Mohamad Bakri: We Resist with Art
Full text: 

طرح الاجتياح العسكري الإسرائيلي لمخيم جنين ولعموم الضفة الغربية في سنة 2002، أسئلة سياسية وحقوقية وإنسانية وأمنية عن الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي على دول وشعوب العالم، لكنه لم يطرح إلّا سؤالاً واحداً على المؤسسة وأكثرية المجتمع الإسرائيلي، إنه سؤال الأمن الإسرائيلي.
الفرق الجوهري في سؤال الأمن يكشف التجاهل الإسرائيلي الوقح والمعزز بغطرسة القوة، للاحتلال المستدام الجاثم بلا رحمة على صدور ملايين الفلسطينيين. من هذا الفرق أراد محمد بكري السينمائي والمسرحي الفلسطيني، أن يقول للعالم بلغة الصورة الحية وبكلمات الضحايا "كفى للاحتلال" الذي يُعتبر المنتِج الرئيسي للكوارث الإنسانية والكراهية والاضطهاد والنهب والموت والتمييز والعنف.
انطلق بكري برفقة المصور رامز قزموز ومهندس الصوت نصر من الناصرة إلى جنين في رحلة استمرت ساعات طويلة محاولاً تفادي قوات الاحتلال المنتشرة داخل مدينة جنين وفي محيطها، وتُوجت الرحلة المحفوفة بجميع أنواع المخاطر بدخول مخيم جنين الخارج لتوّه من معركة شرسة، والمعلَن منطقة عسكرية مغلقة محظوراً دخولها.
كان غبار الدمار ورائحة الموت ورائحة انفجار الصواريخ تملأ الجو، وسط حركة حذرة للناس الذين يتجولون بين أنقاض مخيمهم، يجمعون بعض الأشلاء من أسفل المباني المدمرة، ويتفقدون خسائرهم التي أعادتهم إلى بداية صفرية. كانت كل حركة محفوفة بالمخاطر جرّاء القذائف والألغام التي لم تنفجر، والقنّاصة المتأهبين والآليات العسكرية التي ما زالت تُحكم سيطرتها على أجزاء من مدينة جنين.
أراد بكري أن يُقدم رواية الضحايا قبل أن تجفّ الدماء، وكان له ما أراد، فقد انتشر فيلم "جنين جنين" بسرعة قياسية محدثاً تضامناً مع شعب يقاوم المحتلين بإرادة لا تلين، واستنكاراً للعدوان والمعتدين وجرائمهم في حقّ شعب أعزل. وقد زاد المنع الإسرائيلي الفيلمَ انتشاراً، خلافاً لرغبة المحتلين الذين أرادوا الاستفراد بتقديم رواية الجلّاد.
عن تجليات معركة فيلم "جنين جنين" بعد قرار المحكمة الإسرائيلية منعَ عرض الفيلم وإتلافه، ارتأت "مجلة الدراسات الفلسطينية" محاورة الفنان محمد بكري لمعرفة خبايا الصراع على جبهة الفن والثقافة.

مَن يملك القوة يملك الحقيقة في العرف الإسرائيلي

قررت المحكمة الإسرائيلية مصادرة جميع نسخ فيلم "جنين جنين"، وإلزامك كمخرج للفيلم بدفع تعويض قدره 55,000 دولار، فضلاً عن 15,000 دولار كمصاريف قانونية أُخرى للمدعي نسيم مجناجي، مقدم (احتياط) في جيش الاحتلال. وكانت الحيثيات التي استندت إليها المحكمة، عدم التزامك بالحقيقة وقيامك بتشويه الأحداث وتقديم الرواية الفلسطينية على أنها حقيقة وحيدة. وكان قرار الرقابة العسكرية الإسرائيلية القاضي بمنع الفيلم قد استند أيضاً إلى تهمة تزييف الحقائق من خلال اتهام الفيلم لجيش الاحتلال بارتكاب جرائم حرب، كأن ارتكاب جرائم الحرب مقبول، لكن توثيقها مرفوض ويعامَل كجريمة. كيف تنظر إلى ذلك من زاوية قانونية، ولماذا تجاهلت المحكمة الإسرائيلية الشهادات التي وثّقتها من داخل المخيم مستبعدة أيضاً تقارير منظمات حقوقية دولية ومحلية وإسرائيلية؟

 

 

سأنطلق بالإجابة عن هذا السؤال، من تعامل الحكومة الإسرائيلية مع قرار المحكمة الجنائية الدولية بشأن امتلاكها الولاية القضائية على الوضع في فلسطين، وعلى الأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ سنة 1967، وتحديداً غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية. هذا القرار الذي يحتمل تقديم مسؤولين وجنرالات إلى المحاكمة بتهمة القيام بجرائم حرب في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أخافَ إسرائيل وجعلها "تقيم الدنيا ولا تقعدها." قال نتنياهو إن هذه المحكمة تعتمد على الأكاذيب على خلفية العداء للسامية، وهي وصفة تتكرر "كل ما دقّ الكوز بالجرّة"، ومع كل نقد للانتهاكات والجرائم الإسرائيلية.

اتهامي بالعداء للسامية في فيلم "جنين جنين" يشبه ما حدث مع فيلم حنا ك. (Hanna K.) في سنة 1983 لمخرجه كوستا غافراس، وهو فيلم من بطولتي بمشاركة الممثلة الأميركية جيل كلايبورغ، حين اتهمت الدوائر الإسرائيلية كوستا غافراس باللاسامية ونشرت تصريحاً اعتراضياً مفصلاً من ثلاثين بنداً وترجمته إلى عدة لغات، في محاولة للبرهنة على أن الفيلم معادٍ للسامية ويُحرّض على إزالة إسرائيل من الوجود، مع العلم بأن الفيلم حاول أن يكون موضوعياً في رؤيته، لكن عندما طرح ولأول مرة قضية حقّ العودة للفلسطيني في السينما العالمية، اعتُبر ذلك تهديداً لوجود دولة إسرائيل. وأذكر أيضاً عندما كنت واقفاً مع زوجتي في باريس أمام دار السينما في الشانزليزيه في باريس في العرض الأول للفيلم، اتصل أحدهم بدار السينما مبلّغاً عن وجود قنبلة موقوتة في القاعة، الأمر الذي أربك الجمهور وألغى العرض في ذلك اليوم!

بالعودة إلى السؤال، فقد أعطت المحكمة المركزية في اللد، حرية كاملة للمحامي المدعي والشاهديَن اللذين جلبهما كي يتهموني بالكذب وبترويج ادعاء أن الفيلم ما هو إلّا أكاذيب من أوله إلى آخره، وأنه عبارة عن خيال علمي (science fiction)، ولا يمتّ إلى الواقع بصلة، وهو محض تشويه للحقيقة! متجاهلين حقيقة تدمير وسط المخيم بالجرافات بوجود سكان في بعض المنازل، ومتجاهلين المرأة الحامل التي أطلق أحد القناصة الرصاص وأصابها وهي في شهورها المتقدمة في الحمل، ولم تتمكن من إرضاع طفلها فيما بعد، ومتجاهلين أيضاً دفن معاقٍ على كرسي العجلات تحت الأنقاض؟

لقد تجاهلوا عذابات الضحايا التي عبّر عنها الفيلم بصدق. والأنكى من ذلك أن الدعاية المعادية للفيلم زعمت أن أبناء المخيم الذين ظهروا في الفيلم قرأوا من لافتات كُتبت عليها النصوص التي أردتُ أن يقولوها، مدّعين بذلك أنني لفقت الأكاذيب ووضعتها في أفواه الناس، مع أنني قضيت خمسة أيام خلال التصوير في مكان مدمر بعد قصف متواصل دام أسبوعين، ومثلما قال أحد الشاهدَين: لقد تم تبديل الكتائب الإسرائيلية بحيث إنها تناوبت في الهجوم ثلاث مرات. وأختم هنا بالقول: ألا تكفي شهادات منظمة بيتسيلم ومنظمات حقوق الإنسان الأُخرى عمّا جرى في مخيم جنين وعن جرائم عديدة جرى توثيقها مباشرة كجريمة قتل المصاب بالتوحد إياد الحلاق، وتأكيد قتل الشاب عبد الفتاح الشريف وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة بدلاً من إسعافه؟ ثم هل هناك ملكية لأحد على الحقيقة؟ في العرف الإسرائيلي مَن يملك القوة يملك الحقيقة!

بعد كارثة مخيم جنين رفضت الحكومة الإسرائيلية تطبيق قرار مجلس الأمن الذي دعا إلى تشكيل فريق دولي محايد للتحقيق والتدقيق في الأحداث التي هزت العالم، كما رفضت الشهادات الحيّة التي قدمها فيلم "جنين جنين". لماذا درجت حكومات إسرائيل على التعامل فوق القانون واعتماد شريعة "أنت الخصم والحكم"؟ ولماذا تكرر إسرائيل رفض التحقيق المحايد في المجازر، بما في ذلك تقرير غولدستون بشأن الجرائم في قطاع غزة، واستمرار استخدام تهمة العداء للسامية في وجه كل مَن ينتقد جرائم الاحتلال؟

دعني أستخدم المثل الشعبي الذي يقول "حرامي الدجاج دائماً يتحسس رأسه" خوفاً من وجود ريشة عالقة من قن الدجاج تكشف سرقته. هم سرقوا البلد وادعوا ملكيتها التاريخية استناداً إلى أيديولوجيا تعصبية، وكل مَن يرفض هذا هو معتدٍ وكافر ويحقّ إقصاؤه دفاعاً عن وجودهم! وللأسف فإن النظام الدولي لا يحاسبهم على انتهاكاتهم، والمشكلة أن دولاً عربية عديدة تتحالف معهم من دون أي قيد أو شرط.

العالم يدفع لهم فاتورة المحرقة حتى يومنا هذا، ويضعهم فوق القانون، فلا عجب في أن يضربوا بعرض الحائط قرارات الأمم المتحدة وتقارير حقوق الإنسان كافة. وفوق ذلك يدّعون أنهم يملكون الحقيقة، وكل مَن يخالف ادعاءاتهم هو كاذب ومحرّض ومعادٍ للسامية. إنهم يحتكرون ملكية الضحية الأبدية، مُدّعين أنهم الضحية الوحيدة في العالم، وأن الضحايا الأُخرى لا تقارَن بهم. والدليل على ذلك موقف إسرائيل الباهت من ضحايا مجازر وقعت بحقّ شعوب أُخرى كمجزرة الأرمن في سنة 1915 خلال الحرب العالمية الأولى، والتي لم تعترف إسرائيل بها حتى يومنا هذا، ليس فقط من باب الحفاظ على مصالحها مع تركيا، بل من أجل تكريس احتكار مكانة الضحية أيضاً، وهو احتكار يبرر الجرائم واستخدام القوة المفرطة تحت عنوان الأمن والأمان، ومن أجل ألّا تتكرر المحرقة مرة أُخرى مثلما يعتقدون. هذا المنطق الذرائعي يتناقض مع القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، ومع الواقع الذي يتفوقون فيه بامتلاك قوة عسكرية فائضة عن حاجتهم إلى الأمن.

الإسرائيليون يتجاهلون وجود احتلال

الخطاب السياسي والإعلامي الإسرائيلي يبرر تدمير أجزاء من مخيم جنين وأجزاء من البلدة القديمة في نابلس وأماكن أُخرى في مدن ومخيمات الضفة والقطاع، ويبرر قتل مقاومين ومدنيين وتشريد آلاف الفلسطينيين مجدداً، وهذا كله بذريعة حماية مدن وبلدات إسرائيلية تعرضت لهجمات فلسطينية. لماذا تتجاهل المؤسسة الإسرائيلية دورها في رفض الحقوق الفلسطينية المشروعة والمعرّفة في القانون الدولي، وتقوم بتأجيج الصراع وصناعة الكراهية عبر الاحتلال والاستيطان والسيطرة على شعب آخر وإغلاق مسارات الحل السياسي كافة؟ وكيف ترى ذلك وأنت المتهم بتجاهل الأسباب الإسرائيلية لاقتحام مخيم جنين في فيلمك الشهير؟ وما حقيقة المشهد الأرشيفي الذي ظهر فيه الضابط الإسرائيلي؟

الخطاب السياسي والإعلامي الإسرائيلي صوّر اجتياح مدن الضفة ومخيماتها في سنة 2002، وتدمير جيش الاحتلال البنية التحتية للسلطة وللمجتمع الفلسطيني خلال العملية العسكرية التي أُطلق عليها اسم "السور الواقي"، على أنهما ردة فعل على التفجيرات الفلسطينية في العمق الإسرائيلي، وأن هدفهما حماية أمن الإسرائيليين. وقد اعتبر الإسرائيليون الرد عملاً مشروعاً، مروّجين لذلك الخطاب عالمياً، وللأسف لاقوا آذاناً صاغية في الدول الغربية، وخصوصاً لدى إدارة بوش الابن. لكن هذه الدول وهذه الإدارة قفزت عن السبب الفعلي الذي أجج الصراع، وهو احتلال الأراضي الفلسطينية والسيطرة على شعب وسلبه حريته ونهب موارده. لقد تجاهلت حكومة الاحتلال والدوائر الغربية أن الاحتلال مسؤول ومنتِج لردات الفعل الفلسطينية كلها، سواء عبر الأدب والشعر والفن والاحتجاج السلمي أو المقاومة. لم يسأل الإسرائيليون أنفسهم، ما الذي يدفع مئات الشبان وهم في مقتبل العمر إلى أن يفجروا أنفسهم ويخسروا حياتهم؟ لماذا لم يتوقفوا عند دورهم ومسؤوليتهم في خنق وإذلال وقهر الفلسطينيين وإغلاق أفق الحلول السياسية أمامهم، ومساهمتهم بالتالي - إلى جانب أسباب أُخرى - في خلق ظاهرة العمليات الاستشهادية. لقد دفع الفلسطينيون ثمناً باهظاً عندما استخدمت إسرائيل التفجيرات ذريعة لبناء جدار التوسع والفصل العنصري. لكن المؤسسة الإسرائيلية لم تُجب عن سؤال لماذا اختار الشبان هذا الأسلوب قبل اجتياح سنة 2002 وفي أثنائه، ولماذا تكررت ظاهرة العنف بأسلوب الطعن والدهس، لكن بمبادرات فردية، واستمرت مقاومة الاحتلال والاستيطان بأساليب متنوعة، بل في المقابل لم تستجب دولة الاحتلال للمطالب والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ولا تزال تراهن على استسلامه وخضوعه. وأود القول هنا، إنه ما دام الاحتلال والاستيطان وعلاقات السيطرة الاستعمارية باقية ومستمرة، فإن دورات العنف والمقاومة لن تنتهي، بل ستتجدد إلى أن ينال الشعب حريته، وهذا ما تبرهنه تجارب جميع الشعوب التي تعرضت للاحتلال والاستعمار.

أمّا فيما يتعلق بـ "اللقطة الأرشيفية" التي استخدمها الضابط الإسرائيلي في ادعائه وناصرته فيه المحكمة، فجوابي هو أن الأفلام الوثائقية عادة ما تستخدم لقطات من الأرشيف، وجميع الأفلام التي تحدثت عن الحرب العالمية والحروب بصورة عامة، تستخدم الأرشيف، وأنا بدوري استخدمت صورة من الأرشيف تدعم الشهادات، لكنها لا تعني أن الجندي صاحب الصورة هو مَن قام بالعمل.

جيش الاحتلال الذي يستبيح الأرض الفلسطينية في أثناء الاجتياحات متهم يومياً بممارسة انتهاكات، فالجنود يأتون كل يوم للاعتقال أو القتل، وهم متوفرون لحماية المستوطنين الذين يسرقون الأرض الفلسطينية ويقتلعون الأشجار، ويأتون لتدمير المنازل ومصادرة الأراضي وقمع المحتجين وإدامة النكبات، ولا يأتون للتنزه أو في رحلة سياحية.

"الجلاّد المقدس" يحتكر مكانة الضحايا

هناك دائماً روايتان للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وفيلم "جنين جنين" قدم رواية الضحايا، فجميع الذين شاهدناهم في الفيلم ضحايا يعتصرهم الألم، وتحدثوا عن عذاباتهم ومعاناتهم، لكن من الملاحظ غياب مسؤولين في السلطة والتنظيمات، بينما المحكمة الإسرائيلية والخطاب السياسي والإعلامي اعتمدا رواية الجنود الذين صنعوا مأساة المخيم. كيف تنظر إلى التناقض بين الروايتين؟

حرصت على ألّا يتحدث الفيلم عن بطولات فلسطينية، فلم أصور أحداً من المقاتلين الذين خاضوا معركة الدفاع عن المخيم، ولم أتعرض للصمود الفلسطيني المدهش، وإنما تركت للمُشاهد قراءة ما بين المَشاهد. أردت كشف حقيقة العقاب الجماعي الذي تعرّض له سكان المخيم، ولهذا قدمت شهادات البشر الذين دفعوا الثمن من دون أن يكونوا مسؤولين عن العمليات وليس لهم صلة بها. الشهادات تمثل مجتمع المخيم، وتضم أطفالاً وفتية وفتيات ونساء وكبار سن وشباناً. لم أقدم مقاتلين ولا مسؤولين في السلطة وأجهزتها، ولا مسؤولين في الأحزاب والتنظيمات، ولا منظمات حقوقية.

لماذا دُمرت حياة أهالي مخيم جنين ليتم إدخالهم في نكبة جديدة؟ إنه أحد الأسئلة غير المباشرة للفيلم. ثم لماذا يُحظر على الضحايا أن يكونوا ضحايا بمنطق ذرائعي عجيب! ويتم احتكار مكانة الضحية من قبل "الجلاد المقدس" والمستعمِر؟ أردت في فيلم "جنين جنين" أن يقول هؤلاء حكاياتهم المؤلمة من دون وصاية أو تدخّل. تلك الشهادات لاقت بعد عرض الفيلم تعاطفاً كبيراً لأنها صادقة وحرة ومسنودة بالوقائع المأسوية التي صنعها الجنود: كالبيوت المدمرة، ومقابر الشهداء، والجرحى، والمشردين بلا مأوى، ورائحة الموت، وذلك كله بوجود الآليات العسكرية والجنود. لكن هذا لم يَرُق للمؤسسة الإسرائيلية التي تتعامل مع رواية واحدة ومعلومة واحدة وتحليل واحد ونتيجة واحدة هي الرواية الإسرائيلية، وما عدا ذلك تعتبره كذباً وافتراء حتى لو جاء على لسان إسرائيليين يهوداً، أفراداً ومنظمات.

حاولتُ في أثناء إنتاج الفيلم إجراء مقابلة مع سائق البلدوزر "دي سي 9" التي دمرت البيوت بيتاً بيتاً، لكني وجدته فخوراً ببطولته في تدمير بيوت المخيم، وكان في حالة عصابية وهو يسرد تجربته، ولهذا قررت استبعاده كي لا أختصر الاحتلال وما يصنعه من مصائب بجندي واحد. فهذا الجندي برغي في آلة عسكرية ضخمة مسؤولة عن سياسة إقصاء الفلسطينيين وجلب الكوارث لهم. والسبب الآخر في عدم تقديم الرواية الإسرائيلية على لسان أصحابها، أن هذه الرواية تتربع صدارة وسائل الإعلام، فطوال حياتي وأنا أسمع وأقرأ وأشاهد الرواية الإسرائيلية؛ لقد صنع الإسرائيليون عشرات ومئات الأفلام التي تتنكر لوجود الفلسطيني، معتبرين أن مناهضتنا ورفضنا للاحتلال ومطالبتنا بحقوقنا تندرج في خانة العداء للسامية وتشكل خطراً على الوجود اليهودي. لذلك قررت صرف النظر عن رواية إسرائيلية حاضرة بقوة، وتقديم الرواية الفلسطينية غير الموجودة، أو الموجودة على هامش المشهد الإعلامي والثقافي، وهذا ما أغاظهم، فنحن نسمع رواياتهم ونردّ عليهم بروايتنا، وهم يحاولون فرض رواية واحدة.

أطفال المخيم يموتون في اللعب ويموتون في الواقع

وفقاً لمبادىء حقوق الإنسان وحقوق الطفل، من المفترض عدم زجّ الأطفال في هذا النوع العنيف من الصراع كي لا يقفزوا عن طفولتهم. غير أن جيش الاحتلال الذي استهدف مراكز المخيم بالصواريخ وقذائف الدبابات ورصاص القناصة وبلدوزر الـ "دي سي 9" جعل الأطفال جزءاً من الكارثة التي حلّت بالمخيم. لكن في مقابل ذلك كان حضور الأطفال كرأي وشهادات في الفيلم لافتاً، فما هي الرسالة التي تودّ أن تقدمها من استحضارهم؟

بينما كنا نتجول وسط الأنقاض في مخيم جنين، لفت انتباهي لعبة أطفال مثيرة، كانوا يرفعون واحداً منهم على الحمالة التي تشبه الحمالة المستخدمة في نقل الشهداء إلى المقبرة، ثم يصعد طفل آخر إلى الحمّالة ويمثل دور شهيد، ويتم التناوب فيما بينهم وسط صيحات التكبير "الشهيد حبيب الله". كان المشهد حزيناً ومؤلماً ومعبّراً عن الواقع. كان الأطفال يقفزون من طفولتهم ويتحولون إلى كبار؛ الأطفال يشاركون الكبار في أصعب شيء وهو الموت، وها هم يموتون في اللعب ويموتون في الواقع. هذه كانت حال الطفلة نجوى جلامنة (12 عاماً) التي اكتشفتها بالمصادفة وهي جالسة على قبر ابن عمها الذي استشهد بعمر 12 عاماً. لم تشارك الأطفال في لعبهم، ورفضت في بادىء الأمر تقديم شهادتها، لكني بذلتُ جهداً كبيراً لإقناعها بالحديث أمام الكاميرا. وعندما بدأتْ بالكلام تحدثت بلغة الكبار، مثلما هي حال معظم الأطفال تحت الاحتلال بعد أن سرق الاحتلال طفولتهم، وبعد أن غيب الموت ابن عمها. نجوى أرادت أن تكون ندّاً للمحتلين من دون أن تقرأ مقولة غسان كنفاني: "لا تمت قبل أن تكون نداً"، وبدت كبيرة في أحاديثها كافة. أنا قدّمت الأطفال في الفيلم ولم أكن أرغب في القفز عن طفولتهم، أردت البرهنة من خلال لعبة الشهيد وأقوال البنت الذكية نجوى، على أن إحدى أسوأ نتائج الحرب الإسرائيلية المفتوحة على الشعب الفلسطيني هي طرد الأطفال من طفولتهم. من المفترض أن تكون الحدائق والملاعب والمنتديات والمكتبات مكاناً للأطفال، وأن يكونوا في مكان آمن ومحمي خلال الحرب.

الطفولة هي الأمل والمستقبل، وقد استحضرتها أيضاً للقول إن الأطفال والأبناء لا ينسون قضيتهم وحقوقهم، خلافاً للمقولة الإسرائيلية: "الكبار يموتون والصغار ينسون." من ناحية أُخرى كنت أود القول إن العقاب الإسرائيلي الجماعي لا يفرّق بين الطفل والشاب والشيخ.. فالجميع يدفع الثمن، وكلهم ملّ البقاء تحت الاحتلال الذي لا يمكن التعايش معه أبد الدهر.

 تقديم الرواية عبر الفن والثقافة حقق تفوقاً

في العادة، لا تأبه سلطات الاحتلال بالخطاب الإعلامي والسياسي الفلسطيني اعتقاداً منها أنه ضعيف أو عديم التأثير، لكن عندما جرى تقديم الرواية الفلسطينية من خلال الفن (السينما والمسرح)، وسابقاً من خلال الشعر والأدب والأكاديميا، جُنّ جنون السلطات وأعلنت الحرب على الفيلم. من خلال تجربتك في المسرح والسينما كيف ترى أهمية الفن والثقافة وقدرتهما على التأثير، بما في ذلك التأثير داخل المجتمع الإسرائيلي؟

كوني أعيش داخل الخط الأخضر أو "داخل الداخل"، كنت أفاجأ بقول عدد لا يستهان به من الإسرائيليين إن مسرحية "المتشائل" لرائعة إميل حبيبي التي قدمتُها على المسرح غيرت رأيهم في بعض القضايا، أو جعلتهم يفكرون بطريقة أُخرى. كذلك الحال مع أعمال أُخرى بادر فنانون ينتمون إلى اليسار الإسرائيلي بتحويلها إلى أعمال فنية في السبعينيات والثمانينيات، وهناك أيضاً أعمال كروايتَي "رجال في الشمس" و"عائد إلى حيفا" للروائي غسان كنفاني، وقد جرى عرض فيلم "باب الشمس" إخراج يسري نصر الله المأخوذ من رواية "باب الشمس" للروائي اللبناني الياس خوري. وعندما عُرض فيلم "جنين جنين" تجارياً في صالة سينما ثيك في القدس، كنت موجوداً في القاعة المكتظة، بحضور صديق تونسي قام بتوثيق ما جرى في أثناء عرض الفيلم. طوال العرض ساد صمت ثقيل، وعندما أُشعل الضوء شاهدت الدموع تسقط من عيون البعض تأثراً بشهادات أبناء مخيم جنين. وقد اصطحبتني مديرة دار العرض إلى المنصة، فوقفت وسط صمت رهيب كأنما حطّ على رؤوس المشاهدين الطير، وقلت: أنا متأسف لانني أحزنتكم، ولو كنت إسرائيلياً يهودياً لحزنت كثيراً. قوبل كلامي بتصفيق الحضور. وفي أثناء ذلك طلب أحد الحضور الكلام، واسمه دافيد تسانغان وكان يعتمر الكيبيه اليهودية وشعار الوحدات الخاصة في الجيش الإسرائيلي، فبدأ يكيل الشتائم لي ويصفني بأنني داعم للإرهاب، وهاجم الفيلم قائلاً إنه كذب ولا يمتّ إلى الواقع بصلة، لكن خطابه لم يلقَ آذاناً صاغية من الجمهور، بل إن البعض قاطعه وسمعت أحدهم يقول له: أنت قاتل أطفال. تجربتي مع مسرحية "المتشائل" وفيلم "جنين جنين" أوصلتني إلى نتيجة أن الإسرائيلي عندما يتجرد من الأيديولوجيا وادعاءاتها التمييزية يخرج من ذلك الثوب الذي فصّله له الفكر التعصبي، ويتعامل كإنسان يسمع رواية الآخر وينصت إلى آلامه. هذا التغيير يدفع المؤسسة ومعسكرات التعصب القومي والديني إلى محاولة استعادته إلى الثوب الذي يعزله عن إنسانيته. لذلك تدخلت ماكينات الدعاية والإعلام بعد العرض الأول للفيلم مطلقة حملات شرسة ضده. وعندما عُرض الفيلم في تل أبيب، احتشد متعصبون وحاولوا منع العرض، وظلوا يرفعون الشعارات ويهتفون ضد الفيلم وضدي إلى أن طلبت إدارة السينما من الشرطة إخراجهم من القاعة. بعد ذلك لمست نوعاً من التفاعل مع الفيلم من دون أن يعني ذلك حدوث تغيير في الرأي العام الإسرائيلي. دعنا نعترف أن الفن وحده لا يستطيع تغيير وجهات النظر لدى الأكثرية الإسرائيلية الموغلة في تخندقها مع اليمين الديني والقومي الاستعماري، فمَن يصنع الرأي العام الإسرائيلي هو المؤسسة والحكومة الإسرائيليتين اللتين تنطلقان من مصالح ومن أدوار وأطماع، ولا ترغبان في التغيير بل تقاومانه بشدة. لكننا نستطيع التأثير في الرأي العام العالمي، وهذا ما يزعج المؤسسة الإسرائيلية ويجعلها تفقد توازنها. نستطيع عبر الفن كسب أصحاب الضمير والملتزمين بحقوق الإنسان والعدالة والمساواة والمناهضين للاحتلال والعنصرية في إسرائيل، وهؤلاء نخبة قليلة في إسرائيل. نستطيع عبر الفن الملتزم والمهني، خلخلة الرواية الإسرائيلية وكشف أكاذيبها، وكسب نقاط هنا وهناك والمراكمة فوقها.

أستطيع القول أنني تأثرت بشدة بشهادة رام ليفي، أشهر المخرجين السينمائيين الإسرائيليين وهو مخرج فيلم "خربة خزعة" للكاتب الإسرائيلي يزهار سميلانسكي، والذي أصر على تقديم مداخلة في محكمة اللد على الرغم من إصابته بالباركنسون، وقال مخاطباً المحكمة: "لا يحقّ لكم محاكمة بكري، أنتم تتجنّون على حرية التعبير والديمقراطية"، مضيفاً: "أنا خدمت كمظلّي في غزة وشاهدت جرائم حرب أفظع من جرائم مخيم جنين." نعم ثارت ثائرتهم لأننا قدّمنا روايتنا عبر المسرح والسينما، وقد قبلها العالم بسبب أبعادها الإنسانية وصِدْقها. وكانت نقابة المخرجين الوثائقيين الإسرائيليين قد أعلنت تضامنها معي في بيان نُشر في صحيفة "هآرتس".

منذ إعلان الحرب على فيلم "جنين جنين" حظي الفيلم ومخرجه بالدعم والمناصرة على أكثر من صعيد، فما هو تقديرك للاستقطاب الداعم للفيلم، وكيف يمكن تطويره؟

حكومة إسرائيل كرست جهودها لمحاربة الفيلم بعد منعه، محفزة بذلك كثيرين على مشاهدته، فمن حيث لا تدري، ساهمت الهجمة الإعلامية الإسرائيلية على الفيلم في نشر الرواية الفلسطينية بشأن ما جرى في مخيم جنين في عدة دول. والأهم ساهمت الحملة الإسرائيلية المضادة في بناء تعاطف عالمي مع الحقوق الفلسطينية، وخصوصاً الحق في إنهاء الاحتلال.

أنا شخصياً لم تفزعني سياسة شيطنة الآخر وتجريده من إنسانيته، بل واجهت الحملات بثقة انطلاقاً من اقتناعي بحقوق شعبي الوطنية والإنسانية، وبحقّه المشروع في تقرير مصيره بنفسه، لكن من دون إلغاء للآخر في الوقت ذاته. وضمن هذه المعادلة أحسست بتفوق أخلاقي طوال المواجهة، وقد جاء أبلغ رد من السينمائيين العرب الذين احتفوا بالفيلم بعد فوزه بجائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان قرطاج السينمائي الدولي في سنة 2003، فضلاً عن مشاركته في مهرجانات سينما في إيطاليا ولبنان. وكان من أبرز حملات التضامن الحملة التي انطلقت من إيطاليا في سنة 2008 عبر عريضة وقّعتها مجموعة كبيرة من السينمائيين الإيطاليين، منهم جوسبيه بيرتولوتشي وسافريو كوستانزا وموني أفاديا.

التضامن والاحتفاء الفلسطيني، ولا سيما في مخيم جنين، كانا مميزَين، وكان احتضان مخيم جنين للفيلم ولي دافئاً وحميمياً. وقد أحزنني استشهاد الشاب إياد السمودي الذي استضافني ورافقني وكان دليلي طوال فترة التصوير وقد أهديته مكانة فخرية كمنتج للفيلم. وأصدر الفنانون الفلسطينيون عريضة دعم وتضامن في مواجهة الهجمة الإسرائيلية الشرسة على الفيلم، كما وقفت وزارة الثقافة الفلسطينية ووزير الثقافة عاطف أبو سيف وقفة مشرفة داعمة لي.

وبعد الحكم الجائر الصادر عن المحكمة الإسرائيلية تلقيت مئات الاتصالات، وتبرعات مالية، الأمر الذي أشعرني بأن معركة الفيلم لا تخصني وحدي، بل إنها أيضاً معركة الثقافة والرواية الفلسطينية، ومعركة حرية التعبير التي تعني كل إنسان حر.

ختاماً لن نرفع الراية البيضاء، وسنظل نقاوم عبر الفن.

Author biography: 

مهند عبد الحميد: صحافي فلسطيني.