Israel's Security after the Gulf War Experience
Keywords: 
أمن إسرائيل
حرب الخليج العربي 1991
الردع
الصواريخ
Full text: 

 كانت حرب الخليج، مثل كل الحروب التي كانت إسرائيل طرفاً فيها، حرباً مختلفة عن سابقاتها. ولا يعود ذلك إلى أن الجيش الإسرائيلي لم يُكلف خوض القتال ضد العراق فحسب، وإنما يعود أيضاً إلى كون هذه الحرب انطوت على أهداف استراتيجية إسرائيلية، كان يجب أن تحاول إسرائيل تحقيقها بقوتها الذاتية؛ بعملية عسكرية ما ضد العراق كقوة عسكرية عربية كبرى، وما كان يمكن لها التكهن لا بالثمن ولا بما ستنتهي إليه؛ كما يعود إلى أن الجبهة الداخلية الإسرائيلية كانت هدفاً لقصف عربي (عراقي في هذه الحالة) وذلك لأول مرة منذ حرب 1948؛ ويعود أيضاً إلى أن نمط الحياة العادية لأغلبية الإسرائيليين قد أُربك إلى حد الشلل في بعض نواحيها فاق ما تطلبه، في حينه، الوضع الموضوعي للحرب الدولية ضد العراق. وهذا الإرباك الذي أدى إلى انقطاع اجتماعي وتربوي واقتصادي، لم يكن ناتجاً من تعبئة عامة وتحويل منشآت وخدمات عامة إلى المجهود الحربي - كما كان مألوفاً في حروب إسرائيل السابقة - بل من سيطرة الذعر على المستويين الفردي والعائلي إزاء الإحساس بالانكشاف للخطر، وعدم اليقين الرسمي بشأن حقيقة التقدم التقني العراقي في مجال الصواريخ أرض - أرض بعيدة المدى وامتلاك العراق الأسلحة الكيماوية والجرثومية، وانعدام القدرة الحقيقية على تقويم قدرة الردع الإسرائيلية ضد صواريخ حاملة رؤوساً كيماوية، وسلوك المسؤولين على أساس توقع الأسوأ، والامتناع من الرد بالمثل على القصف العراقي، كما ألف الإسرائيليون من حكوماتهم في الماضي.(1) 

ومثل كل حروب إسرائيل، فإن حرب الخليج التي لا يختلف الإسرائيليون في كونها أعطت إسرائيل مهلة زمنية مهمة ومفيدة على صعيد نزاعها مع العرب، قد أثارت جدلاً مألوفاً واسعاً، عسكرياً وسياسياً، وخصوصاً في ضوء المنحى غير المتوقع الذي أخذته الأزمة منذ بدايتها حتى ذروتها الحربية. فعلى الرغم من أن إسرائيل حققت منها مكسباً استراتيجياً في تدمير قدرات العراق العسكرية، وفي إبعاد خطر تشكل تحالف حربي عربي لعدة أعوام، بثمن بخس ما كانت لتتصور يوماً أنه ممكن؛ على الرغم من ذلك، فإن هذه الحرب قد أثارت ردة فعل جزعة وسط الإسرائيليين، إلى حد نشوء ظاهرة الهروب الجماعي من تهديد الصواريخ العراقية، من وسط البلد إلى جنوبه وشرقه، ثم التحول إلى شماله في قوافل مذعورة كانت تضم مئات الآلاف من الإسرائيليين،(2)  وانعكست في قراءات سوداوية للمستقبل وإلى حد صوغ مرثاة مسبقة ليهود إسرائيل هذه المرة:

فجأة فقدنا المناعة. لم يعد لدينا مناعة إزاء الشرق الأوسط المخيف هذا... وصواريخ صدام حسين التي أُضعفت وحُطّمت ليست الوحيدة في المنطقة... كذلك، فإن الأجواء التي كانت لنا لم تعد لنا أبداً. لقد فقدنا الاحتكار: إذ لم نعد اليوم نحن وحدنا من يستطيع أن يضرب في الشرق الأوسط، فقد أصبح في إمكان الشرق الأوسط أن يضربنا أيضاً... إن الضربتين الأولى والثانية قوبلتا بقلق عميق، كما لو أن أحداً قد انتهك قانوناً من قوانين الطبيعة، كما لو أن مدينة في أوروبا الغربية قد تعرضت فجأة لهجوم... لكن الاعتداءين العاشر والثاني عشر قوبلا... كما لو كان الأمر عرضياً، كما لو كان الأمر مفهوماً في حد ذاته. لقد اعتاد الغرب بسرعة: أصبح ثمن حياتنا بخساً يتلاءم مع مفاهيم بازار القتل حولنا. وخلال أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، تحولت تل أبيب من جماعة تنتمي بصلة القربى إلى فرانكفورت وروما ومدريد، إلى جماعة تنتمي بصلة قربى إلى بغداد وبيروت والرياض. فقد نجح صدام حسين، ببضعة عشر صاروخاً، في أن يثبت للغرب وللشرق ولإسرائيل نفسها، أن مكاننا الحقيقي ليس "الهُنالك" الذي نحنّ إليه في الطرف النهائي للغرب، وإنما "الهُنا" هذا المخيف في مستنقع الشرق. وفجأة، نحن في قلب عصر الإبادة الجماعية. وصدام هو العلامة الأولى: الصورة المسبقة. ولقد اتضحت ثلاث حقائق: إسرائيل أصيبت؛ المؤخرة الإسرائيلية غير منيعة؛ اسم اللعبة الإبادة الجماعية. وهكذا، فإننا جميعاً من الآن فصاعداً أبناء ديمونا* ، وحتى لو انتهى كل شيء بسلام، وحتى لو عمّ السلام.من الآن فصاعداً، ستعتمد قدرتنا على العيش هنا، وعلى المحافظة على نمط حياتنا، وإلى حد بعيد، على رحمة ديمونا الكارثية.(3)

طبعاً، هناك كثيرون من الإسرائيليين، سياسيين وعسكريين وخبراء معنيين، يختلفون مع فحوى هذه الصورة لكن كثيرين أيضاً لا يرونها أقل حلكة فيما لو انتهجت حكومة إسرائيل الأكثر يمينية وتعصباً من سابقاتها جميعاً، ما يؤدي إلى إفشال مسار سياسي يتوخى تسويات سلمية تحول دون نشوب حرب تحالف عربي ضد إسرائيل في المستقبل، "تستطيع إسرائيل أن تقاومها وأن تهزم فيها أيضاً"(4)   ففي البدء نعى كثيرون مفاهيم وفرضيات في الفكر الأمني الإسرائيلي، وتصدى لها كثيرون أيضاً بتعليلات مخالفة، ولم يتجاوز الإجماع حقيقتين: أهمية تصفية القدرات العسكرية العراقية، وبالتالي إبعاد خطر تشكل جبهة عربية شرقية، يشكل العراق دائماً احتياطها الأساسي لفترة زمنية إسرائيل بأمس الحاجة إليها؛ والتقصير الاستخباراتي في هذا الحد أو ذاك، الذي عطل الإنذار المسبق بخطر تعرض إسرائيل للقصف. وفيما عدا ذلك، فقد تكشّف الجدل الذي بدأ حتى قبل انتهاء الحرب، عن توجهات مختلفة في أوساط النخبة المعنية وإلى حد التصادم، وعن آراء مختلفة تلاقى بعضها في نقطة ما ليتباعد من ثم وإلى حد التناقض.

لكن، كمثل كل الحروب أيضاً، أبرزت هذه الحرب صدوعاً وثغرات في مفاهيم وفرضيات راسخة في المفهوم الأمني الإسرائيلي. وعلى الرغم من أن إسرائيل لم تكن عشية هذه الحرب ولا خلالها، في حالة خطر وجودي، فإن الجدل الإسرائيلي في شأن ما أثارته من مسائل أساسية بالنسبة إلى أمنها، يدور بنفسٍ يطبعه هاجس مصيري. والتركيز في هذا الجدل يبدو مشدوداً حتى الآن إلى مسألتين أساسيتين: أهمية الأراضي العربية المحتلة منذ سنة 1967 وما إذا كانت حرب الخليج الثانية قد أثبتت أم دحضت ما تدعيه لها إسرائيل من قيمة أمنية كعمق استراتيجي إزاء طوق عربي معاد، وما إذا كانت هذه الأهمية تستحق ثمن أن تعيش إسرائيل على حرابها لأجيال أخرى؛ ومفهوم الأمن القومي الإسرائيلي وما إذا كان يجب تحديثه في ضوء تجربة هذه الحرب استعداداً للحرب المستقبلية مع العرب، مع كل ما يتصل بذلك من مسائل، بدءاً بفعالية قوة الردع وقدرة الرد، مروراً بتعريف ماهية الخطر المصيري على إسرائيل، وانتهاء ببنية الجيش وحاجات تسلحه في عصر دخول صواريخ أرض ـ أرض بعيدة المدى الشرق الأوسط، وامتلاك جيوش عربية أيضاً للسلاح التقليدي، على خلفية استمرار حالة الحرب بين العرب وإسرائيل.

مصير قوة الردع

لقد كان طبيعياً أن يجد الإسرائيليون صعوبة كبيرة في التكيف إزاء وضع كانوا مكشوفين فيه للخطر، وأن يجدوا صعوبة أكبر في استيعاب المسببات وقد نظموا حياتهم في معظمهم حول الأمن وطمأنينة التفوق الحاسم على العدو. فالتزام حكومة إسرائيل ضبط النفس إزاء العراق، خلال الحرب، استجابة للتعليمات الأميركية التي نبعت من حرص الولايات المتحدة، مخططة هذه الحرب، على تماسك التحالف العسكري الغربي - العربي ضد العراق، وعلى إحباط محاولاته لتحويل المسار إلى حرب عربية - إسرائيلية؛ إن التزام حكومة إسرائيل هذا قد بدا تعطيلاً لقوة الردع الإسرائيلية. كما أن الامتناع من الرد على القصد الصاروخي العراقي لأهداف في الجبهة الداخلية، قد بدا تعطيلاً لقدرة الرد الانتقامي الحاسم التي يستند المفهوم الأمني الإسرائيلي إليها ويستمد مفهوم الردع منها دعماً إضافياً. وقد كان السؤال الإسرائيلي غداة اندلاع الحرب، هو ما إذا كان يجب التزام ضبط النفس وترك الآخرين يحققون الأهداف التي تصب في مصلحة إسرائيل مباشرة؛ ثم ما لبث السؤال أن أصبح ما إذا كان على إسرائيل أن تتدخل بنفسها في عملية خاطفة لتدمير مرابض الصواريخ في غرب العراق. فقد كان ثمة جهات تضغط في اتجاه ضرورة الاشتراك في الحرب، بحجة أن عدم الرد على القصف العراقي للمؤخرة الإسرائيلية يؤذي مفهوم الردع وقدرة الرد الإسرائيليين (وأيضاً لأن اشتراك إسرائيل يضمن لها حصة في المغانم التي ستوزع على المشتركين بعد انتهاء الحرب). وثمة جهات أخرى تضغط في اتجاه معاكس، بحجة أن تفعيل الخيار العسكري الإسرائيلي ضد العراق، ربما أدى بالضبط إلى تصفية قوة الردع الإسرائيلية، لأن العراق سيرد أيضاً بالقصف الصاروخي، وأيضاً بحجة أن لمفهوم الردع مغزاه قبل اندلاع الحرب لا بعد اندلاعها، حين تصبح نتائجها العامل المقرر للأمور؛ فصدام حسين مهزوم من وجهة النظر هذه، سيعني المحافظة على سلامة مفهوم قوة الردع الإسرائيلية وقدرة الرد، سواء اشتركت إسرائيل أو لم تشترك في الحرب وتركت الآخرين يقومون بالمهمة عوضاً منها، وسيعني أن قوة الردع التي تأذت في هذه الحرب هي قوة ردع العراق، "لأن المحافظة على قوة الردع تكون أحياناً في عدم استخدامها."(5)

أضف إلى ذلك، أن ثمة تحليلات سياسية ذهبت في تفسيرها واقعة استنجاد إسرائيل بقوى خارجية واستقدام بطاريات صواريخ باتريوت مع طواقمها الأميركية على جناح السرعة، للدفاع عن الأراضي الإسرائيلية ضد صواريخ سكود العراقية، إلى حد اعتبارها دليلاً على انعدام قدرة إسرائيل على الدفاع عن نفسها بنفسها من دون الاعتماد المباشر على قوة عظمى لأنه لم يكن عندها رد، ولم يكن ممكناً أن يكون عندها رد على هجمات مثل هذه الصواريخ، ودليلاً أيضاً على انعدام قدرة إسرائيل بالتالي على الرد وحدها "على كل الأخطار في المستقبل."

إن ربط إسرائيل قدرة ردها المستقل على هجوم معاد باعتبارات سياسية عالمية، وفي عصر المفاوضات الموعود لحل كل النزاعات الإقليمية بالوسائل السياسية، هو جديد ما كان يمكن للإسرائيليين المرور به مروراً عابراً. فقوة الردع الإسرائيلية التي تشكل قدرة الرد الدعم الأساسي لها، هي عنصر من العناصر الأساسية التي يتركب مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي منها.(6)  وقد تمزقت هذه القوة، في رأي بعض المحللين السياسيين، في اللحظة التي أصدر الرئيس العراقي صدام حسين أوامره بقصف مدينتي تل أبيب وحيفا، في اليوم الثاني على نشوب الحرب، باعتبار أن إسرائيل التي دأبت على تهديد العراق طوال فترة الأزمة، بانتقام مضاعف، فيما إذا قام بأي عمل حربي ضدها، امتنعت من تنفيذ تهديدها فضربت بذلك مصداقية قوة ردعها، واستنجدت بالخارج فضربت مصداقية قدرة ردها. لكن هذا الأمر، في رأي محللين آخرين، لم يكن شذوذاً إسرائيلياً نادراً عن القاعدة، ولم يكن تعطيل قوة الردع الإسرائيلية ذلك الحدث الفريد في نوعه.(7)  فقد سبق أن أقدم رئيس حكومة إسرائيل، دافيد بن - غوريون، على طلب مظلة جوية من الفرنسيين لحماية إسرائيل خلال العدوان الثلاثي سنة 1956؛ وفي سنة 1967، فشلت تهديدات وزير الدفاع الإسرائيلي في حينه، يتسحاق رابين، في ردع الرئيس عبد الناصر عن اتخاذ تلك القرارات التي اعتبرتها إسرائيل آنذاك سبباً لشن حرب حزيران/يونيو 1967؛ كما تعطلت قوة الردع الإسرائيلية أيضاً، عندما بادر الطرف العربي إلى شن حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973،(8)  قبل أن يعطلها صدام حسين أخيراً عندما اتخذ قراره بقصف إسرائيل بالصواريخ لاعتبارات سياسية، من دون اعتبار لقوة ردعها وقدرتها على الرد الانتقامي.

ومع ذلك فإن أحد الأسئلة الأساسية التي تُناقش في إسرائيل اليوم هو السؤال ما إذا كانت قوة الردع التي تعطلت إزاء العراق قد تآكلت أيضاً إزاء أطراف أخرى في العالم العربي. وقد انقسمت الآراء في هذا الشأن في أوساط الخبراء، من مسؤولين وأكاديميين مختصين، بين من عزا هذا التعطيل إلى أوضاع سياسية، وبين معارض للتبريرات السياسية. وكان ثمة مداخلات تتوخى الحكم في الأمر من خلال تعريف لماهية الردع. فمن جهة، اعتُبرت قوة الردع الإسرائيلية واحداً من المفاهيم الأمنية الإسرائيلية التي نسفتها حرب الخليج، لأن من الخطأ تعريف الدفاع الأفضل بأنه "الردع القائم على قدرة القيام بهجوم جوي" الذي صاغته، تحديداً، جهات في سلاح الجو الإسرائيلي، عارضت استثمار مبالغ كبيرة في وسائل البحث والتطوير والتسلح في مجال الدفاع النشيط (مشروع صاروخ حيتس)، وحتى في مجال الدفاع السلبي (الملاجىء)، مفضلة استثمار هذه الوسائل في التسلح بمزيد من الطائرات الهجومية، ليتضح اليوم أن هذه الجهات لم تأخذ في حسابها وضعاً مثل الوضع الذي وجدت إسرائيل نفسها فيه خلال حرب الخليج، "حيث نشأت ضرورة سياسية للتحصن وراء المتاريس."(9)   كما أن حيازة دول عربية (وباكستان أيضاً) أسلحة كيماوية وجرثومية، ووجود خطط عند بعضها لامتلاك أسلحة نووية ـ بإنتاجها أو شرائها ـ يعنيان أن إسرائيل لن تستطيع أن تضمن لنفسها قوة ردع بواسطة تفوقها التقني، في السلاح وفي القوة البشرية، الذي على أساسه يقوم مفهومها الأمني حتى اليوم.(10)

ومن جهة أخرى، كان هناك مزاعم رسمية على أرفع المستويات تقول إن الجيش الإسرائيلي كان مستعداً لكل الاحتمالات تخطيطاً وإعداداً، "وكان يمتلك ردوداً جيدة على تهديد الصواريخ العراقية"، لكنه التزم سياسة التحصن وراء المتاريس والامتناع من الرد لاعتبارات تتعلق "بأمن إسرائيل في المدى الطويل"، وبناء على تقدير للأوضاع التي كانت سائدة وللأضرار التي منيت إسرائيل بها، والذي أظهر صوابية القرار "بأن نتيح للتحالف سحق الجيش العراقي من دون أن نخلق ضغوطات ونستدرج العراق نحو إسرائيل."(11)

وقد كان لهذا النوع من التبريرات الرسمية أصداؤه في وجهات نظر خبراء آخرين: أن كل الدول العربية تعرف قوة إسرائيل في السلاح التقليدي وغير التقليدي، وتعرف كلها لماذا امتنعت إسرائيل من الرد على العراق، إذ لماذا تتدخل إسرائيل عندما يستخدم التحالف العسكري الدولي قوة 2000 طائرة، تفوق عددياً أضعاف قوة إسرائيل الجوية، وذات تكنولوجيا متقدمة أضعافاً مضاعفة، ولماذا تدفع إسرائيل ثمن خسارة طيارين وأفراد من وحدات أخرى في عملية ضد العراق تثير احتمال تورط الأردن في الحرب، واحتمالات سلبية أخرى بينما آخرون يقومون بالمهمة المفيدة لها؟(12)  وأن إسرائيل لم تفقد قوة ردعها، فالكل يعرف أن الولايات المتحدة هي التي منعت إسرائيل من التدخل في الحرب، "وهذا يعني أن للولايات المتحدة قوة ردع تجاه إسرائيل لا أن إسرائيل فقدت قوة ردعها تجاه العرب"؛ ففي الماضي، لم تستهدف المؤخرة الإسرائيلية بقصف عربي بسبب قدرة إسرائيل على الرد بأضعاف مضاعفة بواسطة أسلحتها الجوية والبرية، وستضطر دول المواجهة العربية في المستقبل إلى التفكير بروية قبل أن تستخدم الصواريخ ضد المؤخرة الإسرائيلية، لأن هذه الدول تقع تحت تهديد قوة إسرائيل المؤثرة. وما دامت القوة الجوية الإسرائيلية تتمتع بالتفوق فسيستمر الردع الاستراتيجي المتبادل فيما يتعلق بقصف المراكز المدنية.(13)

لكن ثمة مداخلات نقدية مهمة تقاطع هذا الجدل لتحكم من خلال تحديد ماهية قوة الردع ومكمن المشكلة، فتتعرض لسوء الفهم الذي كان محرك هذا النقاش في شأن مصيرها، وللأوهام بشأنها لتحكم على مدى نجاعتها عامة، وحدودها في مرحلة ما بعد حرب الخليج. ويمكن إيجازها في أربعة:

  • المفروض في قوة الردع أن تكون فعالة في الفترات ما بين الحروب، وهي أحد حجارة الأساس في مفهوم الأمن الإسرائيلي؛ وما تتوخاه إسرائيل من الأمن عن طريق امتلاك قوة ردع، هو منع نشوب نزاعات، وضمان عملية البناء، وتعزيز الاستقلال السياسي لتجنب التبعية، "لأن الأمن ليس هدفاً في حد ذاته بل وسيلة، ووسيلة مهمة جداً."(14) ومفهوم الردع الإسرائيلي، في حد ذاته، لم يكن يحتاج إلى تغيير في الأعوام الأخيرة. والمشكلة هي في وجود بعض الذين حولوا هذا المفهوم إلى "مطرقة"، وفي وجود صفوف من القادة الإسرائيليين الذين تعلموا "إقامة الصلوات لآلهة الردع". فعندما يختار قائد عسكري طريقة عمل معينة من طرق أخرى، فإن اختياره لا يعني أن الطرق الأخرى قد ردعته؛ و"عندما نخطط للعدو ساحة قتال معينة، ونبني المعوقات في كل الطرق التي لا تؤدي إليها، فإن هذا لا يعني ردعاً"؛ والاعتبار الكامن في اختيار نوع من أنواع نظم الأسلحة، أو خطة مناورة عسكرية، أو في قرار بالقتال أو الامتناع من القتال، ليس اعتباراً قائماً بمعزل عن مفهوم الردع. "والذين حولوا هذا الموضوع إلى شيء ما سحري وكأنما نكون في كل الأوقات التي لا يحاربنا فيها أحد قد نجحنا في ردعه، وعندما ينشب قتال نكون قد فشلنا في ردعه، لا يفهمون الموضوع إطلاقاً. وفي حرب الخليج ظهر بعض هؤلاء من الذين لا يفهمون...".(15)
  • في حرب الخليج أصبحت إسرائيل تعرف أن جزءاً مهماً من قوة ردعها هو أيضاً "القدرة على ضبط النفس والانضباط الداخلي وقدرة الجمهور الإسرائيلي في المؤخرة على استيعاب [الضربات]"، لأن هذه العناصر تشكل جزءاً أساسياً مهماً جداً في قوة الردع الإسرائيلية، كون العدو سيعرف دائماً أن الإسرائيليين لن يتمزقوا بسهولة حتى بعد قصفهم بالصواريخ.(16)
  • إن المفهوم القائل إن قوة الردع الإسرائيلية يمكنها أن تمنع الحرب هو إحدى فرضيات ثلاثة في الفكر الأمني الإسرائيلي، إلى جانب فرضية أن العرب لا يفهمون سوى لغة القوة، وفرضية أن الجيش الإسرائيلي يمتلك قدرة على الرد على كل التحديات العربية. فإذا لم تنجح قوة الردع في منع وقوع حرب أو ضرر جماعي بالإسرائيليين لسبب من الأسباب، فإن إسرائيل مضطرة إلى الرد حتى لا تفقد قوة ردعها مصداقيتها. وهذه الفرضيات الثلاث هي من إرث مرحلة ما قبل الدولة، وتبلورت بالتساوق في حد معين مع الواقع، وقد ثبتت أسطورية إحداها، ونشأت أوهام في شأن الفرضيتين الأخريين:(17)
  • إن الفرضية القائلة إن العرب لا يفهمون سوى لغة القوة هي أسطورة، وإلا فكيف يمكن تفسير التناقض بين الزعم المتكرر أن العرب لا يفهمون لغة سواها وبين الحقيقة المبرهنة بأن الهزائم المدمرة التي لحقت بهم في ساحة المعركة لم تمنعهم من العودة إلى محاربة إسرائيل، أو بين هذا الزعم وحقيقة أن إسرائيل على الرغم من سيطرتها على الساحة وتفوقها العسكري القاطع على صعيد وسائل القتال واستعدادها لاستخدامها، لم تنجح في قمع الانتفاضة في المناطق حتى اليوم.
  • إن أوهاماً خطرة قد نشأت في شأن فرضيتي قوة الردع وقدرة الرد، وأثارت التوقع أن امتلاك الجيش لهما يزوده بردود حاسمة تقريباً على مشكلات إسرائيل الأمنية، وهو أمر ليس في قدرة هذا المفهوم فعله. فحتى يكون لقوة الردع وقدرة الرد تأثير جيد لمنع عمل عسكري ضد إسرائيل يجب أن يتوفر شرطان: أن يدرك قادة الدول الذين يضمرون هجوماً قوة الضحية المستهدفة، وأن يقدروا تقديراً سليماً استعدادها لاستخدام قوتها؛ أن يعمل هؤلاء على أساس أن الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى، فيحسبون الربح والخسارة من شن حرب، ويفحصون الفائدة التي سيجنونها بثمن الدم الذي سيكون على شعوبهم دفعه لتحقيق أهدافهم بهذه الوسيلة، وما إذا كان يمكن تحقيقها كلها أو بعضها، بوسيلة أخرى. وليس كل القادة يعملون على هذا الأساس، والتاريخ مفعم بشهادات على فشل قوة الردع في منع الحروب؛ إلا إن قوة الردع كوسيلة لا تنجح دائماً في منع الحرب يمكنها، بالاندماج مع قدرة الرد، لجم سلوك الأطراف المتحاربة بعد اندلاع المعارك، وإنهاء الحرب في وقت مبكر أكثر. ويشهد على ذلك امتناع سوريا من قصف المؤخرة الإسرائيلية بالصواريخ خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982، خشية رد إسرائيلي ضد مؤخرتها، وقرار مصر وقف حرب الاستنزاف بعدما ردت إسرائيل بقصف العمق المصري.
  • عندما تحدى الرئيس العراقي قوة الولايات المتحدة العسكرية في حرب الخليج، لم تعد هناك فرصة أمام قوة الردع الإسرائيلية لمنعه من قصف إسرائيل بالصواريخ، ولم تكن قدرة الرد الإسرائيلية قادرة على تحقيق أكثر مما حققته قوة نيران الأميركيين وحلفائهم. ولقد أسدت الإدارة الأميركية معروفاً في الواقع لحكومة إسرائيل، على الأقل في العلن، عندما كانت تحثها على ضبط النفس لأنه لم يكن لإسرائيل خيار آخر.(18)
  •  

خطر الصواريخ بين المبالغة والتحجيم

              شدد تعرّض المراكز السكانية في إسرائيل للقصف بالصواريخ العراقية التقليدية في أوضاع تعطّل قوة الردع وقوة الرد الإسرائيليتين، تشديداً درامياً، على مدى انتشار الصواريخ بعيدة المدى والأسلحة غير التقليدية في منطقة الشرق الأوسط، وقدرة تركيب رؤوس كيماوية أو جرثومية لهذه الصواريخ في مواجهات مستقبلية. كما شدد هذا الأمر على حاجة إسرائيل الملحة إلى إيجاد حلول عملياتية لمواجهة خطر هذه الصواريخ ولحماية مؤخرتها، وخصوصاً أن دولاً عربية أخرى غير العراق باتت تمتلك هذا النوع من السلاح. فسوريا التي تشكل طرفاً أساسياً في جبهة شرقية محتملة، مؤتلفة ضد إسرائيل، باتت تملك صواريخ بعيدة المدى. كما تزودت السعودية بهذا النوع من الصواريخ، وتحسب إسرائيل حساب إمكان أن تقع يوماً في يد إيران، وأن يستطيع العرب يوماً تسديد ضربات قاسية في هجوم منسق، ضد مطاراتها العسكرية أو مراكزها السكانية. أضف إلى أن إسرائيل، التي تعتبر أن هذه الصواريخ أرض – أرض بعيدة المدى تؤثر تأثيراً خطراً في ميزان القوى بينها وبين العرب، تعترف بأن هذا السلاح يمكنه أن يؤثر تأثيراً سلبياً جداً في قدرة جيشها على حماية عملية تعبئة الاحتياط الحيوية، بل أن يضرب إمكان تنفيذ هذه التعبئة في أوضاع الحرب أو التهديد بها.(19) 

وقد شُغل الإسرائيليون بخطر هذه الصواريخ العربية منذ بداية التهديدات العراقية لإسرائيل في السنة الماضية. وبعد نشوب أزمة الخليج، تطور الأمر إلى حالة من الذعر، فشُغلوا بمسألة الأقنعة الواقية من الغازات السامة وتوزيعها والتدرب على استعمالها، تحسباً لاحتمال استخدام العراق رؤوساً كيماوية في حال نفذ تهديداته ضد إسرائيل، بينما راح أركان حكومة الليكود وقياديون آخرون يطلقون التهديدات المضادة من أجل ردع بغداد: إذا قُصفت تل أبيب بالصواريخ فستدمر بغداد ودمشق وحلب تدميراً كاملاً، والعرب يعرفون قدرة إسرائيل على ذلك.(20)  ولما لم تدمر هذه المدن العربية خلال الحرب، اعترف بعض هذه القيادات بعدم وجود دفاع إسرائيلي فعّال عن المؤخرة الإسرائيلية منذ بداية تجهز العرب بهذه الصواريخ حتى اليوم، وبالتالي كانت خدمات الإنذار المسبق التي قدمتها الولايات المتحدة لإسرائيل خلال هذه الحرب في مستوى "الأعجوبة" التي لن تتكرر في حرب أخري في المستقبل.(21) 

في ضوء هذه الحقيقة، أخذ خطر الصواريخ بعيدة المدى حيزاً خاصاً في النقاش الدائر بشأن أمن إسرائيل، بعد تجربة حرب الخليج. وكان السؤال الأساسي هو ما إذا كان لدى إسرائيل القدرة على إيجاد رد ناجع عليها. وكان طبيعياً أن يبدي بعض القيادات العسكرية الإسرائيلية ثقة كبيرة بهذه القدرة؛ فهو لا يملك إلا أن يفعل ذلك. لكن الخبراء بالشأن الأمني بدوا أنهم يحاذرون السقوط في ضلال إشاعة الاطمئنان، وإذا فعلوا فبتحفظ، وإلا فبإظهار الشك في مثل هذه القدرة، أو في محاولة إعطاء هذا الخطر حجمه الطبيعي بين جملة أخطار أخرى يرونها تواجه إسرائيل في المستقبل. حتى أن ثمة مسؤولين اعترفوا بأن قدرة الرد الإسرائيلية لم تعد ملائمة إزاء هذا الخطر؛ فخطر الصواريخ العراقية على إسرائيل لم يزل قائماً حتى بعد دحر العراق، وقدرة صواريخ باتريوت المضادة على اصطيادها كانت أمراً مبالغاً فيه. فقد أُطلق 39 صاروخاً على إسرائيل، لم يصب باتريوت حتى 50 % منها.(22)  ومع ذلك، فإنهم جميعاً، مسؤولين كانوا أو خبراء، يسلمون بحقيقة أن كل نقطة في أنحاء إسرائيل تقع ضمن مدى هذه الصواريخ العربية، وبأن أحد الأخطار الكبيرة الكامنة في هذا السلاح هو "إمكان نشوب حروب في المستقبل تُشن على مستوى قوة النيران لا على مستوى التحرك والاستعدادات المكشوفة."(23)

لكن بالنسبة إلى بعض الخبراء العسكريين، فإن الخطر الذي يُنسب إلى هذه الصواريخ مبالغ فيه: ليس هناك من جديد في صواريخ سكود، "وفي كونها هامشية في تأثيرها في أمن إسرائيل ككل"؛ فهذه الصواريخ موجودة في الدول العربية المجاورة لإسرائيل منذ السبعينات، والأضرار التي أصابت إسرائيل منها خلال حرب الخليج كانت متوقعة في التقويمات التي أُجريت بشأنها في الماضي.(24)  وبالنسبة إلى البعض الآخر منهم، فإن خطرها قابل للتعطيل: فقد طورت الدول العربية قدرة هجومية بواسطة صواريخ أرض – أرض بعيدة المدى (وشددت أيضاً على النظم المضادة للطائرات) لسد الفجوة النوعية التي يخلقها التفوق النوعي لسلاح الجو الإسرائيلي عليها. لكن حتى لو كان لهذه الصواريخ درجة تهديد متزايدة في إدارة الحروب فإن الحروب لا يمكن أن تحسم بالصواريخ، وأن استمرار التفوق النوعي لسلاح الجو الإسرائيلي سيضمن ردعاً ناجعاً ضد قصف المؤخرة الإسرائيلية في المستقبل؛(25)  فتعزيز القوة الهجومية الإسرائيلية، الجوية والمدرعة، لضمان التوصل إلى حسم سريع للمعركة هو الضمانة لتصفية خطر قصف إسرائيل بهذه الصواريخ.(26)  لكن تبقى هناك مشكلة بالنسبة إلى الاستراتيجية الإسرائيلية على هذا الصعيد، في كيفية ردع الحلفاء الطبيعيين والثابتين لدول المواجهة العربية، الذين يمتلكون هذا النوع من الصواريخ، وهم "في دول مجاورة تقع ما بين المحيط الأطلسي والخليج، وربما حتى ما وراء  الخليج"، ويستطيعون قصف المؤخرة بالصواريخ.(27)  وإذا كان الحل المتوفر حتى الآن لهذه المشكلة لا يزال، من وجهة النظر هذه، في نطاق قوة الردع الإسرائيلية، بإقناع هذه الدول المعادية الأبعد بقدرة إسرائيل على الوصول إليها، فإن ثمة رأياً متطرفاً في هذا الشأن يقول بالتهديد بقوة إسرائيل النووية: إن لدى إسرائيل إزاء التهديد بالصواريخ حاملة الرؤوس الكيماوية السامة، تلك القوة النووية "التي تنسبها مصادر أجنبية إليها" وتقدرها بين مائة ومائتي قنبلة ذرية، وهذا يعني أن إسرائيل قادرة على تدمير دول الشرق الأوسط كلها في يوم واحد، ولا تملك أية دولة أخرى في المنطقة قوة مماثلة، "فالصواريخ والغازات السامة ليست سلاحاً قادراً على التسبب بكارثة إبادة، وإسرائيل هي الدولة الوحيدة في المنطقة التي تستطيع أن تفعل ذلك ضد جيرانها، وفي وقت واحد."(28)

في هذا السياق، حاول قائد سلاح الجو الإسرائيلي، أفياهو بن – نون، تحجيم التهديد الذي تتعرض إسرائيل له من خطر هذه الصواريخ بعيدة المدى، عندما شدد على أن طائرة انتحارية تحمل قنابل كيماوية يمكنها أن تلحق أضراراً بإسرائيل لا تقل عن الأضرار التي يمكن أن يحلقها بها لواء كامل من صواريخ سكود.(29)   وقد زعم بن – نون أن سلاح الجو يمتلك القدرة والوسائل والنهج لتنفيذ مهمة تعطيل خطر إطلاق صواريخ سكود على إسرائيل تعطيلاً تاماً، لكنه عزا الامتناع من ذلك إلى موقف القيادة السياسية التي تمتلك حق اتخاذ قرار استخدام ذراعها الجوية الاستراتيجية؛ ومع ذلك، فقد كشف تشكيل طاقم بحث عمل بتعاون كامل مع الأميركيين على درس تفاصيل التفاصيل لكل عملية إطلاق سكود، ولكل عملية إطلاق صاروخ باتريوت المضاد، لتحسين الأداء الإسرائيلي في مجال استخدام الصواريخ المضادة للصواريخ، على الرغم من تأكيد وزير الدفاع موشيه آرنس أن باتريوت ليس هو الرد، وأن مشروع صاروخ "حيتس" هو الرد القادر على اصطياد الصواريخ، والذي سيمنح إسرائيل مظلة واقية، إلى حد كبير، من خطر الصواريخ بعيدة المدى عندما يستكمل تطويره.(30) 

الخطر والرد المتكامل

              لكن مشروع صاروخ "حيتس" المضاد حتى للصواريخ حاملة الرؤوس النووية، وهو جزء من نظام قتالي ودفاعي ضد صواريخ أرض – أرض، وسيتحقق في الخطط السنوية المتواترة للجيش الإسرائيلي،(31)   يلقي على إسرائيل أعباء تقدر بمئات الملايين من الدولارات، على الرغم من أن الولايات المتحدة تمول حالياً أكثر من 80 % من تكاليفه خارج إطار مساعدتها العسكرية السنوية لإسرائيل، بالإضافة إلى النفقات الهائلة لشرائه فيما بعد.(32)   إلا إن المسألة تتجاوز "النفقات الهائلة" لأنها، من جهة، مسألة تحديد الأخطار وسلم أولويات على الصعيد الأمني، ولأنها من جهة أخرى مسألة قدرة على تطوير آلية ردع صد الصواريخ كالتي طورتها الولايات المتحدة في مدى عشرات الأعوام، بحسب مداخلات نقدية في مناقشات خطر الصواريخ بعيدة المدى:

  • هناك ضرورة لتحديد سلم أولويات في الجهاز الأمني على أساس السؤال: في وجه أي تهديد يجب أن تستعد إسرائيل؛ ومهمة جهاز الأمن يجب أن تكون محاولة إعداد ردود على معظم التهديدات، باعتبار أن التهديد الذي لا تملك إسرائيل رداً عليه هو التهديد الذي سيستخدم ضدها، وهو الذي يمكن أن تُمنى بهزيمة فيه. لذلك يجب أن يكون الرد متكاملاً دائماً؛ رد على قذف الحجارة، وبالقدر نفسه على إطلاق صواريخ أرض – أرض، على أن يكون التشديد الأقوى على مسألة الحسم في موضوع الحرب الوجودية، وبغض النظر عما إذا كان هذا السلاح هجومياً أو دفاعياً.(33)
  • إن آلية الردع الأميركية ضد الصواريخ التي تشمل استخدام الأقمار الصناعية لتدمير كل قذيفة جوية، والمندمجة في جهاز حسابي يجمع كل الصور ويظهّرها في الوقت الحقيقي، ليست في متناول يد الدولة الصغيرة عامة، وصاروخ حيتس المرتبط بحرب النجوم يتطلب امتلاكه موارد تفوق قدرة إسرائيل.(34)  وقد أظهرت حرب الخليج مدى قوة الأقمار الصناعية في كشف منصات الصواريخ، ونقل المعلومة إلى بطاريات صواريخ باتريوت المضادة. لكن هذه الوسيلة استثمرت وكالة الفضاء الأميركية فيها عشرات الأعوام من الجهد ومئات المليارات من الدولارات. وقد استخدم الأميركيون سلسلة من هذه الأقمار أطلقوها في الفضاء. فإذا كان النقاش يدور في شأن قدرة إسرائيل على الحصول على قمر صناعي واحد لتزويدها بالإنذار الاستراتيجي بنقل كل ما يجري في الساحة الخلفية للعدو، فإنه غير مجد بسبب وجود أساليب ممتازة اليوم للتخفي عن أنظار قمر صناعي واحد منعزل. وإذا كان من الصعب على إسرائيل، بالوسائل التي تمتلكها اليوم، تعقب ومراقبة أعمال عدو مستقبلي، فإنها لا تستطيع أيضاً تطوير وسائل إنذار استخباراتي بواسطة أقمار صناعية احتاجت الولايات المتحدة إلى جهود أربعين عاماً لتتمكن في النهاية من إطلاق أعداد لا تحصى منها في الفضاء. وحتى إذا استطاعت إسرائيل الحصول على قمر صغير واحد من الأميركيين، فإن هذا القمر لن يعطيها المعلومات الاستخباراتية اللازمة في الوقت الحقيقي، ولا الإنذار الاستراتيجي. والاستدراك الوحيد هو: إذا كانت إسرائيل ترغب في إنذار استخباراتي من أقمار التجسس الصناعية، فعليها أن تكون جزءاً من النظام العقلاني للأمم الديمقراطية الساعية وراء السلام، والتي تحصل من الولايات المتحدة على الإنذار المسبق، فتحصل على المعلومات الاستخباراتية الأحدث منها، مثلما تتلقى القمح والهبات والطائرات. وعلى هذا الصعيد، يمكن للقمر الصناعي التجسسي العادي أن يكون أداة ممتازة للسلام، لأنه في اللحظة التي يدرك قادة الدول المعادية أن كل ما يجري في بلادهم مكشوف للجميع، وأن هناك من يرى عندما تُرفع السقالة الأولى لمصنع غازات سامة على أرضهم، سيقلعون عن مخططهم.(35)

 

المناعة والحرب المستقبلية

إن السؤال الأكثر إقلاقاً بالنسبة إلى الإسرائيليين، بعد تجربة حرب الخليج، هو ماذا بعد انتهاء مهلة الأعوام المعدودة التي اكتسبتها إسرائيل من هذه الحرب، والتي سيستعيد العراق خلالها قدراته العسكرية وتعزز الدول العربية الأخرى قدراتها العسكرية أيضاً؟ ومن هذا السؤال تتفرع أسئلة أخرى: ما هو الخطر الذي يمكن أن يهدد إسرائيل في المستقبل، وما هي أفضل السبل لصده، أو لتصفيته في أحسن الأحوال، وهل ستستطيع ذلك وحدها أم ستحتاج إلى معونة دولة عظمى؟

فمسار الحرب لم يجر بحسب التوقعات. إذ صمد العراق سبعة أسابيع لا سبعة أيام، أمام القوة العسكرية لدولة عظمى متحالفة مع قوات دول كبرى وقوات دول عربية، وبعد أضرار حصار دولي استمر شهوراً طويلة وتوخى الإضعاف قبل الانقضاض العسكري الذي لم يتمكن من الحسم بحسب المخطط الموضوع، وتردد كثيراً قبل القيام بالمعركة البرية. وكان في إسرائيل ثمة من فكروا بصوت عال واتهموا بإثارة المخاوف لأنهم تصارحوا: إن إسرائيل ما كانت لتستطيع القيام، بقوتها الذاتية، بمثل هذا المجهود التدميري ضد العراق وخلال فترة مماثلة؛ والجيش الإسرائيلي ما كان ليستطيع الصمود والمقاومة إلى الحد الذي فعله الجيش العراقي، من دون أن يضطر إلى الاستسلام لو كان هو الذي تعرض لمثل ما تعرض العراق له على يد هذا الأسطول الهائل المزود بأحدث ما قدمه التطور التكنولوجي الأميركي للآلة الحربية من أدوات وأسلحة دقيقة وذكية؛(36)  وأن منطقة الشرق الأوسط قد دخلت عصر الصواريخ بعيدة المدى والأسلحة غير التقليدية على خلفية عالم عربي يتميز بعدم استقرار سيدوم أعواماً يمكن خلالها "أن يحدث لمبارك ما حدث لشاه [إيران]، وأن يحدث للسعودية ما حدث للكويت"؛(37)  ولن تستطيع إسرائيل أن ترد وحدها على كل الأخطار في المستقبل، حتى لو حدث تطوير إضافي للأسلحة.(38) 

ولقد تكشف النقاش الدائر، الذي يبحث عن ردود على ما تتوقعه إسرائيل من تهديدات عربية في المستقبل قد تأخذ منحى حرب غير تقليدية، عن إجماع على ضرورة التحصن بمناعة عسكرية مرممة ومطورة. لكنه تكشّف أيضاً عن مقاربات مختلفة فيما يتعلق بما يجب عمله لتحقيق ذلك، فثمة اتجاه يفكر بكيفية الاستعداد لحرب مستقبلية، وبمعزل عن كل ما قيل ويقال على المستوى الدولي، عن ضرورة نزع السلاح غير التقليدي في المنطقة ومراقبة التسلح فيها؛ وثمة اتجاه آخر يفكر في كيفية تجنب مثل هذه الحرب التي ستكون مروعة لكل الأطراف، ولا يمكن التكهن بنتائجها.

في الاتجاه الأول، برزت مقولات مختلفة بشأن الرد على تهديدات المستقبل، تزعم أن المطلوب لتجنب حرب مستقبلية أو مواجهتها بنجاح، هو التزود بأحدث ما أنتجته التكنولوجيا العسكرية لبناء قوة ردع وقدرة أفضل بما لا يقاس، للجم العدو فيقلع عن مخططه العدواني، أو دحره بتسديد ضربة ثانية أقوى تحسم المعركة لمصلحة إسرائيل. وهذا الاتجاه يفكر خارج السياق السياسي. وفي الاتجاه الثاني، برزت مقولات ترى في بدائل سياسية إمكان تحقيق الهدف القاضي بتعزيز أمن إسرائيل، باعتبار أن تسويات سلمية ملائمة مع الجوار العربي وحل المشكلة الفلسطينية تجنب إسرائيل الكارثة التي ينطوي عليها استمرار حالة الحرب، لأنها تقلص مستوى التوتر إلى درجة كبيرة، وكلما انخفض التوتر مع الجوار العربي تعزز أمن إسرائيل.(39) 

التيار الأول الذي يبدو أنه ينطلق من فرضية أن حرب المستقبل واقعة لا محالة، يرى ضرورة أن تستغل إسرائيل المهلة المحدودة الكامنة في تراجع خطر حرب تهدد وجود إسرائيل في المدى القريب، من أجل بناء اقتصادي ناجع ومفيد للجيش الإسرائيلي، بحيث يصبح جيشاً حديثاً بمفاهيم سنة 2000 وعدم إضاعة فرصة مماثلة لتلك التي نشأت في أول الثمانينات عندما شُغل العراق بحربه مع إيران وعندما دخل السلام مع مصر طور التأسس، فأضاعتها حكومة إسرائيل بإرسال الجيش الإسرائيلي ليجتاح لبنان في حرب مضللة؛(40)   والعمل على تحديث العقيدة العسكرية وإجراء التغييرات المطلوبة في بنية الجيش والتسلح، والاستخدام الواسع النطاق لنظم الأسلحة الدقيقة الذي تمليه تجربة حرب الخليج "لتحقيق مستوى أمن قومي معقول"، وليس لتحقيق زيادة في ميزانية الدفاع من أجل زيادة عدد الطائرات وناقلات الجند وما إلى ذلك، لتمويل نموذج أمني لم يعد مجدياً.(41)

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن هذا المسار المطروح بإلحاج اليوم قد بدأ منذ بضعة أعوام ببرنامج أساسه التغيير والتجديد من أجل بلورة جيش "صغير وذكي" قادر على تحقيق انتصارات حاسمة في ساحة معركة المستقبل، حمله معه في حينه رئيس الأركان المعتزل، دان شومرون، لكنه لم يتحقق لأسباب ثلاثة: التقليصات في ميزانيات الدفاع، واستثمار موارد كبيرة لتمويل نشاطات قمع الانتفاضة في الأراضي المحتلة، والتخوف – قبل حرب تصفية قوة العراق – من المجازفة بنشوء تهديد بالحرب في أثناء وضع الجيش الإسرائيلي في فترة انتقالية فيواجه نقصاً في وسائل الرد على التهديد.(42)  وهذا البرنامج يشكل، بعد حرب الخليج، العنوان العريض الذي يدخل تحته معظم الردود على ما يجب عمله لامتلاك القدرة على مواجهة التهديدات المستقبلية وحسم الحرب في حال نشوبها لمصلحة إسرائيل:

  • يجب بناء جيش قوي وجيّد لأن حرب الخليج تظهر ضرورة أن تكون إسرائيل قوة قادرة على تشكيل خطر شديد جداً، والانتصار في الحرب بأقل قدر من الخسائر كما كان الأمر مع الأميركيين في هذه الحرب؛ وهذا الهدف يتحقق بثمن تقليص حجم الجيش تقليصاً بارزاً لتخصيص ما يوفره ذلك في الميزانية للتسلح بنظم الأسلحة الدقيقة والذكية التي أثبتت قيمتها الكبيرة في حرب الخليج، بقضمها الروح القتالية في الجيش العراقي، وتطوير العقيدة العسكرية القائمة على أساس نقل التشديد على وسائل القتال الجديدة حتى لا تتقلص الهوة التكنولوجية الفاصلة بين الجيش الإسرائيلي والجيوش العربية.(43)
  • التهديد الوجودي لإسرائيل يتأتى من قوات عربية كبيرة تشمل كل الأسلحة الجوية والبرية والبحرية التي هي قوات هجومية، ولذلك يجب الاستثمار أقل في الاستعداد الأمني الآني وتحويل الموارد لمواصلة مسار التسلح بوسائل القتال الحديثة الملائمة لتبقى إسرائيل دائماً على درجة نوعية عالية، ولأن ما أظهرته حرب الخليج من تأثير كبير للتفوق التكنولوجي سيدفع الدول العربية إلى نقل التشديد على الكم أساساً، إلى التشديد على النوع والسعي لامتلاك وسائل قتال دقيقة حديثة.(44)
  • إن مفهوم الأمن ينبع من عناصر أساسية عديدة هي، قبل كل شيء، العمق الاستراتيجي لدولة إسرائيل وحجم السكان والموارد الاقتصادية؛ فهي التي تحدد الوقت الذي تستطيع إسرائيل فيه أن تستمر في الحرب أو العمليات العسكرية. وإذا كان مفهوم الأمن يشتق أساساً من القضية الموجِّهة، أي هدف الدولة، فإن مفهوم إسرائيل الأمني يقول إن التطلع نحو السلام هو الموجِّه. وكي يتحقق هذا السلام يجب أن تكون إسرائيل قوية بما فيه الكفاية كي تخلق بعداً لقوة الردع، أو في حال فشل الردع كي تكون قادرة على نقل الحرب إلى أرض العدو. ومن أجل بناء قوة وفقاً لهذا المفهوم، يجب أن تبني إسرائيل القوة بعناصرها الرئيسية، بإعداد كفاءة الرد الفوري.
  • المسألة هي كيف تبني إسرائيل وسائل القتال المستقبلية، وكيف تستثمر في الشراء والتجهيز والتطوير، لأن مفهوم الأمن لا يمكن تغييره والمواجهات الحقيقية ستبقى كما كانت دائماً من قبل: كيف نبني القوة، وما هو حجم كل عنصر من عناصرها – أسلحة البر والبحر والجو ووسائل القتال على أنواعها، التي تعطي رداً على التهديدات المستقبلية المتوقعة.(46)
  • إن أهداف إسرائيل الاستراتيجية في الحرب المستقبلية لن تكون كما كانت في أي وقت. والاتجاه الذي يقول به بعض الخبراء الأمنيين الإسرائيليين اليوم، بالانقضاض على الدول المهاجمة وحسم الحرب بدحر هذه الدول على أراضيها، هو اتجاه قديم ولا أمل يرجى منه. "إذ سيكون من الصعب علينا الوصول إلى بعضها مثل العراق. وسنُمنع من الوصول إلى بعضها الآخر. لكن إذا نجحنا في الوصول إلى هذا البعض، ماذا سنفعل هناك؟ نضم عمان ودمشق؟ نزج بالأسد والحسين في الاعتقال الإداري؟ إننا سنعود فوراً إلى ديارنا، إما قسراً وإما بإرادتنا... لهذا السبب ترتبط قوة الردع لدينا، أساساً، بقدرتنا على الرد – بقوة الضربة الثانية الإسرائيلية أو بالقوة التدميرية الكامنة في هجوم استباقي وقوة الدفاع عن أنفسنا إزاء العدو." ومن الضروري الافتراض أن معارك برية كثيرة ستجري، و"السؤال المهم هو أي نموذج حرب تستطيع دول صغيرة في هذه المنطقة أن تسمح به لنفسها من دون مشاركة دولة عظمى، لكن مع مراقبتها، وما هي الأهداف الاستراتيجية المحتملة للدول العربية ولإسرائيل في حرب المستقبل القريب."(47)
  • لا يمكن لإسرائيل أن تواجه مشكلاتها الأمنية وكأنها دولة عظمى، على الرغم من أنه ستكون هنالك دائماً دولة عظمى تراقب الحرب، إذا نشبت، من الخارج وتحصي حبات الرمل في الساعة الرملية. ولذلك، فإن أسلوب حرب إسرائيل هو أسلوب حرب مختلف. ويجب، في مجال تطوير وسائل القتال والتجهز بها، أن تُعد إسرائيل للجيل المقبل الرد على التهديد المستقبلي. فعندما تُمحى الكويت من الخريطة في عدة ساعات، فكيف بإسرائيل "التي لا تستطيع أن تتحمل وخزة دبوس حتى لا نتحدث عن ضربة مماثلة، لضربة الكويت، إذا كانت ستنتظر من يأتي ويساعدها في حل مشكلاتها الأمنية."(48)

هذه الطروحات استفزت خبراء عسكريين إلى مداخلات نقدية مهمة تلفت إلى خطورة الإيمان بالقدرة العجائبية لوسائل القتال الأحدث التي أنتجتها التكنولوجيا، وإلى ضيق أفق التفكير العسكري السائد، والانقطاع عن التغييرات السياسية التي حدثت منذ مرحلة ما بعد حرب 1967، واستيعاب دروسها، والتعامي عن خصائص المرحلة الجديدة واختلافها الكلي عن خصائص المرحلة التي تبلور فيها مفهوم الأمن الإسرائيلي السائد حتى اليوم:

  • إن التصاق الخبراء، من عسكريين وأكاديميين، بمفهوم "ساحة المعركة المستقبلية" هو سبب عدم فهمهم لتطورات أزمة الخليج إلى ذروتها العسكرية، وهو بالتالي سبب سوء تقديراتهم وتوقعاتهم، واعتقاد بعضهم أنه حتى من دون سلاح نووي يمكن حل كل مشكلة عسكرية بمساعدة التكنولوجيا المتقدمة – الإلكترونيات، والتلفاز، وجهاز تحديد الهدف، والأسلحة الدقيقة، والقذائف الذكية. لقد اعتقد هؤلاء أن الجيش الأميركي سيكون قادراً على حسم الحرب كلها في أيام معدودة، لمجرد أن الأميركيين هم أول من طور وسائل القتال الحديثة، وهذا خطأ ليس بجديد. ففي كل جيل تنشأ مدارس عسكرية كهذه، وتزدهر عقب اختراق عسكري تكنولوجي جديد يتيح إمكانات جديدة لتحسين وسائل القتال، ولكن هذه المدارس تفشل دائماً. ويجب الحذر من تأسيس عقيدة إسرائيل الأمنية على هذا المفهوم، والتوهم أننا نستطيع أن نحل كل مشكلة بمساعدة التكنولوجيا الحديثة فقط. ولن ننجح بالتأكيد حيث فشل الأميركيون. ويجب ربط عناصر كثيرة لقدرة المناورة في كل قطاعات الجيش.(49)
  • إن المشكلة المركزية في الحرب المقبلة ليست إطلاق الصواريخ على إسرائيل الذي هو تقدير مغلوط فيه وشائع بين سياسيين وجنرالات كثيرين، بل إنها في الاستعداد لـ"الحرب السابقة" عوضاً من الاستعداد لـ"الحرب المقبلة". فهل تستعجل إسرائيل لتطوير قدرة أقمار صناعية كي تكتشف راشقي الحجارة في الضفة الغربية، أو غواصات نووية في البحر الأبيض المتوسط، أو ربما عقوبات اقتصادية تفرضها أوروبا يوماً على إسرائيل؟ لأن حربنا المقبلة يمكن أن تكون هكذا تماماً.(50)
  • إن ثلاثة أسابيع من القصف المدمر من جانب قوة متفوقة تكنولوجياً لم تحسم المعركة ضد العراق الصغير؛ وهذا يعني أن التكنولوجيا المتقدمة، على أهميتها العظيمة، ليست هي الأهم في ساحة المعركة. فالمطلوب دائماً قدرة مناورة في البحر والبر والجو، وقدرة تكيف إزاء المعطيات الجديدة وغير المتوقعة في ساحة القتال، وإلا فلا يمكن خوض حرب ولا يمكن صوغ تقديرات وتكهنات. وإن فشل تكهنات كبار قادة الجيش وتوقعاتهم في شأن حرب الخليج يعود إلى ثلاثة عوامل: انعدام الحس السياسي الجيد وعدم أخذ الخلفية السياسية لكل حرب في الاعتبار، وعدم الفهم أن كل عملية عسكرية يجب أن تقاس بإنجازاتها السياسية، فهؤلاء يزنون كل تطور من وجهة نظر المصلحة الإسرائيلية ويمزجون التقدير الواقعي المتأني للحدث في الرغبات الإسرائيلية. وهذا سبب أنه لا يكاد يوجد مسؤول عسكري إسرائيلي ينتقد العمليات العسكرية الأميركية، وكأنما كل ما يفعله الأميركيون في الخليج يتفق ومصلحة إسرائيل.
  • إن الاعتقاد أن القصف الجوي الشديد قبل الهجوم البري يضعف الخصم، وأن كل يوم قصف إضافي يضعفه أكثر، اعتقاد ينطوي على مجازفة. إذ ليس هناك ما يضمن أن كل يوم قصف إضافي يضعف الخصم، فالتأثير النفساني المتراكم للقصف يمكن أن يختلف؛ يمكنه أن يشل الخصم، لكنه يمكنه أن يجعل الخصم يتكيف إزاء القصف فلا يعود يؤثر فيه كما هو مطلوب، وهذا أمر تم برهانه في الماضي. وعندما يتكيف الناس إزاء العيش في ظل القصف، فإنهم يراكمون غضباً شديداً ضد القاصفين. وإذا أضفنا إلى ذلك الحقيقة المعروفة أن الجيوش العربية لا تقاتل قتالاً سيئاً في معارك الدفاع، نستنتج أن القوة المهاجمة يمكن أن تواجه في البر مقاتلين شرسين جداً يستطيعون أن يلحقوا بها خسائر كبيرة وجملة من المشكلات.(52)
  • تُنسب إلى الأسلحة الحديثة الدقيقة قدرة زيادة فرص تدمير الهدف من الطلقة الأولى أو الثانية. لقد اعتدنا خلط المفاهيم، ونخطىء في استخلاص العام من الخاص، فنسقط في فخ الضلال المنطقي الشائع. إننا نعتقد أن فن الحرب أصبح حسابياً لأن وسائل القتال تزداد دقة، وهذا خطأ؛ فالحرب هي دائماً إحصائية، ونتائج الحرب التقليدية وعلى كل المستويات كانت، ولا تزال وستبقى في المستقبل، متعلقة بالأهداف القومية وبعلاقات القوى الاقتصادية الوطنية كماً ونوعاً، وبمبادىء الحرب الكلاسيكية. وتغيير ترسانة السلاح مسار طويل، والمعدات الانقلابية تدخل بالتدريج في فن الحرب وتحتل مكانتها على مراحل، وعندما تتمأسس في نظم القوات العسكرية تصبح عادية وقديمة يهددها ما هو أحدث. وهكذا، فإن القديم والجديد يستخدمان معاً ويشكلان فن الحرب.(53)
  • هناك أصوات تدعو إلى جيش "صغير وذكي"، لكن إسرائيل تحتاج إلى أن يكون جيشها أحد أكبر جيوش العالم نسبة إلى عدد السكان، ما دام النزاع مع العرب مستمراً. وإذا كانوا يقصدون بالجيش الذكي مفهوم النوعية البشرية ونوعية الأرصدة والنوعية التكنولوجية، فإننا يجب أن نسعى لتفوق تقني نوعي واستنفاد مساهمة النبوغ العلمي اليهودي لأننا لا نستطيع أن نتنافس في الكم مع العرب، وأن نعطي الأفضلية الأولى لتوفير الأحدث ووسائل قتال جسورة ومبتكرة.(54)
  • إن فحص خصائص المرحلة التي تبلورت فيها مفاهيم إسرائيل الأمنية يظهر أن هذه الخصائص لم تعد موجودة منذ زمن طويل. فقد تغير كل شيء تقريباً. ومن يحاول التعلّم من التغييرات في التكنولوجيا العسكرية لا يستطيع أن يفهم الأساس؛ ففي النشوة الإسرائيلية من دروس الحرب تُعطى المسائل التكنولوجية قيمة حصرية، ويخطىء من لا يرى سوى هذه المسائل. ورجال الجيش الذين يضعون قوائم تكنولوجية، مثل الصواريخ الموجهة وأقمار التجسس الصناعية وأجهزة الرؤية الليلية وما إلى ذلك، يهتمون بزاوية صيقة من دروس العقد الأخير.(55)
  • لا يمكن أن نبني جيش المستقبل الأحدث دفعة واحدة. إن البنية ستبقى على أسس محافظة وجديد في آن واحد. وليس في وسعنا أن نتسلح بوتيرة معقولة بالمعدات والأجهزة الحديثة، بسبب الضغوط الاقتصادية. لكن من المحظور أن نقبل بحلول وسط في مسألتين (ما دام النزاع مع العرب مستمراً): قدرة الردع الاستراتيجي والوجودي، وقوة النار ضد أهداف استراتيجية في دول المواجهة وحليفاتها، لأن كل شيء نسبي – فإذا كان العراق نمراً من ورق بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وتطلب دحره منها قوة جوية هائلة وأسطولاً بحرياً كبيراً وفرقاً مدرعة ونصف مليون جندي، فإنه بالنسبة إلينا قوة إقليمية خطرة.(56)
  • يجب أن نفهم سمات المرحلة الجديدة: انتهاء الحرب الباردة، إبطال التأثير المتبادل بين القوى العظمى، اختفاء الخطوط الحمر التي كانت النزاعات المحلية تُمنع من انتهاكها بسبب التوازن العالمي. إن مكانة الولايات المتحدة الخاصة اليوم لا تتيح لها فرض التغييرات الاقتصادية العالمية، وقدرتها على فرض نظام عالمي محدودة في حالات خاصة جداً. وعندما لا تكون الولايات المتحدة معارضة لا تعود هناك "ساعة رملية سياسية" لإنهاء حرب في الشرق الأوسط. وفي الحالة التي تكون فيها هذه الساعة موجودة، فإنها ستكون مختلفة تماماً عن سابقاتها. ويجب فحص التغيير في مكانة إسرائيل الخاصة كثروة استراتيجية من أيام الحرب الباردة، لأن هذا التغيير سيقيد قدرة العمل الإسرائيلية؛ فللتغيير الشامل أكثر من اتجاه واحد.(57)
  • لقد مر العالم بانقلاب الاتصالات وتصنيع المعلومات، وأهمية ذلك الأساسية في المجال الإداري حيث دمرت النظم الهرمية وأصبحت هناك مرتبتان في الإدارة، واحدة عليا وأخرى تنفيذية، واختفت المرتبة المتوسطة. وانقلاب الدقة في نظم الأسلحة هو أحد وجوه هذا الانقلاب في الاتصالات، فلم تعد هناك قنوات قيادة متعددة، وما ينشأ عنها عادة من تناقضات بين المراتب القيادية، ولم يعد هنالك فارق بين عمق المؤخرة والجبهة.(58)
  • منذ حرب 1967 نشأت صدوع في المفهوم الأمني راحت تتعمق، ونشأ خلاف سياسي أساسي نتيجة احتلال المناطق – بالإضافة إلى المشكلات الاقتصادية. وقد بات يُنظر إلى مسائل الأمن القومي بصورة مختلفة اليوم. وبالنسبة إلى الصهيونية لم يعد هدف "استعادة الأرض" قائماً، و"إنقاذ الشعب" هو في مرحلته الأخيرة ربما. وإذا كان الأمن الذاتي لا يزال موضوع قلق اليهود، فإن الأرض أصبحت أسطورة فقط لأقلية رسولية ليس بينها وبين التيارات المركزية التي بنت الصهيونية، الكثير مما هو قواسم مشتركة. كما أن عدم التساوق الأساسي في النزاع قد فقد جزءاً من عناصره الأساسية. فقد نشأ شعب فلسطيني بسماته المحددة، وبات الأعداء يخافون على أمن دولهم الذاتي. وبعد حرب 1967 فشلت أبعاد إسرائيل الصغيرة في أن تكون ميزة، وتحول بعض المناطق التي احتُلت إلى عبء أمني ينطوي على مشكلات، وأصبحت الخطوط الداخلية أطول لكن قدرة المناورة تقلصت. وإذا كانت إسرائيل اليوم في "ساعة الإرادة" التي ستؤدي إلى انقلاب بسبب التغييرات في الوعي العام إزاء المسائل الأمنية، فإن ذلك سيكون المساهمة الأهم التي قدمتها حرب الخليج لإسرائيل، لأن التغييرات في مفهوم الأمن يمكن أن تقدم لإسرائيل أكثر مما قدمته لها حقيقة تدمير البنية العسكرية العراقية.(59)

 

الأهمية الأمنية للعمق الاستراتيجي

إن "ساعة الإرادة" هذه هي ساعة الاتعاظ لإسرائيل بالنسبة إلى الاتجاه الثاني الذي برز في الجدل بشأن ما يتطلبه أمن إسرائيل إزاء الحرب المستقبلية. فهو الاتجاه الذي يتصدى للتيار الذي لا يحمل في جعبته سوى ردود عسكرية على هذا السؤال، فيشدد على وجود البدائل السياسية لتعزيز أمن إسرائيل المستقبلي. وقد عبر هذا التيار عن نفسه في الطروحات المضادة لطروحات دعاة الاحتفاظ بالأراضي المحتلة منذ سنة 1967، وفي الجدل الذي كان لا بد من أن ينشأ بشأن ما إذا كانت تجربة إسرائيل في حرب الخليج قد أثبتت حجة إسرائيل الأمنية في مواصلة احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة وهضبة الجولان، أم أنها قد أثبتت بطلان هذه الحجة. وهذا الجدل في شأن حاجة إسرائيل إلى عمق استراتيجي يدور على مستويين، رسمي وعام.

الأول يتوجه، في الدرجة الأولى، نحو الأميركيين في استباق واضح لأي تحريك للمسار السياسي سيطالب إسرائيل بتنازلات إقليمية، وخصوصاً بعد كلمة الرئيس الأميركي جورج بوش أمام الكونغرس، التي لحظ فيها أن الجغرافيا في زمننا لا يمكن أن تكون ضمانة للأمن، وأن الأمن لا ينبع من القوة العسكرية وحدها، موضحاً أن مبدأ الأرض في مقابل السلام هو أحد أسس السلام الشامل في الشرق الأوسط – مع قراري مجلس الأمن رقم 242 ورقم 338. فحتى قبل انتهاء حرب الخليج حرص رئيس حكومة إسرائيل، يتسحاق شمير، على التشديد على أن هذه الحرب تثبت حاجة إسرائيل إلى مناطق واسعة، وأن هضبة الجولان "جزء من دولة إسرائيل" وأنه "لا يمكن تجزئة المناطق".(60)  وقد تحرك أركان الحكم على صُعد مختلفة لإفهام الأميركيين، في الدرجة الأولى، أن الأراضي المحتلة منذ سنة 1967 ليست موضوع بحث. فحذر نائب وزير الخارجية الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، من أن تبني نهج التنازل عن أراض في مقابل السلام سيكون مساراً عقيماً "لأن الثمن الذي تدفعه إسرائيل في مقابل السلام هو منع الدمار وليس أراضي."(61)  وأعلن وزير الإسكان والبناء، أريئيل شارون، أن حرب الخليج قد جسدت الضرورة الملحة للمناطق، وخصوصاً الضفة الغربية، لأمن إسرائيل لأنها تعطيها عمقاً استراتيجياً؛ "فصواريخ أرض – أرض هي تعزيز للقوات المدرعة ومدفعية الدول العربية"، أضف إلى أن هذه المناطق يمكن أن تستخدم "ملاذاً للإسرائيليين الهاربين من تهديد الصواريخ للمناطق المكتظة بالسكان في القطاع الساحلي الإسرائيلي"، وأن دولة صغيرة كإسرائيل "لا تستطيع أن تعيش من دون أن يكون لها عمق"، وتحتاج أيضاً إلى مناطق قمم الجبال لمحطات الإنذار، و"أن الضفة الغربية بمنطقتها الجبلية التي تطل على القطاع الساحلي هي، بصورة خاصة، المنطقة الأكثر حيوية لوجود إسرائيل."(62)   وبينما كلف وزير الدفاع قائد معهد الأمن القومي، اللواء يوسي بن – حنان، مرافقة وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر، في جولة على متن طوافة، شملت الضفة والجولان، ليبين له على الأرض أهمية الأراضي المحتلة كعمق استراتيجي لدولة إسرائيلي،(63)   قام رئيس الكنيست دوف شيلانسكي (الليكود) بجولة في الضفة والجولان أثارت جدلاً واسعاً، ليؤكد تمسك الحكومة بخط رفض التنازلات الإقليمية، كرد على التلميحات الأميركية وكتطمين للمستوطنين الإسرائيليين. (64)

طبعاً، كانت هناك أصداء لهذا الطرح الرسمي في مناقشة قيمة المناطق كعمق أمني استراتيجي لإسرائيل، وما إذا كانت تسويات سياسية بين إسرائيل وجيرانها العرب يمكن أن تشكل بدائل أمنية من هذه المناطق. فقد طرح محللون سياسيون تعليلات تعزز موقف الليكود الحاكم، لكن المعارضين من دعاة مبدأ "الأرض في مقابل السلام"، على الرغم من الإشكالية في إبهام هذه الصيغة، لم يكونوا قلة ولم يفتقروا إلى تعليلات. أما المداخلات المهمة في هذا الموضوع، التي بينت تقصيراً أو جهلاً في فهم ماهية العمق الاستراتيجي، فقد خلص بعضها إلى مواقف واضحة غير ملتبسة، وبعضها الآخر إلى مواقف غير قاطعة عن طريق الاستدراك، كمثل أن ينسب رئيس الأركان المعتزل دان شومرون، أهمية كبيرة جداً إلى الأرض "عندما تكون حالة الحرب هي السائدة" – وحالة الحرب مع العرب لا تزال قائمة – لأن الحسم في رأيه "يتحقق بالقوات المشتركة الجوية والبرية لا بالصواريخ"؛ ثم أن ينسب إليها أهمية مقلصة في "إطار تسويات تضمن نزع السلاح، وتقييد التسلح، وفرض الرقابة المتبادلة التي توفر إنذاراً مسبقاً، وكل ما من شأنه أن يضعف الخطر الناجم عن الانسحاب من الأرض" – وعلى الرغم من تسليمه الصريح بأفضلية التسوية السياسية عندما تتوفر على الأرض.(65)

إن هذا التقويم لأعلى المراجع العسكرية الإسرائيلية في حينه، يمثل موقفاً يقع في الوسط من المسافة بين المتشددين الذين يضفون على الأراضي المحتلة أهمية العمق الاستراتيجي الحيوي لإخفاء الرغبة في الاحتفاظ بأرض إسرائيل الكاملة، وبين دعاة الحل الإقليمي الوسط الذين يدعون إلى تنازلات إقليمية إسرائيلية باعتبار أن عصر الصواريخ بعيدة المدى قد أبطل أهمية المناطق كعمق استراتيجي لإسرائيل. وتتلخص وجهات نظر هذا الموقف الوسطي في ثلاثة أمور:

1-  إن الصواريخ بعيدة المدى التي تستطيع أن تضرب أهدافاً، عسكرية كانت أو مدنية، في المؤخرة الإسرائيلية، تبطل الأهمية الاستراتيجية لمساحة الأرض التي تقع بين نقطة إطلاق صاروخ أرض – أرض وبين نقطة الإصابة؛ والطرف الذي يمتلك مثل هذه الصواريخ لن يضطر إلى مهاجة عدوه ودحره على أرضه، بل  هو قادر على الانتصار بأدنى قدر من الخسائر والإصابات في العتاد والأرواح. ومع ذلك، "فقد أثبتت حرب الخليج مدى حاجة إسرائيل إلى تسوية سلمية تضمن أمنها ووجودها في كل الأحوال إزاء كل المكائد والجنون الذي يمكن أن ينفجر في عالم تتغلب فيه العواطف على المنطق في أحيان كثيرة." لكن ينبغي لإسرائيل أن تبقي في يدها حرية المناورة العسكرية، "ولا بديل من غور الأردن كحدود لأمن إسرائيل"، في ضوء ما أثبتته حرب الخليج.(66)

2- إن استخدام صواريخ أرض – أرض بعيدة المدى لضرب أهداف مدنية في إسرائيل، يضع مشكلة المسافات والمناطق في امتحان سياسي جديد، وستكون إسرائيل مضطرة إلى أن تستوعب من جديد أهمية المناطق كعنصر أساسي في أمنها القومي، وخصوصاً تلك المناطق المكتظة بسكان معادين لها ويريدون التحرر من قبضتها.(67)

3- لقد أعطت حرب الخليج إسرائيل إدراكاً جديداً لأهمية المناطق التي توفر لإسرائيل عمقاً استراتيجياً حيوياً جداً. لكن إسرائيل تستطيع، من جهة أخرى، أن تستغل تفوقها العسكري بصورة أفضل؛ فاتفاق يجرد هذه المناطق من السلاح ويحظر وجود قوات عسكرية فيها، إسرائيلية أو غير إسرائيلية، وحالة سلام بين إسرائيل وجيرانها، يتيحان لإسرائيل في حال نشوء أي تهديد عسكري ضدها، أن تنقل قواتها إلى هذه المناطق المنزوعة السلاح والقوات، فتحارب فيها وتنتصر.(68)

في مقابل هذا التيار الوسطي الذي تتميز مرونته في كونه يسلم، فحسب، بوجود بدائل مشروطة تعويضية للأخطار على إسرائيل، التي يمكن أن تنشأ عن تنازلات إقليمية معينة، يستوحي المتشددون من غلاة الصهيونيين من تجربة حرب الخليج لتبرير سياسة "ولا شبر" التي تنتهحها حكومة الليكود: فالقصف الأميركي الكثيف للعراق قد برهن، في رأيهم، أهمية الأرض كعمق استراتيجي؛ والتردد البارز للتحالف العسكري، في دخول المعركة البرية ضد العراق، على الرغم من القوة الجوية الحاسمة التي امتلكها، قد برهن أن المعركة لا تُحسم سوى في البر، وإذا كانت الصواريخ العراقية لم تتسبب إلا بخسائر إسرائيلية طفيفة فإن هذا يعود إلى العمق الاستراتيجي الذي توفره الأراضي المحتلة لها. ولو كانت مرابض الصواريخ العراقية على مسافة قريبة أكثر من إسرائيل، لكانت الإصابات والخسائر الإسرائيلية أكثر بما لا يُقاس. كما أن الطائرات كانت استطاعت، لولا هذا العمق الاستراتيجي، "أن تتسلل وتفرغ حمولتها من السلاح الكيماوي والجرثومي."(69) 

ويتساءل أصحاب هذا الطرح عما كان سيحدث لو كانت ساحة المعركة البرية ضد الجيش العراقي قد جرت على مسافة 20 كيلومتراً من تل أبيب، بينما تحاول دبابات الجيش الإسرائيلي صد هجوم آت من جبال الدولة الفلسطينية (المقترحة)، عوضاً من مواجهة الدبابات العراقية، "التي يتيحها وضع إسرائيل اليوم، من مواقع مسيطرة في غور الأردن، أو حتى من داخل الأردن إذا اقتضت الضرورة ذلك."(70) 

فجذر المشكلة بالنسبة إلى هذا التيار المتشدد، يكمن في عدم التساوق الأصلي بين بنية قوة العدو، وهي كلها نظامية، وبين بنية الجيش الإسرائيلي الذي أساسه قوات احتياط ويتطلب انتشارها بالتالي إنذاراً مبكراً واتخاذ قرار بالتعبئة العامة وتنفيذها، بينما "العمق الاستراتيجي لا يكاد يتوفر لإسرائيل لأن منشآتها الحيوية المستهدفة قريبة جداً من الحدود"، وكل هذه الأمور في رأيه يحوّل مسألتي الهجوم المفاجىء والإنذار الاستخباراتي المطلوب إلى مسألتين مركزيتين في المفهوم الأمني الإسرائيلي، وعلى إسرائيل "في الشرق الأوسط العنيف والمزاجي" أن تكون مستعدة، بالتالي، للنتائج الخطرة التي تترتب على الفشل الاستخباراتي الاستراتيجي؛ فهي لا تستطيع أن تقاوم وتنتصر عند خطوط 4 حزيران/ يونيو 1967، وعليها أن تبقي في يدها "هوامش أمن صغيرة، وتقيم حكماً إسرائيلياً غربي نهر الأردن"، وتمنع "سيادة غريبة على موطننا هذا."(71)

ويرد هؤلاء على سخرية التيار المعارض من أن الصواريخ بعيدة المدى المنطلقة نحو إسرائيل (من العراق أو من سوريا) لن تعترضها يهودا والسامرة وغزة، بالقول إن الخطر الوجودي على إسرائيل يكمن في هجوم بري من الشرق تعززه هذه الصواريخ، بينما جيش إسرائيل النظامي الصغير يتعزز بجيش من الاحتياط تتطلب تعبئته بضعة أيام بعد تلقي الإنذار، ومناقشته، واتخاذ قرار حكومي في هذا الشأن، وأن هذا البرنامج الزمني الفعلي يجب أن يُقارَِن بقوات برية معادية ضخمة "تحتاج إلى بضع ساعات للانتشار على مسافة صفر، في الأردن، والتحرك خلال ليلة واحدة لعبور نهر الأردن والانتشار على طول حدود إسرائيل."(72)  لذا، فإن تخلي إسرائيل عن معظم مناطق يهودا والسامرة (في حل إقليمي وسط)، سيؤدي فوراً في رأيهم "إلى سيطرة م. ت. ف. و'حماس' المشتركة، وإقامة دولة إرهاب عربية"؛ وإذا لم تكن لجبال السامرة وهضاب يهودا قيمة استراتيجية، فلا يمكن في رأيهم أن تُنسب قيمة أمنية حقيقية إلى قوات إسرائيلية ضئيلة متمركزة في قطاع ضيق على طول نهر الأردن (بحسب هذا الحل المقترح)، والتي ستجد نفسها عالقة بين جيش عربي من الشرق ودولة معادية من الغرب. والخطة الأمنية التي يقول بها دعاة الحل الإقليمي الوسط تناقض في الحقيقة مبدأ أساسياً في العقيدة العسكرية ينفي وجود دفاع من دون عمق، أو أهمية للعمق من دون ارتباط بري متصل بالمؤخرة الاستراتيجية، "وإذا لم يكن للعمق الاستراتيجي الذي تمنحه جبال يهودا والسامرة أهمية، فمن الصعب أن نرى أية أهمية أمنية يعزوها هؤلاء الدعاة إلى هضبة الجولان."(73)

 

الاحتلال العقيم

لكن لا يربط بين معارضي التيار المتشدد على الجانب الآخر من المتراس سوى التوافق الأساسي على أن الأراضي العربية المحتلة منذ سنة 1967 لا تشكل تلك القيمة الاستراتيجية التي لا تعوّض بالنسبة إلى أمن إسرائيل. فثمة مقاربات ومعارك مختلفة، بين المشاركين في هذا الجدل، لماهية العمق الاستراتيجي ولمسألة الأرض كقيمة أمنية لإسرائيل، وتعليلات مختلفة أيضاً لأفضلية حل وسط إقليمي، ومفهوم مختلف للحدود، حيث يمكن أن يكون هناك فارق بين حدود الدولة والحدود الأمنية لهذه الدولة.

فمن جهة، هناك تسليم بالخطر المضاعف على إسرائيل في عصر الصواريخ أرض – أرض بعيدة المدى الذي دخلته منطقة الشرق الأوسط، لكن هذا الخطر في حد ذاته، و"ربما أيضاً خطر المدفعية بعيدة المدى"، يدحض المفهوم القائل إن الأراضي المحتلة توفر لإسرائيل العمق الاستراتيجي المطلوب، لأنه في هذه الأوضاع المستجدة لا تعود هناك "أهمية حاسمة لسيطرة إسرائيل على هذه المناطق"، ولا لتمسكها بأية مستعمرة، "عندما تكون كل نقطة في أنحاء إسرائيل تقع ضمن مدى خمس دقائق طيران لصاروخ منطلق من العراق"، وعندما تقع مستعمرة "ضمن مدى خمس دقائق طيران من كفار سابا"، بل إن الأراضي المحتلة تصبح في الحصيلة النهائية "عبئاً على الأمن الجاري".(74)

ومن جهة أخرى، هناك من يرى في مفهوم العمق الاستراتيجي الذي يُنسب إلى الأراضي المحتلة، والذي يتشكل من عشرين كيلومتراً إلى ثلاثين كيلومتراً في الضفة الغربية المحتلة، مفهوماً وهمياً وينطوي على حماقة وطموح عقيم في أوضاع الحرب الحديثة التي تستخدم فيها الصواريخ بعيدة المدى، والتي تبين أفضلية "عقد اتفاقات نزع سلاح واسعة النطاق تضمن مساحات إنذار واضحة وقواعد عسكرية على نهر الأردن عوضاً من مستعمرات تشعل نيران الحقد يوماً بعد يوم."(75)  وعلى إسرائيل أن تكون مستعدة لـ"حل وسط حذر" في هضبة الجولان، لأن مصلحتها الأمنية الأهم هناك، ليست مكاسب الأرض بل تسويات أمنية في إطار سلام مع سوريا، "معززة باتفاقات للتعاون الاقتصادي عامة، وتسوية مشتركة في مسألة المياه خاصة."(76)  فمساحة الأراضي المحتلة، بالنسبة إلى أصحاب هذا الرأي، لا تتضمن ميزات تكفي لتشكل عائقاً جدياً أمام فرق مسلحة على شاكلة فرق الحرب العالمية الثانية، "فكم بالحري عندما يكون فيها نهر شحيح ليس هو الفولغا، وتلال ليست هي جبال الألب"، فلا نهر الأردن ولا جبال يهودا سينقذان إسرائيل. وإذا كانت الميزة العسكرية الدفاعية الكامنة في عمق المناطق ثروة، فإن قيمتها غير مطلقة، كما أثبتت انتصارات إسرائيل في الحربين اللتين بلورتا مكانتها وحصانتها في المنطقة: "حرب 1948 التي انتصرت فيها من عمق مهم، وحرب 1967 التي انتصرت فيها بمساعدة ما من العمق الذي شكلته أرض العدو – سيناء."(77)

وهناك اتجاه يصل بهذه المقدمات إلى استنتاجات سياسية واضحة: فالصواريخ العراقية وصلت إلى حيث وصلت في إسرائيل لأن المستعمرات في الضفة لا تملك أن تحرفها عن طريقها، والصواريخ المنطلقة من العراق أو من سوريا "لن تتوقف في يهودا والسامرة لتطلب إذناً في مواصلة سيرها"، وبالتالي فإن العمق الاستراتيجي الذي يُنسب إلى الأراضي المحتلة لا يعطي إسرائيل الأمن المطلوب، وسياسة "ولا شبر" تعني استمرار حالة الحرب، واستمرار سباق التسلح الذي يشمل أسلحة غير تقليدية، أيضاً من دون أن تشكل سيطرة إسرائيل على الضفة والقطاع عاملاً مساعداً لها في حرب كالتي شنها الأميركيون وحلفاؤهم على العراق؛ وما تحتاج إسرائيل إليه هو عمق استراتيجي من نوع آخر، "يمزج بين القدرة على الدفاع والقدرة السياسية"، أي المحافظة على قدرة الردع وقوة الجيش وتعزيزهما، والسعي للتوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين والعرب على تسويات سلام على أساس الحل الوسط الإقليمي، تضمن نزع السلاح من المناطق التي تجلو إسرائيل عنها، وإلى اتفاقات تقيد التسلح كماً ونوعاً، أو نشر قوات دولية في هذه المناطق المحددة، فينشأ وضع فيه عمق استراتيجي يمنع الحرب.(78)

              لقد شددت مداخلات خبراء أمنيين كبار على مسائل تقع في صلب المسألة موضوع الجدل، وتحدد ماهية الحدود في هذه الحالة المعينة، والماهية الحقيقية لمفهوم العمق الاستراتيجي التي فاتت المعنيين المنخرطين في هذا النقاش، والمفاهيم العسكرية التي أسقطها الانقلاب العالمي في مجال الاتصالات:

1- فقد أُلغيت المسافة بين الجبهة والمؤخرة، لأنه عندما تتوفر نُظم أسلحة يمكن أن تصيب بين عيني العدو من كل مدى تقريباً، لا تعود هناك حاجة إلى التحرك في ساحة المعركة الذي تقول العقيدة العسكرية إنه ضروري لإغلاق المسافات، بحيث يصبح في إمكان السلاح أن يصيب أهداف العدو.(79)

2- وتتيح نظم الأسلحة المتوفرة اليوم تحديد الهدف والإصابة من عمق كبير جداً ومن مسافة كبيرة من الحدود، ولذلك فإن حدود الأمن هي غير حدود الدولة، وحدود دولة إسرائيل هي غير حدودها الأمنية؛ فهذه الحدود الأمنية "هي حدود الأردن الشرقية والشمالية مع العراق ومع سوريا"، وليست الأردن. فإذا تعرضت تسوية قائمة على هذا الأساس لانتهاك طرف من الأطراف، فإن في قدرة إسرائيل – بالتكنولوجيا المتوفرة اليوم – أن تضرب الطرف المنتهك، ولا تغير في شيء ماهية العمق الإقليمي لإسرائيل نفسها.(80)

3- والتعاطي اليوم مع مفهوم العمق الاستراتيجي غلط في الأصل. فالمقصود عملياً في هذا التعاطي، هو العمق العملياتي والتكتي؛ بينما مفهوم العمق الاستراتيجي هو مفهوم جيو – سياسي: حلفاء ثابتون، مصالح مشتركة، البحر والأسطول والأقمار الصناعية، التغطية الدولية، الشعب اليهودي – كلها عناصر عمق استراتيجي لدولة إسرائيل؛ فالعمق الاستراتيجي لا يُعبر عنه بالمساحة الجغرافية فحسب، بل هو أيضاً ذو أبعاد عديدة ويشمل بُعدي السلام والحرب، وتعارض المصالح أو تماثلها بين الدول. وأن تعارض المصالح بين الدول العربية نفسها هو عمق استراتيجي أيضاً لإسرائيل. وعلى صعيد العمق العملياتي والتكتي، فإن ليهودا والسامرة ميزة عملياتية وتكتية في الحرب. لكن للعمق الاستراتيجي، بالمعنى الكامل والمركّب للمفهوم، وزنه المهم أكثر مما للعمق التكتي.(81)

 

بين الاستيعاب والاحتلال

              مما لا شك فيه أن ملاحظة الرئيس الأميركي عن الجغرافيا والأمن في زمننا قد صدمت الجمهور الإسرائيلي الذي سقط منذ عشرات الأعوام أسير الحجة القائلة إن السيطرة الإسرائيلية على الأراضي المحتلة منذ سنة 1967، وخصوصاً الضفة الغربية، تعزز أمن إسرائيل "وأن هذا الأمن سيتعرض للخطر إذا لم تحتفظ إسرائيل بهذه المناطق كلها"؛ إلا إن تجربة القصف بالصواريخ العراقية زعزعت هذه القناعة إلى حد معين، فدفعت رافعي لواء أرض – إسرائيل الكاملة إلى شن حملة ترويع بما كان يمكن أن يصيب هذا الجمهور من كوارث فيما لو أُطلقت هذه الصواريخ من سلفيت أو طولكرم لا من غرب العراق. والحقيقة اليوم هي أن أغلبية الإسرائيليين لا تشغلها سيناريوهات قائمة على هذه الفرضية بقدر ما يشغلها إمكان نشوب حرب عربية – إسرائيلية يمكن إدارتها من مسافة مئات الكيلومترات، من دون استخدام جندي واحد وبندقيته، ومن دون مواجهات بين كتائب الدبابات."(82)

ففي وهج النشوة الإسرائيلية من دحر العراق وسقوط النظام العربي تبرز رؤى لأخطار مستقبلية على إسرائيل، تتبلور خلال المهلة الزمنية التي اكتسبتها إسرائيل من حرب الخليج على خلفية انعدام تسويات سياسية. وهذه الرؤى مختلفة باختلاف المقاربات. فثمة من يرى أن تدمير قدرة العراق العسكرية الذي أوجد فرصاً قد سبّب تهديدات أيضاً تكمن في إمكان نهوض القومية العربية المتطرفة من جديد، مع الأصولية الإسلامية العنيفة النامية وعرش هاشمي يهتز على مسافة نحو 80 كيلومتراً من القدس الشرقية؛ بل إن العالم العربي سيكون مجروحاً ومحبطاً ومذَلاًّ من هزيمة العراق على يد التحالف العسكري بقيادة الولايات المتحدة، الأمر الذي قد يدفع تلك الأنظمة العربية التي اشتركت فيه "إلى غسل أيديها من تهمة التواطؤ على تدمير العراق"، بشن حرب غفران منسقة ضد إسرائيل.(83)  وثمة من يجزم أن التعنت في سياسة "ولا شبر"، خلال هذه المهلة المكتسبة، سيفاقم النزاع ويؤدي مع الوقت إلى تشكل تحالف حربي عربي جديد ضد إسرائيل، ونشوب حرب ستكون الأصعب وقد تتحول إلى حرب غير تقليدية؛ بل سيؤدي أيضاً إلى استمرار الاضطراب في المنطقة الواقعة بين الأردن والبحر حيث يعيش اليوم نحو 6,2 ملايين نسمة، بينها 2,5 مليون عربي، وسيكون لكل هذه الأمور أثمان آنية تُجبة من الاقتصاد الإسرائيلي، لأنه سيكون على إسرائيل أن تستثمر أكثر فأكثر في المجال الدفاعي عوضاً من مجالات حيوية أخرى. فالمفروض بإسرائيل بحسب هذا الرأي أن تحول، في هذه المهلة، أفضل الجهود والموارد لتلبية مهمتين مركزيتين: التخطيط  لاقتصاد صلب واستيعاب الهجرة من الاتحاد السوفياتي، وإقامة العلاقات الدولية التي تضمن نجاحها فيهما؛ فهي بعد حرب الخليج أمام حسم مصيري، فإما أن تستوعب مليون مهاجر يهودي، وإما أن تستمر في حكم مليوني فلسطيني، والأمر ليس مساعدات مالية وإنما توازن الطاقات الوطنية؛ "فإما أن نواصل لجيل آخر أو جيلين، استثمار معظم هذه الطاقات في مشكلات الأمن واحتلال شعب آخر، وإما أن نحولها إلى الداخل لمسائل التعليم والمجتمع واستيعاب الهجرة."(84)

ومع ذلك، فإن ثمة من يرى أن استيعاب هذه الهجرة الجماعية خلال العقد الأخير من القرن، هو أحد أربعة عوامل تؤذي مناعة إسرائيل، والعوامل الأخرى هي مشكلة أزمة المياه في إسرائيل والمنطقة كلها، والنظام القائم في الدولة، واستمرار الوضع القائم في المناطق.(85)   وثمة من يحدد الخطر الوجودي على دولة إسرائيل في معطيين موضوعيين اثنين: نمو السكان العرب المعادين لإسرائيل ووتيرة تكاثرهم الطبيعية العالية، وانتشار الأسلحة غير التقليدية في الشرق الأوسط. فالأول يعني إمكان اصطفاف ما لا يقل عن 5 ملايين جندي مدربين ومسلحين بسلاح متطور، بالإضافة إلى وجود نحو مليون ونصف المليون عربي يعيشون على مقربة من السكان اليهود ويؤيدون الانتفاضة؛ والثاني يعني أن مفهوم الأمن الإسرائيلي، الذي يستند إلى تفوق إسرائيل التقني في السلاح والقوة البشرية، قد فقد صوابيته بامتلاك الدول العربية أسلحة غير تقليدية أيضاً، وأن السلام الشامل مع العرب – بالتالي – هو وحده الذي سيُبعد عن إسرائيل هذين الخطرين ويضمن وجودهما، وإلا فإن حروب المستقبل التي ستكون "الأصعب والأشد إيلاماً على الجبهة وفي المؤخرة"، ستكون دائماً "حروباً مصيرية ووجودية".(86)

المهلة في مصلحة من؟

              في السنوات 1969 – 1973، كان القول إن "وضع إسرائيل لا يمكن أن يكون أفضل مما هو عليه" شائعاً. لكن حرب 1973، كانت لها انعكاسات اجتماعية وسياسية بعيدة الأثر، انعكست في أمرين: تمزق الإجماع القومي الذي عبر عن نفسه في الانقلاب السياسي بصعود الليكود اليميني القومي الذي لم يكن مجرد انتقال عادي للسلطة في نظام برلماني؛ وتمزُّق ثقة الإسرائيليين بقوة إسرائيل اللامحدودة على الصعيد الإقليمي، الذي أثار الشكوك في القدرة على البقاء في حد ذاتها،(87)  فتحول ذلك القول المطمئن الشائع إلى سؤال مقلق: في مصلحة من يعمل الزمن؟ وعندما انغمس العراق، وهو الاحتياطي الأساسي لجبهة شرقية عربية مؤتلفة ضد إسرائيل، في حربه مع إيران في بداية الثمانينات، كان لسان حال المسؤولين الإسرائيليين طوال ذلك العقد، يُذكّر بتلك الطمأنينة الإسرائيلية التي نشأت بعد توقف حرب الاستنزاف. واليوم بعد حرب الخليج، هناك من يسأل من جديد: في مصلحة من يعمل هذا الزمن – المهلة؟

إن الذين لم يردعهم مثل هذا السؤال العاصي من الخبراء والأكاديميين المعنيين، اختلفوا بين رد يحاذر الجزم وآخر لا يحاذره: الأول ملتبس وممزوج بالتمني؛ فالأمر يتعلق بتطور النظام العالمي وبأحداث لا يمكن التكهن بها، مثل مفاجأة العالم بنهاية الحرب الباردة وانهيار الإمبراطورية السوفياتية. والعالم يمكن أن يسير في اتجاه الصراع بالوسائل الاقتصادية والسياسية، أو في اتجاه الاضطرابات والانقلابات والحروب الإقليمية والعالمية، والشرق الأوسط في هذا السياق هو برميل بارود، لا بسبب النزاع العربي – الإسرائيلي فحسب، بل لأن فيه نفطاً وثراء وشعوباً فقيرة أيضاً، ولكن على إسرائيل ألا تجلس على الجدار بل عليها استيعاب الهجرة الجماعية وتحقيق تماسك الشعب المنقسم منذ حرب 1967، والذي طوّر نظامين مختلفين من الأهداف القومية، وليس واضحاً في مصلحة أي منهما يعمل الزمن.(88)

أما الرد الأخير غير المحاذر، فلم يتردد في الجزم: المسارات التي بدأت قبل حرب الخليج ستستمر، وستتفاقم النزاعات السياسية بين هذين النظامين، كما ستتفاقم النزاعات الإثنية والطبقية حتى نشوب الحرب المقبلة.(89)  وهذا التقويم الشكّاك ليس مُبعداً عن الواقع الإسرائيلي؛ فالليكود الحاكم، المتحصِّن خلف متراسه، يضم أشد معارضي اتفاق السلام مع مصر (يتسحاق شمير وموشيه آرنس)، ومخططي حرب لبنان (أريئيل شارون ورفائيل إيتان)، واليمين الصهيوني المتطرف من دعاة أرض – إسرائيل الكاملة ودعاة طرد العرب منها (يوفال نئمان ورحبعام زئيفي). وقد بلّغ هذا الحكم رسالته ببلاغة مثلى، قبل نشوب حرب الخليج وبعدها، والمؤسسة العسكرية هي في طور ترميم الصدوع وسد الثغرات في مفاهيمها الأمنية والإعداد لحرب المستقبل. والإسرائيليون المعنيون الذين ما زالوا حتى يومنا هذا يعيدون نبش حرب 1973، بحثاً عن المزيد من الدروس، سيواصلون البحث عن المزيد منها في حرب الخليج. 

(1)   أنظر: باروح كيمرلنغ، "حرب المؤخرة ضد الهيمنة في الخارج والداخل:، "بوليتيكا"، العدد 37، آذار/مارس 1991، ص 9 ـ 18.

(2)   أريئيل شارون، "هآرتس"، 15/4/1991.

*  مركز المفاعل النووي الإسرائيلي في بلدة ديمونا.

(3) آرييه شافيط، "في المناقشات أكثر مما يحتمله العقل"، "بوليتيكا"، العدد 37، آذار/مارس 1991، ص 7.

(4)  بحسب عضو الكنيست يوسي ساريد (راتس)، في: يهودا ليطاني، "سيناريوهات شرقية"، "عال همشمار"، 15/2/1991.

(5)  أنظر: يورام بيري، "إسرائيل ليست بحاجة إلى نافذة"، "دافار"، 25/2/1991؛ فيفا لانير، "ثروة استراتيجية بقياسات طبيعية"، "دافار"، 8/3/1991.

(6)  "مفهوم الأمن القومي"، افتتاحية "عال همشمار"، 10/2/1991.

(7)  ناحوم بارنيع، "أميركا - إسرائيل في صباح اليوم التالي"، "يديعوت أحرونوت"، ملحق السبت، 18/1/1991، ص 6، 18.

(8)  عاموس غلبواع، "الردع"، "معاريف"، 5/1/1991.

(9)  يوسف ألفر، "مرة أخرى تُنسف مفاهيم"، "هآرتس"، 3/2/1991.

(10)  أرنستو كاهان، "السلام والسلام فقط"، "هآرتس"، 26/3/1991.

(11) رئيس الأركان المعتزل (في آخر آذار/مارس الفائت) دان شومرون، في: آفي بنياهو، "لم أحقق رأس مال سياسي في وظيفتي"، "عال همشمار"، ملحق السبت، 22/3/1991، ص 7-9.

(12) الزميل في معهد فان لير للأبحاث ألوف هار إيفين، في: دوريت غيفن، "ماذا يمكن أن نفعل بألف وخمسمائة مليار دولار؟"، "عال همشمار"، ملحق الفصح، 29/3/1991، ص 4 – 5.

(13) مساعد وزير الدفاع اللواء (احتياط) يسرائيل طل، في: يتسحاق بن – حورين، "العراق بالنسبة إلى الولايات المتحدة نمر من ورق، وهو بالنسبة إلينا قوة إقليمية خطرة"، "معاريف"، ملحق الفصح، 4/4/1991، ص 7 – 8.

(14) ستاف فارتهايمر، "عن الاستقلال وعن الاقتصاد وعن الأمن"، "هآرتس"، 4/4/1991.

(15) العقيد (احتياط) غيورا فورمان، "الأمن فيما بعد النشوة"، "عال همشمار"، ملحق الفصح، 29/3/1991، ص 12 – 13.

(16)  المؤرخ العسكري د. مئير باعيل، في: جادي ياتسيف، "تفسير آخر"، "عال همشمار"، 10/2/1991.

(17)  شلومو غلاي، "الأمن بعد صدام"، "هآرتس"، 3/3/1991.

(18)  المصدر نفسه.

(19)  أنظر شاي فلدمان في: آفي بنياهو، "التهديد المزدوج – صواريخ وربط"، عال همشمار"، 7/1/1991؛ رؤوفين فدهتسور، "فرصة لترميم المفهوم"، "هآرتس"، 15/3/1991، و"إسرائيل – تحديث العقيدة العسكرية"، "معراخوت"، العدد 319، حزيران/يونيو – تموز/يوليو، 1990، ص 20 – 29؛ زئيف بيغن، "استراتيجية المناطق"، "معاريف"، 1/3/1991.

(20)  يتسحاق رابين، "هآرتس"، 19/2/1991.

(21)  المصدر نفسه.

(22) وزير الدفاع موشيه آرنس، في: آفي بطلهايم، "الرد الإسرائيلي لم يعد ملائماً"، "معاريف"، 8/3/1991.

(23)  طل، مصدر سبق ذكره.

(24) فورمان، مصدر سبق ذكره.

(25)  طل، مصدر سبق ذكره.

(26)  رابين، مصدر سبق ذكره.

(27)  طل، مصدر سبق ذكره.

(28)  هار إيفين، مصدر سبق ذكره.

(29)  رون بن – يشاي، "لسلاح الجو قدرة على منع إطلاق سكود"، "يديعوت أحرونوت"، ملحق السبت، 1/2/1991، ص 1 – 2.

(30)  آرنس، مصدر سبق ذكره.

(31)  داني ياتوم، "هآرتس"، 11/3/1991.

(32)  زئيف شيف، "تحليل صعب في الجيش الإسرائيلي"، "هآرتس"، 15/3/1991.

(33)  المدير العام لوزارة الدفاع، دافيد عفري، في: أمير أورن وأون ليفي، "التهديد الذي يبقى من دون رد – سيستخدم"، "دافار"، 8/3/1991.

(34)  "مفهوم الأمن القومي"، مصدر سبق ذكره.

(35)  درور ساديه، "إسرائيل والأقمار الصناعية والإنذار المقبل"، "هآرتس"، 7/3/1991.

(36)  زئيف شيف، "لنحذر موهبة 1967"، "هآرتس"، 1/3/1991؛ "التسوية مفضلة على الأراضي"، افتتاحية "هآرتس"، 20/3/1991.

(37)   عوزي لنداو، "الحرب ما بعد الحرب"، "معاريف"، 25/1/1991.

(38)  "مفهوم الأمن القومي"، مصدر سبق ذكره.

(39) غلاي، مصدر سبق ذكره.

(40)  شيف، "لنحذر موهبة 1967"، مصدر سبق ذكره.

(41)  فدهتسور، مصدر سبق ذكره.

(42)  رؤوفين فدهتسور، "وصية شومرون العملياتية"، "هآرتس"، 26/3/1991.

(43)  شومرون، مصدر سبق ذكره.

(44)  عفري، مصدر سبق ذكره.

(46)  المصدر نفسه.

(47)  السكرتير السياسي لحزب مابام، جادي ياتسيف، "الأساليب ستتغير، وكذلك الأهداف"، "هآرتس"، 13/3/1991.

(48)  عفري، مصدر سبق ذكره.

(49)  باعيل، مصدر سبق ذكره.

(50) ساديه، مصدر سبق ذكره.

(52)  المصدر نفسه.

(53)  طل، مصدر سبق ذكره.

(54)  المصدر نفسه.

(55)  فورمان، مصدر سبق ذكره.

(56)  طل، مصدر سبق ذكره.

(57)  فورمان، مصدر سبق ذكره.

(58)  المصدر نفسه.

(59)  المصدر نفسه.

(60) "عال همشمار"، 22/2/1991؛ طل شاحف، "لا يمكن تجزئة المناطق"، "معاريف"، 22/3/1991.

(61)  "هآرتس"، 17/3/1991.

(62)  شارون، مصدر سبق ذكره.

(63)  "هآرتس"، 11/3/1991.

(64)  المصدر نفسه، 8 و11/3/1991؛ جدعون ألون، "صفة الدولة تلزم"، "هآرتس"، 13/3/1991.

(65)  "هآرتس"، 19/3/1991؛ "دافار"، 19/3/1991؛ المصدر نفسه، 20/3/1991.

(66)  الجنرال موتا غور (معراخ)، "عدالة الحرب"، "معاريف"، 18/1/1991؛ "تشديدات أمنية للتسوية"، "دافار"، 5/3/1991.

(67)  جاد يعقوبي، "السماء لن تفتتح من دوننا"، "هآرتس"، 7/3/1991.

(68)  باعيل، مصدر سبق ذكره.

(69)  رئيس مجلس يهودا والسامرة وغزة، يسرائيل هارئيل، "أهمية العمق الاستراتيجي"، "هآرتس"، 18/2/1991.

(70)  المصدر نفسه.

(71)  زئيف بيغن، "الخبرة والخبراء"، "هآرتس"، 7/3/1991.

(72)  زئيف بيغن، "استراتيجية المناطق"، "معاريف"، 1/3/1991.

(73)  المصدر نفسه.

(74)  ألفر، مصدر سبق ذكره؛ ياتسيف، مصدر سبق ذكره.

(75)  أ. ب. يهوشواع، "الوحدة الكاملة الواضحة بين السكين والصاروخ"، "بوليتيكا"، العددد 37، آذار/مارس 1991، ص 5.

(76)  عضو الكنيست يائير تسابان، في: يسرائيل زمير، "الحرب التي ستلد السلام المقبل"، "عال همشمار"، 18/1/1991.

(77)  أ. شفايتسر، "ليس وقت إخافة النفس"، "هآرتس"، 8/3/1991.

(78)  شمعون بيرس، "استراتيجية من دون عمق"، "معاريف"، 22/2/1991. [أنظر قسم الوثائق في هذا العدد من "مجلة الدراسات الفلسطينية"]؛ "التسوية مفضلة على الأراضي"، مصدر سبق ذكره.

(79)  فورمان، مصدر سبق ذكره.

(80)  هار إيفين، مصدر سبق ذكره؛ أنظر أيضاً: ألفر، مصدر سبق ذكره، بشأن بروز الأردن كدولة عازلة حيوية لأمن إسرائيل تدحض الصيغة الإسرائيلية القائلة إن "الأردن هو فلسطين".

(81)  طل، مصدر سبق ذكره.

(82)  "التسوية مفضلة على الأراضي"، مصدر سبق ذكره.

(83)  زئيف بيغن، "دبلوماسية جديدة"، "معاريف"، 15/2/1991؛ ساريد، مصدر سبق ذكره.

(84)  أنظر طروحات شمعون بيرس، مصدر سبق ذكره؛ زئيف شيف في مصدرين سبق ذكرهما؛ أ. شفايتسر، مصدر سبق ذكره؛ تسابان، مصدر سبق ذكره.

(85)  ألفر، مصدر سبق ذكره.

(86)  أنظر: كاهان، مصدر سبق ذكره؛ رابين، مصدر سبق ذكره؛ طل، مصدر سبق ذكره.

(87)  طل، مصدر سبق ذكره.

(88)  المصدر نفسه.

(89)  أنظر: كيمرلنغ، مصدر سبق ذكره.