Rituals of Visitation and Postponed Embraces
Date: 
July 29 2020
blog Series: 

إن إحدى النوافذ المطلة علينا نحن أسرى الحرية والقليلة جداً والمهمة في الوقت نفسه، هي إطلالة أحبائنا خلال زيارتنا في السجن مدة لا تزيد على 45 دقيقة كل أسبوعين، على الزعم من تحمّلهم أعباء المسافات الطويلة للسفر، والساعات الطوال من الانتظار أمام بوابات السجون، من أجل أن يكحلّوا عيونهم بنا والاطمئنان علينا.

الأسرى في هذه السجون، التي تبدأ من النقب ونفحة وريمون جنوباً حتى الجلبوع وشطة شمالاً، يصفعهم البرد بصقيعه في فصل الشتاء ويلهب أجسادهم الحر الشديد في الصيف اللهّاب.

 

مرآة ، تيسير بركات، ١٩٩٦

 

بعد كل عناء المسافات الطويلة وربط النهار بالليل والفجر بالمساء، يأتي دور التفتيش الممل والمذلّ للأهل وللأسرة على اختلاف الأعمار. ويطلقون عليه تفتيشاً أمنياً، لكنه في الحقيقة يندرج ضمن أساليب الحرب النفسية التي يعاني جرّاءها لا الأسرى وحدهم، بل أيضاً كل من يتجرأ على زيارة الأسير. وكثيراً ما يكون التفتيش مؤسساً على مزاج السجان وضابط الأمن، وهو فعلاً إجراء عقابي انتقامي يستهدف الروح من خلال تفتيش الجسد.

إنني أدرك أن أسرتي الحبيبة لا تتذمر أمامي، كي تتيح المجال لبهجة الزيارة، فلا مكان ولا ثانية من الوقت إلاّ ويكون مملوءاً بالفرح ونشوة اللقاء. وكانت لغة العيون تحكي كل ما هو جميل وتشحن الفرح بالفرح.

 وبالإضافة إلى عمليات التفتيش، سرعان ما يواجه الأهل والأحبة القادمون للزيارة حاجزاً زجاجياً ونفسياً؛ هذا الحاجز الذي يحول دون لمس من انتظروا طويلاً من أجل الزيارة، وفي هذه الحالة يضطر الطرفان، أي الأسير وزواره إلى الاكتفاء بالمحادثة عن طريق جهاز الهاتف المعلّق حيث يجلس الطرفان، وكثيراً ما يكون بعض الأجهزة معطوباً وغير صالح للاستعمال، وهو ما يسبب إزعاجاً وتشويشات متواصلة وهدراً كبيراً للوقت القليل والقصير الذي يحظى به الأسير وأحباؤه للقاء بعضهم البعض.

 وفي هذه الحالة من التشويشات والوقت الضيق، ينظر كل طرف إلى الآخر بحسرة شديدة من شدة الحنين وحرارة الشوق الجارف من أجل لمسة أو قبلة قد يعطر كل منهما الآخر من خلالها. يركض الوقت ويهرب، وفي لحظة يتوقف في منتصف الجملة وبين كلمة وكلمة، إذ يقوم السجان بقطع خط الاتصال، لتتواصل لغة العيون المحبّة والتواقة.

ولا تبدأ أجواء الزيارة في قاعة الزيارات، بل في طقوس التحضيرات؛ فقبل الزيارة وبعد إعلام الأسير بأن اسمه مدرج في قائمة الزوار، ينهض باكراً فيبدأ بتجهيز نفسه على أحسن وأفضل ما يكون من هيئة، فيقوم بالاستحمام وحلاقة الوجه وتنظيفه من احتمال وجود أي شائبة قد تقلل من نضارته، ثم يرتدي ملابسه المخصصة للأسرى والتي تلزمنا بها إدارة السجن، ويسبق ذلك بيوم أو يومين غسيل وكوي، وبعدها يقوم الأسير برش ما يملكه من عطور ودهن جسمه بما يملكه من مستحضرات تجميل متوفرة في الكانتين، وأيضاً رش وجهه بالكولونيا.

 بعد الحلاقة الناعمة يشعر الأسير بأنه لربما سيحظى ببعض اللحظات السعيدة من أحبائه الزوار الذين قدموا لرؤيته، ويمنحهم الشعور بأنه في أحسن حال، سعياً لشحن معنوياتهم.

 ومثل هذه الاستعدادات المقرونة بالعطور والكريمات يقوم بها الأسير شوقاً ومحبة واحتراماً وإكراماً لزواره القادمين من مسافات بعيدة، وتقديراً لمعاناتهم وحبهم له. فهم الوحيدون الذين لا يضعوه على رفوف النسيان، بل في مركز حياتهم ووجدانهم. إنهم يبذلون كل جهد للإبقاء على التواصل معه، سواء عن طريق الزيارات أو الرسائل. ولذلك فنحن نقوم بكل طقوس التحضيرات على الرغم من التيقن أن الحاجز المثبت سيحول دون لمس أحدنا الآخر، وبالتالي لن يتمكن الزوار من استنشاق كل هذه العطور الفواحة.

إن هذا الحاجز يحوّل الهلوسة الأمنية المبالغ فيها إلى ثقافة دائمة الحضور، وخصوصاً فيما يتعلق بالأسرى السياسيين.

والأنكى من ذلك هو التعامل مع الحق الأساسي للأسير وعائلته، إذ إنهم، أي السجانين، يصنفون قائمة الزوار ما بين فئة (أ) وفئة (ب)، ليتعاملوا مع هذه المسألة كأن البشر مثل الخضروات والفواكه، فلا ندري كيف يُتخذ القرار بأن هذا الأسير سيتاح له أن يزوره حفيده أو حفيدته بينما يحظر على غيره هذا الحق، وكما يقول المثل في هذه الحالة "إن شر البلية ما يضحك."

وإمعاناً في سياسة القهر فإن ما أريد التطرق إليه هم الأحفاد، فبينما تسمح إدارات السجون بزيارة الجد لحفيده الأسير، فإنها تمنع في الوقت نفسه الحفيد من زيارة جده الأسير. وهذا من عجائب القمع والعنصرية التي تنتهجها إدارات السجون ضد أسرى الحرية. لقد تعرفت على أحفادي وحفيداتي الذين ولدوا وأنا في الأسر الأخير والذي بلغ اثني عشر عاماً، فقط من خلال كلمات العائلة الحبيبة ومن الرسائل، وإذ يقول موروثنا الثقافي "ما أغلى من الولد إلاّ ولد الولد" فإنني إلى جانب الفرح والسعادة بميلاد الأحفاد، كانت الغصة والحسرة حاضرتين دائماً وأنا أتوق إلى عناقهم.

لكن السجان لا يأبه لمشاعر الأسير، فهو يعتمد ما يُسمى الحجة الأمنية. إنها تلك "البقرة المقدسة" التي سرعان ما يلوّحون بها تغطية وتبريراً لمسلكهم اللاإنساني، ولمزاجهم القاهر.

لم أكن وحدي أتحمّل أعباء المعاناة وتداعيات هذه السياسة اللئيمة، بل جميع أفراد أسرتي أيضاً، وكذلك الأصدقاء والأقارب، فلهم حصة كبيرة.

طريق الحرية شائك وطويل ولا يحظى به إلاّ الأحرار الذين يقاومون بصبرهم كل سياسات الذل والظلم والاضطهاد، والذين يتمسكون بإرادتهم وعشقهم لوطنهم وشعبهم وتمسكهم بالمبادئ. وبناء عليه فإن التحية هي للأسير في عرينه، فالأسرى حالة واحدة، وذوو الأسرى وعائلاتهم هم عائلة واحدة في الألم والأمل، فتحية حب ووفاء لكل ذوي الأسرى ولشعبنا الفلسطيني على صمودهم ووفائهم.

نحب أن نعلمكم يا أحباءنا، أيها الصامدون والصابرون بأننا نحن أسرى الحرية، باقون على العهد والوفاء مهما طال ليل الاحتلال ومهما مكثنا في السجون.

بقلم الأسير المحرر محمد خلف (أبو تحرير)

(كُتبت في الأصل بتاريخ 24/2/2014 وقمت بتحريرها بعد الفرج)

 

Read more