Said: Politics of Dispossession and Representations of the Intellectual
original article: 
Full text: 

- نضال الفلسطينيين من أجل تقرير المصير، 1969 - 1994*

The Politics of Dispossession: The Struggle for Palestinian Self-Determination, 1969-1994

- صُوَر المثقف: محاضرات ريث 1993*

Representation of the Intellectual: The 1993 Reith Lectures

Edward W. Said

New York: Pantheon Books, 1994. 431, 121 pages. $ 27.50, $ 20.00 resp.

 

مع صدور هذين الكتابين الأخيرين (وكتاب آخر نُشر حديثاً باللغة العربية)، ربما غدا إدوارد سعيد أغزر الكتّاب الفلسطينيين الأحياء إنتاجاً. وهو في أية حال الأوسع مجالاً؛ إذ نشر كتباً تتناول الأدب والثقافة والسياسة والموسيقى. كما أن أعماله أكَّدت كونه واحداً من أبرز نقاد الثقافة في العالم. إن قيمة ما يكتبه سعيد طبعاً، لا مجرد حجم ما كتبه، هي التي جعلت صوته مهماً في كثير من الميادين، من حقله الخاص في الأدب إلى الأنثروبولوجيا إلى التاريخ إلى الدراسات الشرق الأوسطية. ولعل إدوارد سعيد لم يواجه بمقاومة جادة ومنظمة لآرائه إلا في الحقل الأخير، منذ صدور كتابه "الاستشراق" سنة 1978. والكتابان موضوع المراجعة يساعدان في توضيح لمَ كان الأمر كذلك، لأنهما يلقيان الضوء على الجانب السياسي من شخصيته في الحياة العامة وعلى الدور الاجتماعي للمثقف.

والكتابان هذان مختلفان تماماً أحدهما عن الآخر؛ فالأول مجموعة من المقالات السياسية التي كتبت بين سنتي 1968 و1993؛ وهي مقسمة، بحسب الموضوعات، إلى ثلاثة أقسام تتناول فلسطين والفلسطينيين، والعالم العربي، والسياسة والمثقفين، ومرتبة بحسب تسلسلها الزمني داخل هذه الأقسام. ومع كل ما للمقالات الأصلية من أهمية - ومعظمها ما زال حرياً بالقراءة وبعضها يبدو ثاقباً في استبصاراته بالمستقبل الآن وبعد مرور الزمن - فإن أشد الأجزاء استفزازاً وتحريكاً للفكر هو المقدمة (35 صفحة) والخاتمة. ولمّا كان سعيد قد غدا أبرز وأصرح نقاد قيادة م.ت.ف. والاتفاقات التي تفاوضت مع إسرائيل بشأنها، فإن لهذه الأجزاء من الكتاب أهمية خاصة بالنسبة إلى أي قارئ راغب في سماع آراء غير الثناء على هذه الاتفاقات وعلى الذين تفاوضوا بشأنها، ذلك الثناء الذي بات قوت وسائل الإعلام، في الولايات المتحدة على الأقل.

إن آراء كآراء سعيد جديرة بالاستماع إليها. ثمة أزمة خطرة في الجسم السياسي الفلسطيني. فالقيادة الفلسطينية مصابة بالتصلب، وهي لم تأت بأفكار جديدة منذ أعوام، وهي ترفض بعناد مشورة الخبراء المستقلين وتتشبث بالسلطة مع ذلك. وقد أصيبت بيروقراطية م.ت.ف.بالهزال بعد أكثر من عقد من البطالة الإجبارية في تونس. والنظام السياسي عانى عقوداً من الإحباط، على يد كل من إسرائيل والدول العربية، لأية محاولة لممارسة أبسط صور الديمقراطية الفلسطينية. وعلى مدى الأعوام القليلة الماضية، كان إدوارد سعيد صوتاً من قلة من الأصوات الفلسطينية المستقلة في الغرب، بل في أي مكان، التي أشارت إلى هذه المشكلات الداخلية الملحة، وقدمت الاقتراحات لحلها. واللافت للنظر لا حدة انتقاداته ولا غلوّه في الإعراب عنها أحياناً، وإنما كونه الوحيد الذي يقول عن عرفات وزملائه في العلن ما لم يزل الفلسطينيون يقولونه عنه في السر خلال الأعوام القليلة الماضية: وهو أنه حان الوقت ليقبلوا عرفان شعبهم على الخدمات التي أدّوها لشعبهم في الماضي وليتركوا المسرح السياسي قبل أن يشوهوا سمعتهم تشويهاً دائماً بارتكاب مزيد من الأخطاء.

إن قيادةم.ت.ف.هذه هي التي تفاوضت سرّاً بشأن اتفاق أوسلو - وكما يبين سعيد، فقد تم ذلك بوساطة مفاوضين ليسوا على ذلك القدر من الإلمام باللغة الإنكليزية التي جرت المفاوضات بها ومن دون معونة مستشارين قانونيين. وفوق ذلك كله، كانوا يجهلون أهم الثمار التي أثمرها نحو عامين من عمل وفد فلسطيني عالي الكفاءة إجمالاً في كل من مدريد وواشنطن. ومن غير المستغرب أن يكون هذا الاتفاق والاتفاقات التي نجمت عن المفاوضات التي جرت خلال العام ونصف العام المنصرمين على توقيعه، قد أخفقت في أن تؤدي حتى إلى اتفاق انتقالي كامل وإلى إنهاء احتلال معظم الضفة الغربية وقطاع غزة، وهما الأمران اللذان كان يفترض في الاتفاقات أن تحققهما. وهذا بصرف النظر طبعاً عن حل المشكلات الأساسية - كاللاجئين والقدس والحدود والسيادة الفلسطينية وتقرير المصير - التي تبدو الآن بعيدة أعواماً في المستقبل، في أفضل الأحوال.

والواقع المقيت هو أن حال الفلسطينيين ليست أفضل، بعد مرور ثمانية عشر شهراً على أوسلو، بل ربما كانت أسوأ مما كانت من قبل، على المستوى الاقتصادي، على الأقل، نتيجة أشهر من عمليات "إغلاق" إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة. ونظراً إلى هذه الوقائع القاسية، لا يُستغرب أن يكون سعيد ناقداً أو أن يشاطره موقفه التشكيكي كثير من الفلسطينيين، لا بل أكثرهم. ومن هؤلاء كثيرون ممن يؤيِّدون اتفاقاً مع إسرائيل شريطة أن يكون اتفاقاً عادلاً ومنصفاً، لا كهذا الاتفاق المشوَّه والمرقع الذي انبثق من أوسلو والذي قد لا يكون قابلاً للحياة في المدى البعيد، وذلك بسبب عيوبه الذاتية نفسها. وربما بدا سعيد مفرطاً في القسوة في بعض انتقاداته، وربما بدا بعض الحلول التي يقترحها خلافياً. لكنه، في وضع الأزمة الوطنية الحادة التي يعانيها الشعب الفلسطيني، واحد من القليلين الذين ظلُّوا يتكلمون بصراحة عن المشكلات التي يعترف الجميع بوجودها ويحاولون تقديم الحلول لها. ثمة مواضع كثيرة مثيرة للإعجاب في هذا الكتاب، لكن القارئ سيعود مرة بعد مرة إلى هذا المجهود القوي لقول الحقيقة للفلسطينيين عن السلطة الفلسطينية أيّاً تكن.

الكتاب الثاني هو نص أحاديث سعيد الإذاعية الستة في الإذاعة البريطانية، وهو يساعدنا في أن نفهم أين يرى سعيد نفسه وكيف يرى دور المثقف في المجتمع الحديث. وهو يمكننا أيضاً من سماعه يتكلم بصوت آخر، صوت لا يقل اتقاداً عنه في الكتاب الأول، وإن كان أوزن وأبعد تأملاً. لأن ما يفعله سعيد في هذا الكتاب هو النظر في علاقة المثقف بالسلطة ومسؤوليته حيال المجتمع. هذا موضوع واسع يتلاءم تماماً مع سعة اطلاع سعيد وأسلوبه الحي. والكتاب، على امتلائه بالأفكار الأصيلة الأخاذة التي تستوقفك، سهل القراءة، لأن إدوارد سعيد يتحدث هنا عن قضايا تخامر فكر كل من يقرأ أو يكتب، ولا سيما من يكتب للنشر.

يذهب سعيد إلى أن المثقف "شخص مهمته أن يطرح علانية الأسئلة المحرجة، وأن يواجه العقائد المستقرة والتقاليد الفكرية (لا أن ينتهجها)، وأن يكون شخصاً لا يمكن انتقاؤه بيسر من قِبل الحكومات أو الشركات، وسبب وجوده هو تمثيل كل الناس والقضايا المنسية عادة أو المتغاضى عنها" (ص 11). وهو يقسو بشدة على الذين يصبحون خدماً للسلطة وعبيداً للسلطان يروِّجون للأفكار السائدة في زمنه. ويتابع سعيد محاجّته في شأن دور المثقف داخل المجتمع الوطني، فيقول إن المبدأ بالنسبة إلى المثقف يجب أن يكون دائماً "لا تضامن قبل النقد" (ص 32). ومثلما يلاحظ سعيد، فقد يعني هذا أن على المثقفين، حتى أولئك الذين يمثلون معاناة شعبهم، أن يبيِّنوا أن شعبهم ربما كان يسبب الأذى للآخرين.

ثمة قوت كثير للفكر في هذا الكتاب، ولا سيما بالنسبة إلى الذين يتساءلون لمَ يصبح بعض الشخصيات أيقونات لوسائل الإعلام - كالعربي الكاره لنفسه الذي يتشدَّق بانتقاد العرب، أو التائب الذي يسفَّه رفاقه القدماء - بينما تبقى الأصوات المخالفة الأُخرى قلَّما يسمع بها. ولمن يهتم بفهم تطور إدوارد سعيد الفكري، ثمة مادة غزيرة واسعة الدلالة في هذا الكتاب (أو على الأقل حتى ينشر سعيد سيرته الذاتية). فهو يتيح مثلاً أفضل جواب على ردَّة فعل بعض كبار الاختصاصيين بشؤون الشرق الأوسط على كلمات إدوارد سعيد القاسية عن ممارستهم لِـ "مهنتهم" في كتابه "الاستشراق" ("هو ليس اختصاصياً"، فيما ثرثروا، "فمن هو حتى يقول أي شيء عن حقلنا العلمي الخاص، عن نقابتنا"): على المثقف أن يكون هاوياً، فيما يرى إدوارد سعيد، وعليه مسؤولية الكلام على المسائل الكبرى، بدلاً من البقاء مدفوناً في اختصاص ضيق متحدثاً بلغة مقننة مع متخصصين آخرين.

لكن هذا الكتاب يفعل أكثر كثيراً من مجرد تقديم استبصارات في فكر واحد من أبرز مثقفينا؛ إنه تأمل في بعض من أهم المسائل التي ينبغي للمثقفين أن يعالجوها، ولا سيما علاقتهم بالسلطة، ومسؤوليتهم عن قول الحقيقة انطلاقاً من التزامهم قاعدة صلبة من القيم العالمية. وهو يتكلم على هذه المسائل بطريقة مرضية ومثيرة لشهية القارئ المستزيد؛ وتلك، يقيناً، علامة العمل المهم.

 

*    نقلاً عن: Journal of Palestine Studies, Vol. XXIV, No. 3 (Spring 1995), pp. 96-98.

Author biography: 

رشيد الخالدي: أستاذ مشارك في تاريخ الشرق الأوسط، ومدير مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة شيكاغو.