Samaha, Transitory Peace: Toward an Arab Solution of the 'Jewish Question'
Reviewed Book
Full text: 

سلام عابر: نحو حل عربي لـ "المسألة اليهودية"

جوزيف سماحة. بيروت: دار النهار للنشر، 1993. 145 صفحة.

 

يأتي كتاب "سلام عابر"، للصحافي اللبناني المقيم بباريس جوزيف سماحة، في لحظة تاريخية فُرض خلالها على العرب أن يمتثلوا للقرار الدولي-الإقليمي (الأميركي ـ الإسرائيلي تحديداً) بقبول السلام بحسب الرؤية الإسرائيلية لعملية إنهاء الصراع العربي-الإسرائيلي الطويل. وفيه، ينتقد سماحة الأخطاء العربية، على مستوياتها كافة، في رحلة الدم والموت والخراب، التي عرفها مسلسل الحروب والهزائم، انطلاقاً من قناعته بضرورة "النقد الذاتي"، كما يقول في المقدمة، معتبراً أن هذا النقد ضروري "بعد كل هزيمة". الإقرار بالهزيمة يتحول إلى نقطة انطلاق في عملية البحث عن موقع حقيقي للعرب، على الرغم من كل شيء. إنه وقت للمواساة، ووقت للعناد والاستنهاض؛ أي أنه وقت للعمل الجاد، عبر الاستفادة من دروس الماضي. إزاء ذلك، لا يتجاهل سماحة "أهمية إعادة صياغة مشروع النهضة العربية في اتجاه يتيح التحرر من إسار ›السلام‹ والتقدم نحو الديمقراطية في آن معاً."

يستشهد سماحة بمقولة للمفكر الصهيوني "اليساري"، مارتن بوبر، التي ترى أن تحقيق الهدف الإنساني للصهيونية لن يكتمل من غير إيجاد حل وطني للشعب الفلسطيني، وإذ يتجاوز سماحة منحاها الإنساني الظاهر، يكتشف أن هدفها تبرئة المشروع الصهيوني، ثم إسرائيل، من الارتباط العضوي بمشاريع استعمارية، تجعل من اليهود جالية أجنبية ومعادية في المنطقة (ص 142). لكنه يتساءل عن نتيجة قلب هذه المقولة: ماذا لو تعامل العرب مع الإسرائيليين عبر عقلية مختلفة، شرطها الوحيد أن تتخلص من هذا الحجم الهائل من التهورات وارتكاب الأخطاء، والسعي جدياً لاستكشاف آفاق المستقبل، "للوصول إلى حد من القوة والمعافاة والديمقراطية، يصبح ممكناً، معه، تقديم اقتراح دمج للإسرائيليين، بصفتهم أفراداً يعيشون في المنطقة وليس بصفتهم دولة" (ص 143).

يحاول سماحة، إذاً، أن يؤسس لغة جديدة في التخاطب مع المنتصر - إسرائيل، باعتبار أن المجال لا يزال متسعاً بعض الشيء لإيجاد "حل عربي للمسألة اليهودية." انفتاحه على الحوار مع وقائع المرحلة، تاريخياً وآنياً، دفعه إلى رفض الخلفيات المسبقة والأحكام الجاهزة، البائدة والمهترئة، ودفعه أيضاً إلى الاستفادة من الدروس الماضية. ثمة حاجة ماسة إلى النهوض، عربياً، من دوامة الاستسلام، بسبب وجود مقومات ذاتية لهذا النهوض، ولما يسميه سماحة "الطموح الكبير للعرب"، وهو "الوصول إلى وضع لأنفسهم يصبح معقولاً معه وعد اليهود بحقوقهم، كأفراد، في ظل نظام عربي جديد لا يمكن له التعايش مع ›دولة إسرائيلية‹ متحصّنة ومتوثبة ومستعدة للانقضاض عليه" (ص 143). ويضيف سماحة أن الهدف هو التوصل إلى بناء طوق حول إسرائيل يضرب اختراقاتها، ويحاصرها، ويقلل من أهمية دورها. لكنه يلغي الخيار العسكري، معتبراً أنها عملية حضارية شاملة.

يدرك سماحة مسبقاً، بحسب العنوان، أن هذا السلام الذي عرفه العرب مؤخراً، لن يكون إلاّ عابراً. لذا، نراه يعمل على إيجاد هذا الحل العربي للمسألة اليهودية. فهل آن الأوان، بالنسبة إلى العرب، في حال كانوا مقتنعين بضرورة الحصول على سلام عادل وشامل لهم، أو على الأقل تحسين شروط هذا السلام الموجود حالياً، بما يتلاءم مع طموحاتهم، كي "يفكروا" و"يعملوا" من أجل هذا الحل؟ وهل صحيح أنه يمكن لهم-بعد كل هذه السنوات الطويلة من الهزائم والانكسارات والصراعات الداخلية، إلى القمع والإرهاب والتسلّح الموجّه إلى الداخل، وتصفية الحسابات فيما بينهم-أن يؤسسوا لمثل هذا الحل؟

يبدو أن الأنظمة العربية ترغب في حل يرضي طموحاتها الخاصة؛ حل ينطلق من حسابات ضيقة الأفق في حين أن ما يطرحه جوزيف سماحة يشكل البديل العقلاني، المشتمل على الجوانب الثقافية والفكرية والسياسية، إلى الوعي الدقيق لموازين القوى، وتحليل المسارات التي مرت التيارات السياسية والفكرية فيها، مستخلصاً العبر، ومحاولاً الاعتراف المنطقي بأن الناصرية تظل أقوى هذه التيارات في معالجة مشكلاتنا الداخلية، لأنها طرحت الأسئلة المتعلقة بمصيرنا، ولا تزال قادرة حتى الآن، وعلى الرغم من كل شيء، على إعطائنا الدروس المطلوبة: بعد حرب الخليج، بدا أن "جمهور" الناصرية "لا يزال يشكّل الاحتياطي الشعبي الأكثر اتساعاً" (ص 140). فالناصرية بحثت في الاستقلال السياسي والاقتصادي، وفي التنمية والتدرّج نحو الوحدة، كما في موقع إسرائيل في الصراع العربي مع القوى الاستعمارية. يقول سماحة إنه يجب الاستفادة من "الدروس الهائلة للناصرية في اتجاه إنجاز ما لم تنجزه من برنامجها، بعد تعديله ليصبح متوافقاً مع نهاية القرن والتحولات الدولية الهائلة" (ص 140).

إذاً، يمكن للعرب أن يقدموا مثل هذا الحل المطلوب، إذا نجحوا في قراءة تاريخهم. يحاول سماحة أن يعينهم على ذلك، عبر قراءة نقدية وعقلانية واعية لمجمل ما مرّوا به خلال سنوات الصراع. فالنقد الذاتي يبقى الطريق الأسلم والأفضل لتغيير المسار العربي المهترىء والمستسلم. يقول سماحة إن هذا السلام قد حَلّ "فلينصرف كُلٌ إلى موقعه" (ص 117). وموقع العرب أن يقرأوا تاريخهم: من أوهام الحل العسكري لإبادة الإسرائيليين، إلى أهمية وضرورة التنبّه فعلياً وجدياً للعامل النووي الإسرائيلي؛ ومن فشل الطروحات الإسلامية بسبب تمسّكها بالحل العسكري إلى عجز التيارات السياسية المتنوعة (الوطني الليبرالي وغير الليبرالي، والشيوعي، والقومي بمدارسه المختلطة)، باستثناء الناصرية كما سبقت الإشارة، عن إيجاد الطروحات العملانية لتطوير المجتمع العربي. إنها عناوين البناء الفكري لكتاب "سلام عابر"، الذي يلحظ أيضاً فشل الرهان على القطب المناهض للولايات المتحدة الأميركية، وقد سقط مع انهيار الاتحاد السوفياتي. ويقول سماحة متهكماً: "العمالة الكاملة لأميركا خير من التحالف الناقص مع الاتحاد السوفياتي" (ص 76)، ويضيف أنه في هذا الوقت الذي تضطرب فيه المعايير نجد من يعتبر أن "الصراع العربي - الإسرائيلي اختراع سوفياتي يقوم على توريط العرب حتى تكسب موسكو مواقع قدم في الشرق الأوسط. وحكام الكرملين على دهاء كاف بحيث يثيرون العداء العربي لإسرائيل، ولكنهم لا يقدّمون السلاح الكفيل بحسمه" (ص 76).

إلى ذلك، يرى سماحة أن العرب فشلوا في طرح رؤيتهم الواقعية لسلام حقيقي وشامل، وأيضاً، عجزوا عن إدارة الصراع مع إسرائيل كما يجب. فأراد من خلال التجارب، أن يستعين بالماضي العالمي، كي يؤسس، أو يحاول أن يؤسس، وعياً عربياً جديداً، مبنياً على مواقع القوى الحالية، وعلى فهم كلي وواضح للتطورات التي حدثت، معتبراً أن حرب الخليج الثانية سمحت للعرب بحجز موقع لهم داخل ما اصطلح على تسميته "النظام العالمي الجديد"، شرط مراجعة موقعهم في النظام السابق.

من ناحية أُخرى، يعتقد سماحة أن الأفكار التي بشرت الثورة الفرنسية بها يمكن اعتبارها "أول محاولة جدّية لحل المسألة اليهودية": إلغاء التمييز ضدهم وعلمنة السياسة وتقليص دور الكنيسة وفكرة المواطنة والدمج واحترام الحقوق الدينية والشخصية والمدنية (ص 23). أمّا درس "المحرقة" النازية، وإقرار أوروبا بمسؤوليتها تجاه ما حدث لليهود ومعاملتها لهم على أساس مختلف، فيستخلص سماحة منه دعوة إلى العرب كي يعاملوا فلسطينييهم مثلما تعامل أوروبا "يهودها": "أي بإيجاد حل لهم يريح الضمير ويحقق المنفعة"، وإلاّ، يستدرك سماحة، "فلا أمل لهم بأي تقدم يكسر الطوق الذي يأسرهم" (ص 107).

"سلام عابر" دراسة ملخصة، لكن معمقة، لا تحاصر نفسها في الإمعان في النقد الذاتي. إنها ترى في الاختبارات كافة ما يلائم الخروج العربي من متاهة السلام المفروض. دعوة صريحة إلى مشروع نهضة عربية جديدة، عبر الحركة القومية المتجددة، التي يراها سماحة "الأقدر" على تعيين مصدر التناقضات الجديدة، وعلى تقديم رؤية مطابقة لوضع المنطقة والعالم، وعلى حشد أوسع جبهة ممكنة لإطلاق دورة جديدة من محاولات النهوض العربي. يقول سماحة: "إنها، في آن معاً، صادرة عن هموم العرب، كما هي فعلاً، ومعانقة لتعقيدات الوضع الدولي الجديد، كما هي فعلاً" (ص 141).

يعلّق جوزيف سماحة آمالاً عريضة على هذه الحركة القومية المتجددة. يريدها في طبعة جديدة ومنقّحة، لأنها بذلك ستكون الأقدر على صوغ برامج وتكتيكات ملائمة، لا تكتفي بترداد اللازمة بشأن "إزالة إسرائيل". يلخص سماحة برنامجها بضرورة البدء أولاً بالممانعة ورفض التطبيع ومقاتلته، إزاء الإصرار على التمسك بالأهداف البعيدة، وبالرؤية التاريخية للصراع العربي-الإسرائيلي وموقعه من العداء "الغربي" للنهضة العربية. إن هذه الحركة تملك تراثاً معقولاً، وهي قادرة على تعيين مواقع ضعف الخصم وحصارها، وعلى انتهاج سياسة تحالفات داخلية وخارجية تقوم على تقدير للواقع كما هو، لا على تصورات له تخضعه لثنائيات لا أساس لها، كالقول مثلاً "الإسلام ضد الصليبية".

لا أدّعي قدرة على تلخيص كتاب "سلام عابر"، أو مناقشته كلياً. ثمة ما يدفع إلى قراءته بتمعن. كأنه بطرحه المسائل كما هي، من دون عقد أو خلفيات، يساهم في انتشالنا من يأس ما أوقعنا فيه سلام إسرائيل للمنطقة. إن جوزيف سماحة يريد لنا الديمقراطية الفعلية، أساس النهضة العربية الجديدة. يريدنا أن نتعلّم من هذا العدو نفسه دروس الانتصارات الحقيقية. وهو يعترف بأن السجناء السياسيين كلهم "قابعون حيث هم لأنهم بالضبط أكثر عداء لأميركا وإسرائيل من حكامهم" (ص 98).

Author biography: 

نديم جرجورة: كاتب لبناني.