The Oslo Accords: An Interview With Nabil Shaath
Keywords: 
إعلان المبادىء بشأن ترتيبات الحكم الذاتي المؤقت 1993
اتفاق أوسلو 1993
عملية السلام الإسرائيلية – الفلسطينية
أهداف المفاوضات
اللاجئون الفلسطينيون
المستعمرات
مقابلات
Full text: 

س – كيف تختلف الاتفاقية عن النموذج الأميركي، كما عبّرت عنه مسودة إعلان المبادئ في نهاية حزيران/يونيو؟

ج – لو أننا بقينا مع "الشراكة الأميركية الكاملة" كما كانت تُسمى، لما تمكنا في الحقيقة من تحقيق أي شيء. فالنموذج الذي وضعه الفريق الأميركي هو في الأساس نموذج معهد واشنطن للسلام في الشرق الأدنى، في الورقة المنشورة بعنوان: "البناء من أجل السلام". وقد تطابق إلى حد كبير أيضاً مع نموذج روبنشتاين الداعي إلى إدارة عائمة أو إلى حكم ذاتي من دون أية قاعدة جغرافية إلا كشعار مرفوع بمعنى ما. وتبعاً لهذا النموذج، الذي كان ينبغي البحث في تفصيلاته مع فلسطينيين في مناطق لم يجر تحديدها قط، كان مقدار قليل جداً من السلطة سيُنقل إليهم. وكان النموذج مبنياً على التعاون مع الأردن واستثناء منظمة التحرير الفلسطينية: لم تكن هناك علاقة بالفلسطينيين في الخارج، أو بالقيادة الفلسطينية، وكان مفهوم الشعب الفلسطيني غائباً تماماً. طبعاً لم يكن هناك تكافؤ، كما لم يرد فيه أي ذكر على الإطلاق لإنهاء الحكم الإسرائيلي. وقد كان الجانب المتعلق بالصلاحيات المتعددة في النموذج مصمماً على نحو يتجنب أية قاعدة جغرافية حقيقية للسلطة الفلسطينية. وفي التحليل النهائي، فإن هذا النموذج لم يكن يختلف كثيراً عن تصور شمير في تجنب إعطاء قاعدة جغرافية، لكسب الوقت حتى يتسنى للإسرائيليين المحافظة على السيطرة الكاملة على الأرض. طبعاً، فإن هذا كان في الأساس السبب في أن إحدى النتائج الأولية لاتفاقية أوسلو كانت استقالة روبنشتاين. أنا مقتنع بأن استقالته تنطوي على أكثر من مجرد الاستياء الذي شعر كثيرون به نتيجة للالتفاف حولهم أو استثنائهم من مفاوضات أوسلو، إن السبب كان أيديولوجياً. لقد جرى كسر النموذج العقائدي لحزبه، الليكود.

لقد ركزنا تفكيرنا كله طوال الوقت، وحتى أوسلو، على الذهاب إلى الولايات المتحدة، التي كانت تمسك بـ "99% في المئة من الأوراق"، وكنا نأمل بأن الأميركيين سيحصلون على المطلوب من إسرائيل. لكن ذلك لم ينجح قط. في الواقع، حتى السادات انتهى باضطراره إلى الذهاب مباشرة إلى الاسرائيليين ليبدأ تشغيل القوة المحركة لعملية كامب ديفيد. وقد أصبح واضحاً في النهاية أنه ينبغي علينا، نحن الفلسطينيين والإسرائيليين، أن نخلق قوتنا المحركة الخاصة بنا. وهذا ما حدث فيما يتعلق بمفاوضات "الأقنية الخلفية" هذه: لقد بدأت، ثم توقفت، ثم عادت وتواصلت. وفي الواقع، لقد تم إنجاز معظم العمل في الشهر الأخير، ما بين 21 تموز/يوليو و 19 آب/أُغسطس.

وهكذا، لم يكن النموذج الأميركي، في الواقع، قابلاً للنجاح من عدة نواح. لقد دل على، ومثّل، إلى حد كبير، المأزق الكامل الذي كنا فيه. لقد نصبت قيود مدريد، في الواقع، جداراً يحول دون أي تقدم. أعتقد أن إحدى المشكلات هي أنه عندما انتهى الفريق الأميركي من وضع نموذجه، أُصيب بما يمكن تسميته "عقدة بيغماليون"، ولم يتمكن من التخلي عن معادلة مدريد الخاصة به. لقد أصبح النموذج بمثابة سترة ضيقة، والأميركيون ركزوا جهودهم كلها على ملاءمة كل شيء كي يصبح منسجماً مع نموذجهم الأثير لديهم، عوضاً من إعادة النظر فيه ومحاولة وضع نماذج جديدة للتعامل مع الحقائق الفعلية.

س – ما هو الجديد في اتفاقية أوسلو؟

ج – النموذج الموجود لدينا الآن يختلف من عدة أوجه. فهو يطرح نفسه على الفلسطينيين كشعب، وليس على سكان فلسطينيين في المناطق. وهو يسمي المناطق أنها الضفة الغربية وغزة. ويطرح مسألة قرار مجلس الأمن 242 بوضوح باعتباره الأساس للمفاوضات كلها، على أن يطبق في مرحلة المفاوضات بشأن الوضع النهائي، التي يوجد بصددها ربط واضح جداً. وقد تم حذف مسألة "عدم الإجحاف" (non-prejudice)، بالكامل. لقد كان الإسرائيليون يصرون على ضرورة ألا يغلق ما سيتم فعله في المرحلة الانتقالية المجال أمام أية خيارات في المستقبل، وقد حدد لي روبنشتاين دائماً أن هذا يتضمن خيار الضم الإسرائيلي.

إن النموذج يشتمل على انسحاب في فترة أسرع، وبهذا يكون له أساس جغرافي على الأرض؛ انسحاب سريع يترك قاعدة جغرافية للحكومة الفلسطينية وولاية جغرافية، مع استثناءات غير معرّفة بأنها سياسية أو إدارية، بل بأنها موقتة، أو لها علاقة بالتوقيت. بكلمات أُخرى، إذا لم تكن معالجة قضايا القدس والمستوطنات وعودة اللاجئين قد تمّت الآن، فذلك بسبب مقتضيات موقتة تقضي بالفصل بين المرحلتين الانتقالية والنهائية، وليس بسبب استثناءات جغرافية.

في الواقع، هذا ما جعل التقدم المفاجئ في أوسلو ممكناً، ألا وهو حقيقة أنه جرى فرز القضايا في سلّتين، واحدة لمعالجتها في الحال، والثانية لمعالجتها في المفاوضات بشأن الوضع الدائم. وهكذا تم وضعها في موضعها في مفاوضات المرحلة الدائمة وفي جدول أعمالها الواضح، وضمن الوقت المحدد لها كقضايا.

س – لكن ألم يكن الجانب الفلسطيني حراً دائماً في طرح أية قضية يريدها؟ ما الفارق هنا؟ 

ج – الأمر مختلف تماماً. هنا، هذه القضايا، القدس والمستوطنات واللاجئون، مذكورة بالتحديد بصفتها قضايا مدرجة في جدول أعمال مفاوضات الوضع الدائم. قد يبدو ذلك أمراً لا أهمية له، إلا إنه في غاية الأهمية، لأن الإسرائيليين لم يوافقوا قط قبل عقد هذه الاتفاقية على أن تكون القدس في جدول أعمال مفاوضات الوضع الدائم. وفي أحسن الأحوال كانوا مستعدين للموافقة على حقيقة أنها مسألة يمكن طرحها، لا قضية ستجري تسويتها في المفاوضات. وبمعنى ما، فإن ذلك يرفع علامة استفهام حول شرعية ضم القدس ومدى اعتبار ذلك نهائياً. إنهم يعترفون بأن ضمهم لها ليس نهائياً، وبأن الضم ما زال في حاجة إلى التفاوض.

هناك جانب آخر مهم جداً لاتفاقية أوسلو، وهو قضية التكافؤ. إن هذه الاتفاقية برمتها تعلن التكافؤ من أولها إلى آخرها؛ ففي فقرة المقدمة، على سبيل المثال، هناك تكافؤ واضح بين الطرفين في الطريقة التي يتم التعريف بهما، والإصرار على حقوقهما المتبادلة واعترافهما المتبادل. كما أن قضايا الأمن والسلطة جرى صوغها بمصطلحات تنم عن المساواة. وفيما بتعلق بمسألة حل الخلافات، بمعنى أنه إذا نشأت خلافات في تفسير الاتفاقية، فقد تم التعامل معها تقريباً على نحو أشبه بالتعامل بين دولتين متساويتين منه وضعية طرف محتل وآخر واقع تحت الاحتلال: في البداية تتفاوض، ثم تتجه إلى التوفيق، وفي النهاية تتجه إلى التحكيم. إن هناك لجنة التنسيق وحل الخلافات، مؤلفة من الفريقين، لكن هناك أيضاً لجنة توفيق تشارك فيها أطراف دولية، وهناك أيضا إمكان اللجوء إلى لجنة تحكيم بمشاركة طرف دولي آخر. وهناك مجال آخر يظهر فيه التكافؤ بوضوح، وهو "اللجنة الدائمة" لتنسيق العلاقات مع مصر والأردن، ولتطبيق عودة النازحين الفلسطينيين سنة 1967. وفي الحقيقة، لقد صدم هذا الجزء من الاتفاقية إحساس بعض العرب لأنه يتحدث عن الإسرائيليين والفلسطينيين في جانب، وعن المصريين والأردنيين في جانب آخر. وفي الواقع إن الجانبين هنا لا علاقة لهما بتحالف أو بتزاوج سياسي، بل تم تحديدهما بفعل المسألة الجغرافية.

س – هل تستطيع تقديم مزيد من الشرح بشأن مسألة عدم الإجحاف (non-prejudice) التي أشرتَ إليها سابقا؟

ج – هذه نقطة مهمة جداً. في كل اتفاقية ذات طبيعة انتقالية، يرغب الطرفان في تضمين نص، إما في الاتفاقية نفسها وإما في ملحق لها وإما من خلال تبادل للرسائل مواز، من شأنه أن يوفر لهما الحماية ضد الإجحاف بحقوقهما التي لم تتم معالجتها في هذه الاتفاقية، بل تم تأجيلها إلى مفاوضات الوضع الدائم. وفي هذه الحالة، تتمثل هذه القضايا في القدس والمستوطنات واللاجئين وما شابه ذلك. وفي الواقع، إن واحداً من أسوأ الأمور في ورقة إعلان المبادىء الأميركية الموضوعة في نهاية حزيران/يونيو كان متمثلاً في محاولتها معالجة مسألة عدم الإجحاف. لقد كان النص الأميركي المتعلق بمسألة عدم الإجحاف نصاً شاملاً، يحدد أن لا شيء يجري في الفترة الموقتة من شأنه أن يجحف بحق أي من الطرفين في المطالبة بالسيادة النهائية في الأراضي المحتلة في الوضع النهائي ].....[. لقد كان ذلك النص مرفوضاً حقاً، لأنه يكرس تحويل "الأراضي المحتلة" إلى مجرد "أراض متنازع عليها"، وهو مصطلح صار يُستخدم أكثر فأكثر. أم في اتفاقية أوسلو، فإن عدم الإجحاف القديم مذكور فقط في معرض الإشارة إلى النازحين الفلسطينيين سنة 1967، بما مفاده أنه إذا لم تسنح الفرصة لهؤلاء النازحين بالتصويت في الانتخابات، فإن ذلك لن يجحف بحقهم في العودة. وقد تم إدراج جميع مجالات الإجحاف الأخرى المحتملة في جدول أعمال مفاوضات الوضع الدائم، وهذه أفضل وسيلة لعدم الإجحاف، لأن ذلك يشير إلى أن الطرفين متفقان على أنه لا شيء يجري الآن سيجحف بحق الفلسطينيين فيما يتعلق بهذه الأمور، وأن الطرفين متفقان على التفاوض وحل هذه القضايا.

وبهذا تكون قد توفرت لديك نظرة سريعة للمقارنة بين النموذج الأميركي والاتفاقية الحالية.

س- مع هذه الاختلافات كلها بين النموذج الذي تجسده الاتفاقية ونموذج واشنطن، هل ساعدتْ مفاوضات واشنطن على الإطلاق؟ هل كانت مجرد واجهة، أم أنها قدمت مساهمة ما؟

ج- لقد كانت الشهور الاثنان والعشرون من مفاوضات هنا تاريخية بلا شك، لأن هذه كانت أول مرة منذ سنة 1948 يشارك فيها الفلسطينيون مباشرة في مفاوضات بشأن أمور تتعلق بأرضهم ومستقبلهم ومصيرهم. وكانت هذه أكبر تجربة تثقيفية مهمة أمكننا الحصول عليها. فللمرة الأولى نضع مجموعة من الوثائق، والمذاهب، والمبادئ، والاستراتيجيات، والتكتيك مع كل الفوارق الدقيقة والمصطلحات القانونية المطلوبة، للحصول على حقوقنا ولم تكن كتلة المعرفة هذه موجودة من قبل.

س – إنك تتحدث عنها كما لو أنها كانت تمريناً، تقريباً.

ج – إن عنصر التدريب الأساسي هذا مهم جداً. لو كنا أمضينا مئة عام ونحن نعد لمثل هذا، لما كنا أنتجنا ما يشبه ما تم إنجازه من خلال تقدم المفاوضات، ومن خلال اتصالنا اليومي أو الشهري بالخصم حول مائدة المفاوضات وبالعالم في حد ذاته.

س – لكن، هل تم فعلاً استخدام هذه الاستعدادات، هل استخدم أي من هذا الجهد في اتفاقية أوسلو؟

ج – بالتأكيد. لقد كان كل ما يُعد في الاثنين وعشرين شهراً ما بين مدريد وأوسلو مفيداً جداً: لقد اعتمدت أوسلو كلياً على الوثائق التي أعدت، ومحاضر الجلسات والاستراتيجيات، والصيغ التي وضعها الفريق الفلسطيني هنا في واشنطن.

س – كيف تم ضمان الربط بين ما كان يحدث هنا وبين مفاوضات الأقنية الخلفية؟

ج – لقد كان الأشخاص المفاوضون في النرويج أعضاء في لجنة متابعة المفاوضات في تونس. حسن عصفور، الذي كان حاضراً في اجتماعات النرويج كلها، والذي كتب كثيراً من تفصيلات الاتفاقية، كان أمين سر لجنة متابعة المفاوضات في وشنطن، وطبعاً استخدم وثائق واشنطن كلها. كما أن المسؤول الأول عن مفاوضات أوسلو كان أبو مازن، الذي كان هو أيضاً المسؤول الأول عن مفاوضات واشنطن.

س – هل تستطيع أن تعطي أمثلة محددة لكيفية توظيف فريق عمل واشنطن بنجاح في الاتفاقية النهائية؟

ج – الاتفاقية كلها، إذا تفصحتها فقرة فقرة، فإنك سترى أننا في كل فقرة أقرب إلى النموذج الفلسطيني منا إلى النموذج الإسرائيلي، مع بعض الإضافات، من دون شك، لم يكن مشروع غزة – أريحا من إنتاج فريق واشنطن. لقد جرى العمل عليه في واشنطن، إلا إنه لم يكن وارداً في أوراقنا، ولذلك هو بالتأكيد جديد. لقد تم أخذ بعض الصياغات عن حقوق الشعب الفسطيني من وثيقة سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية الموقتة المقدمة في نيسان/ابريل. والتكامل الجغرافي؛ إن الأمر كله تم تطويره هنا.

لقد كانت المشكلة في قبول هذه الأمور. إن الفارق بين أوسلو وواشنطن ليس النص، بل الإرادة السياسية من جانب الطرفين لعقد صفقة يمكن أن نوافق كلانا عليها. العناصر كلها كانت موجودة في واشنطن، إلا إن الأميركيين والإسرائيليين لم يوافقوا عليها. وبصراحة شديدة، لا نحن كنا مستعدين للقبول بالضيغ الإسرائيلية، ولا هم كانوا مستعدين للقبول بصيغنا، ولهذا لم نتمكن من عقد صفقة. والأميركيون لم يكونوا عاملاً مساعداً، بل في الواقع عرقلوا الأمور بطريقة ما، على الرغم من أنهم أقدموا طبعاً على التزام مهم جداً عندما بدأوا عملية السلام هذه. ومن الصحيح أيضاً أنه ما كان لمؤتمر مدرير أن يعقد لولا الدور الأميركي، وما كان لكل هذه العملية برمتها أن تتحقق. ربما كان ذلك تطلّب وقتاً أطول.

لذلك، لقد كانت الإرادة السياسة المستعدة للانتقال من نصين منفصلين إلى نص مشترك هي ما نتج من أوسلو. وقد حدث ذلك فقط عندما قرر الإسرائيليون التفاوض مباشرة مع منظمة التحرير الفلسطينية.

س – هل تستطيع أن تقدم مزيداً من الشرح بشأن أهمية التعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية؟

ج – إن التوصل إلى اتفاقية مع منظمة التحرير الفلسطينية يوجه، في الحقيقة، ضربة للأيديولوجية الصهيونية: المصالحة تمت مع الممثل الرسمي للشعب الفلسطيني، مع منظمة قامت لتحارب دولة اسرائيل، ولتقاوم احتلالها وهيمنتها. وهكذا، فإن الصفقة عُقدت مع منظمة نضالية، مع حركة التحرير التي حاربت الإسرائيليين، لا مع "عناصر فلسطينية تعيش في الأراضي المحتلة." وفي السابق حاولت اسرائيل طوال الوقت الالتفاف حول منظمة التحرير الفلسطينية عن طريق وجهاء الضفة الغربية، وأعضاء روابط القرى، ورؤساء البلديات، وكل من أبدى استعداداً للتجاوب معها. ولم يُجْدها ذلك نفعاً.

إن وزن فلسطينيي الشتات في منظمة التحرير لفلسطينية أيضاً مهم جداً. طبعاً، إن منظمة التحرير الفلسطينية تمثل الشعب الفلسطيني كله بجناحيه، الداخل والخارج، لكن من الواضح أن تمثيلها في الخارج أكبر منه في الداخل. فمجالسها التمثيلية كافة، اللجنة التنفيذية، والمجلس الوطني الفلسطيني، مشكّلة من فلسطينيي الشتات. وقادتها كلهم من فلسطينيين الشتات، ومعظمهم من فلسطينيي 1948. وبالتأكيد هناك نتائج ضمنية ينطوي عليها التعامل مع منظمة تعترف بها 124 دولة على أنها الدولة الفلسطينية. وأعتقد أن هذا، على أكثر من صعيد، نقطة تحول تاريخية هائلة.

س – ما هي التنازلات التي أقدم الفلسطينيون عليها في أوسلو، ولم يكونوا على استعداد لتقديمها هنا؟

ج – يمكنني القول إن المسألة في الواقع ليست مسألة تنازلات بل مسألة عامل متعلق بالزمن. لقد كان استعداد إسرائيل للقبول بالولاية الجغرافية، مع بعض الاستثناءات الموقتة، هو ما كسر الجمود في الأساس. فيما يتعلق بنا، فمجرد أن أصبحت الاستثناءات مقترنة بفترة زمنية، أصبحنا على استعداد للقبول بأن تكون قضايا المستوطنات والقدس مندرجة ضمن هذه الفئة من الاستثناءات. لقد شكّلت موافقتنا على إحالة هذه القضايا موقتاً إلى التسوية الدائمة عملية اختراق مهمة جداً من وجهة النظر الاستثنائية. وما جعل موافقتنا ممكنة هو، أولاً، حقيقة أن هذه القضايا يمكن إثارتها فحسب، وثانياً، إن محادثات الوضع الدائم وضِعت في إطار زمني محدد، كي يُبحث فيها إما في أقرب وقت أو بعد عامين على الأكثر. وفي حالة القدس، فإن حقيقة أن المقدسيين سيتمكنون من التصويت والترشيح في الانتخابات سهلت قبولنا، بالإضافة إلى أن المؤسسات الفلسطينية في القدس الشرقية ستدار من قِبل السلطة الفلسطينية. طبعاً، لا يأخذ هذا في الاعتبار عامل الانسحاب، وعامل التكافؤ، وعامل منظمة التحرير الفلسطينية، بين أمور أُخرى حصلنا عليها.

س – إذاً، ما هي المشكلات الرئيسية التي سيواجهها الفلسطينيون في هذه الاتفاقية؟

ج – المشكلة الأساسية هي مشكلة المستوطنات. من الواضح أن الإسرائيليين كانوا حريصين جداً على عدم إثارة هذه القضية في الفترة الموقتة، لأنهم شعروا بأنها ستثير لديهم صعوبات رئيسية مع ناخبيهم. لقد أكدوا لنا أنهم ينفذون التزاماتهم للأميركيين وللشعب الإسرائيلي فيما يتعلق بالحد من أي نمو في المستوطنات، إلا إن هذا ليس التزاماً حديدياً. ما زلنا نود أن نرى التزاماً محدداً وأكثر صرامة بتجميد المستوطنات في الضفة الغربية والقدس.

س - هل كان هناك أي استعداد للبحث في قضية المستوطنات في القدس الشرقية؟

ج-  لا شيء خطياً. لم يكونوا على استعداد لأن يلزموا أنفسهم خطياً بأية قضية محددة تتعلق بالمستوطنات في الفترة الموقتة، وتبقى هذه مشكلة رئيسية.  في غزة مثلاً، لا أستطيع أن أتصور كيف يمكن حتى أن تستمر المستوطنات. يمكن لمستوطنات الضفة الغربية أن تبقى حتى التسوية الدائمة، إلا إن مستوطنات غزة يجب أن تصفّى الآن حتى يكون الانسحاب الكامل ذا معنى. لا يوجد ذكر بالتحديد لمستوطنات غزة في الاتفاقية، أو كيف يمكن التوفيق بين الانسحاب الكامل وبين بقاء المستوطنات هناك. وآمل بأن تقود الاتفاقية عملياً إلى انسحاب المستوطنين على مراحل، وهذا ينسجم منطقياً، في رأيي، مع معنى الانسحاب الكامل، إلا إن ذلك لم يُنص عليه.

س – وماذا بشأن الأراضي المصادَرة، هل هناك أية معالجة لها في الاتفاقية؟

ج – بحسب فهمنا للموضوع – وقد راجعنا ذلك مع الإسرائيليين – فإن التصريح العام المتعلق بالولاية الجغرافية يشتمل على أراضي الدولة الواقعة ضمن صلاحية الحكومة الفلسطينية. وهذا يعني أنه لن يعود هناك ما يسمى أراضي الدولة التي يمكن للإسرائيليين أن يصادروها، أو يستملكوها أو يضعوا أيديهم عليها، أو يبنوا عليها، أو يحولوها إلى مستوطنات، وأن ما يسمى 40٪ من أراضي الضفة الغربية التي كانت لفترة طويلة عماد النموذج المتعدد الصلاحيات أصبح الآن ضمن الولاية الجغرافية الفلسطينية بالكامل.

س – هل دوّن هذا خطياً بوضوح أم أنه مجرد تفاهم شفوي؟

ج – أعتقد أنه مدون خطياً بوضوح، لأن الأراضي المستثناة من الولاية الجغرافية الفلسطينية موضحة بالتحديد بأنها القدس والمستوطنات، ولا يوجد استثناء لأراضي الدولة. لقد راجعت ذلك مع كل من يوسي ساريد عندما حضر إلى القاهرة، ومع مبعوث رفيع المستوى لرابين قبل إعلان الاتفاقية بيوم واحد، وأكد كلاهما أن مسألة أراضي الدولة منتهية، بحسب فهمهما، وأنه ليس هناك مطالب أُخرى تتعلق بأراضي الدولة.

س – ما وجه المقارنة بين هذه الاتفاقية وتلك التي كانت معروضة في اتفاقية كامب ديفيد؟

ج – في الواقع، لقد استخدمنا بعض أفضل أجزاء اتفاقية كامب ديفيد، مثل انسحاب الحكم العسكري، وحل الإدارة المدنية، وإعادة انتشار الجيش في مواقع أمنية محددة. لقد تم استخدام مكونات كثيرة منها.

لقد حصلنا على أفضل ما عُرض علينا في اتفاقية كامب ديفيد، وزيادة. إن اتفاقية كامب ديفيد وضعت الفلسطينيين تحت غطاء المنطقة الأُردنية، وتم إنهاء ذلك الوضع بوضوح. بالتأكيد لم يكن في كامب ديفيد حديث عن سلطة تمثيلية فلسطينية مثل منظمة التحرير الفلسطينية تبني سلطتها على الأرض ثم تتحرك لإجراء انتخابات: بدلاً من ذلك، كان هناك فلسطينيون "آخرون" يمكن اشتمالهم في الوضع الدائم. وبينما كانت الفكرة في كامب ديفيد أن القوات التي ستُشكل الشرطة منها هي في الأساس وحدات أردنية، فإننا نتحدث هنا عن قوات فلسطينية مسلحة ستدخل المناطق. لا يوجد الآن ذكر لفلسطينيين يحملون جوازات سفر مصرية أو أردنية، وهناك وضوح فيما يتعلق بعودة النازحين. ولا بد طبعاً من بحث جميع أشكال عودتهم. وهناك وضوح فيما يختص بجدول أعمال ترتيبات الوضع الدائم، والولاية الجغرافية، وهناك الانسحاب الكامل من أريحا وغزة، الذي لم يكن موجوداً في اتفاقية كامب ديفيد إطلاقاً. وأخيراً، هناك التكافؤ في تقنيات حل الخلافات، التي أشرتُ إليها. أمور كثيرة كثيرة. أعتقد أننا تعدينا كامب ديفيد بمسافة طويلة.

س – هل يوجد في هذه الاتفاقية ما يتضمن معالجة نهائية للاجئي 1948؟

ج – هناك فئتان من اللاجئين. الأولى، التي تطلق على أفرادها تسمية النازحين الفلسطينيين، أي لاجئي 1967، والذين سيتم العمل على وضع نماذج لأشكال عودتهم الآن، خلال الفترة الموقتة، من قبل "لجنة المتابعة". وقد يصل عدد أفرادها إلى 600,000 – 700,000.

ثم هناك اللاجئون الآخرون، لاجئو  1948، الذين سيتم التفاوض بشأن وضعهم في محادثات الوضع الدائم. طبعاً، أصبح من الواضح أن كثيرين من لاجئي 1948 سيُسمح لهم بالعودة إلى الضفة الغربية وغزة. إنهم سيكونون جزءاً من وحدات القيادة، ومن قوة الشرطة، وسيكونون بين المستثمرين، بالإضافة إلى أصحاب الإمكانات الاقتصادية الأخرى، كل هؤلاء قد يكونون من لاجئي 1948، لكنهم سيأتون إلى الضفة الغربية وغزة. وقد كان عقد الاتفاقية مع منظمة التحرير الفلسطينية بالذات مهم جداً، كون المنظمة مثلت دائماً بلا منازع لاجئي 1948، كما مثلت الشعب في الداخل.

س – هل تستطيع أن تحدثنا قليلاً عن تصورك لآليات هذه الاتفاقية بأكملها في التطبيق؟

ج – هذا هو الاختبار الآن. إن الاختبار بالنسبة إلى هذه الاتفاقية بمجملها هو في كيف سنتمكن من تطبيقها على الأرض، وفي هذا الاختبار نحن نواجه ما واجهه كل شعب ناضل ضد الاحتلال عندما تحولت حركته التحريرية إلى دولة. كل شيء الآن يصبح من مسؤوليتنا: تلبية حاجات الجمهور، وتوفير الحكم، وضمان الوحدة الوطنية، وتوفير الفرص الاقاتصادية والعدالة الاجتماعية. وإذا انزلقنا إلى حرب أهلية، أو إلى نظام حكم بال لا يتمتع بالكفاءة، بدلاً من بناء الدولة، فسنقع في مشكلة. سيعطي العنف الدموي إسرائيليين كثيرين الفرصة للقول إننا لا نستطيع المضي إلى المرحلة التالية، لأن من الواضح منذ الآن أننا لن ننجح (على الرغم من أن الانسحاب الإسرائيلي، في الحقيقة، ليس مرتبطاً بأية عوامل أُخرى في الاتفاقية، أو بملحقها الاقتصادي، أو بملاحقها الأخرى، وبالتالي لا يستطيع الإسرائيليون أن يرفضوا الانسحاب على أساس سوء الإدارة أو أي أمر آخر). كما أنه سيعطي كثيراً من الفلسطينيين الفرصة للقول إن العنف كان متوقعاً لأنه لم تنشأ عن الاتفاقية دولة فلسطينية على الفور، أو لأننا كنا دائماً في حالة من التقلب، وهو ما عزلنا عن شعبنا وعن الأمة العربية، وما إلى ذلك.

في المقابل، إذا تحركت القوى المحركة في اتجاه إيجابي، فالسماء هي الحد الأعلى، لأننا فعلاً نملك الآن، ولأول مرة، فرصة تحقيق الحلم الفلسطيني على الأرض. وتوجد هنا قوة كبيرة كافية يمكن تسخيرها لتحويل هذا الحلم إلى حقيقة. لقد تكون النموذج الإسرائيلي برمته من الحصول على قطع من الأراضي، وخلق حقائق عليها، ثم الانتقال إلى قطع أُخرى، وهكذا دواليك. إن الحقائق اقتصادية وديموغرافية، إلا إنها سرعان ما تكتسي بثوب سياسي وأمني وعسكري. وإننا، بخلقنا حقائقنا الخاصة بنا على الأرض الآن، سنتمكن من عكس عملية خلق الحقائق التي مارسها الإسرائيليون فترة طويلة. وللمرة الأولى تسنح لنا الآن الفرصة للتحرك نحو دولة فلسطينية مستقلة بدلاً من الحلم بها.

س – هذه ليست مهمة سهلة. هل الفلسطينيون مستعدون لمواجهة هذا التحدي؟

ج- لا يمكن أن تعرف ما هو ملائم أو غير ملائم إلا من خلال البناء الفعلي فقط. على سبيل المثال، لقد شكلت منظمة التحرير الفلسطينية فريقاً من الخبراء بعد قرار المجلس الوطني الفلسطيني سنة 1988 مباشرة، توقعاً منها أن إسرائيل ستتجاوب مع مبادرتنا للسلام. وقد وضعت هذه اللجنة خطة عمل، ووفرت أساساً معلوماتياً ووثائقياً، استعداداً لما بدا وقتها مفاوضات مرتقبة. لكن عندما بدأت المفاوضات فعلاً بعد مدريد، أدركنا أنه عندما يكون المرء داخلاً مفاوضات فعلية، فإن المسائل تبدو مختلفة تماماً عما تبدو عليه في التفكير المجرد، واتضح أن معظم ما تم إعداده خلال أعوام أربعة، بين المجلس الوطني الفلسطيني سنة 1988 ومدريد، كان عديم الجدوى عندما بدأنا المفاوضات الفعلية. يمكن أن نمضي 200 عام ونحن نحلم بدولة فلسطينية، من دون أن نحرز أي تقدم، لكننا في تسعة أشهر من عمل فعلي نستطيع أن نحرز تقدماً كبيراً في بناء ذلك النموذج، ونستطيع أن نحققه.

س – ما هي الخطوة التالية؟

ج –هذا هو الوقت الملائم لتجميع فلسطينيي الشتات في أرضهم، فعلياً. لدينا ما يقارب 700,000 شخص للعمل على تجميعهم. حتى لو عاد ما يقارب 200,000، ستكون هذه أول مرة يعود فيها فلسطينيون إلى أرضهم بأعداد كبيرة. هناك فرصة الآن لتحفيز أناس لم نشاهد مثلهم من قبل، لأن الفلسطينيين، بعد أربعين عاماً من النضال، أصيبوا بإحساس عميق من اليأس؛ إذ لم تجدِ تضحيات آلاف من الشهداء، ولم يجد الكفاح المسلح، ولم تجد الانتفاضة، ولم يجد العمل البدلوماسي، ولا يستطيع العرب المساعدة، وفشل السوفيات، والأميركيون منحازون كلياً. وساد شعور بأنه لم يعد هناك ما يعمل، وليس هناك شيء محبط مثل هذا الشعور.

لقد تحقق شيء الآن. هناك بدل الآن، ومع أنه ليس حراً تماماً بعد، فهو حر نسبياً؛ حيث يستطيع الفلسطينيون أن يستثمروا ويبتكروا ويبنوا شيئاً في بلدهم الخاص بهم، من دون أن يتخلوا بالضرورة فوراً عن ارتباطاتهم أو علاقاتهم أو استثماراتهم خارج فلسطين. يجب أن نوجه إلى الفلسطينيين النداء: تعالوا الآن وساعدوا في بناء فلسطين الجديدة، حولوا بعض أعمالكم التجارية إلى هنا، وظفوا علاقاتكم هنا، استثمروا براعتكم هنا، ودعونا نسخّر كل قدراتنا لنُنجح هذا المشروع، ولننجز ما نفتخر به.

أعتقد أن ثقتنا بأنه يمكننا أن ننجز شيئاً، ونهاية الإحساس بالعجز، هي أهم عنصر في القوى المحركة لتحويل هذا الشيء إلى ما هو أفضل منه.

Author biography: 

نبيل شعث: مستشار مقرب من رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ورئيس اللجنة التنسيقية للوفد الفلسطيني في محادثات السلام في واشنطن، ورئيس الوفد الفلسطيني في مفاوضات طابا.