Almonds Blooming
Date: 
October 28 2020
blog Series: 

"لو نجح المؤلِّفُ في كتابة مقطعٍ
في وصف زهر اللوز، لانحسر الضبابُ
عن التلال، وقال شَعْبٌ كاملٌ:
هذا هُوَ /
هذا كلامُ نشيدنا الوطنّي!"

(محمود درويش)

 

 في البداية وليست كأية بداية، نتحدث عن تلك الكتلة الأسمنتية (السجن) بكل ما يحويه من شرّ، سواء من السجانين أو الأخصائيين النفسيين وغير ذلك من التحديثات التكنولوجية ليكون ملائماً للعصر لتطويع الجسد والفكرة معاً. فقد تم استبدال الهراوة بالإهمال وبالتحكم عن بُعد والانفصال لكي تشعر بالوحدة واللاجدوى، ويتضمن ذلك التجهيل وعدم إدخال الكتب أو الإهمال الطبي. من هنا أنطلق لأروي لكم تجربة الاعتقال الثانية كونه الاعتقال الأول عند "جهاز الأمن العام" الشاباك.

تم اعتقالي فجراَ من بيتي في مخيم شعفاط الواقع شمال شرق القدس. بدأت المداهمة بتفجير الباب الرئيسي للبيت ودخول القوة الخاصة المسماة "الدوفدوفان" المتخصصة باقتحام التجمعات السكانية المكتظة بشكل سريع وخاطف، إضافة إلى مجموعة من حرس الحدود وشرطة الاحتلال، مصطحبين معهم الكلاب المدرّبة. وللمفارقة كان الكلب الذي أقتنيه بعيداً لحسن حظه، مع أن ذلك لم يمنع عواءه المستميت لإنقاذي.

تم تعصيب عينيّ وتكبيل يديّ للخلف وراء الظهر وإجلاسي على سريري وتفاجأتُ بعدة لكمات على الوجه مع أسئلة استفزازية وترهيبية عن الدافع لاعتقالي في مسعى لكسر الروح. وبعد ما يقارب النصف ساعة من التحقيق الميداني، دخل ضابط الشاباك المسؤول العام للمنطقة كما عرّف عن نفسه وقال لي: "أرى وجهك محمراً قليلاً"، فقلت له إن جنوده استخدموا العنف فقال "من الذي قام بذلك أتستطيع معرفته؟" جال نظري على الجنود ولم أستطع التعرف على أحد منهم كونهم مقنّعين. بعد ذلك اقتادوني إلى باب المنزل ومن دون توديع الأهل طبعاً، وخلال ذلك كان التفتيش جارياً في الغرفة، ولم أنتظر كثيراً إذ اقتادوني إلى نقطة الشرطة القريبة من الحاجز، وخلال ذلك كان هناك احتكاك مع المارين الذاهبين إلى عملهم فجراً. وصلنا إلى المسكوبية (المسلخ، في لغة المعتقلين) بعد ساعة من وصولي إلى نقطة الشرطة. وماذا كان في تلك النقطة؟ كانت تلك الساعة انتظاراً للناقلة التي ستقلّني إلى المسكوبية. تم تشخيصي بعد فك العصبة عن عينيّ وتكبيل اليدين والرجلين وتسليمي للضابط المناوب الذي قام بإجراءات التفتيش المستمرة. بعد إنهاء الإجراءات اقتادني سجّان في عمر الشباب روسي المظهر وقام بتعصيب عينيّ طبعاً إلى إحدى الزنازين الفارغة استعداداً للتحقيق، وكنت استنشق الروائح الكريهة كون المرحاض المفتوح يقع في الزنزانة نفسها بعرض مترين وطول مترين، وكان ثمة ضوء بلون برتقالي يقتل النظر على المدى البعيد لأنه يدخل كمية ضوء كبيرة، وقلت في نفسي لماذا لا يكون الضوء أبيض وبعيداً عن مستوى النظر المباشر. بعد مرور الساعتين تقريباً تم اقتيادي إلى إحدى غرف التحقيق حيث كان في انتظاري المحقق ذو الوجه الذي يبثّ رعباً ليحاول أن يضعني في صورة القادم ولم أكترث لذلك.

وضعوني ما بين الزنزانة النتنة والمكتب الفاخر، ذهاباً وإياباً. كانت عملية التحقيق طويلة ولا أريد أن أدخل في جميع التفصيلات فقد مكثت هناك 55 يوماً. لكن الذي طبع في ذهني خلال تلك الفترة هو هذا المحقق الذي تفاجأ بحسب ادعائه من وجود أغانٍ للراحلة الصديقة ريم بنا، وبناء على ذلك قام بتشغيل إحدى أجمل أغانيها "قمر أبو ليلة شو تعشيت الليلة" وغيرها من الأغاني التي حمّلتها في هاتفي بعد وفاتها، وكنت قد شاركت في جنازتها في الناصرة قبل اعتقالي بأسبوع في نيسان/أبريل 2018، وأسمعني أيضاً أغنية "بيلا تشاو" الإيطالية وقد استهزأ بوجود عربي يسمع موسيقى كهذه.

وهناك موقف حدث معي في رحلة التحقيق الثانية وكنت في سجن رامون المركزي جنوبي فلسطين المحتلة بعد مرور عام على اعتقالي والحكم عليّ بالسجن الفعلي لمدة أحد عشر عاماً بناء على عدة تهم. لقد تم استدعائي للتحقيق مشحوناً بإرادة رفاقي الذين ينتظرونني هناك. وصلت إلى المسكوبية في شهر آذار/مارس والشتاء الناعم على وجهي ينفض غبار السجن، والقدس تستقبل تلك الأمطار بلهفة لتنعش ذاكرتي. ثم اقتادوني إلى المحكمة لاستصدار أمر بتمديد اعتقالي، وقد منحتهم محكمة الاحتلال ثمانية أيام أمضيتها في المسكوبية بشكل متواصل للضغط عليّ. بعد انتهاء الأيام الثمانية صادقت المحكمة على تمديد إضافي لخمسة أيام، وبعد الجلسة تم نقلي إلى مركز تحقيق في عسقلان، وبينما أنا في البوسطة الصغيرة في طريقي إلى هناك رأيت شجر اللوز وقد اكتسى بالنوّار وخلفه قرية لفتا الحزينة وإلى جانبها قرية كالونيا التي تحضر لتصغر ثانية في سكونها الموحش.

 وصلت إلى مركز تحقيق عسقلان بعد نحو ساعة من السفر، كنت أشاهد خلالها عسقلان من النافذة الحديدية إضافة إلى المدن والبلدات الأُخرى التي أُخذت زوراً وبهتاناً. تمّ إنزالي من البوسطة وتعصيب عينيّ وإدخالي إلى نقطة التشخيص ومن ثم انتظار المحقق ليأتي ويقتادني إلى الغرفة التي تفاجأت بوجود نافذه تطل على السماء التي كانت تقترب من المغيب. وقعت عيناي على يمامة أعتقد أنها كانت تجمع الطعام وحالما رأتني سكنت وأوقفت ما كانت تعمل به وكأنها تخاطبني وأناجيها، حتى انتبه المحقق وأغلق النافذة. وانتهى التحقيق بعد خمسة أيام بقرار من المحكمة وتمت الإجراءات وجرى ترحيلي فجراً، فكان الهواء الثقيل المُثخن بمعاناة الصامدين في التحقيق ولون السماء المخيف فتذكرت من إحدى الأغاني أن هذه الساعة هي ذاتها ساعة إعدام عبد الخالق محجوب الأمين العام للحزب الشيوعي السوداني والتي تقول كلماتها "وبساعة الفجر الحزين أعدموك يا محجوبنا". وصلت إلى سجن رامون والرفاق في انتظاري وردّدت: لقد نوّر اللوز يا رفاق .... لقد نوّر اللوز.

9-10-2020

 

انظر

Read more