورها، وهي ظاهرة لم يعرفها السكان، وسياسة لم تنتهجها الحكومة العثمانية سابقاً.

قامت الدولة العثمانية، بعد ذلك، بتحقيق جملة من الإصلاحات والتنظيمات، نجحت خلالها في إنشاء قواعد جديدة للعلاقة بين السلطة المركزية والسكان في أنحاء فلسطين، وكان ذلك عن طريق تعزيز مكانة المدينة وأعيانها (فالكثير منهم تأقلم مع السياسة الجديدة) على حساب الريف وزعاماته المحلية.

بدأ ضعف الدولة العثمانية وتراجع قوتها في أواخر القرن التاسع عشر، وخلال فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني، يزداد أكثر فأكثر، وذلك لعدة أسباب أبرزها: تنامي فكرة القومية العربية على حساب القومية التركية (الإسلامية) وتغلغلها بشكل كبير في جسم الدولة العثمانية، حيث أنشأ الداعون لها المؤسسات والجمعيات التي تدعمها وتعززها؛ هذا بالإضافة إلى التغلغل الأجنبي الأوروبي ونفوذه في الدولة؛ واستغلال دعاة القومية والصهيونية هذا الضعف، ما جعلهم يقومون بحركات لتقويضها، أدت إلى إضعافها والقضاء عليها.

سقوط الدولة العثمانية وبروز القومية العربية:

تحدث مناع عن سقوط الدولة العثمانية في القرن العشرين، وما نتج عنه من صعود نجم القومية العربية، وتبلور منظومة الدول، التي تم التأكيد عليها في عام 1945، من خلال قيام جامعة الدول العربية التي ضمنت فكرة وحدة الدول العربية لكن بما لا يمس باستقلال وسيادة هذه الدول، إذ كانت وحدة بين الدول وليس الشعوب، وقد تألفت من الدول التالية: سوريا ولبنان والأردن والعراق ومصر واليمن.

من ثم تطرق إلى أهمية القضية الفلسطينية والصراع العربي. فبعد الحرب العالمية الثانية، تأسست إسرائيل، ونشأ الصراع العربي الإسرائيلي، و تصاعدت المقاومة الفلسطينية. وفي عام1947 ، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة مشروع تقسيم فلسطين إلى دولتين: الأولى عربية فلسطينية والثانية يهودية صهيونية، مع وضع القدس تحت النفوذ الدولي. رفض الفلسطينيون وجامعة الدول العربية هذا المشروع وقبله الصهاينة. وبمجرد انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين في منتصف أيار/مايو 1948، أعلن الصهاينة تأسيس دولة إسرائيل في الجزء المخصص لليهود حسب تقسيم 1947، والتي قامت على العنصرية والإرهاب والمذابح والاغتيالات. وعلى إثر ذلك نشبت حرب 1948-1949، أو نكبة 48، إذ أعلن بعض الدول العربية (مصر والأردن وسوريا والعراق ولبنان) الحرب على إسرائيل، التي حظيت بالدعم العسكري والمادي من طرف كثير من الدول الغربية. أسفرت الحرب عن نكبة فلسطين العربية واستيلاء إسرائيل على مزيد من الأرض الفلسطينية. وبحلول عام 1967، استكملت إسرائيل سيطرتها على الأراضي الفلسطينية، إضافة إلى احتلال منطقة سيناء في مصر وهضبة الجولان في سوريا. وكان هذا العام عام النكسة وعام هزيمة الفكر القومي،  وأدى إلى فكرة تمكين الشعب الفلسطيني من القيام بدوره في تحرير وطنه، وإلى صعود نجم منظمة التحرير الفلسطينية والاعتراف بها كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني.

وأشار مناع إلى ثورة الضباط الأحرار التي شهدتها مصر العام 1952، وكان من أهم أسبابها استغلال المناصب والاستهتار بحقوق الشعب المصري ومصالحه، وقد آلت الثورة في النهاية إلى سيطرة الضباط، وتحقيق بعض ما يطمح إليه الشعب كتوزيع الأراضي على صغار الفلاحين، ومصادرة أراضي الإقطاعيين الذين ازدادوا غنى على أكتاف الشعب المصري.

وتطرق مناع كذلك إلى أهمية الثورة الإيرانية، التي حصلت في العام 1979، وتأثر الوضع العربي بها بشكل كبير. إذ إن نجاحها كان بمثابة إعلان قدرة التيار الديني على الوصول إلى السلطة السياسية معتمداً على القوى الشعبية لا العسكرية، وقد انعكس ذلك على الحركات الإسلامية في المنطقة وظهور ما يسمى الإسلام السياسي (متمثلاً بحركة الإخوان المسلمين) في مصر والعالم العربي، وصعود دور إيران وسوريا و"حزب الله" ومن ثم حماس، في ظل انحسار دور مصر السياسي.

في سياق استعراض أزمات القومية العربية، أشار مناع إلى حرب الخليج الثانية عام 1990، حين اتّهم العراق الكويت بسرقة النفط، وقام صدام حسين باحتلال الإمارة الصغيرة، ونتيجة لذلك، فُرضت عقوبات اقتصادية على العراق وطالب مجلس الأمن القوات العراقية بالانسحاب من الأراضي الكويتية دون قيد أو شرط، وأُعلنت الحرب عليه لتحرير الكويت. تمّ هذا كله بمشاركة دول عربية ومباركة منها، ما أدى إلى انقسام الصف العربي وتعرضه لشرخ كبير. وفي عام 2003، قامت الولايات المتحدة بغزو العراق والإطاحة بصدام حسين ونظامه، واصفة العراق بأنه جزء من محور الشر، الذي يضم إيران وسوريا وكوريا الشمالية.

تحدث مناع عن انعكاسات هذه الأحداث على الوضع الفلسطيني. فقد حصلت مستجدات مرتبطة بهذا الواقع، منها: اندلاع الانتفاضة الأولى، وإعلان ياسر عرفات العام 1988 قيام دولة فلسطينية واعتبار القدس عاصمة لها، ورفض الدول الغربية الاعتراف بهذا الإعلان، ووقوف منظمة التحرير الفلسطينية إلى جانب صدام حسين، ما أدى إلى طرد الفلسطينيين من الكويت في 1990-1991.

انعقد مؤتمر مدريد عام 1991، تحت رعاية الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، بمشاركة أطراف الصراع: فلسطين والأردن وسوريا ولبنان وإسرائيل. وقرر هذا المؤتمر إجراء مفاوضات ثنائية، أدت إلى عقد اتفاقية أوسلو الفلسطينية - الإسرائيلية عام 1993، وإلى توقيع معاهدة السلام بين الأردن وإسرائيل عام 1994. وقّع اتفاق أوسلو كل من ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين، ما أدى إلى اغتيال الأخير في العام التالي. بعد ذلك، اندلعت انتفاضة الأقصى في عام 2000، وانهارت مسيرة السلام، واستمرت إسرائيل في قيامها بعمليات الاستيطان والقمع وإغلاق الضفة الغربية وقطاع غزة، واستمرت كذلك في معارضتها إقامة دولة فلسطينية مستقلة.

ومن باب توضيح السياق التاريخي، أشار مناع إلى أهمية ظهور اسم أميركا منذ حرب 1967، وازدياد حضورها بشكل أكبر عقب انهيار المعسكر الاشتراكي عام 1989، وظهور السياسة الدولية ذات القطب الواحد، التي حاولت فيها الولايات المتحدة استثمار الفوز للسيطرة المطلقة على العالم بدء من حربها ضد العراق عام 1991.

استبداد الملوك والمماليك وفسادهما

وفي مقارنةٍ تحليلية، رأى مناع أن نظام صدام حسين وما حدث معه في 1990-1991، هو نموذج للمماليك الجدد، والذي كانت بداية نهايته في 2003. واستعرض بعض المفاهيم والثنائيات المتداولة، مثل الدكتاتورية الخمينية أو السلفية مقابل دكتاتورية الملوك والمماليك، وثنائية الشيعة والسنة. فهناك ما أسماه "فزّاعة الإسلام السياسي" والتخويف منه، كما حصل في انتخابات الجزائر عام 1991، عندما فازت الحركات الإسلامية بالأغلبية. وأضاف: لكن هناك كثيراً من الناس ممن لا يريدون نظاماً إسلامياً كالذي في إيران، ولا يريدون، كذلك، نظاماً دكتاتورياً؛ إذن، لا بد أن يكون هناك حل وسط (نظام) يرضي الجميع".

وبحسب مناع، مع مطلع عام 2011، بدأ الشعب بالتمرد والثورة على طغيان الفساد والاستبداد، وبدأ يترجم سخطه ويعبر عن نفسه بالثورات ضد أنظمة "الملوك والمماليك". كانت بدايتها ثورة تونس التي أطاحت بـزين العابدين بن علي، من ثم في مصر التي انتهت بتنحي حسني مبارك وفشل محاولاته في توريث الملك لابنه جمال، وها هي الأقطار الأخرى: ليبيا، اليمن، سوريا. وتساءل مناع إن كانت هذه عدوى ستنتقل إلى دول أخرى، وإن كانت كذلك، فمن هي الدول المـُرشحة؟ 

وأكد مناع في ختام مداخلته: "إن هذه محطات تاريخية هامة، يجدر التوقف عندها والتدقيق في إسقاطاتها، هناك تشابه بين الأحداث الحالية والثورات السابقة، في كونها تمرد أناس مظلومين مضطهدين ضد الظلم والقمع والفساد، فكل الثورات التي ذكرتها هي عادة ثورات ضد نظام الاستبداد والقمع. طبعاً النظام سابقاً يختلف عنه اليوم، ولكن إذا أخذنا الثورات التي ذكرت، فإنه مهما اختلف وضع الإنسان ووعيه فهو لا يتقبل الظلم والاستبداد، ويلجأ إلى التمرد والخروج عن هذا القامع والمستبد والمفقر، ويفتش عن العدالة. هذا أيضاً قاسم مشترك بين الحركات التي تحدثت عنها سابقاً".

"الديمقراطية كبحث دائم عن المشترك بين الناس"

عقّب الدكتور منير فخر الدين على مداخلة منّاع، مشيراً إلى أنه سيتناول في حديثه بالتحديد الوضع في سوريا.

ورأى فخر الدين أن "الوضع في سوريا والثورة لهما نَفَس طائفي من الممكن ملاحظته على صفحات الفايسبوك مثلاً، كما أن النظام نفسه يحرض على أساس طائفي، فيخوِّف الأقليات من السلفيين السنة، على سبيل المثال". وأضاف "لكن ليس من الصواب تصوير الصراع كصراع طائفي، أو كصراع بين الروح الوطنية والروح الطائفية، حتى لو اعترفنا بوجود عصبيات "طائفية"".

ولفت فخر الدين، كمناصر للثورة من موقعه في الجولان السوري المحتل، إلى أنه من الضروري سياسياً، توجيه النقد ضد النظام، وعدم إعطائه المبررات للاستمرار بإحكام قبضته الإجرامية الفاسدة على الشعب، ولكن بالنظر إلى الأحداث بعين الباحث المُسيَّس، فقد أشار إلى أن من يعتقد أن ما ستتمخض عنه الثورات العربية غداً هو مجتمع مدني فيه ديمقراطية ليبرالية تشبه تلك السائدة في دول غربية معينة، كنموذج مثالي وكوني للحكم والاجتماع البشري، إنما يبشّر بـ "مولود ميت".

وكبديل عن التفكير في النموذج الغربي السائد كنموذج كوني وكامل،  تطرق فخر الدين إلى ما ذهب إليه كل من هارت ونيجري عن نشوء الديمقراطية على نطاق كوني نظراً إلى العولمة الخاصة بشبكة القوى التي يسمونها إمبراطورية، وإلى مفهوم الحشود الذي ينظران له ويميزانه عن مفاهيم الشعب والجماهير والطبقة. فهذه المفاهيم تفترض هوية وتجانس، مُعطيان سلفاً، بين جماعات محددة.

وقال إنه في مقابل ذلك، يتبنى هارت ونيجري فكرة أن سكان العالم مكونون من الكثير من الجماعات والحشود التي ليس لها هوية محددة سلفاً، إنما المقدرة الخلاقة على التواصل وخلق قواسم مشتركة، وفي هذا الصدد، قال: "أعتقد أن هذا المنظور إلى الاجتماع البشري هام جداً حتى على الصعيد الوطني والمحلي، فنحن لسنا متجانسين حتى على صعيد القرية والعائلة، فما بالك بالطائفة والشعب والأمة. لكننا قادرون على التواصل وبناء القواسم المشتركة والدفاع عنها، وأعتقد أن التخلص من أنظمة الإهانة والاستخفاف بالكرامة الإنسانية هو أكبر قاسم مشترك بين الحشود العربية المختلفة الآن".

عاد فخر الدين بعد ذلك، ليؤكد أن التوصل إلى هذا المشترك بشكل ديمقراطي لا يلغي الفروقات بين الناس، فالتركيبة الإثنية والقبلية والطائفية لهذه الحشود/المجتمعات لن تقوّض الديمقراطية، كما أنها لن تختفي إذا ما تم بالفعل الوصول إلى بُنى حكم ديمقراطية. تستطيع الديمقراطية أن تنشأ في ظل مزيج من المجتمع المدني وما يطلق عليه المفكر الهندي البارز بارثا تشاترجي، بالمجتمع السياسي -  أي أنماط الاجتماع القائم على مفاهيم وثقافة ونمط اقتصادي، لا تسير بموجب قانون وأعراف المجتمع المدني. بهذا المعنى فإن الديمقراطية هي بحث دائم عن المشترك بين الناس وخلق للمشتركات الجديدة، لا البحث عن نموذج ما كامل وموجود أو تاريخي نسميه الديمقراطية أو المجتمع الفاضل والأمثل. وباعتقاد فخر الدين أن العالم العربي إذا كان يسير نحو الديمقراطية فهو يسير بما يشبه الهند أكثر من شمال غرب أوروبا.

أنهى فخر الدين تعقيبه بقوله: "إن علينا أن ننتبه إلى أن أنظمة الاستبداد كانت قد استغلت وبَنَت، بشكل خبيث، مشتركات كثيرة مع فئات عديدة من الحشود والقوى الاجتماعية، منها ما يسمى الطائفية، وهي تساعده الآن في محاربة الثورة، وحين يتم التخلص من هذا النظام، فإننا لن نشهد قضاء مبرماً ونهائياً على آثار الماضي، بل علينا أن نقدم حلولاً تقدمية لها، بالدفع بآليات عمل التواصل وبناء المشتركات بين الفئات المختلفة للحشود، تخلصاً من عقدة الريبة من الغريب وكره المختلف والآخر. إن ثورتنا هذه ليست تطبيقاً لنموذج فرنسي من 200 عام، بل هي انطلاق مما نحن عليه، وإلى غدٍ كوني مفتوح".    

 

*  بُثت الندوة حينها، على قناة الجزيرة مباشر.