One Year After the Cairo Agreement: Palestinian Impasses and Future Challenges
Keywords: 
إسرائيل
اتفاق أوسلو 1994
المشاركة السياسية
الشتات
إقامة الدولة الفلسطينية
الضفة الغربية
السلطة الوطنية الفلسطينية
فلسطينيو الشتات
Full text: 

بعد مرور قرابة عام على اتفاق القاهرة، ثمة استياء واسع من وتيرة ومدى تطبيق اتفاق أوسلو، وذلك ليس في صفوف الشعب الفلسطيني عامة فحسب، بل أيضاً داخل السلطة الوطنية الفلسطينية وقيادتها. فالفلسطينيون في غزة وفي الضفة الغربية لم يتلمسوا بعد من نتائج أوسلو، سواء فيما يختص بمستوى معيشتهم أو بسلوك إسرائيل، ذلك النوع من التغيرات المادية التي من شأنها أن تقدم دليلاً وافياً على أن عملية السلام تقوم فعلاً إلى "التحرير" وإلى مستقبل أفضل. بل إن عملية ما بعد أوسلو خلًفت، أحياناً، أثراً سلبياً: في استمرار أنشطة الاستيطان الإسرائيلي من دون أن يعوقها عائق من الرأي العام العالمي والضغوط الدولية، وفي تزايد وطأة الإغلاقات الاقتصادية لقطاع غزة والضفة الغربية، وفي تصعيد الضغوط على أهالي القدس العرب... إلخ. وفي الجانب الآخر الإسرائيلي تزايد عدد الإصابات الإسرائيلية، بينما باتت النظرة الرسمية الإسرائيلية إلى أداء السلطة الوطنية الفلسطينية تتصف بالحذر والتريث إن لم تصل إلى حد الاسترابة والعداء.

ومع ذلك، فمن الصعب أن يرى المرء كيف كان يمكن للأمور أن تكون على غير هذه الحال. فمن مشكلات أوسلو أن الابتهاج العام الذي صاحب "المصافحة الشهيرة" في واشنطن لم يكن يمت بأية صلة إلى الوقائع الكالحة التي خلفتها مئة عام من الصراع في فلسطين، ولا إلى الوضع الشديد التعقيد القائم على الأرض والمترتب على ذلك الصراع. لذلك، كانت التوقعات مضخمة جداً وغير منسجمة مع ما كان قابلاً للتحقيق في الواقع، في ضوء تاريخ الصراع وجذوره وعدم تكافؤ موازين القوى بين الجانبين. ومن وجهة النظر الموضوعية البحت، بيدو تلاشي تلك التوقعات لاحقاً، وتنامي الاقتناع لدى الجميع بأن تلبية التطلعات لا يمكن أن تحدث فوراً، وكأنهما أمران مرغوب فيهما لتصحيح الآمال المبالغ فيها التي نشأت أول الأمر، وخطوتان لا بد منهما في أي تقويم موثوق به لما تم تحقيقه حتى الآن.

من المهم المحافظة على شيء من التوازن هنا: أولاً، ثمة ميل طبيعي إلى خلط عملية أوسلو ككل (الاتفاق، "السلام"، "الاختراق" ... إلخ.) بما انجرً عنها من خطوات ومكونات مفردة، كل منها حيوية في حد ذاتها لكنها ليست بالضرورة مترابطة (مشكلات الانسحاب وإعادة الانتشار الإسرائيليين، أداء السلطة الوطنية الفلسطينية، مسألة الانتخابات... إلخ.)، حيث أنه مع تحقق العملية في سياق الواقع، يمكن لأي من مكوناتها أن بيدو في أية لحظة من الزمن متأخراً أو معطلاً أو مربكاً. ويمكن لهذه الظاهرة أن تتكرر على مدى المراحل المقبلة. ومن المهم عند الحكم على نجاح تلك المراحل أو فشلها السؤال عما إذا كان الحكم الذي نقضي به يتعلق بالعملية بشموليتها أم بأجزائها المكونة لها. ثانياً، لا بد من رؤية الأمور من خلال المنظور الصحيح. فالحكم النهائي على الرئيس عرفات والسلطة الوطنية الفلسطينية بعد مرور أقل من عام من وجودها إنما هو حكم متسرع ومفتقر إلى البينات. ومن الأرجح أن يواجه الفلسطينيون في المستقبل أوضاعاً أفضل وأوضاعاً أسوأ مما شهدوا منذ إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية. فلا شيء يخرج إلى النور كاملاً بين ليلة وضحاها، والأرجح أن أي تقدم سيحدث على دفعات صغيرة متراكمة المفعول. السؤال الحقيقي هو هل سيكون لدى الجانبين العزم نفسه والقدرة نفسها على الاستمرار في مواجهة صعوبات السلام، كما كان لديهما في مواجهة الحرب.

إن معظم الاستياء الحالي من أوسلو يخطئ الغرض. فأهمية أوسلو من الوجهة التاريخية، لا تكمن في تفصيلات الاتفاق ووتيرة تنفيذه بقد ما تكمن في كونه قد حدث أصلاً. ذلك بأن كل ما جرى منذ أوسلو إنما يترتب على التالي: أن إسرائيل وم.ت.ف. التقتا، واعترفت كل واحدة منهما بالأخرى رسمياً ونهائياً – بقدر ما يمكن لأي شيء في السياسة أن يكون نهائياً – والتزمتا مشروعاً متوافقاً عليه بينهما من أجل السلام. إن مزية أوسلو (ولعلها مزيتها الحقيقية الوحيدة) هي أنها حررت الفريقين من النفاق والتستر اللذين وسما تعاملهما في السابق.بيد أن هذا لم يعد شيئاً عظيم الشأن في نظر كثير ممن خابت آمالهم من مجرى الحوادث بعد أوسلو. فصورة عرفات ورابين معاً في حديقة البيت الأبيض غدت الآن كأنها مبتذلة، وفقدت قدرتها على المفاجأة. لكن يمكن النظر، من الوجهة التاريخية، إلى هذه اللقاءات بأنها تكرس الواقع الجديد في العلاقات الفلسطينية – الإسرائيلية بعد  أعوام طويلة من الصراع الدموي المستميت.

والأثر الكبير الآخر الذي خلفته أوسلو هو تأثيرها في الوضع على الأرض وإذا وضعت جميع مسائل الديمقراطية والفعالية والصدقية جانباً لبرهة من الزمن، فإن ما هو موجود اليوم، مهما يكن ناقصاً ومحدوداً وفوضوياً، إنما هو أول كيان فلسطيني على التراب الفلسطيني بإدارة الفلسطينيين أنفسهم. لذلك، ليست المسألة الآن مسألة وجودية بشأن مبدأ قيام كيان فلسطيني، بل مسألة تتعلق بماهية الكيان الفلسطيني الذي سيتطور من غزة/أريحا، أي حدوده الإقليمية، وأعرافه السياسية، وطريقة حكمه. والمطلوب اليوم، بالنسبة إلى الذين يعدًون الدولة الفلسطينية غاية مرغوب فيها، إنما هو جهد منظم لتحديد الموقف من هذه المسائل، والتأكد قدر المستطاع  من أنها ستعالج في نهاية المطاف. وجملة القول، إن الكيان الفلسطيني لم يعد مجرد إمكاناً نظرياً، بل كائناً عضوياً قائماً على الأرض. والسؤال الموجًه إلى الذين يسعون لإجهاض نمو هذا الكائن هو: ما هو الحد الأقصى الذي يستطيعون بلوغه ضمن الإطار الزمني للسياسة الفعلية والتوقعات البشرية بما يتجاوز ما يوجد حالياً، وبأي ثمن؟

غير أن ليس ثمة إجماع داخل الجسم الفلسطيني على هذه الأمور حتى الآن. بل إن الجانب الفلسطيني لا يزال مأخوذاً بشخصية رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية ياسر عرفات وبأسلوبه في إدارة هذه السلطة، وبآفاق الصراعات الداخلية ضمن السلطة الوطنية الفلسطينية والبنى السياسية الفلسطينية عامة. والحق أن الدهشة في شأن عرفات لا مسوّغ لها أصلاً؛ فهو ليس بالمبتدئ في الساحة الفلسطينية، نظراً إلى دوره الحيوي فيها منذ أوائل السبعينات . كما أن نمط عمله لم يتغير تغيراً يذكر منذ ذلك الزمن، بل ازداد تفاقماً من جراء فقدانه المتوالي للقواعد والبنى التحتية ولكبار معاونيه بسبب هجمات إسرائيل وسواها من الأطراف العربية. وإذا ما أخذنا وقائع السياسة الفلسطينية، وطبيعة النضال المستمر ضد إسرائيل، فمن المستبعد أن تتوصل جهود الفلسطينيين المتضافرة، أو جهود عرفات الشخصية، إلى إنتاج نموذج في الحكم قادر على منافسة نظام السويد أو نظام سويسرا في المستقبل المنظور على الأقل. ولذلك فإن توقع أن يكون أداء الفلسطينيين أفضل من أداء سواهم من المنطقة على هذا الصعيد إنما هو من باب السذاجة والغفلة عن الوقائع في أحسن الأحوال. 

تحديات المستقبل

يمكن تحديد ثلاثة تحديات كبرى تواجه الفلسطينيين في المرحلة المقبلة:

  • مشكلة الاستقرار الداخلي والمشاركة السياسية داخل الكيان الفلطسيني الناشئ نفسه. وكي بيدأ الكيان الفلسطيني بالنجاح، فإنه بحاجة إلى التأييد والدعم من الشعب الفلسطيني نفسه. وفي هذا السياق لا بد من معالجة التوتر والمنافسة الحالية بين السلطة الوطنية الفلسطينية والمعارضة، كـ"حماس"، بقدر وسواها من الأحزاب المعارضة، فمن العبث أن ينكر المرء صفتها التمثيلية أو التجارب الذي تثيره داخل الجسم السياسي الفلسطيني. والحق أنه من السهل أن ننسى أن "فتح" نفسها، بما هي تجسيد للوطنية الفلسطينية "العلمانية"، إنما تضرب جذورها عميقاً في التربة الإسلامية: فجميع مؤسسي "فتح" تقريباً (وفي جملتهم ياسر عرفات نفسه) قد استلهموا الإسلام أو تأثروا به، وذلك بصرف النظر عن خطابهم الوطني. والواقع هو أن للحركة الإسلامية تاريخاً وشرعية يصعب تجاهلهما. ويمكن اعتبار الانتخابات مخرجاً جوهرياً من هذا المأزق المربك، كما أن من شأنها أن تخدم أكثر من غرض. إن للعملية الديمقراطية قيمة في ذاتها، لكنها ستؤدي، بوصفها أداة لتوسيع قاعدة المشاركة، وظيفة إضافية هي العمل على إشاعة الاستقرار في الساحة الفلسطينية. والمهمة الآن هي إيجاد الطرق التي يمكن معها ضم "حماس" والقوى المعارضة الأخرى إلى العملية السياسية، لا استبعادها واستعداءها أو محاولةتصفيتها. وتفادياً للكارثة، لا بد للفلسطينيين من أن يحققوا بأنفسهم انفراجاً داخلياً على النحو الذي يعرفونه خير معرفة، بعيداً عن المحاولات الإسرائيلية للتدخل والتلاعب بمصائرهم.

إن تغيير القواعد الحالية للسياسة الفلسطينية، وبناء المؤسسات، والحد من صلاحيات السلطة التنفيذية، وتفادي المركزية المفرطة والتفرد في صنع القرارات، وتصحيح الفوضى الإدارية، وضخ معايير عليا للمسؤولية العامة، كل ذلك أهداف قيمة ومرغوب فيها، لكن ليس من مصلحة الفلسطينيين أن يقتصروا على مجرد التشكّي، كما هو دارج حالياً في مختلف التجمعات الفلسطينية داخل غزة والضفة الغربية وخارجهما. وينبغي للفلسطينيين أنفسهم أن يجدوا الوسائل الفعالة لتحقيق هذه الأهداف، وللبناء والتنظيم بما يتلاءم معها. وغالباً ما تكون الانتقادات الموجهة إلى أنماط سلوك القيادة الحالية، وإلى عرفات نفسه، مشفوعة بالاستكانة والاستسلام للقدر من جهة، أو بالاستعداد للمسارعة إلى مهادنة القيادة ومساومتها على الانضمام إليها من جهة أخرى.

إن الحقيقة غير المستساغة – عند البعض على الأقل – هي أنه لا وجود لأي بديل من هذه القيادة مقبول وذي صدقية، لا من داخل الحركة الإسلامية، ولا من صفوف الأحزاب الدنيوية النزعة الفاقدة الصدقية (وهي ليست نبراس الممارسة الديمقراطية في أية حال)، ولا من بين المستقلين والمثقفين الساخطين الذين يشعرون بالتهميش وخيبة الآمال من العملية كلها.

لا أحد يستطيع أن ينكر أن السلطة الوطنية الفلسطينية اليوم دون المرتجى. وإن التذرع بالآثار المدمرة التي خلفها الاحتلال والأعباء المتراكمة المنجزة عن الحرب والتدمير، والخراب الاجتماعي والاقتصادي والجسدي الذي مني الفلسطينيون به في الأراضي المحتلة والشتات على مدى عقود متطاولة من الزمن، فيه من التبرير بقدر ما فيه من التفسير. لكن توقع وجود جسم سياسي فلسطين سليم في هذه الأوضاع هو من قبيل الإيمان بالمعجزات والخوارق. إن ما هو قائم اليوم ليس ثابتاً، بل إنه مما يمكن، ويجب، تغييره نحو الأفضل بالعزم والإخلاص. غير أن الفلسطينيين لن يستطيعوا أن يعوضوا في أشهر مما فقد على مدى عقود من الزمن. وربما تكون الفرصة الآن متاحة لهم إذا ما استجمعوا الهمم ووطدوا العزم.

  • يتمثل التحدي الثاني في العلاقة بين الكيان الناشئ والشتات الفلسطيني، سواء في العالم العربي أو فيما يتعداه. فمع زحف السلطة الوطنية الفلسطينية إلى التراب الفلسطيني، تبدو م.ت.ف.، ممثلة الفلسطينيين كافة داخل فلسطين وخارجها، كنبتة في طريقها إلى الذبول. فمكاتب م.ت.ف.، التي كانت قناة اتصال حيوية بتجمعات الشتات في الخارج ورموزاً طال النضال من أجل اعتراف العالم بها كـ "فلسطين"، باتت اليوم تعاني مصاعب سياسية وعسراً مالياً شديداً. وقد أهمل العاملون في م.ت.ف.، كما أهملت بناها المؤسساتية مع ظهور السلطة الوطنية الفلسطينية، وأخضعت لمزيد من التقليص بسبب الخلافات الداخلية والتفسخ التنظيمي. مع ذلك، فمن الضروري التذكير بأنه من مجموع ما يقرب الستة ملايين فلسطيني، يعيش في غزة والضفة الغربية اليوم 2,2 مليون فقط (ويعيش 800,000 آخرون في إسرائيل). وهكذا فإن الشتات الفلسطيني الذي انبثقت م.ت.ف. عنه، والذي نهض بأعباء نضالها في الستينات والسبعينات و الثمانينات، يضم ثلثي الشعب الفلسطيني ككل.

في الوقت الحاضر، ليس لدى مشروع غزة/أريحا والمرحلة الانتقالية شيء يذكر يمكن تقديمه لشعب الشتات. وانتقال م.ت.ف. الجماعي إلى غزة أمعن في تقليص التواصل والتفاعل، المحدودين أصلاً، مع تجمعات الشتات الكبرى في لبنان وسوريا. وهذا يثير عدة قضايا: أولها، دور الشتات في عملية السلام فمن الضرورة الحيوية ألاّ يستبعد من العملية أولئك الفلسطينيون الذين فجعوا بفقدان ميراثهم وبحرمانهم منه. وفي الوقت الذي يجري بناء الكيان الفلسطيني، ينبغي ألاّ تهمل حاجات هؤلاء وتطلعاتهم، ولا بد من قيام عملية موازية لتلبية حاجاتهم ومراعاة مشاعرهم. ولئن كانت م.ف.ت.، كما هي اليوم، عاجزة أو غير راغبة في القيام بمهمة كهذه، فعلى الفلسطينيين مرة أخرى أن يجدوا الحلول لمعالجة ذلك عن طريق العمل الأهلي، والمبادرات الخاصة، وجميع الوسائل الأخرى المتاحة. وفي نهاية المطاف، لا بد لمفاوضات الوضع النهائي من أن تعالج مسألة اللاجئين وحقهم في العودة أو التعويض. لكن أياً تكن نتيجة هذه المفاوضات، فإن أقل ما يمكن أن يقال عن إمكانات الاتفاق على عودة مليونين أو ثلاثة ملايين لاجئ إلى منازلهم في فلسطين ما قبل سنة 1948 هو أنها إمكانات بعيدة المنال. ومع ذلك، فإن حق هؤلاء في الاختيار، وحقهم في النظر إلى مطالبهم بعين الإنصاف، لا يمكن إنكارهما، كما أنه ليس من الحكمة، سياسياً، تجاهلهما.

المسألة الأخرى تتعلق بالمحافظة على هوية فلسطينية سياسية وثقافية جامعة خارج حدود  السلطة الوطنية نفسها. فعلى الرغم من الأواصر الوثيقة المنبثقة عن الإيمان بقضية مشتركة، فإن الشعور الوطني الفلسطيني قد حجب التباينات الواسعة في الأوضاع والتجارب الحياتية. فمن ذلك أن تجربةالعيش في مخيمات بيروت بعيدة عن تجربة الطبقات الوسطى في رام الله كبعد تجربة المناضل في غزة عن تجربة المثقف في نيويورك. وهذه ليست مجرد تباينات عادية بين مستويات اجتماعية واقتصادية مختلفة، بل هي تواريخ متباعدة زادتها تفاقماً صعوبات التفاعل والتواصل التي فرضها الاحتلال والعقبات المنصوبة في وجه الحريات الأساسية في طول الشرق الأوسط وعرضه (كحرية التعبير أو الحركة أو حتى مجرد العيش بسلام).

لا تزال السلطة الوطنية الفلسطينية خاضعة رسمياً وتقنياً للجنة التنفيذية في م.ت.ف. ثم إن أية صفقة تتعلق بوضع غزة والضفة الغربية إنما تتعلق، أصلاً، بوجه واحد من وجوه المشكلة الفلسطينية بمجملها. والسلطة الوطنية الفلسطينية (أو المجلس الانتقالي المتوقع انتخابه) لا تستطيع أن تتكلم بصدقية نيابةً عن الشعب الفلسطيني بكامله. ولا يمكن التوصل إلى أي حل لقضايا الوضع النهائي، مثل قضية اللاجئين والدولة الفلسطينية المأمولة، من دون موافقة م.ت.ف. "الخارجية"، هذا إذا كان يراد للحل النهائي أن يكون نهائياً وشاملاً حقاً. وعلى الرغم من التوتر بين السلطة الوطنية الفلسطينية وم.ت.ف.، فإن الرئيس عرفات والسلطة الوطنية الفلسطينية يدركان تماماً دور "الخارج" وأهميته. ولذلك، فالأرجح أنهما سيسعيان، مدة الفترة الانتقالية على الأقل لاستبقاء م.ت.ف. لا كمظلة وطنية عليا فحسب، بل أيضاً كأداة للضغط على إسرائيل وسواها من الأطراف العربية والدولية الأخرى. غير أن من الطبيعي، مع نمو الكيان الفلسطيني وتوطيد أركانه في المدى البعيد، أن تنتقل المؤسسات السياسية الفلسطينية إلى داخل هذا الكيان، وألاّ تظل خارجه. (وإن إسرائيل نفسها لتقدم للناظر مثالاً لكيف أن "الداخل" سيحل حتماً محل "الخارج" في كونه مركز الثقل والجاذبية السياسيين في نهاية المطاف). لكن ذلك لا يمكن أن يكون متسرعاً، ولا كيفما كان. إذ لا يجوز تجاهل معاناة الفلسطينيين في لبنان، ثم التظاهر بالمفاجأة حيال ما قد يسفر عن هذه المعاناة في المستقبل. وبالمثل، فمن غير الجائز الافتراض بخفة أن الآخرين، كالأردن، مستعدون لأن يكونوا مستودعاً لكل أولئك الفلسطينيين الذين لن يستطيعوا العودة إلى وطنهم، وذلك تحت قناع الكونفدرالية المشكوك في قيامها. ولا بد عند محاولة حل هذه القضايا من الالتفات إلى تجمعات الشتات التي تعدّ اليوم من مصادر السخط وعدم الاستقرار المحتملة والتي يمكن أن تحوّل إلى مصادر قوة ودعم للكيان الناشئ، مثلما عملت الجوالي اليهودية في الشتات على مساعدة إسرائيل وتأييدها بالدعم. والمهم الآن هو الاعتراف بهذه المشكلات وبالحلول الممكنة لها في هذا الشأن.

وفي المدى القريب تتعلق أشد التحديات الخارجية (أي تلك المرتبطة بإسرائيل) إلحاحاً بضرورة بسط السلطة الفلسطينية على باقي الضفة الغربية.ولذلك، لا بد من التوصل إلى اتفاق ما على إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي التي طال تأجيلها، وعلى إجراء انتخابات للمجلس الانتقالي. فالانتخابات أداة حيوية في مواجهة الاحتلال وتبيين عدم شرعيته، فضلاً عن دورها في تثبيت الاستقرار في الساحة الفلسطينية. وفي جميع الأحوال، سيكون من الأصعب على إسرائيل أن ترفض أو أن تتجاهل التطلعات السياسية لهئية تمثيلية فلسطينية ذات شرعية محلية ودولية.

لكن ثمة في وقت لاحق المهمة الأصعب، وهي مهمة التفاوض بشأن اتفاق الوضع النهائي مع إسرائيل. ومن المتوقع لهذه المفاوضات أن تبدأ في أيار/مايو 1996، على أن يتم التوصل إلى الاتفاق التام على الوضع النهائي قبل نهاية أيار/مايو 1999 وفقاً لوثيقة "إعلان المبادئ". ولا بد لما يشبه النجاح في هذه المفاوضات من افتراض "الأحسن"، أي أن تظل حزب العمل الإسرائيلي في السلطة حتى سنة 1996 وما بعدها (وألاّ تؤدي الانتخابات الإسرائيلية المقبلة إلى حكم الليكود أو إلى حكم منقسم، حيث حزب يرئس الحكومة وحزب يسيطر على الكنيست)، وأن تحافظ السلطة الوطنية الفلسطينية على ما يشبه الاستقرار والتوازن الداخلي، وألاّ  تتدخل أية أفعال إلهية كبرى لتقويض العملية من أساسها. لكن حتى مع افتراض هذا كله، تظل المهمة شاقة وعسيرة؛ إذ من شأن أية سلطة وطنية فلسطينية، حتى ولو كانت ناجحة ومتفانية في أدائها، أن تصطدم بوقائع تفاوت موازين القوى، وبتصورات سياسية – أيديولوجية راسخة في عقل الجانب الإسرائيلي.

وعلى افتراض أن كل شيء سيكون على ما يرام، وأن حزب العمل الإسرائيلي راغب ومستعد وقادر على متابعة مفاوضات الوضع النهائي بقوة ونية حسنة، فإن أي حل نهائي مع الفلسطينيين يستند، في نظر حزب العمل ومعظم أحزاب الوسط الإسرائيلي، إلى الضم الجزئي، أي أنه سيشتمل على انسحاب جزئي فحسب من الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية. فموقف حزب العمل الثابت والمعبـّر عنه بأشكال متنوعة منذ سنة 1967 هو أن لا عودة إلى حدود 135,000 مستوطن الذين يعيشون الآن في الضفة الغربية (وأقل عدد ممكن من الفلسطينيين)، وذلك ببساطة بتوسيع "الخط الأخضر" القديم القائم حتى سنة 1967 باتجاه الشرق، وهو ما سيؤدي إلى ضم مساحة تتراوح بين 20% و 40% من الأراضي الفلسطينية إلى إسرائيل. والمناطق المخصصة للضم تشتمل على العمق الفلسطيني الحيوي في منطقة "القدس الكبرى" يتم العمل على تثبيتها بالاستيطان المستمر، والتي يقيم فيها 70% من مجموع المستوطنين، بما في ذلك نحو 160,000 مستوطن يستمر تكديسهم في "الضواحي" اليهودية الجديدة المتاخمة للشطر الشرقي من المدينة، في أوسع حملة استيطان عرفت منذ سنة 1967.

إن نظرة حزب العمل الحالية إلى "التسوية" تنذر بنسف قدرة أي كيان فلسطيني مستقبلي على الحياة: إن "كياناً" أو "دولة" فلسطينية مقطوعة الصلة عن قبلها حول القدس، ومقلـّصة كلياً بسبب "التعديلات الإقليمية" على طول "الخط الأخضر"، ومقيّدة بجيوب من الوجود العسكري الإسرائيلي الطويل الأمد، ومحرومة من وسائل الدفاع عن النفس، ومحشورة بين جارتين تفوقاتها قوة، إن "دولة" فلسطينية كهذه لن تمثل مطمعاً يستهوي الفلسطينيين.

ربما كانت أوسلو ووثيقة "إعلان المبادئ" علامة على نهاية عصر الخسائر الفلسطينية المتراكمة والهزائم، لكن المطامح الفلسطينية كانت قد تقلّصت وتلاشت طوال العقود الماضية من جراء عدد التكافؤ في موازين القوى ومن جراء المآسي المتعاقبة في حقبة ما بعد سنة 1948. وفي النهاية، لا شيء يمكن أن يعوّض من تلك الخسارة، لكن ليس هنالك من مكسب حقيقي في السعي وراء الماضي بلاطائل أيضاً. ومع أنه من السهل أن يتشاءم المرء حيال آفاق أي حل نهائي منصف حقاً، بالنظر إلى الوقائع القائمة على الأرض وإلى تفاوت القوى بين الجانبين، فإنه يبقى السؤال عما إذا كانت إسرائيل مستعدة أو قادرة على النظر إلى ما وراء مكاسبها الحالية عندما تسعى لرسم الخريطة السياسية النهائية، وذلك لأن البديل من ذلك قد يكون حلاً سياسياً غير قابل للتطبيق على الإطلاق.