Massacres .... and Transfers
Date: 
September 21 2020

16 – 18 أيلول/ سبتمبر 1982

كان كل شيء هادئاً في بيروت .... هدوء حذر يلف المدينة،  ليل صامت حالك السواد تقطعه بين حين وآخر قنبلة مضيئة يطلقها الإسرائيليون الذين استباحوا ثاني عاصمة عربية بعد القدس. وفي عتمة الصمت، كانت أشباح الغدر تزرع الموت في منازل صبرا وشاتيلا وأزقتها، دون أن يدرك سكان المدينة ما كان يجري على مقربة منهم، إلى أن استفاق العالم بعد ثلاثة أيام، في 18 أيلول على هول الخبر.

منذ 38 عاماً يستذكر الفلسطينيون المجزرة، يوم استبيحت صبرا وشاتيلا على مدى أيام ثلاثة. وبعد شيوع الخبر، بثت شاشات التلفزة العالمية مشاهد أقل ما يقال فيها إنها مرعبة، تجمد مآقي العيون في محاجرها من هول ما ترى. يومها عبّر الرئيس الأميركي رونالد ريغان عن غضبه، وقال إنه شعر بالغثيان عند رؤيته صور المجزرة!!! وبدوره، استنكر فيليب حبيب، راعي الاتفاق الذي أخرج قوات منظمة التحرير من لبنان المجرزة!!!

وربما لم تكن مصادفة أن يكون مناحم بيغن أحد قادة عصابات الإرغون التي كان لها الباع الأطول في مجزرة دير ياسين في نيسان/أبريل 1948، هو نفسه رئيس الحكومة التي أشرفت قواتها على مجزرة صبرا وشاتيلا. أليس هو القائل" لو لم ننتصر في دير ياسين لما كان هناك دولة إسرائيل". وفي كلامه دلالة على أهمية المجازر في عملية إفراغ فلسطين من سكانها، التي اندرجت ضمن مخططات الترحيل.

وقد عكف منظرو الحركة الصهيونية على وضع مخططات للترحيل أطلق عليها مصطلح "الترانسفير"، ولم يخفِ هؤلاء تصميمهم على ضرورة احتلال الأرض وإخلائها باقتلاع السكان وطردهم إلى الدول المجاورة. وكانت المجازر العامل الأهم لتحقيق الهدف؛ فعمليات القتل الوحشية كفيلة بالقضاء على أعداد كبيرة من السكان من ناحية، وترويع الناجين ودفعهم إلى الهرب خوفاً من مصير مشابه من ناحية ثانية، وهذا يدور في إطار الحرب النفسية التي لا تقل أثراً عن الحرب العسكرية.

وأبرز هؤلاء المنظرين، يوسف فايتس الذي، زار فلسطين وكتب في يومياته:

"خلال الرحلة كلها، كانت أفكاري مشدودة إلى تلك الخطة التي ما زلت أفكر فيها منذ أعوام، أي خطة ... إخلاء البلد ليبقى خالصاً لنا. أنا أعرف الصعوبات لكن الخلاص لن يأتي إلاّ بهذه الطريقة، أي بترحيل السكان ... إن عدد العرب كبير جداً، وهم متجذرون تماماً في هذا البلد ... إن السبيل الوحيد هو قطعهم واقتلاعهم من الجذور."

في سنة 1936 اعترف دافيد بن – غوريون، رئيس الوكالة اليهودية حينها، بأن السكان الفلسطينيين الأصليين يحاربون لإبقاء فلسطين بلداً عربياً، "إنهم يحاربون ضد خسارة كل ما يملكون .... فالخوف ليس من فقدان الأرض بل من فقدان وطن الشعب العربي". وعاد في سنة 1937 ليقول: "علينا أن نطرد العرب ونحتل أماكنهم".

وفي مقابلة جمعت ضابطاً بريطانياً بموظف يهودي في كانون الأول/ ديسمبر 1947، أي بعد صدور قرار التقسيم الرقم 181، تساءل الضابط البريطاني عن مشكلة السكان العرب التي سيواجهها اليهود في فلسطين، فكانت إجابة الموظف اليهودي واضحة: "إن بضع مجازر محسوبة ستساعدنا على التخلص منهم".

هل اكتفى الإسرائيليون باحتلال فلسطين، فتوقفوا عن اعتماد "المجازر" أسلوباً بعد نكبة 1948؟ الجواب، طبعاً: لا. فما جرى ويجري على مدى 72 عاماً يؤكد مواصلة السياسة الصهيونية الهادفة إلى اقتلاع الفلسطينيين من أي بقعة قريبة من فلسطين.

ويبدو أن طرد الفلسطينيين إلى خارج حدود فلسطين، ولا سيما إلى لبنان، لم يكن كافياً بالنسبة إلى القيادات الصهيونية التي اكتشفت أن الفلسطينيين يشكلون خطراً كبيراً على أمن إسرائيل ووجودها، وهم يقيمون في مخيمات لا تبعد كثيراً عن فلسطين. وكان الحل جاهزاً: بضع مجازر كافية لإبعادهم.

في البداية كانت مخيمات الجنوب اللبناني الهدف، فخلال سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته صبّ الإسرائيليون حقدهم على هذه المخيمات التي أضحت هدفاً دائماً للاعتداءات براً وبحراً وجواً، وهو ما اضطر عدد كبير من سكان مخيمات الرشيدية والبص والبرج الشمالي إلى ترك منازلهم والبحث عن أمكنة أكثر أماناً في مناطق أُخرى، أمّا مخيم النبطية فقد دمرته الطائرات الإسرائيلية سنة 1974 عن بكرة أبيه.

وفي آب/ أغسطس 1976، كان الموعد مع مجزرة جديدة مسرحها مخيم تل الزعتر شرقي بيروت. ورب قائل إن الإسرائيليين لم ينفذوا هذه المجزرة. لكنهم من دون شك، وإن بصورة غير مباشرة، كانوا هناك. فالأسلوب ذاته، وفي روايتها تقاطع كبير مع مجازر دير ياسين والدوايمة واللد والرملة وغيرها ... مشاهد مروعة، آلاف الضحايا وعشرات المفقودين. نساء وأطفال ورجال وشيوخ وأطباء وممرضون اعتقدوا أن وجود هيئة دولية ممثلة في الصليب الأحمر ستحميهم. النتيجة، تدمير المخيم ومحو آثاره كأنه لم يكن. وكان مخيم جسر الباشا قرب بيروت، قد تعرض لمصير مماثل في حزيران/ يونيو 1976، فقتل من سكانه من قتل ودُمر بالكامل.

أمّا الناجون فكانوا أمام رحلة ترانسفير جديدة، فبعد أن نقلوا إلى مناطق تقع تحت سيطرة الحركة الوطنية اللبنانية، بدأت عمليات ترانسفير غير معلنة بعد أن فتحت ألمانيا أبوابها لاستقبال لاجئين فلسطينيين يطلبون اللجوء الإنساني. وخلال سنوات قليلة، وصل مئات من سكان تل الزعتر وغيره إلى الملاذ الآمن بتسهيل من الدول المعنية.

وكانت المرحلة التالية أشد إيلاماً. إنها مجزرة صبرا وشاتيلا. إذ لم تشفع الضمانات التي حصلت عليها القيادة الفلسطينية بضمان أمن سكان المخيمات قبل خروج قواتها من بيروت في آب/ أغسطس 1982. ضمانات دولية وعربية ولبنانية كانت حبراً على ورق، ولم تشكل رادعاً في وجه المخططات الصهيونية، وبين متعطش لانتقام وحشي ومخطط للترحيل، نفذت المجزرة. كان وقعها كبيراً، وكانت المشاهد التي تناقلتها وسائل الإعلام العالمية كافية لدفع الفلسطينيين في مختلف أماكن وجودهم في لبنان إلى محاولة الهروب من لبنان بأي وسيلة متاحة.

ترانسفير جديد. فخلال الثمانينيات وبقدرة قادر، فتحت الدول السكندنافية أبوابها لاستقبال آلاف الفلسطينيين الهاربين من جحيم الحرب في لبنان والباحثين عن لجوء إنساني بعيداً خوفاً من مجازر جديدة. وفي المقابل، انخفض عدد سكان المخيمات في لبنان بنسبة لا بأس بها، وخصوصاً فئة الشباب منهم، الذين صاروا بعد فترة من حملة الجنسيات الأوروبية. وبهذا تكون مخططات الترانسفير قد نجحت في إبعاد الفلسطينيين وترحيلهم إلى بلاد بعيدة جداً عن حدود إسرائيل.

والزائر اليوم لمخيم شاتيلا بحثاً عن لاجئين فلسطينيين يتذكرون المجزرة، يجد عشرات فقط من سكانه، بينما البقية هم من جنسيات أُخرى، أمّا ما كان يُعتبر مخيم صبرا فهو شبه خالٍ من الفلسطينيين. ومن يبحث عن شباب المخيمات الأُخرى يجد أن بعضهم حاول الهجرة عبر وسائل متعددة منها قوارب الموت، وبعضهم الآخر ينتظر...

ولا مجال هنا للدخول في لغة الأرقام والإحصاءات، لكن يكفي القول إن عدد الفلسطينيين في لبنان حالياً قد لا يتجاوز 200 ألف لاجئ، بعد أن كانت المعلومات تشير إلى رقم يناهز النصف المليون.

ولا تختلف المأساة في سورية، فسكان المخيمات هناك اضطروا إلى الهرب، منهم من تمكن من الوصول إلى دول أوروبية ومنهم لجأ إلى لبنان أو الأردن أو غيرها. وبحسب المعلومات، فإن التنظيم الجديد يلحظ اقتطاع جزء كبير من مخيم اليرموك، وهو الأكبر مساحة،  وهذا يعني حرمان سكانه من العودة إليه. إنه ترانسفير جديد.

كل ما يجري حالياً يصب في خدمة مخططات الترانسفير الصهيونية، والخطر الآن من ترانسفير قد يطال الفلسطينيين في دول عربية تعتبر آمنة وبعيدة، إذ إن التطورات السياسية الأخيرة في المنطقة لا تبشر بخير، ولعلهم بدأوا يبحثون عن ملاذ جديد، عن رحلة ترانسفير جديدة.

***

بعد مجزرة تل الزعتر، كتب طبيب المخيم، عبد العزيز اللبدي تجربته خلال الحصار والمجزرة في كتاب بعنوان "يا وحدنا". عنوان معبّر جداً اختصر صفحات الكتاب قبل أن نقرأه.

وعندما كنت أراجع مجلات وصحفاً صدرت في سنة 1981، صادفت غلافاً بلون الدم لإحدى المجلات الأسبوعية اللبنانية حمل صورة سيدة حامل قُتلت جرّاء القصف الإسرائيلي على منطقة  الفاكهاني، وكان العنوان في وسط الغلاف: "يا وحدنا".

ويوم دخلت وسائل الإعلام مخيم شاتيلا، تصدرت المشهد سيدة فلسطينية، مفجوعة تركض مولولة منتحبة رافعة ذراعيها إلى الأعلى وهي تصرخ "وين العرب"؟ كانت تريد أن تقول: "يا وحدنا".

 

 المراجع:

  • مصالحة، نور الدين مصالحة. "طرد الفلسطينيين، 'مفهوم الترانسفير' في الفكر والتخطيط الصهيونيين، 1882- 1948". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1992.
  •  Hadawi, Sami. Bitter Harvest, a Modern History of Palestine. New York: Olive Branch Press,1991.

Read more