From the Prison Cell to Picasso’s Room
Date: 
July 01 2020
Author: 
blog Series: 

في ليلة الحادي عشر من حزيران/يونيو 2011 كنت أتصفح جريدة القدس – والتي تصل السجون متأخرة بضعة أيام. كان ذلك في زنزانة رقم 13 في قسم رقم 2 في سجن الجلبوع المركزي، والذي يقع غربي بيسان المحتلة، وإذ بي ألمح خبراً عن مشروع فني تحت عنوان "بيكاسو في فلسطين" للفنان خالد الحوراني. عدت في ذاكرتي عامين إلى الوراء عندما قرأت حواراً مع الحوراني في مجلة "رمان" الثقافية، ذكر فيه أنه بصدد التحضير لاستعارة لوحة لبيكاسو من متحفٍ ما، وعرضها في فلسطين في إطار مشروع فني. كانت ردة فعلي الأولية عندما قرأت الحوار ولم أكن يومها أعرف خالد، أن هذا الخالد مجنون، وأن من يوافق على أن يعيره عملاً لبيكاسو لعرضه في فلسطين هو أيضا مجنون.

 

أمجد غنام - بيكاسو في فلسطين

 

تسمّرت في الزنزانة أمام الخبر وأصابتني الدهشة. صرخت في داخلي: "ياه ما أجمل جنونك يا خالد"، لقد فعلها. ها هو بيكاسو في رام الله وأنا في السجن. وتذكرت نصيحة صديقي الأسير شادي الشرفا الذي قال لي يوماً فيما مضى بعدما خرج من اعتقاله الأول "في السجن ما تفكر ببرة، بتتعب، ما تفكر بالحياة اللي ماشية برة وتتحسر".  لكني لم أستطع ألاّ أفكر في المشروع وفي الفن وفي كل الضجة التي ستثار من حوله، والحضور وردات الفعل، وكل هذا الصخب في الخارج، وأنا هنا بين أربعة جدران.

كان المشروع بالنسبة إلى خالد أكثر من مجرد استعارة لوحة من أجل عرضها في فلسطين، بل هو الطريق الطويل الذي استغرقه العمل للوصول بسبب تعقيدات الحال الفلسطيني، فهو على حد تعبير خالد "استعارة للتاريخ وهو يمنح لحياتنا المعاصرة زخماً جديداً، وهو استعارة للأمكنة وهي تكتسب معانيها من نشاط فني، فخصوصية وضع فلسطين هي التي تمنح هذا العمل طاقة المستحيل." لقد استغرق التحضير للمشروع من خالد ما يزيد على السنتين، وها هو هنا الآن. وقررت أن أرسل إلى خالد بطاقة من سجني تعبيراً عن تقديري لجهده ومشروعه.

كانت إدارة السجن تسمح لنا بأن نرسل رسالتين وأربع بطاقات كل شهر، وكانت البطاقات فارغة بيضاء، فكنا نستغل مساحة البياض لنكسب مزيداً من المساحة للكتابة أو لنعبر برسمة ما. لكني في ذلك الشهر كنت قد استنفدت رصيدي من البطاقات التي من الممكن أن أرسلها، فما العمل؟  

لم تكن أدوات الرسم والألوان متوفرة في السجن، حتى قلم الحبر السائل كان قد مُنع، وكنا نستخدم الأقلام القديمة من هذا الصنف ونعيد تعبئتها، كما كنا نشتري الأقلام الجافة ونفرغ حبرها في الأقلام السائلة ونخلطه مع معطر ما بعد الحلاقة من نوع جيليت المعروف، والذي كان متوفراً في كنتين السجن. وكان الرفيق سائد سلامة قد ساعدني في تعبئة قلم لاستخدمه في الرسم، وكنت في العادة استخدم بقايا النسكافيه لتلوين الخلفيات وإعطائها بعضاً من الروح الفنية، ولم نكن نمتلك ريَشاً للرسم فكنت أستخدم أعواد القطن المخصصة لتنظيف الأذن لهذا الغرض.

كان يتوفر لدي دائماً مخزون من البطاقات التي كنا نشتريها من كنتين السجن، وكانت أمامي صورة صغيرة بالأبيض والأسود في صحيفة القدس للوحة بيكاسو. أخرجت أدواتي التي ذكرتها سابقاً وبدأت برسم لوحة بيكاسو المسماة "وجه امرأة"، ثمّ أضفت إليها يداً تمتد نحو الأعلى لتقطع أسلاك السجن الشائكة. كان شعوري لحظتها أن اللوحة والمشروع وحوار خالد الذي قرأته قبل عامين والخبر الذي أقرأه الآن، كل هذا، نجاح بتحقيق المستحيل وشعور يحرر المرء للحظات. أنهيت البطاقة وكتبت رسالة صغيرة عليها لخالد، ثم وضعتها بين صفحات كتاب "الآن هنا" لعبد الرحمن منيف.

في اليوم التالي بدأت أفكر كيف سأرسل البطاقة بعدما نفد رصيدي من الرسائل لهذا الشهر. وبعد مشاورة بعض رفاق الأسر توصلنا إلى الحل، فالزيارة العائلية قريبة، وكان مسموح لنا بأن نشتري من الكانتين بضعة أشياء هدية للأهل كالشوكولاتة والبسكوت والعصير، وكنا نطلق عليه "كيس الزيارة".  

إذا كانت البطاقة ستخرج في كيس الزيارة والذي يتعرض للتفتيش بطبيعة الحال، فلا بد من إخفائها. اشتريت لوح شوكولاتة أحمر عليه صورة بقرة، كنت أحب هذا النوع في أثناء دراستي الابتدائية وكان الصنف المفضل بالنسبة إليّ، وغدوتُ أمقته في السجن. وكان حجمه مناسباً يتسع للبطاقة الصغيرة التي كانت بقياس 12*9 سم، وكان يحتوي غلافين: داخلي لونه فضي وخارجي ورقي لونه أحمر. وكان فتح الغلاف الورقي سهلاً من دون تمزيقه، ففتحته ووضعت البطاقة وأغلقته، كما قمت بخلط بعض صابون الجلي (بالموليف الأخضر) مع بياض البيض، والذي ينتج مادة لاصقة كالصمغ، وأعدت لصق الغلاف الورقي وعاد لوح الشوكولاتة جديداً، لكنه الآن يحتوي بطاقة مرسومة في داخله.

في يوم الزيارة خرج كيس الزيارة بسلام، لم يكن من السهل إبلاغ الأهل بشيء إذ إن الكلام خلال الزيارة يتم عبر سماعات الهاتف بوجود فاصل زجاجي بين الأسير وأهله، وكل ما يُقال يخضع للمراقبة. لذلك كنت قد كتبت على البطاقة "ليد الفنان خالد الحوراني – الأكاديمية الدولية للفنون." وبين لغة الإشارة ولغة التلميح نجحت في أن أقول لزوجتي أن تنتبه إلى لوح الشوكولاتة وأعطيتها اسم صديق لتسلمه له، وقد قام صديقي بدوره بإيصال البطاقة إلى خالد في مكان عمله في الأكاديمية الدولية للفنون، حيث كانت تعرض لوحة بيكاسو.

اعتقدت أن الموضوع قد انتهى هنا، فأنا أرسل 4 بطاقات كل شهر للأصدقاء، وهذه أيضاً بطاقة مرسلة بشكل شخصي لصديق لم أعرفه بعد سوى كفنان أقدّره. لكن البطاقة بالنسبة إلى خالد كانت امتداداً للمشروع الفني، وهي نقطة وصول وتواصل أُخرى للمشروع الذي أثار الجدل والنقاش والأسئلة الثقافية ذات الصلة في فلسطين. ولم أكن أعرف خالد شخصياً حينها، وهو الذي يرى الفن من زوايا لا نراها وينبهنا إليها، وهو الذي أعلن في أحد مشاريعه الفنية أن كل لاجئ فلسطيني فنان إلى أن يثبت العكس.

احتفى خالد بالبطاقة، وكتب الرد عليها وعلى رسالتي على صفحة كاملة في جريدة الأيام، رد أحتفظ به وأعتز به لغاية اليوم، كما طبع نسخاً كثيرة عن البطاقة ووزعها على زوار المعرض وعلقها إلى جانب لوحة بيكاسو. لقد جرى كل هذا الاحتفاء وأنا لا علم ولا دراية لي به، إلى أن حان موعد زيارة الأهل بعد أسبوعين فأخبرتني زوجتي بالأمر، وعدتُ لأحدّث رفاق الأسر بفخر وفرح، فأطلق عليّ بعضهم لقب "بيكاسو" وذلك من باب المزاح.

تحررت من السجن في شهر أيلول/سبتمبر من ذلك العام، وزرت خالد وزارني وزرت اللوحة وحدثني عن المشروع وتطوراته. وفي العام التالي تم اختيار مشروع خالد للمشاركة في معرض "دوكيومنتا" في ألمانيا، وهو معرض يقام كل خمس سنوات ويُعتبر من أهم الأحداث الفنية في العالم. وكانت البطاقة ضمن العرض وقد بلّغني خالد ذلك بفرح شديد. سافرنا خالد وأنا لافتتاح المعرض، الذي حضره الآلاف من أنحاء العالم لنجد البطاقة معروضة وحدها في غرفة كبيرة، تقع في الجناح الأيمن في (Fridericianum museum) وهي الغرفة نفسها التي عرض فيها بيكاسو أعماله قبل خمسة وخمسين عاماً. كنت مبهوراً بالمعارض وبالأعمال الفنية وبالحضور. كما تفاجأت من مكان عرض البطاقة، إنها في غرفة بيكاسو، البطاقة التي رسمتها بالحبر والقهوة في زنزانة سجن صهيوني وصلت إلى هناك.

جاب مشروع "بيكاسو- فلسطين" ولا يزال دولاً عديدة حول العالم في معارض ومتاحف وحوارات متعددة، وكانت البطاقة موجودة في بعض العروض إلى جانت أسماء فنانين كبار. وما زلت أعتز بتلك البطاقة التي رسمت في زنزانة رقم 13 في قسم 2 في سجن جلبوع المركزي.

 وصلت إلى غرفة بيكاسو وإلى العديد من المحافل الفنية المهمة في العالم، وما زلت شاكراً لخالد الحوراني الذي رأى في البطاقة ما هو أبعد من رسالة شخصية. إنها رسالة عن قدرة الأسير على الإبداع الحر، وعلى ابتكار أدوات التعبير بالتعاون مع رفاق الأسر والاستفادة من تجاربهم، وفي تعامل شعبنا الفلسطيني مع أسراه وتعامل العالم مع حركتنا الأسيرة ومع شعبنا. لا أزال أذكر لحظة تحرير الرسالة والرسمة، إنهما جزء من حريتي.

Read more