"The Truce", a Catchy Headline for a Mine-Loaded Text
Date: 
November 10 2020
Author: 

لا تلبث أن تستقر الأوضاع الأمنية في قطاع غزة، حتى يعاود الطرفان (إسرائيل، والمقاومة) المواجهة مجدداً. ولا يمكن القول إن التهدئة بين الطرفين تسير نحو الهدوء التام، طالما أن الاشتباك يتجدد بشكل شبه يومي، فالطلعات الجوية للمقاتلات الإسرائيلية لا تتوقف عن استهداف مواقع للمقاومة الفلسطينية في غزة، بينما الأخيرة تطلق بالونات حارقة وأُخرى محملة بالمتفجرات على المستعمرات المحاذية لغلاف القطاع.

في ظل حالة الفعل وردة الفعل العسكرية، تتعاظم مخاوف المواطنين الفلسطينيين، من احتمالات اندلاع مواجهة عسكرية كبيرة في قطاع غزة في ظل الأوضاع الحرجة التي يعيشها القطاع نتيجة الحصار وتفشي فيروس كورونا.

ولا يتحدث اثنان من غزة في السياسة، إلاّ وكانت التهدئة العنوان الأول للحديث، فالأوضاع السياسية وانعكاساتها على المستويات الاقتصادية والاجتماعية وحتى الصحية، لا تعطي فرصاً كبيرة للتفاؤل، وخصوصاً في ظل تضخم نسب الفقر والبطالة وتردي سبل العيش وتراجع مستوى تقديم الخدمات الصحية والمساعدات الإغاثية.  

أمام هذه الحالة تثار تساؤلات يصعب الإجابة عنها، وتثير جدلاً خفياً بين المواطنين والمسؤولين: ما جدوى التهدئة في هذه الظروف؟ وما الذي حققته خلال ست سنوات من عمر الحرب الأخيرة على غزة؟ وما هي شعرة معاوية التي تبقي عليها المقاومة الفلسطينية؟ 

تذهب بعض التحليلات السياسية المتقاطعة مع رؤى المقاومة، إلى اعتبار أن الأخيرة استطاعت أن تفرض نوعاً من (توازن الرعب) في صراعها مع الاحتلال، فكلما بادرت إسرائيل باستهداف مناطق فارغة أو مقرات أمنية أو أشخاص من قطاع غزة، كلما واجهت المستعمرات الإسرائيلية المحاذية لغلاف القطاع وابلاً من القذائف.

كما يذهب جمهور هذا الرأي، في وصف الحالة بـأنها "انجاز عسكري"، لم يسبق له أن تحقق خلال سنوات الصراع. بيد أن ثمة سؤالاً يطرحه الناس على الأرض: ما قيمة تحقيق توازن الرعب، في ظل الأوضاع البائسة وانعدام فرص الحياة الكريمة؟  

يبدو جلياً، أن الإسرائيليين ما زالوا حريصين على تطبيق تهدئة في مقابل تهدئة، من دون الاضطرار إلى دفع ثمن أكبر للفلسطينيين. وإن شئت فقل هي سياسة العصا والجزرة، فكلما التزمت الفصائل الفلسطينية الهدوء، كلما سمحت إسرائيل بتدفق البضائع والسلع المستوردة –غير المحظورة- عبر معبر (كرم أبو سالم) التجاري إلى غزة، ووسعت مساحة الصيد البحري.

تواصل المؤسسة الأمنية والعسكرية في تل أبيب، عملية عصر الأدمغة من أجل استنزاف المقاومة الفلسطينية في غزة، سواء كان ذلك عبر استنزاف مخزون السلاح، أو محاولة اختراق منظومتها السرية القائمة على الاتصالات والأنفاق الأرضية ومرابض الصواريخ وغيرها.

وبالتالي، ليس في وارد إسرائيل أن توفر جواً سياسياً مستقراً، أو أن تحقق ازدهاراً اقتصادياً لغزة، وإنما تعتمد استراتيجيا إنقاذ الغريق بالإبقاء على جسده مغموراً في الماء، ورأسه إلى أعلى ليحصل على القليل من الهواء.

نحن الآن كفلسطينيين نعيش في قطاع غزة، عالقون في المساحة الرمادية، فلا هي حرب سوداء، ولا هي استقرار وحرية بيضاء، وهذا يشكل عبئاً إضافياً بالنسبة إلى المواطنين، فتلك هي حرب الأعصاب. 

في موازاة ذلك، تتنامى القوة العسكرية للمقاومة الفلسطينية على الأرض على الرغم من حالة الحصار القائم منذ 14 عاماً على القطاع، ويقول مناصروها، إن هذا التنامي يمكن أن يحقق خسائر أكبرى لدى إسرائيل خلال أي مواجهة عسكرية قادمة، وإن إسرائيل نفسها تدرك هذا الأمر.

في محاولة للفهم، دعونا نتعقب التصريحات الإسرائيلية التي كشف عنها الإعلام العبري مؤخراً والتي في مجملها تتحدث عن مباحثات تمديد التهدئة، وقد اعترف المسؤولون الأمنيون بأن مباحثات التوصل إلى تهدئة طويلة المدى مع حركة "حماس" مستمرة، بوساطة طرف ثالث (مصر- قطر).

وكشفت القناة العبرية 12، في الحادي عشر من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، عن وجود مباحثات بين "إسرائيل" وقطر وحركة "حماس" بشأن تحويل 100 مليون دولار لقطاع غزة في ظل الأزمة الاقتصادية الحادة، التي يعاني جرّاءها، في مقابل تهدئة تستمر ستة أشهر.

بالتوازي، تسير مفاوضات أُخرى تتعلق بصفقة تبادل أسرى بين حركتي "حماس" وإسرائيل، غير أن الإعلام الإسرائيلي يعتبر أن مباحثات التهدئة غير مشروطة بالتقدم في مباحثات صفقة تبادل الأسرى.

لكن في المقابل، لا يجب أن نرفع سقف التوقعات، حتى لا يسقط على رؤوسنا، لأنه بإمكان إسرائيل الآن أن تستهدف شخصية قيادية رفيعة في المقاومة وبالتالي تجهز على كل جهود تمديد التهدئة، وتنزلق الأمور نحو الحرب، على عكس رغبة الطرفين.

كما أن استشهاد الأسير المضرب عن الطعام ماهر الأخرس الذي بدأ يدخل في غيبوبة متقطعة، يمكن أن يقودنا إلى نفس النتيجة، وخصوصاً أن الذراع العسكري لحركة الجهاد الإسلامي (سرايا القدس) ثاني أكبر تنظيم عسكري في غزة، قد أعلن النفير العام في صفوف عناصره، استعداداً للرد لحظة إعلان استشهاد "الأخرس"، وبالتالي فلا أحد يضمن الهدوء.   

علينا الإقرار بحقيقة أن هدف إسرائيل، كما يقول المؤرخ الإسرائيلي (آفي شلايم)، ليس التعايش السلمي مع جيرانها الفلسطينيين، وإنما الهيمنة العسكرية. وهذا الحديث يؤكد المؤكد بالنسبة إلينا كفلسطينيين وهو أن التهدئة القائمة الآن لن تمنع وقوع حرب في أي لحظة، لكنها على الأقل تستمر مراعاة لأمرين، كما تفيد التقديرات الميدانية:

  • الأمر الأول، أن المقاومة تحاول دائماً ألاّ تكون عبئاً على الفلسطينيين أنفسهم في قطاع غزة، بمعنى أن المواطنين ما عادوا يحتملون مزيداً من العنف والدمار، وبالتالي لن تقف في طريق أي مسار يمكن أن يحقق الهدوء، شريطة أن تخفف إسرائيل الحصار عن القطاع، وتسمح بفتح المعابر وتوسيع مساحة الصيد، والسماح بتمرير الأموال القطرية إلى غزة.
  • الأمر الثاني، أن المقاومة تستثمر وقت التهدئة في تحسين وتطوير قدراتها العسكرية وإعادة ترتيب منظومتها الأمنية.

على خطّ مواز، ترقب إٍسرائيل هذا التطور بحذر شديد، لما يمكنه أن يشكل تهديداً وخطراً على أمنها، وعليه لا يمكنها التردد لحظة واحدة باستهداف المخزون العسكري للمقاومة وضرب منظومتها الأمنية، كلما تسنح الفرصة.

في المحصلة، نستنتج أن "التهدئة" عنوان عريض لمتن محشو بالألغام يمكن أن ينفجر في أي لحظة، ولا سيما في ظل محاولات التسخين القائمة على الأرض من الطرفين، فالمقاومة تنمّي قدراتها، وإسرائيل تستمر في تدريباتها القتالية استعداداً لمواجهة مرتقبة لم تحدد جبتها بعد، لكن في جميع الأحوال لن تكون جبهة غزة بمنأى عنها.

إذاً، الساحة الفلسطينية واقعة الآن تحت الاختبار، فإمّا أن تفضي مباحثات التهدئة التي تجري الآن إلى تفاهمات جديدة من شأنها أن تحسن من فرص العيش داخل القطاع، وإمّا أن تتجاهل إسرائيل المطالب الفلسطينية، وفي ذلك إيذانٌ ببدء جولة مواجهة عسكرية جديدة، فالمسألة، مسألة وقت.

Read more