Between Absence and Longing
Date: 
December 22 2020
blog Series: 

في صبيحة يوم السبت السابع عشر من نيسان/أبريل 2004، الذي  يصادف يوم الأسير الفلسطيني، بلّغنا ممثل الأسرى في معتقل "مجدو" أن يوم غدٍ الأحد هو موعد نقلنا من السجن أنا وابن عمي ناظم وخمسة أسرى آخرون، وقد مضت عشرة أيام على محاكمتنا حين تم إصدار الحكم بسجننا مدة 20 عاماً، ومنذ ذلك اليوم ونحن نقبع في قسم الغرف في انتظار الموعد المحدد لنقلنا إلى سجن آخر، إذ إن معتقل "مجدو" لا يسمح للأسرى الذين يتبقى لهم أكثر من عشرة أعوام بالبقاء في المعتقل، ويتم انتظار الوقت الملائم لعملية النقل، والتي تشمل كل من صدر حكم كبير بحقه خلال الأسبوعين الأخيرين.

 

عيسى ديبي، هكذا رأيت غزة مدينة لم أرها، زيت على قماش، أبيض وأسود، ،٢٠١٨، مجموعة مؤسسة الدراسات الفلسطينية

 

بدأنا بتجهيز أنفسنا لعملية النقل، فرتبنا أغراضنا الشخصية في الحقائب وقمنا بتوزيع بعض المقتنيات التي لا يسمح بها في السجون المركزية التي تحكمها لوائح وأنظمة خاصة غير تلك الأنظمة التي تحكم معتقل "مجدو". وكانت حالة القلق والتوجس بادية على وجوهنا، فنحن ندرك أننا ذاهبون في رحلة إلى المجهول ولا نعلم إلى أي سجن سيتم نقلنا، لكننا في قرارة أنفسنا نتمنى ألاّ تكون وجهتنا نحو سجن "شطة"؛ لأنه يُعتبر من أسوأ السجون فيما يتعلق بالقوانين والأنظمة، وأيضاً من ناحية التعامل المهين من جانب إدارة السجن وسجانيه، لذلك لقب هذا السجن (بأبو غريب) على اسم سجن أبو غريب سيء السمعة في العراق.

رتبنا عبر الهاتف مع عائلة عمي أبو عزام كيفية متابعة أمورنا المالية وكل ما يلزمنا في حال احتجنا إلى أي أمر، كون السجون المركزية لا يتوفر فيها وسائل اتصال، ولأن الزيارات ممنوعة فكان من الضروري أن نرتب بعض الأمور قبل انتقالنا، حاولت قدر الإمكان التواصل مع عائلتي في الأردن عبر الهاتف لأني كنت على يقين أن موعد لقائي القادم بهم وسماع أصواتهم سيكون بعيداً، وكان أهلي يوصوني بالانتباه لنفسي وكنت استشعر حالات القلق والخوف التي تنتابهم، لكن لا سبيل لتغيير واقع الحال.

في المساء من ذلك اليوم، وبعد أن رتبنا حقائبنا وجهزنا أنفسنا لعملية النقل؛ تفاجأنا بخبر عاجل يملأ شاشات التلفزة، وهو قيام قوات الاحتلال بعملية اغتيال القائد الحمساوي عبد العزيز الرنتيسي، وهنا بدأت حالة الاستنفار تملأ المدن الإسرائيلية، وحالة ترقب وقلق من عملية رد من المتوقع أن تكون قريبة، وبثت وسائل الإعلام العبرية صوراً مباشره للشوارع العامة في إسرائيل وهي فارغة تماماً من الناس ومن وسائل النقل تخوفاً من عملية الرد، وبعد ذلك بساعتين جاء ممثل المعتقل يخبرنا أن عملية نقلنا إلى سجن آخر قد تأجلت من يوم غدٍ الأحد وحتى بعد غدٍ الاثنين التاسع عشر من نيسان، ومن خلال هذا التأجيل كسبنا يوماً آخر للتواصل مع الأهل والعائلة.

صبيحة يوم الاثنين وصلت إلى السجن الحافلة الخاصة بنقل الأسرى بين السجون والمسماة (البوسطة)، يرافقها عدد كبير من قوات (وحدة النحشون)، وهي الوحدة المسؤولة عن تأمين عمليات نقل الأسرى. تجمع أسرى القسم جميعهم بالقرب من البوابة الخارجية وبدأوا بتوديعنا في لحظات مؤثره وخرجنا من القسم نحو البوسطة، بعد أن تم تفتيشنا بشكل دقيق من قوات "النحشون" قبل تكبيل أيادينا وأرجلنا بإحكام.

وبعد صعودنا إلى البوسطة وتحركها من معتقل "مجدو" قام أحد الأسرى بتوجيه السؤال إلى ضابط "النحشون" عن وجهة البوسطة فأجاب بكل ثقة أنتم جميعاً منقولون إلى سجن "شطة". انتابتنا جميعاً حالة من التوجس والقلق والذهول، أيعقل أن يحدث ذلك؟ كنا جميعاً نتمنى عدم الانتقال إلى سجن "شطة" فتأتي الأمور معاكسة تماماً لرغبتنا وتكون عملية النقل باتجاه أسوأ السجون.

كنت وناظم نحمل الحكم الأعلى بين الأسرى المنقولين، بينما تتراوح فترات محكومية الباقين بين أحد عشر وثمانية عشر عاماً، وبدأنا نتهامس فيما بيننا عن صعوبة الوضع في سجن "شطة"، وما كنا نسمعه من الأسرى الذين سبق لهم العيش في هذا السجن من فظائع تتعلق بعمليات التفتيش المستمرة للغرف، وكيف يتم فرض غرامات مالية لأتفه الأسباب، وعمليات ضرب وشتم الأسرى من السجانين. كل ذلك زاد من توترنا ومخاوفنا التي استمرت حتى وصلنا إلى سجن "شطة"، إذ استغرقت الرحلة نحو نصف ساعة.

البوسطة التي تم نقلنا فيها عبارة عن عربة من الصفيح السميك، وكل كراسيها من الحديد من دون وجود إسفنج للجلوس عليه، ويوجد في أعلاها فتحات صغيرة عليها شبك سميك، ولولا أن المسافة التي تقطعها البوسطة بين سجني "مجدو" و"شطة" قصيرة نسبياً لكانت معاناتنا مضاعفة.

بعد أن وصلنا تم وضعنا في غرفة انتظار مغلقة لا يوجد فيها غير فتحة صغيرة مع شبك في أعلى الباب وفي زاويتها يوجد مرحاض صغير مفتوح ومغسلة وفيها مقاعد أسمنتية للجلوس.  بدأ السجانون المناداة علينا فرادى، فيُطلب من الأسير إحضار حقائبه، والذهاب بها نحو المكان المخصّص للتفتيش، فيدخل الأسير أولاً إلى غرفة صغيرة بمرافقة أحد السجانين، الذي يقوم بتفتيشه بشكل دقيق ويطلب منه نزع ملابسه بالكامل ليقوم بتفتيشها قطعة قطعة، ومن يرفض ذلك يعرِّض نفسه للضرب من السجانين.  وبعد الانتهاء يتم الانتقال إلى تفتيش الحقائب وهنا تكمن الصعوبة، إذ يقوم السجانون بإتلاف جزء كبير من المقتنيات الشخصية ومصادرة جزء آخر بحجة أنها ممنوعة بحسب لوائح السجن.

وفي أثناء عملية تفتيش حقائبي سمعت صوت ضرب وصفع يتعرَّض له أسير حضر معي من معتقل "مجدو"، وحين نظرت حولي لأرى ما يجري أدركت أن الأمر يتعلق بإحدى الرسومات التي قام هذا الأسير برسمها في دفتر للمذكرات، وهي عبارة عن خريطة فلسطين مكتوب عليها عاشت فلسطين، وخلال التفتيش تنبه لها أحد السجانين فجنّ جنونه وقام بصفع هذا الأسير على وجهه فقط لأن مثل هذه الرسومات تستفزه.

بعد الانتهاء من عملية التفتيش قاموا بإدخالي إلى قسم (13)، وعلمت لاحقاً أن ابن عمي سيكون معي في القسم نفسه وهذا الأمر أراحني كثيراً. دخلنا إلى القسم في الساعة السادسة مساء تقريباً، وتم وضعي في غرفة رقم 7، وحينما دخلت إليها علمت أنني سأكون الأسير رقم 9 في هذه الغرفة مع العلم بأن الغرفة تتسع لثمانية أسرى ويوجد فيها ثمانية أبراش، وأيقنت أنني سأنام مفترشاً أرضية الغرفة، إذ أحضروا لي فرشة من خارجها. صافحتُ زملائي في الغرفة وكنت أعرف أحدهم في أثناء وجودي في معتقل "مجدو" واسمه شادي وهو شاب من بلدة اليامون في جنين، ومحكوم بالسجن مدة ثلاثة عشر عاماً، هذا الشاب ومن باب التقدير والاحترام أصر على إعطائي بُرشه لأنام عليه ونام هو أرضاً، كما قدَّم لي كل ما كان ينقصني من حاجات. وفي الغرفة نفسها تعرَّفتُ على الأسير الطاعن في السن سامي يونس أبو نادر من بلدة عرعرة في الأراضي المحتلة سنة 1948، وكان محكوماً بالسجن مدى الحياة ومعتقلاً منذ سنة 1983، هو وابنا عمومته كريم وماهر عميدا أسرى فلسطين اللذان ما زالا حتى اللحظة يقبعان خلف قضبان الأسر، أمّا أبو نادر فقد تم إطلاقه في سنة 2011 في صفقة تبادل الأسرى ولم يلبث طويلاً بين أهله وأبنائه إذ توفي عن عمر ناهز الخامسة والثمانين عاماً.
بعد شهر من وجودنا في القسم؛ قامت الإدارة بتقسيم السجن إلى سجنين، إذ أعلن افتتاح سجن "جلبوع" بجوار سجن "شطة"، وأصبح قسمنا يتبع لإدارة سجن "جلبوع" وتغير رقم القسم ليصبح "1" بدلاً من "13". بدأت استشعر رويداً رويداً صعوبة الحياة الجديدة، ومما زاد الوضع سوءاً هو الانقطاع التام عن الخارج وعن الأهل ومعرفة أخبارهم، إذ لا زيارات عائلية، فقد قام الأسرى برفض الزيارات بسبب قيام إدارة السجون بتركيب زجاج في قاعة الزيارة يفصل بين الأسير وذويه بدلاً من الشبك، بحيث يتم الحديث في الزيارة من خلال سماعة هاتف وليس بشكل مباشر، لذلك امتنع الأسرى من الزيارات واستمر الامتناع حتى نهاية سنة 2004، وعدا ذلك فقد كان الأسرى من محافظة نابلس ممنوعين من الزيارات لدواعٍ أمنية واهية، وتم السماح لهم بذلك مع بداية سنة 2005.

  كنا نبحث عن كل الوسائل المتاحة للتواصل مع الأهل ومعرفة الأخبار والاطمئنان عليهم. واعتمدنا فترة طويلة على الرسائل المكتوبة والمرسلة عبر البريد، إذ كان يسمح لكل أسير بكتابة رسالتين شهرياً يتم تسليم الرسالة إلى الادارة مساء كل سبت وهي مفتوحة، ويمنع إغلاق مغلف الرسالة وذلك ليتم الاطلاع على فحواها من الإدارة قبل أن يتم إرسالها إلى البريد. وكان يسمح بوضع ست أوراق في كل مغلف وكنا نستغل ذلك، فنقوم بكتابة ورقة لكل من نود مراسلته ثم نضعها جميعاً في المغلف ذاته، ونطلب من الأهل أن يقوموا بإرسال كل ورقة إلى صاحبها. كانت الرسائل المرسلة والقادمة تتأخر في الوصول، وقد تستغرق أحياناً شهرين لوصولها، وكانت للرسائل المكتوبة قيمة كبيرة عندنا توازي قيمة الزيارة، وخصوصاً في ظل انقطاع الزيارات، فحين كنا نرى ضابط القسم يدخل ومعه مجموعة مغلفات كان كل من في الباحة من الأسرى يقف والأمل يحذوه بأن يحظى برسالة، فتكون كل العيون شاخصة نحو ضابط القسم، وحينما كنت أتلقى رسالة لا أستطيع وصف مشاعر الفرح والسعادة التي كانت تملأ كياني، إذ كنت أنتظر بكل لهفة لحظة الدخول إلى الغرفة لأجلس على برشي وأبدأ بالتقاط الكلمات المكتوبة وفي قرارة نفسي أرغب في ألاّ تنتهي الكلمات ولا الرسالة، وتزداد فرحتي عندما تحتوي الرسائل على صور، إذ يسمح باستقبال حتى عشر صور في كل رسالة، وصدقاً كنت أقرأ الرسالة أكثر من 6 أو 7 مرات، وعلى مدار الأسبوع كنت أبدأ بتحضير رسالة الرد على ما وصلني.

وبسبب الانقطاع عن الأهل، كنت أستغل الرسائل بالسؤال عن كل شيء، وحينما يأتي الرد في رسالة قادمة يكون قد مرِّ عدة أشهر على سؤالي، وأكون قد جهزت أسئلة أُخرى بناءً على الرد الذي وصلني، وهكذا كنت أتراسل مع أهلي في الأردن ومع شقيقتي في أميركا، وكان ابن عمي ناظم يتراسل مع أشقائه في كندا ومع أهله في نابلس وكانوا جميعاً يمدوننا بأخبار العائلة ويطمئنوننا عنهم. وكانت الرسائل القادمة من أميركا وكندا تصلنا  أسرع بكثير من رسائل الأردن والضفة الغربية.

ومن الوسائل الأُخرى التي كنا نعتمد عليها للاطمئنان على الأهل ومعرفة أخبارهم برامج الراديو، إذ كان بعض المحطات الإذاعية يعمل على بث برامج خاصة للأسرى، ويتم خلال تلك البرامج الاتصال من العائلات لتقديم رسالة صوتية لأبنائهم، وكان الأسرى يقومون بإخراج سلك من فتحة الشبك في نافذة الغرفة ويقومون بربط هذا السلك على "انتين" الراديو ليأتي بث الإذاعة واضحاً ويستمع جميع أسرى الغرفة إلى الرسائل الصوتية من العائلات.
وكنت أعتمد على هذه الوسيلة بشكل كبير، فاتفقت مع أهلي من خلال الرسائل المكتوبة على أن يتحدثوا عبر الإذاعة الأردنية التي كان بثها واضحاً في سجن "جلبوع"، فقامت أمي بالاتفاق مع إحدى المذيعات على تقديم رسالة صوتية لي من خلال برنامجها الإذاعي كل أسبوع، وفعلاً أبدت المذيعة تعاطفاً كبيراً مع عائلتي وسمحت لهم بالتواصل معي عبر برنامجها.

وهذا الأمر خفف عني كثيراً، وكنت أنتظر مساء كل يوم اثنين بفارغ الصبر لأستمع في بضعة دقائق إلى صوت أمي الحنون وأحياناً أخوتي، لكن أمي لم تتأخر يوماً عن الاتصال لإسماعي صوتها وكذلك لم تتأخر عني في إرسال كلماتها الطيبة عبر الرسائل المكتوبة، التي أمدتني دوماً بالعزيمة والصلابة وخففت عني معاناة السجن وأضاءت لي عتمة الليل..

لك يا أمي أنحني دوماً وأطبع قبلاتي الحارة على جبينك الطاهر.

انظر

Read more